الفصل الثالث

صحوة العرب

(١) صحوة العرب١

ما إن صحت مصر حتى صحا العرب، وما إن ينبض القلب حتى يتحرك الجسد، وما قيمة قلب بلا جسد؟ وكيف يتحرك جسد بلا قلب؟ كلاهما قيمة، ووجود كل منهما مشروط بوجود الآخر دون فضل أو تفاضل.

ولقد أدرك ذلك الأعداء قبل الأصدقاء؛ ففي مذكرات كيسنجر عن حرب أكتوبر ١٩٧٣م عاتبته جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الوقت بأنه لم يقدم لإسرائيل بما فيه الكفاية، وهو يهودي! فأجاب: «أنتِ يا سيدتي لا تعلمين مدى الخدمة التي قدَّمتها إلى إسرائيل. لقد أخرجتُ مصر من المعركة!» وكان الطيار الإسرائيلي الأسير إذا ما أفاق يسأل: «هل الحرب ما زالت مستمرة؟» فإذا ما أجيب بالإيجاب غُشي عليه مرةً أخرى، وإذا ما أفاق يسأل: «هل مصر ما زالت تحارب؟» فإذا ما أجيب بالإيجاب غُشي عليه مرةً ثانية؛ فقد تعوَّد أن ينهزم العرب في حرب خاطفة، وأن تُطالب مصر بوقف إطلاق النار.

هنا جاءت خطورة الصلح المنفرد الذي عقدته مصر أولًا منذ زيارة القدس في نوفمبر ١٩٧٧م حتى اتفاقيات كامب دافيد في ١٩٧٨م ومعاهدة السلام في ١٩٧٩م أمام رفض إسرائيل مفاوضة العرب ككل حتى تستأسد بالعرب دولة وراء أخرى، وفي مقدمتهم الأخ الأكبر مصر. وتفرَّق العرب، وغادروا مصر، وانعزلت مصر عن العرب حتى جاءت الانتفاضة لتجعل من شعب فلسطين في ذروة المواجهة مع الاحتلال كي تعيد الأمل من جديد في تجميع العرب وراءها. أطفال الحجارة يسبقون حكام العرب، ويأخذون زمام المبادرة منهم.

ومع ذلك ما زال الصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل قائمًا، وما زال هو الوحيد المطروح على الساحة العربية للأردن وسوريا ولبنان. يختلف العرب فيما بينهم، بين دول الرفض ودول الاستسلام، بين دول الطوق ودول الهامش، بين دول «الضد» ودول «المع». ويختلف الكل حول مكان المفاوضات وزمانها، حول شكل المائدة، مستديرة أم مربعة، وحول المفاوضين عسكريين أو سياسيين، مباشرةً بين الأطراف أو عن طريق الوسطاء والرحلات المكوكية.

وفي غياب الإجماع العربي، والتجمع العربي، والعمل العربي المشترك، بعد غياب القومية العربية التي كانت تنصهر الدول القُطرية فيها، بدأت ظواهر الشقاق بين العرب في الخلاف حول الحدود المصطنعة التي ورثها العرب من الاستعمار زرعًا للشقاق ومنعًا للوحدة: الخلاف بين البحرين وقطر حول الجزر، بين مصر والسودان حول مثلث حلايب وشلاتين، بين مصر وليبيا حول واحة جعبوب وقبائل ولاد علي إلى أي قُطر تنتسب، وبين الجزائر والمغرب حول واحة تندوف، وبين السعودية واليمن حول عسير ونجران، وحتى بين فلسطين والأردن حول وادي الحمَّة.

وقد تصل خطورة القُطرية إلى إثبات حق قُطر تاريخي في أراضي قُطر آخر من الأقطار المجاورة؛ فيقوم بغزوه واحتلاله كما حدث في غزو العراق للكويت وتحت شعار القومية وتكوين الوطن الأكبر مشرِّعًا بذلك لاحتلال الأراضي بالغزو، فتسقط حجة العرب في تحرير فلسطين. وفي غيبة مصر، الأخ الأكبر القادر على حل الخلافات بين الأقطار دون تدخل الأجنبي، بل وبتأييد منه ورغمًا عنه في مؤتمر القاهرة، يتم تدمير القُطر الغازي وحصار شعبه، ووجود قوات الأجنبي على أراضي القُطر المغزوِّ أو المهدَّد بالغزو.

وفي غياب العرب، وفي انحسار المد القومي العربي، وفي احتضار الروح العربي الموحد للأقطار يتم تفتيتها إلى وحدات أصغر، انفصال الصحراء عن المغرب، وانفصال جنوب السودان عن شماله، واندلاع حروب أهلية بين فرقاء الوطن الواحد في لبنان والجزائر على نطاق واسع وفي مصر على نطاق أضيق، ويصبح كل قطر عربي مهددًا بمخاطر التفتيت والتجزئة باسم الطائفية، سُنَّة وشيعة في العراق والخليج، مسلمين ومسيحيين، موارنة أو أقباط في لبنان والسودان ومصر، أو باسم الأقليات، أكراد وعرب في العراق، دروز وعرب في سوريا، عرب وبربر في المغرب العربي، عرب وأفارقة في السودان. وتكثر الدراسات عن الأقليات والطوائف والملل والنحل والأعراق والمذاهب في الوطن العربي. ويتم تقطيع الجسد العربي بين سلفيين وعلمانيين، إسلاميين وقوميين، محافظين وتقدميين، أصوليين وحدثيين حتى لم يعد العربي عربيًّا وكفى، ولا بد له من هُوية أخرى.

وفي غياب الانتماء العربي والولاء العربي والقضية العربية دخلت بعض الأقطار في حروب مفتعلة لا قضية فيها ولا هدف لها مثل حرب العراق وإيران، حرب الخليج الأولى. وتُركت أقطار عربية أخرى بمفردها تُدافع عن أراضيها مع دول الجوار مثل الجزر في مدخل الخليج بين الإمارات وإيران، أو في مدخل البحر الأحمر بين اليمن وإريتريا وكأن الأمر لا يعني الوطن العربي وتأمين حدوده من الشرق والجنوب. وحمل الجزء رسالة الكل حتى ناء بها، وعجز عنها، تكليفًا بما لا يُطاق.

وبدأ التآكل في الأطراف نظرًا لغياب صلة الأطراف بالقلب في الوسط، وبدأ الحديث حول المخاطر على عروبة الخليج من آسيا وعلى عروبة السودان وعلى عروبة الصحراء في أفريقيا، وبدل أن يكون الوطن العربي مركز الثقل في أفريقيا وآسيا، أصبح مُهدَّدًا بتآكل أطرافه من محيطه الأوسع؛ نظرًا لغياب المركز فيه والانجذاب من الأطراف نحوه.

وقد تُؤْثر بعض الأقطار بعد اليأس من القلب والعروبة والعرب الذين لا يأتي منهم إلا المشاكل والخلافات التحول إلى دوائر حضارية وثقافية واقتصادية أخرى؛ فالمغرب الأقصى تغريه الوحدة الأوروبية عبر مضيق جبل طارق، وأن يصبح عضوًا بها؛ فكلاهما غرب. كما أن المغرب يتمتع بخصوصية عقلانية علمية متميزة عن الخصوصية المشرقية الصوفية الإشراقية. وشمال أفريقيا كله قد يكون أقرب إلى أوروبا منه إلى الجناح الآسيوي للوطن العربي؛ إذ يقع في جنوب البحر الأبيض المتوسط، وأوروبا في شماله. والمسافة بين الجنوب والشمال أقل من المسافة بين المغرب العربي والمشرق العربي.

هكذا وصل حال العرب منذ الصحوة العربية الأولى في أوائل هذا القرن حتى صحوته الثانية على يد حزب البعث العربي الاشتراكي ثم الناصرية التي جسَّدت القومية العربية فكرًا وممارسة. وأصبح الحديث عن العرب والقومية العربية حديث الماضي البعيد أو الماضي القريب، من تراث الخطابة ونهج البلاغة، وهو ما تعتبره إسرائيل من تراث الحروب. أصبح العرب بلا عروبة، مجموعةً من الأعراب أو العرب الذين يصدق عليهم قول ابن خلدون «في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب!».

فَقَدَ العرب القضية، وافتقدوا الرسالة، ونسوا شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وعز الطموح العربي، وغاب عن الذهن بطولات العرب، وذكريات خالد بن الوليد، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح، وطارق بن زياد. لم يشأ العربي القديم أن يبني قصره إلا فوق قمم الجبال، وآثر العربي الحديثُ أن يعيش في الخيام والمخيمات والمناطق العشوائية والمقابر وعلى الأرصفة ونواصي الطرقات. افتقدوا النبوة والولاية؛ كما يقول ابن خلدون أيضًا «في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين.» والسياسة دين العصر، والدين سياسة القدماء، وكل مذهب سياسي يريد السيطرة على العالم؛ الرأسمالية أو الاشتراكية، إلا العرب الذين آثروا أن يكونوا هم المسيطَر عليهم، هم الفريسة التي تتقاتل عليها السباع.

وجاء مؤتمر القمة الأخير بالقاهرة لِلَمِّ الشمل العربي، والاتفاق على الحد الأدنى من الإجماع العربي على الحق العربي. وصحا العرب، وأدركوا في النهاية أن العروبة خير ملاذٍ لهم ضد المخاطر الخارجية من الأحلاف الخارجية مع الشرق أو الغرب. وتفاهم العرب، ووجدوا لغةً مشتركة تقدِّر الاختلاف وتحرص على الاتفاق، تقلِّل من مساحة الخلاف وتزيد من مساحة الاتفاق. واتحد العرب وأصبح لهم صوت واحد، ورسالة واحدة، وموقف واحد يمكن التحدث باسمه وإبلاغه للناس. لم يختلف العرب في تحديد من هو العدو ومن هو الصديق كما حدث في اجتماع وزراء الخارجية العام الماضي، من الداخل أم من الخارج، العراق أم إسرائيل؟ وظل مكان العراق شاغرًا، والعراق حاضر في القلوب، وحصاره في الأذهان. وغامر الرئيس المحاصر في الوطن العربي مخترِقًا الحظر الجوي للقاء العرب. وتكلم المتخاصمان، وتحاور المتنافسان، وتقارب المتباعدان، وتصافى المتباغضان. وحظي العرب باحترام عالمي للغة الخطاب الجديد، العاقل المسئول الذي يصون ولا يبدِّد، يحمي ولا يهدِّد. وفهم العالم الرسالة، وأحسَّ بالعرب من جديد بعد أن كانوا من ذكريات الماضي.

ظهر العمق العربي من عبق التاريخ يكشف عن استمرار وجودهم المتصل حتى ولو تقطَّعت بهم الأوصال وانتابتهم المِحن؛ غزوات الصليبيين من الغرب وهجمات التتار والمغول من الشرق، والاستعمار الحديث من الغرب مرةً أخرى بما في ذلك الاستيطان الصهيوني. وعاد من اللاشعور العربي شذا القومية العربية الحديث من حلاوة الخمسينيات والستينيات، من باندونج ودلهي وبلجراد والقاهرة. وعاد المنطوي إلى الظهور، والمحبط إلى الإبداع، والحزين إلى الفرح، والمناضل القديم إلى شبابه الأول. وتوحَّد التاريخ البعيد، وتواصل الزمن القريب، من طارق بن زياد إلى عبد الناصر، من وحدة شبه الجزيرة العربية في التاريخ البعيد إلى وحدة مصر وسوريا في التاريخ القريب.

صحا العرب ليصوغوا وجودهم في عصر التكتلات: الوحدة الأوروبية، المجموعة الصناعية السبع، دول جنوب شرق آسيا، الوحدة الأفريقية … إلخ. ولم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أوراق اللعبة كلها في المنطقة؛ فرنسا في الصدارة، وأوروبا في المقدمة، وروسيا الاتحادية تصحو كذلك في الوجدان لتوحِّد بين ماضيها ومستقبلها عبر حاضرها الأليم. ولم تعد الصحوة الإسلامية هي الوحيدة على الألسن بعد الصحوة القومية. هناك الصحوة الوطنية للشعوب ضد التبعية وحفاظًا على الاستقلال، وتبحث المناطق الحضارية القديمة عن أقطاب بديلة عن القطب الواحد الذي استأسد بالعالم منذ أوائل العقد الأخير من هذا القرن، جنوب شرق آسيا بنهضته الصناعية، روسيا والصين بتحالفهما القادم، العالم الإسلامي العربي الآسيوي أو الوطن العربي؛ لذلك يتم التركيز على الوطن العربي بالحصار من الخارج للعراق وليبيا والسودان والإجهاض من الداخل لمصر.

وتستمر صحوة العرب بجوار العرب مع أنفسهم من أجل إنهاء الخصام بين فرقاء النضال المشترك، وفي مقدمة ذلك الحوار بين الإسلاميين والقوميين. ومن الفريقين قامت حركة الاستقلال الوطني، من الأفغاني وساطع الحصري، من الإخوان المسلمين وحزب البعث العربي الاشتراكي، من حسن البنا وعبد الناصر. وقد جسَّد الكواكبي هذه الوحدة بين الفريقين في «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»، وفي المغرب العربي الكبير الوحدة قائمة بين الحركة الإسلامية والحركة القومية والحركة الوطنية، والليبرالية أداة الجميع؛ حرية الرأي. وقد كان نضال الإسلاميين والقوميين في العقدين الأخيرين، عصر الردة والنكوص، بارقة أمل على استمرار نضال الأمة باسم الإسلام والعروبة من أجل الوطن. في الخمسينيات والستينيات كانت العروبة تُناضل بمفردها والإسلام سجينًا، وفي السبعينيات والثمانينيات حوصرت العروبة أو أُجهِضت والإسلام هاربًا.

وأول حركة بعد صحوة العرب، للجسد الهامد، حركة الرأس المتمثلة في حرية انتقال المطبوعات؛ فالكتاب ليس جريمة، والجريدة ليست عدوانًا حتى توحِّد الثقافة ما قد تقطعه السياسة، وحركة اليد المتمثلة في حرية الاستيراد والتصدير حتى يوحِّد الاقتصاد ما قد تقطعه النظم، والوحدة الاقتصادية تسبق الوحدة السياسية، وحركة الرجل المتمثلة في حرية التنقل من قُطر إلى قطر دون مطالبة بتأشيرة دخول أو مراجعة على قوائم المطلوبين والمبعَدين والمطالبين، ودون حركة الجسد بالرأس والذراع والساق تكون الصحوة مجرد يقظة وعي يُخشى عليه من العودة إلى الإغماء من جديد، والحد الأدنى من الفعل خير من الحد الأقصى من القول أو التمنيات.

(٢) نظام العالم أم نظام العرب؟٢

كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن نظام العالم الجديد واختلافه عن نظام العالم القديم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والنظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية بين مُثبِت ومنكر؛ فالإثبات يقوم على انتهاء عصر الاستقطاب وبداية العالم ذي القطب الواحد على حل مشاكله، والدليل على ذلك البوسنة والهرسك وفلسطين، والإنكار يقوم على أن العالم القديم ما زال قائمًا، وإنما الذي تغير هو الصياغة، فما زال الاستقطاب في العالم قائمًا بين أوروبا وأمريكا، بين الصين وأمريكا، بين اليابان وأمريكا، بالإضافة إلى الاستقطابات الأخرى المحلية داخل كل منطقة، داخل أوروبا نفسها بين ألمانيا وفرنسا، وداخل الشرق الأقصى بين اليابان وكوريا، بين تايوان وسنغافورة؛ بل وداخل أمريكا نفسها بين الجمهوريين والديمقراطيين حول الميزانية.

وبدأ إحساس عام لدى النخبة ولدى الجماهير، بين الحكام والمحكومين، بين القادة والإعلاميين والمثقفين بأن الداخل يتغير بناءً على ما يحدث في الخارج، وأن السياسات العربية تتأثر سلبًا أو إيجابًا بهذا النظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد بعد أن تأثرت بالنظام العالمي القديم ذي القطبين؛ فعلى العرب الاستعداد استراتيجيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا لإيجاد علاقات جديدة مع نظام العالم الجديد حتى يواكبوا التطور، ولا يتخلَّفوا عن الركب ومسار التاريخ.

والحقيقة أن هذا الإحساس قد يكون قائمًا على وهم أن العالم يتغيَّر بالفعل، وأن هذا التغير يحدث في سنة أو سنتين أو عشر سنوات أو عشرين. فطالما تحدَّث الناس في أوائل السبعينيات عن نظام العالم الجديد، ونهاية الحرب الساخنة وبداية الحرب الباردة أو التعايش السلمي، والعالم لا يتغير في عشرين عامًا. مراحل التاريخ تحتاج إلى وقت أطول وأكثر من جيل، وربما أكثر من قرن من الزمان؛ فالغرب الحديث في عصوره الحديثة التي بدأت منذ القرن الخامس عشر عصر الإصلاح الديني والانطلاق بحرًا إلى الغرب عبر نصف القارة الغربي، وبحرًا إلى الشرق إلى جنوب شرقي آسيا باسم الكشوف الجغرافية، نهاية الإقطاع وبداية الرأسمالية؛ ما زالت قائمة، تجدِّد نفسها كما يقال، أو تهرم وتنتهي كما يقال أيضًا. وقد استغرقت هذه المرحلة ستة قرون، ولم تنتهِ بعد، بل تتجدَّد دماؤها بكثرة الآمال أو الأوهام حول القرن الواحد والعشرين.

وقد ينشأ هذا الوهم بالتغير في نظام العالم بوقع الصدمة أمام تغير النظم السياسية مثل انهيار الاتحاد السوفيتي بعد انتصار الثورة الاشتراكية في ١٩١٧م وبعد نضال طويل من أجلها، ثم إقامة المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية بعد الحرب الثانية في ١٩٤٥م وبعد الآمال الطويلة التي كان يمثلها بالنسبة لحركات التحرر في العالم الثالث والذي كان له بالفعل الفضل في تدعيمها وتنمية موارده وتأهيل كوادره.

كما قد ينشأ هذا الوهم من نوع من التبعية في التفكير، والنقل عما يدور في الغرب من تحليلات. صحيح أنه بالنسبة للغرب الرأسمالي والأمريكي هناك تغير حدث بالفعل، وهو غياب العدو الرئيسي له والذي بسببه بنى قوته العسكرية، وأقام أحلافه مثل الحلف الأطلنطي، وخطَّط مواردَه وأقام صناعاته؛ أنه كان يشعر بالخوف من هذا التحدي للنظام الرأسمالي خاصةً بعد تعاطف شعوب العالم الثالث مع الاشتراكية وتبنيها لها باسم الاشتراكية العربية أو الاشتراكية الأفريقية وبعد ما أدَّته الأحزاب الماركسية من دور في حركات التحرير الوطنية. أما بالنسبة لنا فقد فقدنا الحليف بعد الوقفة مع الصديق ولكن لم يتغيَّر شيء جوهري عندنا، ولكننا تعوَّدنا على التفكير في النفس بمنطق الآخرين، وإعطاء الأولوية للآخر على الأنا، وتفسير كل ما يحدث عندنا بعوامل خارجية، ربما لغياب القدرة على تحليل الذات ومعرفة النفس خوفًا أو هروبًا. فمن يحلِّل واقعه المحلي لا بد وأن يصطدم بالضرورة بالنظام السياسي القائم؛ فاتقاءً للشبهات يتم التحليل على مستوى الخارج أولًا وانعكاساته على الداخل ثانيًا. الخارج هو المركز، والداخل هو المحيط.

وقد ينشأ هذا الوهم أيضًا من الرغبة في التعالم والاطلاع على أحدث التحليلات في العلاقات الدولية والنظم السياسية وآخر ما نشرته الدوريات المتخصصة؛ حتى يبدو العالم وكأنه مطَّلعٌ على أحدث النظريات وآخر التحليلات، فتنتبه إليه القوى الغربية، وتُقدِّر عِلمه واطلاعه، وترنو إلى التعاون معه. ويوهم القراءَ في الداخل بالعلم الغزير تعميةً لهم عما يحدث في واقعهم والذي يشعرون بمآسيه ويعايشونها يوميًّا، ويعرفون أسبابها المباشرة دونما حاجة إلى تنظير أو تحليل العلماء المتخصصين. فإذا ما قرءوا هذه التحليلات المتعالمة أدركوا أن الأمر أصعب مما تصوروا، وأن التغيير أصعب مما تخيلوا، فينتظرون الفرج القريب على أيدي جهابذة العلم الذين بيدهم مقاليد فهم نظم العالم الجديد.

ويبدو أن التفسير بإعطاء الأولوية للخارج على الداخل عادة متبعة ومتأصلة في رؤيتنا للعالم؛ ففي النظام العالمي القديم تعوَّدنا على أن نفسِّر كل الحركات الشعبية ضد غلاء الأسعار أو ضد العدوان الخارجي أو المطالبة بالحريات العامة بالعوامل الخارجية وكأننا جثث هامدة لا نتحرك إلا بفعل فاعل؛ فالغاضبون إما من أنصار الاتحاد السوفيتي وعملاء له إذا كانوا من الليبراليين، أو من أنصار إيران إن كانوا من الإسلاميين، أو من أنصار العراق وليبيا وسوريا إن كانوا من القوميين.

والحقيقة أن أحوال العرب لم تتغير كثيرًا من النظام العالمي القديم إلى النظام العالمي الجديد؛ فهزيمة حزيران (يونيو) ١٩٦٧م، ونصر تشرين (أكتوبر) ١٩٧٣م كانا في النظام القديم. وقَبول مبادرة روجرز والخلاف حولها بين مؤيد من الحكومات ومعارض من الشعوب كان في النظام القديم مثل معاهدات السلام الآن بين مؤيد من الحكومات ومعارض من الشعوب في النظام الجديد. وتسليح إسرائيل كان على نفس الوتيرة في النظامين القديم والجديد. وتراكم الديون العربية، والفساد، وقمع الحريات العامة، واحتلال الأرض، وحصار العراق، والانشقاق العربي، وحرب الخليج وتوابعها، وتسويات السلام، والغلاء؛ كل ذلك كان مستمرًّا من النظام القديم إلى النظام الجديد.

كما أن نظام العالم نفسه، الانتقال من توازن القوى إلى توازن المصالح، والاستقطاب، والشركات العابرة للقارات، والنزاعات المحلية والدولية، لم يتغير كثيرًا في النظامين القديم والجديد. فالاستقطاب بين الشرق والغرب ما زال موجودًا، بين الصين واليابان وكوريا وتايوان وسنغافورة وماليزيا والملايو من ناحية، وبين الغرب الأوروبي والأمريكي ما زال قائمًا على مستوى المصالح وحرب الأسواق. والاستقطاب داخل كل معسكر ما زال قائمًا أيضًا بين اليابان وكوريا أو بين اليابان والصين حتى ولو كان في شكل تعاون مستقبلي لتحديد الاستقطاب واحتمال تعارض المصالح ما زال قائمًا. والاستقطاب إلى حد الصراع في المعسكر الغربي أيضًا ما زال موجودًا بين أوروبا وأمريكا أو بين دول أوروبا نفسها، بين فرنسا وألمانيا، أو في نصف الكرة الغربي بين أمريكا من ناحية والأرجنتين والبرازيل من ناحية أخرى إلى عهد قريب.

لذلك فالأولوية للداخل على الخارج، ولنظام العرب على نظام العالم. لا يتقرَّر شيء في الخارج إلا إذا تقرَّر في الداخل أولًا، ووزن العرب في الخارج هو وزنهم في الداخل أولًا، واحترام العرب والثقة بهم في الخارج يأتي بعد احترام العرب لأنفسهم والثقة بأنفسهم أولًا. نظام العرب يحدِّده العرب، وليس النظام العالمي القديم أو الجديد، الماضي أو القادم.

ونظام العرب لم يتغير في مجموعه في النظام العالمي القديم أو النظام العالمي الجديد؛ فهو أقرب إلى الثبات منه إلى التغير، لدى الحاكم أو المحكوم. الثبات فضيلة والتغير رذيلة. سبحان من له الدوام. والكل يتذكر كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وينسى «ولله في خلقه شئون» أو كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ؛ فقد استقرت الثقافة العربية على الثابت دون المتحول، وورثنا هذا الاستقرار حتى أصبح التغير عورة، والثبات سترًا.

وليس الوضع بمستحيل، ولا التغير بعيد المنال، إنما القضية كيف يحدث، ومتى، وفي أي اتجاه؟

والحقيقة أن قضية الحريات العامة للأفراد والجماعات والتنظيمات والأحزاب السياسية بل وللدول ذاتها ما زالت حَجَر العثرة الذي يعوق التغير في الوطن العربي، ويقف في طريقه. ولا تغيُّر يبدأ إلا بآليات التغير وفي مقدمتها الحريات العامة التي تكفلها الطبيعة ويؤكدها الشرع. فحرية الفكر والتعبير والجهر بالرأي حق مشروع، تكفله الدساتير العربية والمواثيق الدولية وترعاه حقوق الإنسان؛ فلا يُضطهد رأي، ولا يُكفر اجتهاد، ولا يُستبعد تيار فكري. وترتبط بحرية الفكر والتعبير حقوق الإنسان ضد الاعتقال والتعذيب والمنع والحصار.

فإذا ما تحوَّلت الحرية إلى النظام الاجتماعي تصبح نظامًا ديمقراطيًّا يختار الشعبُ فيه من يمثله سياسيًّا؛ فالحرية والديمقراطية واجهتان لعملة واحدة. والفرد الحر يعيش في مجتمع ديمقراطي. الحرية للفرد والديمقراطية للحكم.

ولما كانت الآراء بطبيعتها متعددة لأن الناس لهم مشارب مختلفة واتجاهات متعددة ومصالح أحيانًا متفقة وأحيانًا متضاربة، أصبحت التعددية أحد مظاهر الديمقراطية. وحق الاختلاف حق طبيعي وشرعي.

وخلق الله الناس مختلفين للتعارف والتناصح والتشاور؛ فالكل راد والكل مردود عليه. والاحتكار ليس فقط للسلعة بل للرأي. ولا خاب من استشار. وقد تراكمت علينا المصائب، مصائب الفرقة والتجزئة والحروب بسبب الاستئثار بالرأي وعدم المشورة والانفراد بالقرار. الحق ليس ملكًا لأحد وكل البشر يجتهدون فيه.

ويمكن للعرب أن يبدءوا بذلك؛ فالحرية والديمقراطية والتعددية جزء من تاريخهم القديم في عصرهم الذهبي الأول، في القرن الرابع الهجري، عصر البيروني والمتنبي وابن سينا. كانت هناك مدارس فقهية مختلفة، وتيارات فكرية متعددة، وطرق صوفية متباينة، وفِرَق كلامية متحاورة. وهذا الثراء الضخم للثقافة العربية إنما هو نتاج التعددية القديمة. بل إن القرآن الكريم مصدر الثقافة العربية الأول حاجج الخصوم، ولم يكفِّر القدماءُ أحدًا بل ردوا عليه وحاججوه. كان التكفير والاستبعاد والاستقصاء من وحي السلطة عزلًا سياسيًّا بحجة الفكر، وتدعيمًا للسلطة بحجة الدفاع عن الشرع.

وبعد أن يُعِد كل قطر عربي نفسه أولًا يبدأ التكامل العربي في كل منطقة مع دول الجوار في المغرب العربي، وفي الشام، وفي شبه الجزيرة العربية؛ فدول الجوار أقرب إلى التعاون فيما بينها تدريجيًّا عن الوطن الكبير، ثم يبدأ التكامل على صعيد الوطن الأم بين المناطق الثلاث، ومصر في قلبها؛ فهي امتداد المغرب العربي شرقًا، وامتداد صحراء الشام جنوبًا عبر سيناء، وامتداد شبه الجزيرة العربية شرقًا عبر البحر الأحمر.

في هذا الوقت يعود الاستثمار العربي من الخارج إلى الداخل، وتزدهر الصناعة العربية والزراعة العربية والخدمات العربية. ويتم ذلك بصرف النظر عن نظام العالم القديم أو الجديد؛ بل يتغيَّر نظام العالم بتغيُّر نظام العرب، عندما يصبح العرب كتلة، ميزان ثقل في العالم، قطبًا فيه، وعاملًا مؤثرًا في صياغته. والبداية بنظام العرب حتى يتغير نظام العالم، والبداية بنظام العرب في أيدي العرب أنفسهم.

(٣) الرأي العام العربي٣

تسود فكرة شائعة خاصة في أوقات الأزمات ولحظات الهزيمة أن هناك فرقًا بين الشعوب والحكام، وأنه لو كانت مصائر الشعوب بأيديها لَمَا حدثت الأزمة ولَمَا وقعت الهزيمة؛ فالنظم السياسية وفي قلبها وعلى رأسها حكم الفرد المطلق هي التي تُهزم، أمَّا الشعوب فإنها باقية إلى الأبد. ويتوالى الحكام ويبقى الشعب.

ويقال نفس الشيء في بعض تحليلات العوامل التي تعوق الوحدة العربية. لو تُركت الشعوب العربية بمفردها لتوحَّدت، ولكنها خاضعة للحكام يُغلِّبون مصالحهم الخاصة على المصالح العامة، ويحرصون على إبقاء الأنظمة السياسية حتى على أمم مبعثرة متجزئة تنحر فيها الحروب الأهلية، وتهددها الطائفية.

وقد يكون أحد الأسباب غياب الديمقراطية التي يعبر من خلالها الشعب عما يريد؛ مثل المجالس النيابية المنتخبة انتخابًا حرًّا دون تعيين أو تزييف، والدستور الذي من خلاله يعرف المواطنون حقوقهم وواجباتهم وفي مقدمتها حرية التعبير دون خوف، والصحافة الحرة التي تقوم بدورها في النقد والنصح، والأحزاب المتعددة التي تعبِّر عن كافة الاتجاهات الفكرية والقوى السياسية في البلاد، والمنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية وفي مقدمتها منظمات حقوق الإنسان التي تقوم بالدفاع عن حقوق الأفراد والجماعات المضطهدة، والنقابات المهنية وانتخاباتها الحرة ودفاعها عن استقلالها ضد محاولات السيطرة عليها واحتوائها.

لذلك تميزت اللحظة العربية الراهنة بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتوارت قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية بل ومناهضة الاستعمار والصهيونية وأصبحت سبعينيات وثمانينيات هذا القرن تنحو نحوًا مخالفًا عن الخمسينيات والستينيات. ويظل السؤال الكبير: إلى أين التسعينيات ونحن على مشارف قرن قادم؟

وأصبح مشهورًا قدرة الحكام على الانفراد بالقرار السياسي الذي قد يُغيِّر مجرى التاريخ وحياة الشعوب دون استشارة الرأي العام وأدوات تعبيره، وذلك مثل زيارة القدس في نوفمبر ١٩٧٧م، واتفاقية كامب دافيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل في ١٩٧٩م، وغزو العراق الكويتَ في ١٩٩٠م. تتغير سياسات الأمم واستراتيجيات الشعوب مائةً وثمانين درجة، من النقيض إلى النقيض بمجرد قرار فردي من الحاكم في غياب الرأي العام أو هكذا يبدو. وتقوم أجهزة الإعلام الرسمية بالتبرير والتنظير لِمَا يصدر عن الحكام من قرارات، سِلمًا أم حربًا، خصخصةً أم تخطيطًا مركزيًّا للدولة؛ فالناس على دين ملوكهم، ولا فرق في ذلك بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية. ومن يخرج عن ذلك فإنه يكون من الملحدين أو العملاء.

هكذا تروِّج أجهزة الإعلام الغربية لحالة الرأي العام العربي وتحكم عليه بالغياب، وتُفضِّل القوى الخارجية التعامل مع الحكام الأفراد أكثر من التعامل مع الشعوب وممثلي الرأي العام. وهي نفس القوى التي تستعمل سوط الديمقراطية وحقوق الإنسان وتلوِّح به في وجه الحكام إذا ما رفضوا الضغوط أو الاستسلام للسياسات المفروضة عليهم. تؤيد حكم الفرد المطلق لما يؤديه من منافع لها، وتنعى الديمقراطية وغيابها وحقوق الإنسان وانتهاكها.

والحقيقة أن الرأي العام العربي موجود ولو بطريقة غير منظورة؛ فهو موجود أولًا بطريقة مباشرة في صحف المعارضة في بعض الأقطار التي تسمح بالتعددية السياسية في الداخل أو في نشرات جماعات المعارضة في الخارج حتى وإن كانت محدودة الأثر، وهو موجود أيضًا بالقَدر المتاح ودون عبور الخطوط الحمراء في الصحف الرسمية للدولة، وهو موجود أيضًا في أحزاب المعارضة في الداخل والخارج بالرغم من ضعفها وانحسار جماهيرها وغياب رؤية بديلة أو استراتيجيات مستقبلية عن السياسات القائمة. وهو موجود في الاتحادات والنقابات والجمعيات الأهلية التي تصارع من أجل البقاء والاستقلال ضد هيمنة النظم السياسية عليها.

وتمثل الحركتان الإسلامية والقومية أكبر حركتين للمعارضة السياسية والتعبير عن الرأي العام العربي حتى ولو لم يكن لها تنظيمات رسمية وأحزاب سياسية معترف بها؛ فالحاكم الفرد يعمل ألف حساب لهاتين الحركتين القادرتين على تأليب الرأي العام ضده؛ فما زالت الشرعية في الحكم في الثقافة الشعبية للإسلام وللنضال الوطني؛ لذلك كان الحوار الإسلامي القومي وسيلةً لتجميع المعارضة والتعبير عن الرأي العام العربي الذي لا يستطيع الحكام تجاهله لأنه هو المحدِّد الفعلي لقدراته على الحكم والتفرد بالقرار.

الرأي العام العربي موجود بطريقة غير منظورة كقوة محركة للتاريخ وجدار يصطدم الحكام به، فهناك حدود لقدرة الفرد وسلطته المطلقة. وهو غير مرئي في أجهزة الإعلام وقنوات الرأي العام، ولكنه مؤثر وفعال في سلوك الناس وفي تصوراتهم للعالم. هو الغائب الحاضر، اللامرئي والمرئي، المعدوم والموجود في آنٍ واحد.

هناك الثوابت في السياسة العربية التي لا يمكن أن تتغير مهما بلغت سطوة الحكام؛ فالعرب أمة واحدة بالرغم مما بينهم من حدود قُطرية واختلافات سياسية على الصغير والكبير؛ لذلك استطاع العرب مقاومة الأحلاف العسكرية التي كانت تريد استقطاع هذا القطر أو ذاك وضمه في تجمع خارج المنطقة العربية، تركيا، إيران، باكستان، وإسرائيل هذه الأيام في الشرق أوسطية أو المتوسطية كبدائل عن القومية العربية.

والحركة الوطنية العربية في مواجهة الاستعمار القديم والجديد والصهيونية كسياسة توسعية عنصرية أحد الثوابت في الرأي العام العربي؛ فهناك حدود لقَبول التحالف مع القوى الاستعمارية الجديدة الممثَّلة في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك حدود للاعتراف بالصهيونية كأيديولوجية والاستسلام لأطماعها والوعود البراقة في التنمية والتقدم والتصنيع. فقد نشأ تاريخ العرب الحديث من المقاومة، وما زال يتحرك بالمقاومة، وكان الخطر الخارجي في حياته أكثر دفعًا له على الحركة من المخاطر الداخلية.

وهناك الطبيعة العربية، والتاريخ العربي، والخيال العربي، والشعر العربي القادر على الدفاع عن الاستقلال والهُوية والتمايز بين الأنا والآخر، وعدم التميع والذوبان في حساب البورصات وأرصدة البنوك. هناك التراث العربي واللغة العربية المستمران عبر التاريخ منذ امرئ القيس حتى أحمد شوقي. وهناك الأمثال العربية التي تكوِّن رصيدًا ثابتًا للشخصية العربية. وهناك الطبيعة البشرية التي ترفض العنصرية والتوسع والاحتلال، الفطرة والصبغة التي تجعل العربي صادقًا مع النفس ومع الآخرين، حرًّا مبدعًا باتساع الصحراء.

هذا هو الرأي العام العربي غير المنظور، الخط الأحمر الذي لا يستطيع الحاكم العربي عبوره. وقد كانت معظم الهَبَّات الشعبية الأخيرة والثورات العربية القريبة دفاعًا عن هذه الثوابت في الرؤية العربية، وربما كان الاغتيال السياسي، مثل اغتيال السادات في أكتوبر ١٩٨١م، أحد المؤشرات على تجاوز الحاكم الخط الأحمر في الرأي العام العربي وفي الثوابت العربية، الحد الأدنى للدفاع عن الكرامة العربية والعرض العربي والاجتماع العربي كما بدا في مؤتمر القاهرة الأخير للقمة العربية.

كان العرب قد وصلوا إلى الخط الأحمر الذي يصعب تجاوزه؛ إعطاء كل شيء دون أخذ شيء. الدفع نقدًا والبضاعة مؤجلة بلغة التجار. وتم إيقاف الهرولة، هرولة التطبيع، واللحاق بالمكسب قبل أن تفتح الأسواق، ونيل الغُنم بصرف النظر عن الغُرم. وتراجعت بعض الأقطار عن مكاتب التجارة والسياحة والتمثيل واللاءات الثلاثة الجديدة تصم الآذان.

إن التعبير عن الرأي العام العربي له أشكال متعددة، كما أن الديمقراطية لها صور مختلفة. فبالرغم من أن أجهزة الإعلام في الأقطار العربية في يد الدولة وتحت سيطرة الحزب الحاكم باستثناء نسبي للبنان، إلا أن الرأي العام العربي يعبِّر عن نفسه خارجها؛ مثل جنازة عبد الناصر عندما حملت الملايينُ النعش على الأعناق مسيطرةً على أجهزة الدولة الرسمية مقارنةً بجنازة خَلَفه التي حضرها الرؤساء الأمريكيون الأربعة السابقون وبعض رجالات الغرب. كما خرجت الألوف في المغرب ومصر والأردن ولبنان ضد الغزو الأمريكي للعراق من أجل تدميره ثم حصاره بالرغم من تحرير الكويت.

سيظل الرأي العام العربي موجودًا وإن غاب عن المؤسسات الرسمية وأجهزة الإعلام في الدولة، يهمس به العربي في أذن العربي في المنتديات الخاصة والديوانيات والمهرجانات الفنية والأعمال الأدبية. يقبع في القلوب ولكنه لا يموت. ينفجر بين الحين والآخر، ويصحِّح المسار السياسي، ويُذكِّر الحكام بالخط الأحمر إذا ما تجاوزوه؛ فهو في نفس الوقت ناقوس الخطر وصِمام الأمان. لا يمكن احتواؤه في القنوات الرسمية ولا يمكن القضاء عليه بأجهزة الأمن وسياسات المنع والحظر وتكميم الأفواه.

ومع ذلك، يستطيع الرأي العام العربي أن يفرض نفسه على القنوات الرسمية للاتصال ويصبح المحرك الرئيسي لأجهزة الإعلام على الأمد الطويل لصالح الحكام قبل الشعوب؛ إذ يحدث أحيانًا أن يصبح الحاكم عبئًا ثقيلًا على القوى الخارجية المتحالف معها بعد استنفاد الفرض منه وتحقيق مصالحها من خلاله، فتجعله كبش الفداء وتتخلص منه بثورة شعبية أو انقلاب عسكري أو اغتيال سياسي، تنفيذ محلي وتخطيط أجنبي. كما أن الشعوب تضج أحيانًا من الحصار بين الرأي العام العربي غير الرسمي وأجهزة الدولة التي لا تعبِّر عنها، وتريد تجاوز هذا الفصام الإعلامي بين الداخل والخارج، بين الحقيقة والزيف، بين الواقع وقراءته.

فمن مصلحة الحاكم والشعب التقارب على الأمد الطويل، أن يتوجه الحاكم إلى الداخل بدلًا عن الخارج، وأن يمد يده إلى الشعب بدلًا من أن يمد يديه الاثنتين إلى الخارج فتعودان مكبَّلتين بقيد التبعية أو خاويتي الوفاض، أن ينفتح على الداخل قدر انفتاحه على الخارج وأن ينغلق على الخارج قدر انغلاقه في الداخل أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.

حرية الفكر والتعبير لجميع الاتجاهات الفكرية والقوى السياسية تسمح له بسماع الرأي العام غير المنظور بطريقة مباشرة بدلًا من تقارير الرأي العام الذي تحرِّره أجهزة الأمن المخترَقة بقوى الداخل والخارج. والوحدة الوطنية التي تعبِّر عن الحد الأدنى للإجماع الوطني العام مع التعددية السياسية واختلاف الأطر النظرية تجعل الشعب مع الحاكم خاصةً في ساعات الشدة وأوقات الأزمات.

إن إمكانيات الشعوب بلا حدود، وقدراتها على الإبداع تتجلى إذا ما استطاع الرأي العام غير المنظور أن يخرج من قاع القلب إلى الساحة، وأن يتحول إلى حركة جماهيرية تساند الحاكم الوطني وتشد أزره في مواجهة الخارج؛ حينئذٍ يتحول الغياب إلى حضور، والعدم إلى وجود، والسر إلى علن. وتتوحد الأمة مع حركة التاريخ يصب فيها وتصب فيه فتجرف كل ثبات يعبر الخط الأحمر ويخرج على ثوابت الرأي العربي العام.

(٤) فلسطين والعرب٤

إن تحديد وضع العرب في التاريخ إنما يتم بمعرفة علاقة العرب بغيرهم البعيد، العرب والشرق، العرب والغرب، أو بغيرهم القريب، العرب والأتراك، العرب وإيران. كما يتم أيضًا عن طريق تحديد علاقة العرب بأنفسهم، بأقطارهم وقوميتهم، بدولهم ووطنهم.

ويأتي في مقدمة ذلك فلسطين والعرب. وتبدأ المعادلة بفلسطين لأنها قضية العرب الأولى ومحور نضالهم الوطني؛ فقد يتغير العرب بتغير فلسطين، وقد يؤثِّر الابن في سلوك الأب بعد أن راعاه الأب حتى كبر وشب واستقل. وقد يرث الابن معارك الأب، ويرد له دينه.

لقد شكَّل نضال العرب من أجل تحررهم الوطني تاريخهم الحديث قبل الثورات العربية الأخيرة، وكانت معاركهم للتنمية استكمالًا لمعاركهم للاستقلال، خاصةً بعد تراكم ثروات النفط واختيار الاشتراكية العربية والتخطيط الاقتصادي. وببزوغ دولة فلسطين يكتمل التحرر العربي، وينتهي آخر جزء محتل من آثار الاستعمار البريطاني في الوطن العربي؛ فتحرير فلسطين هو إكمال حركة التحرر العربي الذي بدأ بثورة ١٩١٩م في مصر، وقارب على الانتهاء بالانتفاضة والمقاومة الشعبية في فلسطين وجنوب لبنان.

وإذا كانت الشعارات الوطنية قد ساهمت في حركة التحرر العربي بصرف النظر عن منطلقاتها النظرية التي تستند إليها، مثل: «الجلاء التام أو الموت الزؤام»، «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، «وحدة وادي النيل»، «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد»، «الحرية والاشتراكية والوحدة»، «الاتحاد والنظام والعمل»، «المسيرة الخضراء»، «الكتاب الأخضر»، «يد تبني، ويد تحمل السلاح»؛ فإن التحدي الآن هو كيف تُصنع الأوطان؟ لقد ساعدَت هذه الشعارات على اليقظة القومية واستثارة الروح الوطنية، وبَعْث الخيال السياسي. وقد تم استنفاد ذلك حتى تحولت إلى عامل سلب أكثر منها عامل إيجاب، فلا أحد يشكك فيها على مستوى الأماني الوطنية والعواطف السياسية، ولكن التحدي يأتي من الواقع العربي، من التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء تحت شعار الاشتراكية، ومن غياب الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية تحت شعار الحرية، ومن واقع التجزئة القُطرية والعرقية والطائفية تحت شعار الوحدة، ومن واقع التبعية والديون الأجنبية تحت شعار التنمية المستقلة.

لقد كان الهدف من الحروب التي خاضها العرب من أجل تحرير فلسطين منذ ١٩٤٨م حتى الانتفاضة والمقاومة الشعبية تحريرَ التراب الوطني ضد العدوان الإسرائيلي والتوسع الصهيوني. كانت إسرائيل هي البادئة بالعدوان في ١٩٤٨م ثم في ١٩٥٦م ثم في ١٩٦٧م. وبدأ العرب في ١٩٧٣م الحرب لإزالة آثار العدوان على مصر وسوريا، ولأول مرة يأخذ العرب المبادرة، ثم تأخذ فلسطين المبادرة الثانية بالانتفاضة والمقاومة الشعبية منذ ثورة عز الدين القسام في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في ١٩٣٦م. وبدأ العرب بالتدريج إزالة آثار العدوان في ١٩٦٧م ثم التوجه إلى القضية الكبرى، احتلال فلسطين. وقد بدأ العرب تدريجيًّا إزالة آثار العدوان، نموذج مصر وسوريا منذ حرب التحرير في أكتوبر ١٩٧٣م واتفاقيات الفصل بين القوات حتى اتفاقيات طابا لاسترداد كامل سيناء، والمفاوضات السرية في الطريق لاسترداد كامل الجولان، تتبعها المفاوضات اللبنانية لاسترداد كامل الجنوب.

لقد تعلَّم العرب أن التحرير لا يتم فوريًّا وبالوسائل العسكرية وحدها، بل يمكن أن يكون تدريجيًّا، وأن يستأنف السلام ما بدأته الحرب. هكذا نشأت دولة إسرائيل منذ مؤتمر بازل في ١٨٩٧م والدولة ما زالت فكرة، حتى الهجرات الأولى وإنشاء المزارع الجماعية في العقد الأول من هذا القرن، ثم وعد بلفور في ١٩١٧م، ثم الهجرات الثانية التي فجرت الثورة الفلسطينية الكبرى في ١٩٣٦م، ثم الاحتلال في ١٩٤٨م لثلاثة أرباع فلسطين، ثم عدوان ١٩٥٦م وعدوان ١٩٦٧م واحتلال فلسطين كلها، ثم الهجرات الثالثة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، من الاتحاد السوفيتي من أجل إنشاء إسرائيل الكبرى.

وقد فرضت الانتفاضة الفلسطينية دولة فلسطين حتى أصبحت على مرمى حجر، وتم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، ثم عُقدت اتفاقات أوسلو والقاهرة، وتم إنشاء أول سلطة فلسطينية في غزة وأريحا ثم في باقي مدن الضفة الغربية حتى مع وجود المستوطنات ودون المعابر، وحتى مع إعادة انتشار القوات الإسرائيلية خارج المدن. إن الواقع يخلق مساره، وبداية الحركة شرط استمرارها، وكما بدأت إسرائيل بالمستوطنات الأولى تبدأ فلسطين بغزة وأريحا ومدن الضفة حتى تنشأ دولة فلسطين على مجمل التراب الوطني.

لا أحد يرفض المزيد، أرضًا أكثر ووقتًا أقل، ولكن التحدي كيفية الحصول عليه. وقد لا يرضى كل فلسطيني عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، تصورًا وممارسة. وإذا شاءت قيادة فلسطينية أخرى أن تُنتخب من الشعب الفلسطيني وأن تتحدث باسمه وأن تفاوض لنيل حقوقه وتأخذ أكثر فلتفعل. لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها وجودَها أمام الشعب الفلسطيني وأمام العدو الصهيوني وقوات الاحتلال، والتحدي الآن أمامها إثبات وجودها كقوة سياسية لتفاوض باسم شعب فلسطين أمام الجماهير الفلسطينية في الداخل وأمام العدو الصهيوني في الخارج وأمام القوى الدولية التي تفرض نظامًا دوليًّا ذا قطب واحد.

لقد أنهت حرب أكتوبر ١٩٧٣م أسطورة العدو الذي لا يُقهر بالرغم من استحكاماته ودفاعاته وتفوقه في العدة والعتاد، كما أنهت الانتفاضة أسطورة نهاية شعب فلسطين، وأثبتت أن الجندي المدجج بالسلاح لا يستطيع الصمود أمام الطفل والمرأة والشيخ وبيده حجارة وعلى لسانه الحجة والدليل دفاعًا عن إرادة شعب، كما أثبتت حماس والجهاد أن الموت يمكن أن يأتي لإسرائيل في عقر دارها يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (٤ :  ٧٨)؛ فالرغبة في الاستشهاد أقوى من التمسك بالاحتلال.

ومع ذلك فلا تناقض بين العمل السياسي الذي تقوده منظمة التحرير الفلسطينية من خلال السلطة الوطنية الفلسطينية وبين المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس والجهاد. الأولى: الدرع الذي يحمي شعب فلسطين من الاحتلال، والثانية: الرمح الذي يواجهه العدو. والمحارِب في حاجة إلى الاثنين معًا؛ الدرع لمقاومة العدوان والرمح لردع العدوان، والضغط المستمر على العدو من حماس والجهاد يقوِّي ظهر السلطة الوطنية على مائدة المفاوضات، المهم عدم تجاوز الخط الأحمر وإراقة دم الفلسطيني بيد الفلسطيني.

إن التحدي الأكبر في مرحلة صنع الوطن، دولة فلسطين القادمة، هو التنمية الاقتصادية لشعب فلسطين؛ فليس من المعقول أن يعيش الشعب المحتل، وأن يعتمد في رزقه وقوت يومه على قوة الاحتلال، وأن يخنق غلق الضفة والقطاع شعب فلسطين، وأن يكون مصدر الرزق الأول له هو عدو الأمس، وأن يذهب العمل الفلسطيني لبناء الاقتصاد الإسرائيلي، وما الفائدة من التحرر السياسي مع التبعية الاقتصادية؟ وهل سيصبح مصير الدولة الفلسطينية هو مصير بعض الدول العربية؟ إن الحصار مهانة، والاستقلال السياسي لا قيمة له دون الاستقلال الاقتصادي.

وهنا يبرز دور العرب في الاستثمارات داخل فلسطين، وتحويل العمالة الفلسطينية إلى داخل فلسطين، بدلًا من مزاحمتها بالعمالة الأجنبية والعربية داخل إسرائيل. تلك قضية العرب في مرحلة بناء الوطن، دولة فلسطين. والمهارات الفلسطينية في الداخل والخارج يشهد لها الجميع؛ ففي شعب فلسطين أكبر نسبة تعليم في الوطن العربي، ومراكزهم القيادية في الخارج في مرحلة الشتات يمكن أن تتحول إلى الداخل في مرحلة بناء الوطن.

ثم ينعكس بناء الوطن الفلسطيني على الوطن العربي؛ فقد أعطت الانتخابات الفلسطينية الأخيرة للسلطة الوطنية ولمجلسها التشريعي نموذجًا للتعددية السياسية، وحرية القول والتعبير، والمساواة في أجهزة الإعلام، وانتهاء أسطورة ٩٩٫٩٪ التي أصبحت عار الأنظمة العربية، فما زالت الأنظمة العربية تخضع للحزب الحاكم، وهو الحزب الواحد، ومعارضتها مهمشة أو مستأنسة أو في السجون.

كما ينعكس بناء فلسطين على وحدة العرب، والتقليل من خلافاتهم؛ فهي القضية التي يجتمع عليها العرب بصرف النظر عن نوعية النظم السياسية؛ فعلى أرض فلسطين التقى الإسلامي والقومي والماركسي والليبرالي في عصر الشهداء. كذلك يلتقون عليها معًا في عصر بناء الوطن. وفي وحدة العمل يتم التحاور بين الأطر النظرية المختلفة.

وإذا كانت فلسطين قد أعطت النموذج للحوار الفلسطيني الإسرائيلي فقد ينعكس ذلك على الحوار العربي العربي. وإذا كان العرب قد بدءوا أيضًا الحوار العربي الإسرائيلي في مصر والأردن وسوريا، فإنهم قد يبدءون الحوار العربي العربي في مصر والعراق والكويت والسعودية واليمن وسوريا؛ لصياغة وطن عربي جديد قادر على التفاوض باسم الكرامة العربية لرفع الحصار عن العراق وليبيا وعدم اشتراكه في فرض الحصار على أي قطر عربي مثل السودان أو على دولة جوار مثل إيران.

فإذا كان العرب قد وقفوا مع فلسطين في الماضي، فإن فلسطين قادرة على أن تقف مع العرب في الحاضر والمستقبل.

(٥) ويل للعرب، من شر قد اقترب!٥

هو حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام يذكره البخاري في صحيحه في الجزء التاسع في كتاب الفتن مع أحاديث آخر الزمان، وهي الأحاديث التي تنبئ بمصير الأمة في التاريخ وما يطرأ عليها من غوائل الزمن، وتؤيدها أحاديث أخرى تدور حول انهيار التاريخ مثل: «خير القرون قرني ثم الذي يلونهم»، وتحوُّل الخلافة إلى ملك عضود، والحديث الشهير: «جاء الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء.»

ولا تشير هذه الأحاديث إلى فترات زمانية بعينها أو إلى عصور محددة، بل إلى حال الأمة من أجل الوقوف أمام انهيارها والعمل على صعودها من جديد. هي مجرد إنذار وتنبيه على المخاطر المحدقة من أجل البحث عن الأسباب وتلمُّس سُبل الخلاص. تُعبِّر عن مسار التاريخ الذي حاول الفلاسفة إيجاد قانون له، قانون النهضة والسقوط على دورات متعاقبة كما حاول ابن خلدون عندنا، وكما حاول فلاسفة التاريخ في الغرب؛ هردر، وفيكو، وكانط، ولسنج، وهيجل، وكوندرسيه، وروسو، وفولتير، ومونتسكيو، وأخيرًا اشبنجلر وتوينبي وجارودي، وهو ما يتفق مع القرآن الكريم أيضًا وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (٣: ١٤٠).

والحديث من جوامع الكلم بقدرته البلاغية وما فيه من رنين مثل الناقوس، وهو يتحدث عن العرب خصوصًا وليس عن المسلمين أو الأمة بوجه عام. والشر اقترب، ولم يصبح خطرًا داهمًا بعدُ من أجل الاستعداد له، والحديث ينبِّه على الخطر، ويترك البحث عن كيفية المواجهة لاجتهاد العرب والتفكير فيها من أجل عودتهم من جديد إلى مسار التاريخ بعد أن أصبحوا خارجه.

فما هو الشر الذي اقترب بالنسبة لعصرنا؟ لم يعد العرب سادة العالم كما كانوا من قبل، يرسلون الرسائل لهرقل عظيم الروم، ولكسرى عظيم الفرس، يدعونهما للتوحيد والمساواة بين البشر، وعدم اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وتحرير الناس من الخوف والظلم والاستكانة، واستعلاء البعض على رقابهم. لم يحملوا لا إله إلا الله، هذا الإعلان عن تحرر البشر لأنهم افتقدوه، لم يشعروا أن رسالتهم في الاتجاه غربًا والاتجاه شرقًا كما فعل العرب القدماء، غربًا إلى أفريقيا وأوروبا وشرقًا إلى آسيا حتى يصبح العرب قلب العالم بجناحيه في الغرب والشرق. لم يعد العرب فاتحين للأمم، موحدين بين الشعوب والأقوام. عز الطموح، وفترت الهمم، واثَّاقل العرب إلى الأرض، وأخلدوا لها.

ورضي العرب بأن يكونوا من الجنوب بلغة العصر، ينتظرون العون، ويمدون يد المساعدة من الشمال. يفرحون بتخفيف الديون أو بتأييد القوى الكبرى كما يفعل الضعفاء. لم يعد العرب يسيطرون على العالم. لا يستثمرون ثرواته، ولا يؤسسون علومًا، ولا يتخذون أسباب القوة والمناعة. أصبحوا مستهلكين لعلوم الغير، وناقلين لما يبدعه الآخرون.

وعز الطعام والسلاح، واستورد العرب ٧٠٪ من غذائهم من الخارج، والصحراء شاسعة تحتوي على الثروات الطبيعية، والأراضي الزراعية في العراق والسودان ممتدة تستطيع إطعام العالم العربي كله بل ويصبح مصدرًا للغذاء. تغذَّى العرب على قمح أمريكا وكندا وأستراليا، واستوردوا السلاح للدفاع عن الأوطان ولم يصنعوه، ولديهم المال والخبرة والأسواق. والعلم متاح للجميع.

لم يعد للعرب حلمٌ يعملون من أجله، وانحسر الشِّعر في جوف العربي، وضاع الخيال لحساب العقل والآلة الحاسبة، بل إن الأحلام العربية المعاصرة قد أُجهضت ولم تعد هناك أحلام بديلة.

تم إجهاض الحلم الليبرالي باسم الثورات العربية المعاصرة؛ فالليبرالية رأسمالية وحكم الأقلية وإقطاع الباشوات والتحالف مع الغرب وفساد الأحزاب ولعبة السلطة والمال.

والحلم القومي زعامة لمصر أو للشام أو للعراق، والتخفي وراء الوحدة من أجل إملاء القطرية، وخطابة وشعارات بلا مضمون، ونيل من الحريات وحقوق الإنسان. ولم تستطع الصمود أمام الأحلام المناهضة، حلم الاستعمار والصهيونية، فاحتُلت نصف فلسطين في ١٩٤٨م أثناء الحكم الليبرالي، واحتُل النصف الآخر في ١٩٦٧م أثناء المد القومي.

والحلم الماركسي في اليمن انتهى بصراع الرفاق في الجنوب بين قبيلتين ماركسيتين بالرغم من الدولية الماركسية، ولم يستطع الصمود أمام المد القومي بإعلان وحدة الشمال والجنوب. والحلم الماركسي في الشام والعراق في تحالف مع القومية العربية انضوى تحت نظام الحكم، وأصبح مبررًا للأمر الواقع أكثر من تطويره وتغييره، وظل الحلم الماركسي في مصر والمغرب العربي تحت الأرض في حركات سرية تبني طوباويات، وتتسم بفكر الأقليات المضطهدة التي تريد في وقت قريب أو بعيد السيطرة على العالم.

والحلم الإسلامي الذي بدأ حاملًا لواء التحرر الوطني إبَّان حركة الإصلاح الديني انتهى إلى الانحسار، وتحوَّل أيضًا إلى حلم تحت الأرض في الحركات السرية والجماعات الإسلامية اللاشرعية والمهمَّشة خارج إطار العمل الوطني العلني. وتحول إلى تكفير المجتمع ورفضه، ينتظر الخروجَ عليه والانتقام منه. فإذا تمَّ له ذلك بانقلاب مارس سياسة الاستبعاد والإقصاء، وحكم بمفرده كما هو الحال في السودان وإيران، أو تقاتل الفرقاء باسمه كما هو الحال في أفغانستان.

ولم تعد الأحلام قادرةً على حشد الناس بعد أن جرَّبت نشأتها وذروتها ورأت حطامها، فارتكنت إلى الأرض وعادت إلى عالم اليقظة تهب من أجل الخبز ضد البطالة كما حدث في مصر والجزائر والمغرب والأردن، وربما من أجل الكرامة أثناء حرب الخليج الثانية في مصر والمغرب والأردن، وأصبح لكل عربي حلمه الصغير في تحسين أحوال معيشته، سوقه ومتجره. ولم يكوِّن مجموع هذه الأحلام الصغيرة حلمًا كبيرًا قادرًا على عبور حدود الأفراد والأقوام.

وبدأت الأحلام البديلة في المنطقة تملأ الفراغ الناتج عن غياب الحلم العربي، وعاد حلم الاستعمار في الهيمنة على المنطقة وجعلها محيطًا له وهو مركزها. وحاصرت أمريكا العراق وليبيا، وتهدِّد السودانَ وإيران، وتُلوِّح بقطع المعونات وبمنع لقمة الخبز. أصبحت الولايات المتحدة هي المُدافع عن الحق العربي في فلسطين، والحامي لجنوب لبنان، والواعد بالانسحاب من الجولان؛ فقد أوقفت مذابح المسلمين على أيدي الصرب في البوسنة والهرسك، وتُصالح بين الحزبين الكرديين المتصارعين كالقط الذي يحكم بين الفأرين المتنازعين على قطعة جبن، فيقسمها قسمين غير متساويين، ويظل يقضم الكبرى فتصغر، ثم يقضم الصغرى فتصغر أكثر حتى يأتي عليها كلها، حتى أصبحت لها الكلمة العليا من المحيط إلى الخليج، في غياب قوة أخرى وبعد نهاية عصر الاستقطاب.

وبدأ الحلم الصهيوني الذي لم ينحسر بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م ولا بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية؛ بل زاد رسوخًا وإعلانًا عن نفسه بوضوح. إسرائيل الكبرى سياسيًّا على الأرض والأنظمة، واقتصاديًّا على ثروات العرب وأسواقهم. وبالرغم من مقاومة التطبيع شعبيًّا ثم رسميًّا بدأت تتكوَّن طبقة من أصحاب رءوس الأموال، يُمهِّدون لسوق المستقبل أو من العمالة العربية توسيعًا لها في الرزق، ومن المثقفين العرب الذين سئموا النضال لأنهم لم يبدءوه.

وإن من مظاهر الشر الذي اقترب: التخلي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخوف على المصلحة الشخصية، والتضحية بالمصالح العامة، وأصبح الفكر تبريرًا في غالبيته وليس إرشادًا وتوجيهًا؛ فانتشر الفكر الرسمي وزاد، وعزَّ فكر المعارضة، وهرب خارج الأوطان.

كما ازدادت الهُوة بين الأغنياء والفقراء وكأننا نعيش في أمم مختلفة؛ ففي مصر وحدها تعادل الأموال الوطنية خارج مصر ثلاثة أضعاف ديون مصر، وما زال مسلسل تهريب الأموال إلى الخارج مستمرًّا، تتعقَّبه الشرطة الدولية أكثر ممَّا يتعامل معه المستثمرون في الداخل؛ بل لقد سيطر الاقتصاد على السياسة، والثروة على الحكم في نفس الوقت الذي تضعف فيه أحزاب المعارضة للدفاع عن الفقراء الذين لم يبقَ لهم إلا الهَبَّات الشعبية الوقتية بين الحين والآخر.

وضاعت الهُوية أو كادت بعد أن زادت درجة التغريب والانحياز للآخر؛ ممَّا دفع بالحركة السلفية إلى التمسك بها حتى ولو كانت المظاهر والحدود لإعلان الرفض للتغريب والتميع والاندماج في ثقافة الآخر ونمط حياته.

هذا هو الشر الذي اقترب، فلماذا الويل للعرب؟

ربما الويل للعرب لأنهم لم يستعدوا لمواجهة هذا الشر الذي اقترب، لم يتحركوا بما فيه الكفاية، ولم يستعدوا حتى تكون الاستجابة على قدر التحدي. استسلم العرب إلى الأمر الواقع، وارتكنوا إلى الدنيا، وعزت فيهم صرخة ابن الخطاب: «لماذا نقبل الدنية في ديننا؟» ودبَّت روح اليأس، وعم الفتور، وسادت اللامبالاة. ولا شيء بمستحيل على الله. وقد نقد القرآن الكريم الخوالف والقاعدين والذين اثاقلوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا وآثروها على الآخرة.

ربما آثر العرب الهجرة إلى خارج الأوطان، وربطوا حياتهم بالخارج إلى أكثر من الداخل في الثروة والرزق والمستقبل، لا فرق في ذلك بين سلطة ومعارضة، مع أنه «لا هجرة بعد الفتح». وقد فتح الله على العرب البلاد من المحيط إلى الخليج، من أفريقيا إلى آسيا. أصبحت الأولوية للخارج على الداخل، في العلم والقوة والقصد والوجدان. وقد رفعنا في الستينيات شعار: «يد تبني ويد تحمل السلاح»، وتحولنا الآن إلى شعار: «يد تطلب الهجرة، ويد تطلب الرزق».

وتجزَّأ العرب، وضاعت وحدتهم الكبرى التي تُحيل ضعفهم قوة، وليست فقط تلك التي تُقلِّل المخاطر، وتمنع الاقتتال بين الإخوة الأعداء. وقد كانت غاية الإسلام الأولى توحيد العرب، وتطهير الجزيرة العربية من الشرك حتى يمكن للعرب الانطلاق خارجها شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، حتى تعرَّبت آسيا وأفريقيا عبر الإسلام، وانتشر التوحيد باللغات القومية وإن لم يتم تعريب الأقوام. وتوحَّد عليهم العالم؛ الاستعمار والصهيونية وهم في مرحلة التجزئة والتفتت والحروب الداخلية بين الأقطار والطوائف والنِّحَل والأعراق.

ووجد العرب حلفاءهم في الخارج، وناصروا الخارج على الداخل؛ الخارج صديق، والداخل عدو. وعزَّت المصالحة الوطنية، وندر الحوار الوطني، وغابت الجبهات الوطنية المتحدة، ونسي العرب أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (٤٨: ٢٩). وكيف ينحاز القلب إلى أحد جناحيه؟ وكيف يتحول المركز إلى طرف من الأطراف؟ ولم يعد العرب يشعرون بالتمايز عن غيرهم بالرغم من قدرتهم على الجذب، جذب الآخر إليهم عبر السنين.

وربما نسي العرب تجارب الماضي، وانحسر وعيهم التاريخي، فتأزم وعيهم السياسي؛ فقد حمل العرب لواء الرسالة أول مرة: «مرحى للعرب، من خير قد اقترب». لا يتعلم العرب من تاريخهم؛ فما زالوا في التاريخ، وما زالوا حَمَلة الرسالة. صدوا الغزوات من الغرب والشرق ثم من الغرب من جديد في العصر الحديث. فهل ما زال يصدق عليهم حديث الرسول: «ويل للعرب، من شر قد اقترب»؟ وإلى متى؟

(٦) التحدي والاستجابة٦

يتحرك التاريخ بمقدار ما يكون أمام المجتمعات من تحدٍّ وما تحدث أمامه من استجابة. هكذا تصور توينبي حركة التاريخ، قيام المجتمعات وسقوطها، وبداية الدورة الحضارية ونهايتها، وبلغة أبسط؛ الحضارة هي مجموعة الإجابات لعدد من الأسئلة يطرحها الواقع في زمان ومكان معينين؛ فالتحدي والاستجابة مصطلحان في فلسفة التاريخ للسؤال والإجابة في الفلسفة العامة.

وكلما عظم التحدي عظمت الاستجابة، وكلما ضعف التحدي ضعفت الاستجابة، وهو قانون طردي يُفسِّر قيام الحضارات. أما إذا قوي التحدي وضعفت الاستجابة أو ضعف التحدي وقويت الاستجابة في علاقة عكسية، يكون ذلك نذيرًا بنهاية الحضارات وسقوطها.

وغالبًا ما يكون التحدي خارجيًّا؛ فالتحدي الخارجي يلم الشمل، ويُطلق الطاقات، ويُجنِّد المجتمع، ويُوحِّد القوى. أما التحدي الداخلي فإنه قد يُفرِّق المجتمع، ويُشتِّت القوى، ويُبرز التناقضات، ويُظهر الاختلافات، ويُبعثر الجهود إن كانت الاستجابة مجرد رد فعل وقتي بعيدًا عن المصلحة العامة والهدف المشترك.

وينطبق ذلك على تاريخ العرب الحديث. كان الاستعمار تحديًا قويًّا فكانت الاستجابة قوية. قضى الاستعمار على وحدة الأمة بعد أن سقطت دولة الخلافة بعد هزيمتها في الحرب الأولى، ومزَّقها قَطْعًا، واستولت كل قوة استعمارية، خاصةً إنجلترا وفرنسا، على جزء فيها، فنشأت حركات التحرر الوطني منذ احتلال الجزائر في ١٨٣٠م حتى احتلال مصر في ١٨٨٢م ثم باقي دول المغرب العربي؛ تونس والمغرب، واحتلال إيطاليا ليبيا، واحتلال فرنسا لسوريا ولبنان، واحتلال بريطانيا لليمن وللخليج وللعراق. ونشأت الدول العربية المستقلة فخورةً بنضالها الذي تحوَّل إلى حركات شعبية وأحزاب وطنية. وكان لكل قُطر إبداعه، الملكية الوطنية في المغرب، المقاومة الشعبية المسلحة في الجزائر، الانقلاب العسكري في ليبيا ومصر والعراق، الكفاح المسلح في اليمن، المفاوضات في تونس والخليج، ضرب دمشق في سوريا. ورُفعت عدة شعارات تُجسِّد هذه المرحلة من الاستجابات مثل: «الجلاء التام أو الموت الزؤام»، «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، «تحيا وحدة وادي النيل»، «بالروح، بالدم، نفديك يا جمال»، «عاش كفاح الشعب المصري»، «عاش كفاح الشعب العربي» … إلخ.

وتأخرت قضية فلسطين؛ فالاستعمار الاستيطاني أصعب مِراسًا وأقوى جذورًا من الاستعمار التقليدي، يقوم على دعاوى الاختيار وأرض الميعاد والمدينة المقدسة والميثاق، في وقت كان العرب فيه يحاربون على جبهتين؛ جبهة الاستعمار الخارجي، وجبهة اليقظة والنهضة والتحديث الداخلي. وبالرغم من الاستجابة القوية لهذا التحدي القوي منذ الهجرات اليهودية الأولى إلى فلسطين في أوائل هذا القرن والتي بلغت الذروة في ثورة عز الدين القسام في ١٩٣٦م، فإن هزيمة ١٩٤٨م بعد تدخُّل الجيوش العربية وقعت وقع الصاعقة، وكانت أحد أسباب الثورات العربية بعد ذلك في الخمسينيات؛ فالاستجابات متوالية ما دام التحدي قائمًا. ثم بلغت ذروتها الثانية بانطلاق المقاومة الفلسطينية في ١٩٦٥م، ومعركة الكرامة في ١٩٦٧م، والمقاومة في جنوب لبنان في أرض فتح. ثم بلغت ذروتها الثالثة في الانتفاضة منذ ١٩٨٩م، واستمرار المقاومة الإسلامية حماس في قَبول التحدي حتى تحرير كامل التراب الوطني.

وأيقظت مأساة فلسطين العرب كقضية مشتركة، الجميع مسئول عنها مع شعب فلسطين. وساهمت في وحدتهم وتعميق نضالهم حتى أصبحت قضية العرب الأولى، قدس الأقداس الذي لا يمكن لأحد المساس به أو التفريط فيه. وتوسَّع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وابتلع كل فلسطين وسيناء والجولان وجنوب لبنان تحقيقًا لحلمه الكبير «من النيل إلى الفرات»، تجاوزًا لأرض الميعاد بعشرات المرات.

والآن يعظم التحدي الخارجي أكثر فأكثر بعد صعود اليمين الإسرائيلي للحكم، بالرغم من أن الخلاف بين اليمين واليسار اختلاف في الأسلوب والمنهج وليس في المضمون والغاية. وتبدو اللاءات الثلاثة صياغةً جديدة لعِظَم التحدي: «لا للانسحاب من الجولان»، «لا لتجميد المستوطنات»، و«لا للانسحاب من القدس». ويزداد التحدي يومًا وراء يوم؛ قرار المحكمة الإسرائيلية لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى وتقسيمه على الأمد القريب وربما هدمه على الأمد البعيد بعد تقسيم الحرم الإبراهيمي، قرار توسيع المستوطنات، ونزع أراضي القرى الفلسطينية لشق طُرق جديدة تربط المستوطنات، التهديد بغلق بيت الشرق، حصار مناطق الحكم الذاتي وحق العودة إليها، الأمن قبل السلام، مقاومة الإرهاب، التأييد الأمريكي لليمين الإسرائيلي، السلاح النووي، رفض التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل … إلخ.

فماذا تكون الاستجابة الممكنة التي تعادل عِظَم هذه التحديات؟ لا يقوى على الصمود أمام اليمين الإسرائيلي إلا حركة المقاومة الإسلامية والقومية التي تُكبِّده الخسائر اليومية في جنوب لبنان، واضطرَّته أخيرًا كي يقترح «لبنان أولًا» حفاظًا على أرواح جنوده، وحصارًا لسوريا، وتأجيل قضية الجولان إلى الأبد ما دامت الضغوط على شمال إسرائيل من جنوب لبنان قد خفَّت أو انتهت؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد.

والاستجابة لتحدي توسيع المستوطنات هو تحويل حياتهم إلى جحيم في فلسطين بالتصفية اليومية حتى تتحوَّل إلى جزر منعزلة لا يمكن الدفاع عنها إلا بانتشار جيش الدفاع الإسرائيلي كله من جديد حمايةً للمستوطنين؛ مائة ألف يحرسهم نصف مليون، خمسة جنود لكل مستوطن. وفي نفس الوقت يتحرَّك عرب فلسطين قبل ١٩٤٨م للمطالبة بالمساواة في الحقوق السياسية ما داموا يعيشون كمواطنين لهم نفس الحقوق التي يكفلها الدستور. وعلى أقصى تقدير يكون لعرب فلسطين قبل ١٩٤٨م نفس الحقوق التي للمستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة، وأن يكون لهؤلاء نفس الوضع الدستوري الذي لعرب فلسطين قبل ١٩٤٨م، مواطنون متساوون في الحقوق مع شعب فلسطين إن أرادوا البقاء، وليس مستوطنات عسكرية مدججة بالسلاح تستهلك من المياه عشرات أضعاف ما تستهلكه قرى فلسطين، دولًا داخل الدولة.

أما الاستجابة لتحدي القدس وغلق بيت الشرق وكافة مكاتب منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية وتهويد القدس وحصارها بالمستوطنات من أجل إعادة بناء الهيكل على قبة الصخرة، فإنها في قلوب ملايين المسلمين العرب والأفارقة والآسيويين والأوروبيين والأمريكيين المسلمين من أصل أفريقي، القادرة على حرق كل شيء دفاعًا عن بيت المقدس أولى القبلتين وثاني الحرمين. وتتضامن معهم المؤسسات الدينية الإسلامية؛ الأزهر والزيتونة والقرويين وأم درمان والنجف وبيروت ودمشق وبخارى وسمرقند وطشقند وجاكارتا وكوالالمبور، كما تتضامن معهم الكنيسة الشرقية في موسكو وأثينا والحبشة؛ فالمدينة المقدسة مهد الديانات الثلاث. وإذا رفع اليمين الإسرائيلي سلاح الدين والعقائد فإنه يكون على حق يدافع عن تاريخه وتراثه، وإذا رفع العرب المسلمون نفس السلاح فإنهم يكونون متعصبين إرهابيين يُعلِنون الجهاد والقتال بالسيف، ويطالبون الناس بالإسلام أو الجزية أو القتال، حربٌ دينية مقدسة من مُخلَّفات الماضي البعيد.

وإذا بلغ التحدي مداه في وصف المقاومة الوطنية المشروعة في جنوب لبنان وفي الأراضي المحتلة بالإرهاب، وعُقدت لذلك المؤتمرات الدولية لمقاومة الإرهاب وجعل الضحية هي الجاني، والخلط بين المقاومة المشروعة في الأراضي المحتلة وإرهاب اليمين الإسرائيلي، واغتيال رابين، وإرهاب اليمين الأمريكي في تفجير الطائرات، وإلقاء القنابل في أطلانطا، وتفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما ومن قبلها اغتيال مارتن لوثر كنج وجون كيندي وزعماء الفهود السوداء، فإن الاستجابة لذلك تكون بمزيد من المقاومة في الأراضي المحتلة وتكلفة اليمين الإسرائيلي مزيدًا من الأرواح.

وإذا بلغ التحدي مداه في جعل سوريا مظلةً للإرهاب وإيران مصدره، وحماس مُنفِّذه، فإن الاستجابة لذلك تكون بمزيد من الصمود لسوريا وبحوار مع دول الجوار في إيران وبتنسيق مع حماس من السلطة الوطنية الفلسطينية جمعًا بين الرمح والدرع؛ الرمح للطعن والدرع لتلقي الطعان، بين الهجوم والدفاع.

وإذا كان الهدف إحراج مصر، زعيمة العرب بالاعتداء على جنوب لبنان ومذبحة قانا، وتهديد سوريا من الشمال بحلف مع تركيا، وبإثارة قضايا الصواريخ المصرية والمعونات الأمريكية، وبفتح الحدود مع ليبيا، وبرفض حصار السودان، وبإثارة قضية الأسلحة النووية الإسرائيلية، وبالسلام البارد ورفض التطبيع، فإن الرد على ذلك بمزيد من الدفاع عن مركزية مصر واستقلالها الوطني، وقيادتها للعالم العربي، وبدورها الحضاري، وبعمقها التاريخي، وبأهميتها الجغرافية، وبأنه لا بديل عنها كنقطة ارتكاز في المنطقة، ومحور جذب لها. وهو ما تُحاول إسرائيل القيام به ملوِّحةً بالأموال والمساعدات والتجارة والأمن والرخاء.

وإذا لوَّحت إسرائيل متحديةً صورة العالم العربي بصورة أخرى أكثر تقدمًا وحضارة؛ حقوق الإنسان، والتقدم التكنولوجي، والتفوق العسكري النووي والتقليدي، فإن الاستجابة تكون بالمزاوجة بين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب. حقوق الإنسان منتهكة عند العرب وفي إسرائيل، عند مسجونينا السياسيين وعند السجناء الفلسطينيين في سجون إسرائيل سواءً بسواء إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ (٣: ١٤٠). إنما نزيد عليها حقوق الشعوب وحق الجماعات ضد صنوف العنصرية والعدوان. والتقدم التكنولوجي غربي المنشأ في إسرائيل، ويمكن السيطرة عليه واستيعابه. والمهاجرون العرب في الخارج على أرفع مستوًى من التقدم العلمي، وليس ببعيد أن يتم التفوق العلمي مع المحافظة على الشخصية الوطنية كما فعلت دول آسيا. أما التفوق العسكري والنووي فإن السلاح وحده دون الرجال ودون القضية يكون مجرد أكوام من الحديد، وحرب أكتوبر ١٩٧٣م شاهد على ذلك.

واستشهاد الرجال قادر على التفوق على الحصون وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٥٩: ٢). لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٩: ١٤).

وإذا كان التحدي بمتوسط الدخل الفردي في إسرائيل الذي يفوق متوسط الدخل الفردي في مصر بأربعين مرة، فإن ذلك ناتج عن سوء توزيع الدخل القومي عند العرب؛ فلدينا من يفوق في متوسط الدخل الفردي في إسرائيل عشرات المرات بثروات وطنية وليس بمساعدات أجنبية كالكويت مثلًا. كما يمكن أن تكون الرفاهية عامل سلب وأن يكون الفقر عامل إيجاب، فقد استطاع العرب قديمًا بسلاح العقيدة والمُثُل الإنسانية الجديدة فتح إمبراطوريتَي الفرس والروم بما فيهما من حضارة ورفاهية، غرسًا لرمح الفارس في البساط الأعجمي، رافضًا السجود لبشر أو الدخول لقصر سيرًا على الأقدام إلا فوق فرسه.

وإذا كان التحدي هو القلة التي تغلب الكثرة، خمسة ملايين في مقابل ما يزيد على مائتي مليون عربي، وأربعة عشر مليونًا في الداخل والخارج في مقابل ما يزيد على البليون مسلم فإنها حجة مزدوجة؛ فالكيف عندنا أيضًا في الرغبة في الشهادة والقنابل البشرية. وقد وقع الإسرائيلي أسيرًا في حرب أكتوبر وهو قابع داخل الحصون. وقد استطاع أطفال الحجارة والنساء والشيوخ الوقوف أمام الجندي المدجج بالسلاح عاجزًا عن المقاومة، يتآكل داخليًّا، وينهار معنويًّا أمام إرادة الشعوب.

إنما التحدي الحقيقي ليس هو التحدي الخارجي حتى تعظم الاستجابة، إنما هو التحدي الداخلي الذي ما زال أمام العرب قَبوله والاستجابة له بنفس القدر؛ تحدي أحادية الطرف والفردية في الحكم واتخاذ القرار والاستجابة له بالتعددية السياسية وحق الاختلاف، وتحدي التسلط والقهر والاستجابة له بالديمقراطية، وتحدي الخرافة والجهل والاستجابة له بمزيد من العقلانية، وتحدي خرق حقوق الإنسان والمواطن والاستجابة له بالدفاع عن حقوق الإنسان مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (٥: ٣٢). تحدي النفس قبل تحدي الآخر إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (١٣: ١١).

(٧) المصالحة الوطنية٧

لقد تأخَّرت المصالحة الوطنية عندنا، نحن العرب، أكثر مما ينبغي، وطال الخصام بين الفرقاء. وفي تراثنا القديم الذي أصبح أهم مكون لثقافتنا المعاصرة: لا يجوز للأخ مخاصمة أخيه أكثر من ثلاث ليالٍ. ونحن يخاصم بعضنا بعضًا منذ بداية الثورات العربية المعاصرة في مطلع الخمسينيات؛ أي ما يقرب من نصف قرن!

لقد استطاعت حركات التحرر الوطني تجميع كل القوى الوطنية إبَّان حروب التحرير وحركات الاستقلال؛ فالهدف واضح، والعدو مشترك، والوطن محتل، والبنادق كلها مُوجَّهة إلى صدور الأعداء في الخارج. ولم يكن هناك فرق بين الحركات الإسلامية والحركات الوطنية، بين الماركسيين والقوميين، بين المحافظين والتقدميين، بين الأغنياء والفقراء. هكذا يفعل العرب في لحظات الخطر الخارجي، وربما هكذا تفعل كل الشعوب. الخطر الخارجي يُوحِّد قوى الداخل، والصراع الداخلي يُوحِّد الأعداء في الخارج.

وبعد انتصار حركات التحرر الوطني، وتأسيس الدول الحديثة والبداية بالمشاريع القومية المعاصرة في التنمية. كان الزعماء الوطنيون هم البديل عن المصالحة الوطنية؛ فقد اكتسبوا الشرعية التاريخية من النضال الوطني حتى لو وضعوا فرقاء الأمس في السجون؛ فالمركب تحتاج إلى ربان واحد. هكذا تصوَّر الزعماء. وبدأت تصفية الفرقاء في شتى أرجاء الوطن العربي. وقبلت الشعوب ذلك ما دامت التنمية تُحقِّق الرفاهية، وما دام هناك الحد الأدنى من الكرامة الوطنية.

كان عبد الناصر هو الصوت المعبِّر عن هذه الزعامة الوطنية حتى ولو أدار دفة الحكم بمفرده؛ فقد أولته الجماهير ثقتها، وسلَّمته قيادها، ووضعت أمانة فلسطين في عنقه حتى ولو كان الإخوان والماركسيون والليبراليون في السجون على التبادل، مرةً هذا الفريق، ومرةً ذاك الفريق؛ فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وفي تحالف قوى الشعب العامل البديل عن التعددية السياسية، وفي الإنجاز الفعلي للسياسات الوطنية ولمشاريع التنمية والدفاع عن محدودي الدخل وزيادة الدخل القومي مرةً كل عشر سنوات خيرُ رد على الأيديولوجيين المذهبيين، إسلاميين أو ماركسيين؛ فالخبز أولى من الحرية.

وبعد هزيمة ١٩٦٧م وانهيار الحلم القومي ثم اختفاء زعامة عبد الناصر، بدأت القوى السياسية في الظهور من جديد بتكوين المنابر داخل الحزب الواحد ثم الأحزاب السياسية المستقلة حتى ولو كانت بعد موافقة السلطة. ولكن «إزالة آثار العدوان» كان ما زال هدفًا قادرًا على توحيد الجميع؛ فالأرض محتلة، والعدو يطعن في الكرامة.

واستطاعت حرب أكتوبر ١٩٧٣م توحيد العرب من جديد، وأبلى العرب بلاءً حسنًا في الحرب وفي الاقتصاد؛ سلاح النفط. وعادت للعرب الكرامة. وكما توحَّد العرب في عدوان ١٩٥٦م والذي كان من آثاره وحدة مصر وسوريا في ١٩٥٨–١٩٦١م توحَّد العرب من جديد. وكان من آثارها مشاريع السلام التي جاءت مبكرةً أكثر من اللازم والعرب لم يُحرِّروا بعدُ أراضيهم؛ فأصبحت رهينة السلام. التحرر فوري، والسلام يطول.

ولمَّا طال السلام أكثر من اللازم ولم تتحرَّر الأرض، ولم يأتِ السلام على مدى عشرين عامًا، وزاد تفرُّق العرب بعد حرب الخليج الأولى وبعد حرب الخليج الثانية، وضُرِب الحصار على العراق وعلى ليبيا، واشتدت النعرة القُطرية على حساب الوحدة العربية، وتفاقمت أزمة الحريات وحقوق الإنسان، وازداد الفقر، وعمَّت مظاهرات الخبز، أصبح الجو في الداخل والخارج مهيأً لعودة القوى السياسية المستبعَدة في العقود الأخيرة إلى الشارع السياسي العربي تحاول أن تكون الملاذ والمخلِّص والتي ستملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا بتعبير القدماء.

وأصبحت الأزمة أكثر تعقيدًا؛ فالاستعمار الجديد يتشكَّل بعد أن أصبح العالم ذا قُطب واحد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والرأسمالية تُجدِّد نفسها، والشركات العابرة للقارات تستأسد بثروات العالم، واقتصاد السوق يسود، واتفاقية الجات ملزِمة لشعوب العالم الثالث، وعلى الجميع الدخول بيت الطاعة؛ حروب داخلية محدودة من أجل حل تُمليه الولايات المتحدة أولًا ثم أوروبا الغربية ثانيًا قسرًا، أو بإرادة حرة مستقلة نسبيًّا.

وفاوض العرب أعداء الأمس وهم في أضعف لحظاتهم وفي نظام دولي جديد متربص بهم، وآثر العرب سياسة «خذ وطالب» حتى لو طال الوقت؛ فالسلام معركة من معارك الحرب. وتفرَّقت القوى السياسية، واختلفت حول مشاريع السلام بين الحد الأدنى والحد الأقصى، بين الجزء والكل، بين التفريط والإفراط، بين الواقع والمثال، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.

وبعد صعود اليمين الإسرائيلي ضاع هذا القليل الذي أخذه العرب أو أصبح مُهدَّدًا بالضياع؛ تراجع عن الحكم الذاتي، وعن إقرار مبدأ الانسحاب من الجولان، ومد الشريط الحدودي جنوب لبنان، والتوتر مع مصر والأردن، وإهانة العرب، والتلويح بأزمة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبان للعرب أن العدو عدو، والصديق صديق.

وبدأت مظاهر المقاومة تعود إلى الوجدان العربي منذ مؤتمر القمة العربي في يونيو الماضي، والإجماع على الحد الأدنى من المطالب العربية، ورفض رئيس أكبر دولة عربية الذهاب إلى قمة واشنطن في ذات الشهر بلا جدول أعمال، وعُقد العزم على عقد مؤتمر القمة العربي الثاني في دمشق في الشهر التالي، وقَبول الكويت حضور العراق، والتنسيق مع دولة الجوار تركيا بعد زيارة أربكان لمصر.

وبدأت روح المقاومة تسري في الأراضي المحتلة في فلسطين، وقام الشعب الفلسطيني في القدس ومدن الضفة بالدفاع عن المقدسات الإسلامية، وسقط الشهداء.

وعادت روح الانتفاضة التي تتجاوز هذه المرة الرشق بالحجارة. ونفد صبر العرب شعوبًا وقادة، وتوحَّد الرأي العام العربي، واستعدَّ العرب لمواجهة قادمة بالسلم أولًا.

ومع ذلك، يحتاج العرب إلى وقفة مع النفس كما يقومون الآن بوقفة مع الآخر، وترتيب البيت من الداخل قبل الوثوب إلى الخارج، وتجميع القوى في الداخل من أجل حشد الطاقات وتوحيد الإمكانيات. يحتاج العرب إلى مصالحة مع النفس قبل المصارحة بينهم وبين أنفسهم وقبل المصالحة بينهم وبين العالم.

يحتاج العرب إلى مصالحة وطنية تاريخية عامة بين كل القوى السياسية القديمة والجديدة وفرقاء النضال؛ فالوضع الآن شبيه بمعركة التحرر الوطني التي بدأت منذ نصف قرن من الزمان، معركة التحدي بين الأنا والآخر، وقضية الوجود والاستمرار في التاريخ.

لا يستطيع القادة العرب، خاصةً قادة مصر، الدخول في أكثر من معركة في نفس الوقت؛ معركة في الداخل ومعركة في الخارج، معركة فرعية ومعركة رئيسية؛ فأمام العدو الصهيوني المشترك لجميع القوى السياسية في البلاد، إسلامية وقومية وماركسية وليبرالية، يحتاج الأمر إلى توحيد الجهود، وحشد الطاقات، والمصالحات الوطنية في الداخل من أجل الصمود في الخارج؛ فليس من المعقول أنه في الوقت الذي يقف فيه القادة العرب، قادة مصر، بكرامة وإباء أمام العدو الإسرائيلي دفاعًا عن الحق العربي التوجُّه إلى الهجوم على الجماعات الإسلامية في الداخل. ألَا يَجُب التناقض الرئيسي التناقض الفرعي؟ وماذا عن المثل الشعبي: «أنا وخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»؟ وماذا عن الآية القرآنية التي تعطي مثلًا لتوحيد الداخل لمواجهة الخارج أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (٤٨: ٢٩)؟

وإذا كان الإخوة في الخليج قد بدءوا في الأخذ بعين الاعتبار مثلنا العربي «عفا الله عما سلف»، بالرغم مما نالهم من احتلال وضياع، فلماذا لا يأخذ باقي القادة العرب نفس الشعار بالنسبة لقوى المعارضة في الداخل؟ صحيح أن محاولة اغتيال رئيس جمهورية مصر العربية جريمة لا تُغتفر أخلاقيًّا وسياسيًّا وقانونيًّا ووطنيًّا، وصحيح أن مدبريها والمسئولين عنها ومنفذيها لا بد أن يكونوا تحت طائلة القانون، ويُحاسَبوا وينزل بهم أشد العقاب، عقاب المجرمين؛ فمن شهر سيفًا في وجه أخيه فهو قاتل سافك للدماء.

ولكن الآن الخطر أعظم، والمسامحة قِيمة عربية، والدخول في معارك فرعية مثل اتهام الجماعات الإسلامية في مصر، واتهام السودان، واتهام إيران، تشتيتٌ للجهود في وقت يحتاج العرب إلى تجميعها، وبَعثرةٌ للانتباه، وإضعافٌ للجبهة الداخلية، وتقويةٌ للجبهة الخارجية.

إن ترتيب البيت العربي من الداخل يبدأ بالمصالحة الوطنية داخل كل قطر عربي خاصةً مصر الشقيقة الكبرى ثم بالحوار القومي العام داخل الوطن العربي؛ البداية بالدار قبل الخروج إلى المدينة. وقد أخرج عبد الناصر الإخوان من السجون، ووزَّع عليهم السلاح لردع العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦م. فما الصعوبة في إيجاد ميثاق شرف وطني لإيقاف الصراع السياسي في الداخل من أجل مواجهة العدو في الخارج؟

إن رفع الحصار عن العراق وليبيا، ووقف التهديد للسودان وإيران، والسير في طريق الحوار الذي بدأ مع تركيا هو بداية ترتيب البيت العربي من الداخل؛ فليس المقصود من حصار العراق الآن هو تحرير الكويت أو حمايتها من التهديد العراقي، بل تكبيل العرب وتهميش قوة تُضاف إلى الرصيد العربي. وليس الغرض من حصار ليبيا هو تسليم متهمين، بل إذلال العرب في ديارهم وأخذهم بالشبهات. وقد بان أخيرًا أن تفجير الطائرة الأمريكية على مقربة من نيويورك ربما يكون قد تمَّ بفعل صاروخ أمريكي للتدريب.

إن المصالحة الوطنية التاريخية بين فرقاء النضال شرط أساسي لمواجهة العدو الصهيوني في المرحلة القادمة. وفي احتفالات مصر بنصر أكتوبر هذا العام عادت أغاني العروبة؛ فاهتز الوجدان العربي وفي مقدمتها «وطني حبيبي الوطن الأكبر»؛ فما ضاع يمكن أن يعود. وعادت الأغاني الوطنية لعبد الحليم حافظ مع إخراجٍ جديد في التليفزيون المصري تُعِد الشعب للمواجهة في مرحلة قادمة قد لا تطول.

إن المرشَّح للصمود بجانب الدولة في المرحلة القادمة ومن أجل القدس هو الحركة الإسلامية التي تعرف النضال على ربوع فلسطين بجانب الجيوش العربية منذ ١٩٤٨م، فما زالت هي القادرة على حشد الجماهير العربية والتظاهر في الجامعات كما حدث أخيرًا في مصر والمغرب بعد فتح نفق البراق. وهي التي تقاوم على الأرض في جنوب لبنان وفي فلسطين. فلماذا استبعادها من المصالحة الوطنية وتأجيل الصراع السياسي معها حتى تتحرَّر القدس وفلسطين وجنوب لبنان؟

والقوميون أيضًا بكل فصائلهم قادرون على ذلك، والمصالحة معهم أسهل من الدولة لأن الدولة ما زالت ترى نفسها وريث الحركات الوطنية التقليدية التي صارعت الاستعمار، وناهضت العدو الصهيوني في حروبها السابقة. وقد بدأ الحوار بينهم وبين الإسلاميين في عديد من أرجاء الوطن العربي، ولكنه ظل حوارًا بين قادة وليس تجميعًا للقوى بين جماهير. وما زال السؤال: أين جماهير عبد الناصر وبن بلَّا ومحمد الخامس والصالح بن يوسف وعمر المختار والمهدي والزبيري؟ ما زالت المظاهرات في الجامعات من أجل القدس تقودها الحركة الإسلامية دون الحركة القومية. وقد كانت القوى القومية حاضرةً مع الحركة الإسلامية أثناء العدوان الأمريكي على العراق.

أما الماركسيون والليبراليون فما زالت الساحة مفتوحةً أمامهم كقوًى وطنية تقليدية قبل الثورات العربية وبعدها؛ فالأولوية للواقع على الفكر، وهذا هو صلب الجدل عند الماركسيين. والأولوية للوطن على الاقتصاد الحر، وهذه ركيزة الليبرالية؛ فالحرية للوطن تسبق حرية السوق.

ليس هذا وقت بيان العيوب والاتهامات المتبادَلة، والنقص في النظرية والممارسة؛ فليس الوقت هو الصراع على السلطة في الداخل، بل الوقوف أمام العدو في الخارج. وماذا يفيد تكرار الانتقادات المتبادلة الآن؟ ومن منا لا يُسلِّم بها؟ العنف والغضب والشكلية والتعصب عند الإسلاميين، وأزمة الحريات العامة عند القوميين، وحَرفية الماركسيين، واقتصاد السوق عند الليبراليين؟ لا وقت لذرف الدموع ولا على نبش القبور واسترجاع أحزان الماضي، ولا وقت للصراع على السلطة والدول مُهدَّدة، والأرض محتلة، والكرامة مستباحة، والوطن مهان.

إن المصالحة الوطنية التاريخية بين كل فرقاء النضال بالأمس واليوم ضرورة قصوى لإعادة ترتيب البيت العربي من الداخل في مرحلة المواجهة القادمة مع الخارج، وليس من الصعب تحديد هدف قومي مرحلي يعمل من أجله الجميع؛ تحرير القدس. وإذا تحرَّرت القدس تحرَّرت فلسطين؛ فالقدس قلب فلسطين. وإذا تحرَّرت فلسطين تحرَّر جنوب لبنان والجولان؛ فالقدس أولًا. فإذا كان «لبنان أولًا» يُفرِّق العرب، فإن «القدس أولًا» تُوحِّد العرب وتُجمِّع المسلمين من حولهم.

إن أزمة العرب على مدى التاريخ هي القدرة على حساب الإمكانيات، والتحول من الضعف إلى القوة، من الفُرقة إلى الوحدة. تلك كانت تجربة العرب الأولى مع انتشار الإسلام، وتجربتهم الثانية مع صلاح الدين للدفاع عن البيضة بتعبير الفقهاء، وتلك كانت تجربة العرب الحديثة منذ محمد علي إلى عبد الناصر.

فهل يستمر العرب في تجربة جديدة أثبت التاريخ صدقها؟

(٨) وحدة نُظم أو وحدة شعوب؟٨

ليس الحديث عن الوحدة العربية من مُخلَّفات الماضي أو من لغة الستينيات التي ولَّت، أو مجرد أماني وظنون أو أحلام يقظة أو أغاني وطنية لم نعد نسمعها عن «الوطن الأكبر»، بل هي حقيقة جغرافية وتاريخية. وما زالت قادرةً على الدفاع عن العرب وتحقيق مصالحهم في عالم متغير ذي قطب واحد. وما زالت تجربة الوحدة في دولة الإمارات العربية المتحدة وفي اليمن حقيقةً فعلية، صامدةً عبر العواصف ومخاطر الانقسام. وما زالت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في ١٩٥٨–١٩٦١م بالرغم من عدم استمرارها وعيوبها من أهم التجارب الوحدوية في تاريخ العرب الحديث. وما أخطر ما مرَّ بهم من مآسٍ تفوق تجربة الانفصال؛ حصار ليبيا والعراق، والاعتراف بالعدو الصهيوني!

والتعلُّم من الماضي جزء من الوعي التاريخي ومهامه؛ إذ لم تفترق تجارب الوحدة الماضية عن تجارب نشأة الأقطار العربية بعد الحرب العالمية الأولى وتمزيق دولة الخلافة إلى دُويلات يتم توزيعها كغنائم بين القوى الغربية المنتصرة أو بين القبائل والأسر العربية التي ساعدت المنتصرين ضد الأتراك، أو بمعاهدات بين فرنسا وإنجلترا، أو بأحلاف وقواعد عسكرية ومناطق نفوذ للغرب؛ بل إن الجامعة العربية ذاتها إنما نشأت أيضًا في هذا الإطار في البداية كمنظمة إقليمية، وإن كان مضمونها يُعبِّر عن الوجود العربي المشترك.

كانت تجارب الوحدة الأولى منذ إبراهيم باشا حتى عبد الناصر تجارب فوقية، بالفتح والحرب عند إبراهيم باشا بين مصر والشام، أو بالاتفاق بين الزعماء عند عبد الناصر ثم التأييد الشعبي لهم ثقةً بهم واعتزازًا بأشخاصهم مثل الوحدة المصرية السورية في ١٩٥٨–١٩٦١م، وكل تجارب الوحدة الأخرى بين مصر وليبيا والسودان، مصر وسوريا واليمن، مصر وسوريا والعراق، سوريا والعراق … إلخ. كانت وحدةً بين الزعماء الوطنيين، أُخوةً وتعاطفًا وحميَّة بصرف النظر عن الواقع الوحدوي. كانت وحدة نظم سياسية في مرحلة التحرر العربي، من أجل تقوية النظم التقدمية العربية في مواجهة النظم الرجعية، وتأكيدًا على الدور التحرُّري للقومية العربية في قوى التقدم في العالم الثالث، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

كانت وحدةً عاطفية تُعبِّر عن أحلام العرب وضميرهم التاريخي وانطلاقهم أحرارًا في عصر التحرر من الاستعمار، وكما عبَّر عنها «صوت العرب»، «أيها الأحرار في كل مكان». فالتحرر في النهاية حركة رومانسية قبل أن يكون مصالح اقتصادية، واستقلال سياسي للشعوب. كان العرب يمرون بأزهى فترة في تاريخهم الحديث، من دولة الخلافة إلى دُول محتلة إلى دول مستقلة إلى وطن عربي كبير. وتربَّت أجيال بأكملها على هذه الروح التي لم تُفرِّق بين الوطنية والقومية؛ فالكل أجزاء من الأمة العربية قسَّمها الاستعمار وفرَّق بينها.

وكانت وحدةً فورية تتم بمجرد لقاء الزعماء الذين كانوا يُجسِّدون آمال الشعب العربي؛ فالثورة لا تعرف إلا الانطلاق، تجرف القوانين والدساتير والنظم أمامها. وكان مضمون الوحدة العربية مضمونًا ثوريًّا تقدميًّا في مواجهة النزعات الانفصالية الرجعية المحافظة. وربما تم ذلك تحت ضغط الظروف والمخاطر واحتماءً بالقومية العربية في مواجهة الشيوعية وخطرها كما حدث قُبيل تجربة الوحدة المصرية السورية، وارتماء سوريا في أحضان مصر خيرٌ من ارتمائها في أحضان موسكو. وبمجرد أن تهدأ العواطف تبدأ المشاكل، وفور انتهاء الحلم تبدأ العودة إلى الواقع، وبعد الانتصار على التمزق يبدأ خطر الانفصال.

وكانت وحدةً اندماجية، في الرياسة والحكومة والمؤسسات، ابتداءً من رموز الدولة: العلم، والنشيد، والمقعد في الأمم المتحدة، والتمثيل الدبلوماسي في الخارج، والجيش، والأمن، والداخلية، والمخابرات، والأسماء مثل الإقليم الشمالي والإقليم الجنوبي، وانتقال الحكام من الجنوب إلى الشمال، والقوات من الشمال إلى الجنوب لدرء المخاطر وحماية الوحدة.

والأخطر من ذلك كله، كانت وحدة النظم سياسيةً لتقوية بعضها البعض ضد قوى المعارضة ولحساب الحزب الواحد الحاكم؛ تقتضي حل الأحزاب والتنظيمات السياسية، وتأميم الصحافة، وإنشاء الحزب الواحد. ولما استحال ذلك بعد تاريخ نضالي طويل في مصر وسوريا والعراق والسودان واليمن، تحوَّلت كثير من القوى السياسية إلى قوًى مناهضة للوحدة، تعمل في الخفاء من أجل العودة إلى التعددية السياسية وحرية التعبير، عن حق أو عن باطل. وإذا أمكن السيطرة على مصر فمن الصعب السيطرة على سوريا. وتعذَّر كل راغب في الانفصال بغياب الحرية، واحتجَّ كل مناوئ للوحدة بغياب الحريات العامة، وسيطرة دولة المخابرات، وحكم المكتب الثاني.

فإذا كانت الوحدة العربية ما زالت في القلوب، وتُعبِّر عن طموحات العرب وبعضًا من أحلامهم التي لم تُجهض، فهل يمكن تحويلها من القلوب إلى الأذهان، من وحدة النُّظم إلى وحدة الشعوب؟ فالنظم متغيرة، والشعوب باقية، النظم عنصر تفريق والشعوب عنصر توحيد. هل تستطيع الشعوب أن تُصلح ما تُفسده النظم؟

وتتجلَّى وحدة الشعوب في وحدة الثقافة، وتتجاوز الثقافة الأدب والرواية والمسرح والشعر والقصة والمسلسل الإذاعي والتلفزيوني والأفلام وأخبار النجوم إلى الثقافة السياسية، وحرية انتقال الكتب السياسية والدينية، وحرية انتقال الصحف والمجلات والنشرات الإعلامية؛ فمصادرة الفكر مصادرة للوحدة، ووحدة الفكر بداية وحدة الأمة. وليس من المعقول أن تخشى النظم السياسية بكل ما أوتيت من أجهزة للأمن وقوات مسلحة وشرطة من قلم يكتب أو فكرة تنتشر. وتتعامل الرقابة مع الصحف والمجلات والكتب تعامُلها مع المجرمين والنشَّالين وقُطاع الطرق وتُجار المخدرات. يعرف المثقفون العرب ما يُنشر داخل أوطانهم في الخارج ويُهرِّبونها إلى الداخل، وهو أولى بالانتشار في الداخل علنًا وليس سرًّا؛ فالفكر ليس جريمة.

كما تتجلى وحدة الشعوب في حرية الانتقال من قُطر عربي إلى قُطر عربي آخر دون تأشيرات دخول أو خروج؛ فليس من المعقول أن ينتقل الأجانب أحرارًا في الوطن العربي، ويظل العربي حائرًا بين السفارات العربية في بلده واقفًا بالأيام أمام الأبواب، مستيقظًا قبل الفجر للانتظار أمام الشبابيك للحصول على تأشيرة للدخول إلى جزء من وطنه. صحيح أن الحدود من وضع الاستعمار ولكنها من توظيف النظم السياسية وإبقائها لتكريس الانفصال بحجة الدفاع عن الأقطار. والأقطار القليلة التي تسمح بدخولها دون تصريح في تناقص مستمر مثل مصر والمغرب، مصر والسودان، مصر وتونس. وما زالت بوارق أمل بين مصر وسوريا، مصر والأردن، مصر والعراق، مصر وليبيا. وما زالت سوريا والعراق تمارسان بالفعل وحدة الوطن الأكبر ولا تتطلبان تأشيرة دخول.

وحرية الانتقال في الجامعات جزء من حرية الوطن الأكبر؛ فليس من المعقول أن يذهب الطلاب العرب إلى أوروبا وأمريكا لدراسة فروع موجودة في الوطن العربي وعلى نحو أفضل، وبتكلفة معيشية أقل، ودون مخاطر الغربة. لقد كانت وحدة الوطن العربي في وحدة نظمه التعليمية وحرية الانتقال بين جامعاته دون تمييز بين الطلبة العرب. ولمَّا تحول التعليم إلى تجارة في عصر الانفتاح فُرضت الرسوم على الطلاب من أجل تكريس التجزئة والإبقاء على الانفصال؛ فأصبح التعليم ترفًا أقل من متطلبات السياحة العربية.

وأخيرًا يأتي التبادل الاقتصادي الحر دون حواجز جمركية للإنتاج الزراعي والصناعي العربي، فليس من المعقول أن يكون حجم التبادل التجاري العربي العربي أقل عشرات المرات من حجم التبادل التجاري العربي الأوروبي أو العربي الياباني أو العربي الأمريكي؛ فالوحدة مصالح للشعوب وللأفراد وليست مجرد نوايا طيبة وشعارات للتربية القومية. وإذا كان العرب يتجهون إلى الاقتصاد الحر، واقتصاد السوق كما يفرضه النظام العالمي، فالأولى تطبيقه بين العرب قبل تطبيقه بين العرب وغير العرب.

يستطيع رأس المال العربي المشترك أن يكون أحد عوامل التنمية العربية. والعقول العربية التي تخطط لاقتصاديات العالم المحلية والدولية، والسواعد العربية التي تبني خارج بلاد العرب قادرة على البناء والتعمير في الداخل. والمشروعات المشتركة العربية وإمكانيات تنمية الموارد يعرفها أهل الخبرة والاختصاص؛ زراعة أراضي الجزيرة في السودان، الوادي الجديد في مصر، زراعة سيناء وتعميرها، زراعة ما بين الرافدين في العراق، هيئة التصنيع العربي. وتستطيع السوق العربية التي تعادل في الاستهلاك السوق الأمريكية أو الأوروبية أو اليابانية أن تستهلك المنتجات العربية بدلًا من أن تكون سوقًا للإنتاج العالمي. والتكامل الاقتصادي العربي مدروس من قبل، ومعروف في مراكز البحث والتخطيط. وقد تمت من قبلُ صياغة السوق العربية المشتركة أسوةً بالسوق الأوروبية المشتركة، ولكنها خضعت لمجريات الأحداث وتقلبات السياسة.

لا يعني ذلك أن الأرض ممهدة تمامًا؛ فما زال منطق الخصام والمصالحة هو الغالب على العلاقات العربية العربية. يكفي أن تهرب المعارضة السياسية من قُطْرٍ إلى قُطْر، وتمارس نشاطها حتى تتأزم العلاقات، وتنقطع الصلات. ولو أن كل نظام عربي كان نظامًا تعدديًّا يسمح بمعارضة سياسية لَمَا اضطُرَّت المعارضة إلى الفرار إلى الخارج، بل ولفظها الوطن العربي كله حتى تستقر في لندن وباريس ونيقوسيا وروما.

كما أن ممارسة العنف بين قُطْرٍ عربي وقُطْرٍ عربي آخر، كما هو الحال في حرب الخليج الثانية أو داخل كل قُطْرٍ كما هو الحال في مصر والجزائر، يمنع من الاستقرار الاجتماعي وبالتالي من معدلات التنمية. كما أن اختلاف مستويات الدخل في العالم العربي، في الأسعار والأجور وأنماط الحياة تجعل وحدة السوق في محاباة الأغنياء ولغير صالح الفقراء، بالإضافة إلى اختلاف العادات والتقاليد بين المحافظة والتقليد من ناحية، والعصرية والحداثة من ناحية أخرى. ومع ذلك فكل تحدٍّ له موقف، وكل صعوبة لها حلٌّ عن طريق تدخُّل النظام العربي لحماية محدودي الدخل. وما أكثر سياحة المجتمعات التقليدية إلى مصر ولبنان والمغرب!

ليس الأمر صعب المنال؛ فتجارب الوحدة ما زالت صامدة؛ دولة الإمارات العربية المتحدة، الجمهورية العربية اليمنية. وما زالت مجالس التعاون قائمة؛ مثل مجلس التعاون الخليجي. وما زالت لجان التنسيق العربية تعمل وتُخطِّط، وتخطو رويدًا رويدًا مثل لجان التنسيق بين مصر وسوريا، مصر والسعودية، مصر والأردن … إلخ. وما زالت الجامعة العربية ومنظماتها تحتفظ بالحد الأدنى من التقارب والحوار العربي العربي حتى ولو توقفت حاليًّا مؤتمرات القمة التي هي أقرب إلى مستوى النُّظم منها إلى مستوى الشعوب.

إن العالم يتغيَّر، وما زال يتشكَّل ويُصبح عالمًا ذا قطب واحد، يسيطر على المنظمات الدولية السياسية والاقتصادية. والعرب يعترفون بإسرائيل ويخرجون إلى دوائر أخرى غير الدائرة العربية إلى الشرق أوسطية أو المتوسطية، وينحازون للغرب، ويتحالفون مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا لزم إعادة النظر في التجربة العربية الوحدوية، والمحافظة على الوطن العربي من مخاطر الذوبان في دوائر أوسع أو التجزئة إلى كيانات أصغر. ما زالت الوحدة العربية قائمةً على مستوى الوجدان والتاريخ والجغرافيا والثقافة والمصلحة. إنما السؤال: هل هي وحدة نُظُمٍ أم وحدة شعوب؟

١  البيان ٨ / ٧ / ١٩٩٦م.
٢  البيان ٢٩ / ٢ / ١٩٩٦م.
٣  البيان ٢٢ / ٧ / ١٩٩٦م.
٤  البيان ١٨ / ٣ / ١٩٩٦م.
٥  البيان ٢١ / ١٠ / ١٩٩٦م.
٦  البيان ١٦ / ٩ / ١٩٩٦م.
٧  البيان ١٤ / ١٠ / ١٩٩٦م.
٨  البيان ٢٥ / ٣ / ١٩٩٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥