العرب والعالم
(١) العروبة والإسلام١
كثر الحديث في العقدين الأخيرين عن العروبة والإسلام، وعُقدت المؤتمرات، وأُجريت مشاريع الأبحاث حول الموضوع، ونُشرت عشرات الكتب فيه. وما زال الموضوع مطروقًا وإن كان التقابل بينهما قد خف، والحوار بينهما جارٍ، والتعاون بينهما قريب.
ومما يزيد الأمر صعوبةً استحالة التمييز بين ما حدث في التاريخ منذ كان العرب جزءًا من دولة الخلافة على مدى خمسة قرون حتى الثورة العربية الكبرى، والقومية العربية والناصرية وبين العلاقة البنيوية بينهما من حيث هي فكر واختيار أيديولوجي؛ فالحديث عن التعارض بين العروبة والإسلام يُحضر في الذهن التاريخ، والحديث عن التماثل بين العروبة والإسلام يُحضر في الذهن الفكر والأيديولوجيا. والحقيقة أنه لا غناء لأحد المنهجين عن الآخر؛ فما يحدث في التاريخ يترك آثاره في الوعي التاريخي. وبنية الفكر تتحقَّق في التاريخ كحركات سياسية.
وقد مرَّت عدة أفعال وردود أفعال على العروبة والإسلام أو القومية والدين في تاريخ العرب الحديث، فبدت العروبة ضد الإسلام بمعنى العرب ضد الأتراك أثناء الثورة العربية الكبرى وأثناء الحرب العالمية الأولى بمعاونة بريطانيا ضد تركيا، ومن أجل إضعاف دولة الخلافة التي كانت تضطهد حركة القوميين العرب دفاعًا عن وحدة الدولة حتى ولو كان باضطهاد القوميات، العرب والأرمن وعلى حسابهم. وهي مرحلة ساطع الحصري ونشأة الفكر القومي العربي، وهي المرحلة التي يهاجمها الإسلاميون عادةً عندما يجعلون القومية أداةً لتفتيت الأمة بتأييد الاستعمار.
وفي مرحلة ثانية، بدأ استرداد الإسلام داخل العروبة، وجعل الإسلام دين العرب، والنبي عربي، نبي العرب؛ فالإسلام أكبر مُعبِّر عن عبقرية العرب، «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». والنصارى العرب مسلمون ثقافة، والمسلمون عرب ثقافة؛ وهي مرحلة ميشيل عفلق.
وبعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، والتي اعتُبر الإسلاميون القوميين بزعامة عبد الناصر مسئولين عنها، بدأ الحوار القومي الإسلامي على مستوى العمل أكثر منه على مستوى النظر من أجل تنسيق الجهود لدرء مخاطر الهزيمة، ووضع الخطط العملية لمقاومة بوادر الاستسلام ومخططات الاستعمار والصهيونية بالوطن العربي. وظلَّت الأطر النظرية على حالها لم تتغيَّر، وكل فريق يحاور الآخر وفي ذهنه جماهيره وقوته على الساحة. ويخرج الإسلاميون منتصرين في الحوار؛ فجماهيرهم عريضة، والشارع العربي ملكهم، والقومية العربية متراجعة تخطب ود الإسلام.
والحقيقة أن حجر العثرة في هذا الحوار ما زال وسيظل لمدة طويلة من بقايا الصراع التاريخي بين العرب والترك ونشأة القومية العربية، وما زالت مخلفاتها باقية؛ لواء الإسكندرونة الذي اقتطفته تركيا من سوريا، الحركة القومية الكردية في شمال العراق وشرق تركيا المشتعلة، وشمال غرب إيران الراكدة، ودخول تركيا في حلف شمال الأطلنطي، وفي تقليد الغرب والاعتراف بإسرائيل إبَّان المد القومي العربي، وإقامة قواعد عسكرية أمريكية على أرضها لتهديد الوطن العربي. والحقيقة أن العرب اليوم ليسوا غيرهم بالأمس؛ فالحركة الإسلامية رصيد للقومية العربية. والأتراك بالأمس، أثناء الثورة الكمالية ليسوا أتراك اليوم بعد حصول حزب الرفاه على الأغلبية في الانتخابات الأخيرة ودخوله في حلف مع حزب الوطن الأم. ولأول مرة في تاريخ الإسلام الحديث، يأتي الإسلام إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع.
ومما يمنع الحوار القومي الإسلامي، الصراع المكبوت على السلطة؛ فما زال التيار القومي في الحكم، في سوريا والعراق واليمن، وما زال القوميون العرب حاضرين في الخليج ولبنان والأردن ومصر. وبالرغم من محاولات التحالف بين جميع القوى الوطنية في العالم العربي، إلا أن القوميين يرون أنهم ما زالوا قادرين على استمرار الحركة القومية في الخمسينيات والستينيات إلى السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى القرن القادم. والإسلاميون يرون أن الشارع معهم، وأن الهزائم قد لحقت بالقوميين التي أدت في النهاية إلى بزوغ القُطرية على قضية العرب الأولى؛ فلسطين.
وما زال في الذهن العربي التوحيد بين العروبة من ناحية وبين حزب البعث العربي الاشتراكي من ناحية أخرى، وبين الإسلام والإخوان المسلمين أو الجماعات الإسلامية. ومن ثم يصعب الحوار نظرًا للثأر التاريخي بين عبد الناصر والإخوان في مصر، وبين حزب البعث والإخوان في سوريا. وفي خضم الصراع التاريخي ينسى الفكر العربي العروبة والإسلام كفكرتين أو رؤيتين.
كما يُخيَّل للبعض أن العروبة قد حَمَل لواءها نصارى الشام إحساسًا منهم بأنهم عرب أولًا في محيط عربي ثانيًا ومركز دائرة إسلامية ثالثًا، ولكن هُويتهم العروبة وليس الإسلام. والإسلام جزء من تاريخ العرب، ومرحلة في مراحل تطورهم عبر التاريخ. أما الإسلاميون فيعتبرون أن الإسلام هُويتهم، وغير محدد بعرق أو قوم، وقد جمع الأعراق والأجناس وصَهَرها في بوتقة التوحيد، وأن النصارى مسلمون لأن الدين عند الله الإسلام منذ آدم عليه السلام حتى محمد عليه السلام. يُؤثِر النصارى الوحدة العربية بصرف النظر عن الدين، ويُؤثِر الإسلاميون الوحدة الإسلامية بصرف النظر عن القومية، ويتجاوز كلاهما حدود القُطرية الضيقة؛ القوميون إلى الوطن العربي، والإسلاميون إلى الأمة الإسلامية غير المُحدَّدة باللغة أو القومية، بل بالتوحيد.
وفي ذهن القوميين أن الإسلام يُؤدِّي بالضرورة إلى دولة دينية كهنوتية قد عفى عليها الزمن. وما دام تدخل الدين في السياسة فإنه يؤدي إلى فساد الدين والسياسة معًا، محاكم تفتيش، وسيطرة رجال الدين، والنيل من الحريات العامة؛ لذلك ارتبطت القومية بالعلمانية، «الدين لله والوطن للجميع». وعند الإسلاميين، هذه تجربة الغرب، في حين أن تجربة المسلمين أن الدين حضارة وعلم وثقافة ومدنية وعمران، وأن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، نظر وعمل، فكر وسلوك، وأن الإسلام له نظرياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
والحقيقة أن العروبة هي اللسان؛ فالقرآن عربي، والنبي عربي، والأمة عربية بهذا المعنى. ولكن الفكر يتجاوز اللغة، ويمكن التعبير عنه بعديد من اللغات؛ فالتوحيد يمكن التعبير عنه بالعربية والفارسية والتركية والأوردية والصينية والأوزبكية، بل وباللغات الأوروبية الحديثة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية واليونانية. كما يمكن التعبير عنه باللغات الأفريقية ولهجاتها. العروبة لغة، والإسلام ثقافة، يحملها المسلم والنصراني واليهودي وكل من عاش في كنف الثقافة العربية، ويحملها غير العرب من الآسيويين والأفارقة والأوروبيين والأمريكيين. الإسلام نظام عام للقيم يحمله العرب وغير العرب، وتهدف إليه كل الشعوب، وتصوغه كل الثقافات.
هناك دوائر ثلاث يعيشها العربي: القطر، واللغة، والثقافة؛ فالكاتب مثلًا قاهري المولد، عربي اللسان، إسلامي الثقافة. لكلٍّ منا قُطْرٌ يولد فيه، وهذه رابطة الوطنية، وحب الوطن من الإيمان كما هو معروف في القول المأثور. كما كتب التوحيدي «رسالة في الحنين إلى الأوطان»، ورفع الطهطاوي شعار «فليكن هذا الوطن مكانًا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية، والفكر، والمصنع»، وشكَّلت حركات الاستقلال الوطني الحديثة الوجدان العربي كله.
ولكن هذا الوطن الذي فيه المولد، بعاطفة المكان والإحساس بالزمان، مفتوح الحدود على المكان المحيط؛ فقد أقيمت الحدود بعد هزيمة الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى، ووُعد العرب بالاستقلال إذا ما انضموا للحلفاء في الحرب العالمية الثانية؛ فهي حدود مصطنعة، قامت على نموذج الدولة الوطنية القومية في الغرب الحديث؛ ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا بالرغم من اختلاف الوضع؛ ففي حالة الغرب اللغة مختلفة، وفي حالة العرب اللغة والثقافة مشتركة.
لقد تغيَّر العالم، وفي نفس الوقت الذي تظهر فيه القومية عاملًا للتفكيك في أوروبا الشرقية، تشيكوسلوفاكيا، يوغوسلافيا، وفي الاتحاد السوفيتي، شيشينيا، قوقازيا، أذربيجان … إلخ، تبدو فيه القومية كعامل توحيد في الوطن العربي بالرغم مما أصاب الحركة القومية من مخاسر بعد اختفاء عبد الناصر، والحرب العراقية الإيرانية، والحرب العراقية الخليجية، والتوترات بين سوريا والعراق، ومصر والسودان، والمغرب والجزائر، والسعودية واليمن، وقطر والبحرين. وتظل الخطورة في الصدام المفتعل بين العرب وإيران أو التقارب بين العرب والأتراك عبر إسرائيل أو التوتر بين العرب والأفارقة في السنغال أو تشاد أو مالي أو جنوب السودان.
وكما أن الوطن في محيط عربي، فكذلك العرب في محيط إسلامي، أفريقي آسيوي؛ فالإسلام ظهير العرب ورصيدهم التاريخي، وقد كانت الثورة الإسلامية في إيران في عامها الأول رصيدًا للثورة العربية وتجاوزًا لطموحاتها بالنسبة لفلسطين ولمقاومة الاستعمار ولتوحيد الأمة. وقد كان عبد الناصر خير معين لها ولكل فصائلها إبَّان حكم الشاه. وتسمية الخليج، وقضية الجزر كل ذلك يمكن تسويته بين دول الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك كما ظهر أخيرًا في الحوار العربي الإيراني في قطر العام الماضي الذي أجراه مركز دراسات الوحدة العربية.
والصحوة الإسلامية في تركيا، وبداية نقد الثورة الكمالية فيها، ومُثُلها واختياراتها الغربية، وتوتر علاقاتها بالغرب بسبب الاقتصاد والأحلاف، يجعلها قريبةً من العرب مباشرة، وليس عبر إسرائيل أو أمريكا في المشروع الشرق أوسطي الجديد.
والهند، وباكستان، وأفغانستان، وأواسط آسيا حتى الصين امتداد للثقافة العربية، لغةً وتاريخًا. يعشق المسلمون هناك العرب والعروبة، ويتبرَّكون بهم لأنهم بجوار مكة والمدينة، والأزهر والقيروان والزيتونة، ولأنهم الذين حملوا الرسالة لهم.
والملايو، وإندونيسيا، والفلبين، وسنغافورة، تجمع صناعي ضخم، وسكانه مسلمون ما زال العرب يعيشون في ذاكرتهم الحية، لغةً ودينًا وثقافة وأساليب حياة وعادات وتقاليد.
وفي أفريقيا وحَّد العرب لغاتهم في السواحيلي، ووحدوا قبائلهم، وطوَّروا مجتمعاتهم، وأقاموا إمبراطوريتهم في غانا بفضل الرسالة التي حملها العرب لهم بالرغم من لعب الاستعمار على تناقض وهمي بين العروبة والزنجية في جنوب السودان، ومالي، وتشاد، ونيجيريا، والسنغال.
وتبدو العروبة في مسلمي أوروبا وأمريكا الجدد خلال موسم الحج، وتعلُّم العربية، واللباس العربي، والعادات العربية، واللغة العربية، والإسلام الذي حمله العرب.
العرب إذن لا يكونون قوميةً منغلقة على نفسها، بل هم ممتدون إلى الأوطان في الداخل وإلى المسلمين في الخارج. هم كالسمك في الماء في البحيرات والخلجان، وهي الأوطان، وفي المحيطات الواسعة، وهي الأمة الإسلامية. مصالح العرب أوسع من مصالح الأقطار ومتشابكة مع مصالح الأمة الإسلامية في آسيا وأفريقيا، وفي أوروبا وأمريكا.
وفي الوقت الذي يُعاد فيه تشكيل نظام العالم من جديد يحتاج العرب إلى رؤية جديدة لأنفسهم ولغيرهم، لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ولمصالحهم على الأمد الطويل. فليس الغرب أو إسرائيل هما الحليفان الوحيدان؛ إذ يصعب تحول أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم بين عشية وضحاها وفي وقت يكون العرب فيه في أضعف حالاتهم.
(٢) العرب وإيران٢
الصراحة واجبة حتى ولو كانت في أكثر الأمور حساسية، وفي أثقلها على النفس. يتجنبها المثقفون، ويتحرج منها القادة، ويصمت عنها الجميع بالرغم من التفكير المستمر فيها، وتدريجيًّا تتحول إلى محرم ثقافي يُضاف إلى باقي المحرمات مثل الدين والسلطة والجنس، هذا الثالوث المقدس؛ المحرم في الثقافة العربية. وإن من أمانة المثقف العربي أن يكون ما في القلب على اللسان، وأن يتحول التفكير الصامت إلى تفكير علني؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وبدلًا من أن تدهمنا الأحداث أو أن نعتمد في رؤيتنا لواقعنا ولمصالحنا على تحليلات الغرب فنفهم حاضرنا ومستقبلنا عن طريق فهم الآخرين ورؤيتهم له، وهو فهم يُعبِّر عن مصالحهم، فنضر أنفسنا بأيدينا، ونُلقي بأنفسنا إلى التهلكة.
وموضوع العرب وإيران أكثر حساسيةً من موضوعات العرب والأتراك، العرب والغرب، العرب وأفريقيا، العرب وآسيا، العرب وإسرائيل. مع أن إيران من دول الجوار، وقد يشعر بها الخليج لغةً وثقافة وسكانًا قدر شعوره بالوطن العربي في المغرب الأقصى. يفكر فيها الحكام باعتبارها مصدر الخطر الأول على أنظمة الحكم، ويصمت عنها المثقفون إلا فيما ندر.
وإيران هي من دول الجوار التاريخي والجغرافي للعرب قبل الإسلام وبعده، تضم الضفة الشرقية للخليج والجناح الشرقي للعراق، وهي الطريق البري إلى الهند وأفغانستان وباكستان وتركيا وأواسط آسيا. تعامل العرب معها قبل الإسلام تجاريًّا وثقافيًّا وسكانيًّا. كان بعضهم من الصحابة مثل سلمان الفارسي. ويذكر علماء القرآن بعض الألفاظ الفارسية التي تم تعريبها مثل: سندس وإستبرق، ويذكر بعض المتكلمين أنها مع العربية لغة أهل الجنة.
وتُروى أحاديث كثيرة في فضل فارس مثل «العلم في فارس»، وأخرى تفيد أنه لو كان العلم في الثريا لاقتطفه رجال من أهل فارس. وعلى مدى التراث الإسلامي عبر العصور امتدت الثقافة الفارسية بعد ترجمة أمهات كتبها السياسية إلى الثقافة الإسلامية، وكانت ذروتها عند مسكويه الذي ترجم «جاويد نامه»، وأصبحت الثقافة الفارسية رافدًا أساسيًّا مع الثقافة اليونانية، يشكلان معًا الثقافة الوافدة.
بل يُرجع البعض التصوفَ الإسلامي إلى مصدرٍ فارسي، والتحليلات الأخلاقية الأولى أيضًا إلى مصادر فارسية. وكان المُحدِّثون الكبار من فارس؛ البخاري، ومسلم، وابن ماجة، والترمذي، وأبو داود. وكان حَمَلة العلم الرياضي والطبيعي من فارس؛ البيروني، والخوارزمي، والطوسي، والكاشاني. وكان الفلاسفة من فارس مثل ابن سينا والشيرازي وناصر خسرو. ونصف مذاهب الأمة من فارس مثل الشيعة. وكانت اللغة الفارسية مع اللغة العربية لغة التأليف والعلم؛ كتب بها ابن سينا والغزالي، ونظم بها الصوفية الملاحم مثل شهنامة الفردوسي، ولها أثر كبير مع التركية في لغات أواسط وجنوب غرب آسيا. وكانت دعامة الدولة العباسية على مدى خمسة قرون. لقد حملت إيران الإسلام بعد أن اعتنقته، ونشرته في أواسط آسيا. وكانت اللغة العربية فيها لغة العلم والثقافة بالإضافة إلى لغة الدين، وما زالت مركزًا نشطًا لنشر الثقافة العربية الإسلامية.
وفي الماضي القريب، أُصيبت إيران كما أُصيب الوطن العربي قبل الثورات العربية الأخيرة بالهيمنة الغربية، التبعية للغرب عامةً وللولايات المتحدة خاصةً في إيران أيام الشاه، وبالاحتلال المباشر لكافة أرجاء الوطن العربي من القوى الاستعمارية الغربية. وبعد الثورات العربية الأخيرة بدأ الوطن العربي يدافع عن التعارض بين إيران والعرب، وانتهج الشاه سياسة القومية الإيرانية، وعاد إلى الأصول الإيرانية الأولى السابقة على الإسلام في مواجهة مخاطر القومية العربية كحركة تحرر وطني. ودخلت إيران في حلف غربي مع باكستان وتركيا ضد القومية العربية. وأيَّد الشاه أكراد العراق، وغذَّى روح الانفصال لإضعاف العراق. والتقت القومية العربية مع الحركة الوطنية الإيرانية، واعترفت بمصدق وبتأميم البترول الإيراني في ١٩٥٤م. واستمرت الثورة العربية تؤيد المعارضة الإيرانية، الوطنية والإسلامية، ضد الشاه. وكان عبد الناصر يُسلِّح حركتي مجاهدي خلق وفدائي خلق. وكان على صلة بالخميني كرمز للمعارضة الوطنية ضد نظام الشاه.
ولما انتصرت الحركة الوطنية الإيرانية على نظام الشاه، وبقيادة الثورة الإسلامية وتحت شعاراتها وبقيادتها، أعادت الروح الثورية إلى الوطن العربي في ١٩٧٩م بعد أن اعترف بإسرائيل، وهادن الغرب، العدو التقليدي، ودخل في اقتصاديات السوق، وخصخص الاقتصاد. ورفعت الثورة الإسلامية في إيران منذ يومها الأول شعار تحرير فلسطين متجاوزةً شعار العرب «إزالة آثار العدوان»، وكل فلسطين منذ ١٩٤٨م وليس فقط منذ ١٩٦٧م. واعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأغلقت سفارة إسرائيل التي أقامها الشاه، وسلَّمتها لمنظمة التحرير. وأصبحت الثورة الإسلامية في إيران نموذجًا لثورة جديدة بعد نماذج الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، والثورة الروسية.
ثم بدأت الثورة الإسلامية في إيران لظروف داخلية وخارجية، تُفتِّت الوحدة الوطنية بين الإسلاميين والعلمانيين، المحافظة التقليدية للمؤسسة الدينية، تغريب العلمانيين، النيل من خصوم الثورة قبل الشاه وبعده ممَّا اضطر إلى تجمع المعارضة في الخارج، وتربُّص الهيمنة الأمريكية بها، والعدوان العراقي عليها وهي في أوج صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية في حرب استمرت ثماني سنوات بلا هدف أو غاية. خشيت الأنظمة العربية من المد الإسلامي الداخلي في الوطن العربي وأثر الخارجي عليه، فبدأت الثورة تنحو نحوًا محافظًا في الداخل، ويتداخل فيها الإسلام الأممي مع القومية الإيرانية.
وبدأ العرب يخشَون الثورة الإسلامية في إيران أحيانًا على حق، وأحيانًا أخرى عن توهم؛ فاحتلال إيران الجزر الثلاث في مدخل الخليج جعل العرب يعتقدون أن إيران قوة محلية، لها أطماع توسعية في المنطقة العربية خاصةً في الخليج. كما أن استمرارها في الحرب مع العراق لإسقاط النظام العراقي تدخُّل في شئون العرب خاصةً بعد أن استعادت إيران ما احتلَّه العراق من أراضيها ثم تحولت إلى دولة محتلة لأراضي الغير في شبه جزيرة الفاو. لم تعد إيران ثورةً إسلامية أممية، بل أصبحت دولةً قومية كما كان الحال أيام الشاه، تهدف إلى التوسع والانتشار، أرضًا ونفوذًا. وأصبحت تؤيد الانقلابات وتشجعها ضد النظم السائدة في الوطن العربي، وتُمدها بالسلاح، وتُؤيدها معنويًّا؛ فأصبحت خطرًا على الأنظمة العربية في وقت ضعف أيديولوجيات التحديث العلمانية، الليبرالية والقومية والماركسية بعد هزيمة ١٩٦٧م ثم التحول عن المسار القومي منذ الاعتراف بإسرائيل وعقد معاهدات الصلح معها قبل استرداد حقوق شعب فلسطين. وتزداد الخطورة لوجود كثرة من الشيعة في جنوب العراق وفي الخليج وكأن المذهب يجُبُّ الوطن، وأن الانتماء للمذهب يسبق الولاء للوطن. وكثيرًا ما تصبح إيران مسئولةً عن كل قلاقل164 اجتماعية في الوطن العربي، في الخليج وفي لبنان، بل وفي مصر والمغرب العربي، وفي السودان واليمن، وفي شبه الجزيرة العربية في موسم الحج بإعلان البراءة، وفي كل مناسبة بالتدخل في شئون غيرها. وأخيرًا، فهي مصدر الإرهاب في كل مكان، قتل الأبرياء، وترويع الناس.
والتحدي أمام العرب هو مقارنة هاتين الصورتين الإيجابية والسلبية لإيران في الماضي القريب، وفهم الظروف التاريخية التي ولَّدت كلًّا من هاتين الصورتين، والاعتراف بالحق في غمرة الأحداث والأهواء السياسية. فلا ريب أن الثورة الإسلامية في إيران منذ اندلاعها ثم انتصارها في فبراير ١٩٧٩م إنما كانت تعبيرًا عن روح الناصرية، مقاومة الاستعمار والصهيونية، والوقوف ضد المعسكرات والأحلاف ومناطق النفوذ الغربي؛ بل إنها نوع جديد من الناصرية الإسلامية أو الإسلام الناصري، تتجاوز أزمة الصراع بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤م، هذا الصراع الذي ما زال دائرًا حتى الآن في صورة الصراع بين الجماعات الإسلامية ونُظم الحكم التي ورثت ثورة يوليو ١٩٥٢م نظرًا وانقلبت عليها عملًا. فالخميني ناصر جديد يتوسطهما مصدق، وناصر خميني قديم يتوسطهما سيد قطب. كما أن المقاومة المُسلَّحة في جنوب لبنان وفي فلسطين، مقاومة إسلامية على نمط الثورة الإسلامية التي تجسَّدت في إيران في ١٩٧٩م. كما أن أثر إيران على أفغانستان وباكستان وأواسط آسيا والصراعات بين القوميات، ووقوفها بجانب البوسنة والهرسك والشيشان يجعلها قوةً ومركز ثِقَلٍ في العالم الإسلامي، والعرب جزء منه. وهي حاضرة في الخليج جغرافيًّا وتاريخيًّا، سكانيًّا ولُغويًّا، سياسيًّا وثقافيًّا. كما أنها قوة تُضاف إلى قوة العرب، وسلاحها النووي إن وُجد ظهير للعرب ضد السلاح النووي الإسرائيلي. وما زالت صامدةً أمام الأطماع الغربية والوجود العسكري الأمريكي في المنطقة العربية شرقًا وغربًا ووسطًا.
وقد بدأ الحوار العربي الإيراني أخيرًا في جامعة قطر العام الماضي بمبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية، وكان إنجازًا ضخمًا لصالح العلاقات العربية الإيرانية. وكم تبدَّدت الأوهام والتخوفات والصور النمطية الإعلامية المتبالدة بين الطرفين في الأذهان! وإذا كان الحوار يتم بين العرب وإسرائيل، وكان التطبيع على قدم وساق سعيًا وهرولة، فالأولى أن يتم الحوار العربي الإيراني، وتطبيع العلاقات العربية الإيرانية بعد تطبيع العلاقات العربية العربية، وقبل تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية.
فإيران، مثل تركيا، في النهاية من دول الجوار الجغرافي والاستمرار التاريخي، والتواصل الثقافي، والتشابك والتآزر في المصالح؛ فالخليج عربي من ضفته الغربية وإيراني من ضفته الشرقية، وإسلامي في ضفتيه وليس أمريكيًّا. والمصالح مشتركة بين الطرفين كما كانت مشتركةً عبر التاريخ. والعرب وتركيا وإيران يُمثِّلون أكثر من ثلاثمائة مليون مسلم، يعادلون سكان أوروبا أو أمريكا أو روسيا أو اليابان. وهم قلب العالم الإسلامي الذي يبلغ المليار نسمة، مثل تعداد الصين. وفي عصر توازن المصالح بعد توازن القوى تصبح إيران وتركيا مع العرب قوةً مركزية في المنطقة بدلًا من أن تتخطَّاها أوروبا ممتدةً إلى آسيا في الحوار الأوروبي الآسيوي الأخير. تحتاج المنطقة إلى خيال سياسي يتجاوز به العرب رواسب الماضي وأزمة الحاضر، ويجاهدون به النفس وأهواء البشر. ومن أجدرُ من المثقف الوطني أن يطرح رؤاه على وطنه، يجتهد رأيَه دون أن يُتهم بالخيانة للعرب والعمالة لإيران؟ من السهل زرع الأحقاد، ولكن من الصعب نزعها. من السهل صب الزيت على النار، ولكن من الصعب إخماد الحريق. من السهل إيقاظ الفتنة ولكن من الصعب إخمادها.
(٣) العرب والأتراك٣
في وقت مراجعة العرب لأيديولوجياتهم القومية والإسلامية والليبرالية والماركسية، وهي الأيديولوجيات الأربعة التي تنتظم الحياةَ العربية المعاصرة والتي لها وجود فعلي في الشارع العربي وفي ثقافة الجماهير، تتم أيضًا مراجعتهم لدول الجوار، ليس فقط أوروبا في شمال وغرب بلاد العرب، بل أيضًا تركيا في شمال غرب بلاد العرب وإيران في شرق بلاد العرب.
فعندما يُقال تركيا، أو الترك أو الأتراك فإن اللفظ يُثير في الذهن عدة مشاعر متضاربة بين السلب والإيجاب؛ بل السلب أكثر من الإيجاب. قد يكون السلب على السطح ويرقد الإيجاب في الأعماق. قد يكون السلب في تاريخ العرب الحديث في هذا القرن في حين أن الإيجاب يتجاوز الألف عام في الوجدان القومي العربي. السلب في الماضي القريب، والإيجاب في الماضي البعيد. السلب في الذاكرة الحية، والإيجاب في الذاكرة المختزنة.
فعند الإسلاميين تعني تركيا دولة الخلافة القديمة التي استطاعت الدفاع عن الأمة الإسلامية المترامية الأطراف من الصين شرقًا حتى المغرب غربًا ضد أطماع الدول الكبرى الغربية والشرقية على حد سواء. حمت شمال أفريقيا ضد الاستعمار الفرنسي، وأواسط آسيا ضد الاستعمار الروسي، وحاربته في القرم وفي اليمن ضد الاستعمار البريطاني. وانتشر الإسلام من آسيا إلى أوروبا عبرها حتى وصل إلى أبواب فيينا. والعداء لتركيا لا يعرفه المغرب الأقصى ولا تعرفه أواسط آسيا، وربما لا تعرفه مصر التي ارتبطت معظم أحزابها الوطنية مثل الحزب الوطني وحزب مصر الفتاة بتركيا؛ فالوطنية من الإسلام، والإسلام دعامة الوطنية. ولكن خطأ تركيا الحديثة هو الثورة الكمالية وإلغاء الخلافة بدلًا من إصلاحها فضاعت وحدة الأمة، وأصبحت فريسةً للاستعمار الغربي والشرقي، وقلَّدت الغرب، وانحازت إليه بالأحلاف والقواعد والسياسات، وعادت العرب واعترفت بإسرائيل، وجعلت العلمانية ضد الإسلام، وقطعت بين ماضي تركيا وحاضرها؛ فعند الإسلاميين كان الإيجاب في الماضي والسلب في الحاضر.
وعند الليبراليين، تركيا نموذج الدولة الحرة، المتعددة الأحزاب، وهي تتمتع بقدر كبير من الحرية لها دستور ونظام برلماني، تجلَّى في الانتخابات الأخيرة بلا تزييف أو تدخل من الحزب الحاكم. ولم يحصل أحد من الأحزاب المتنافسة على ٩٩.٩٪ من الأصوات كما هو الحال في الانتخابات العربية. لقد أحسنت تركيا صنعًا بأخذها النموذج الغربي في الحرية والديمقراطية والحداثة والاقتصاد الحر، وبتخليها عما يعوق تقديمها الحاضر من رواسب. ويا ليت العرب يكونون مثل الأتراك ويحذون حذوهم، وإحداث القطيعة مع الماضي والدخول في العصر من أوسع الأبواب!
وعند القوميين، لقد أخطأت تركيا بعد أن سادتها القومية الطورانية، وعمَّتها أيديولوجية «تركيا الفتاة» وحزب الاتحاد والترقي باضطهادها حركة القوميين العرب، وشنق قادتها في دمشق في بداية العقد الثاني من هذا القرن. واقتطعت لواء الإسكندرونة من سوريا وضمَّته إلى نفسها، واعترفت بإسرائيل، وتحالفت مع الغرب والعرب في أوج نضالهم من أجل الاستقلال الوطني. واقتصادها رأسمالي منهار، والعرب في أوج بناء الاشتراكية العربية وخططهم للتنمية. وانضمَّت إلى المعسكر الغربي في وقت يكتشف فيه العرب الشرق، ويصيغون مبادئ باندونج.
وعند الماركسيين، لقد أحسنت تركيا صُنعًا بقضائها على الخلافة، ودخولها عصر الحداثة، وبدايتها عصر التصنيع، ولكنها أخطأت في تحالفها مع الغرب، ودخولها في الاقتصاد الرأسمالي. ولا أممية إلا الأممية الاشتراكية التي تتعارض مع النزعات القومية الانفصالية. الفقر والبطالة والهجرة والتخلف كل ذلك من نتائج النظام الرأسمالي الذي تبنَّته تركيا. ثم أصبحت تركيا عضوًا في حلف الأطلنطي المناوئ للاتحاد السوفيتي؛ فهي جزء من المعسكر الغربي المناهض للاتحاد السوفيتي.
تتراوح صورة الأتراك إذن في الذهن العربي بين الإيجاب والسلب بصرف النظر عن الأيديولوجيات العربية الأربعة؛ فهي عند الإسلاميين موطن الخلافة، وأداة انتشار الإسلام في أوروبا. بدأت تتجاوز العصر الكمالي الحديث بدليل نتائج الانتخابات الأخيرة التي حصل فيها الحزب الإسلامي على الأغلبية المطلقة بالنسبة لباقي الأحزاب، والأغلبية النسبية بالنسبة لمقاعد البرلمان؛ فتاريخ تركيا الإسلامي الطويل قادر على وضع الفترة الكمالية في حجمها الصحيح. وألف عام من تاريخ الإسلام قادر على احتواء ثلاثة أرباع قرن من العلمانية. وهي نموذج للحكم الديمقراطي الدستوري، تتجاوز ما يعرفه العرب من نُظم ملكية وراثية أو عسكرية انقلابية كما يتصوَّرها الليبراليون. وهي قلعة صناعية حديثة ونموذج للتقدم العلمي؛ يستورد العرب صناعاتها الثقيلة والخفيفة، ويتمتعون بقنواتها الفضائية في السماء وبعرباتها وبقطع غيارها على الأرض. ويرجع لها الفضل أنها حافظت على فلسطين عندما رفض السلطان عبد الحميد بيعها أو تأجيرها لهرتزل لإقامة الدولة الصهيونية عليها.
ومع ذلك، فتركيا أيضًا وعلى مستوى التاريخ الحديث هي التي بدأت بتقطيع دولة الخلافة بعد نشأة الأحزاب العلمانية فيها والداعية إلى القومية الطورانية وكأن الأمة الإسلامية المترامية الأطراف أصبحت عبئًا ثقيلًا عليها. وكيف يستطيع «الرجل المريض» الدفاع عن نفسه أو عن أهله؟ فهي التي بدأت النعرةَ القومية ثم بدأت باضطهاد القوميات الأخرى التي تُكوِّن دولة الخلافة خاصةً العرب والأرمن. ومذابح القوميين معروفة في التاريخ. وإن كان ثأر العرب قد انتهى بمعاهدة سايكس-بيكو وإقامة الدول العربية المستقلة بتأييد من بريطانيا إن ساعدها العرب في الحرب العالمية الأولى ضد تركيا وألمانيا، فإنَّ ثأر الأرمن ما زال قائمًا بالرغم من قيام جمهورية أرمينيا في شرق تركيا.
بل إن تركيا هي التي اقتطعت لواء الإسكندرونة من سوريا وضمَّته إلى نفسها فخلقت كشمير أخرى بين العرب والأتراك، وما زالت تطمع في مياه دجلة والفرات، وتُقيم السدود، وترفض اقتسام المياه مع سوريا والعراق، وما زالت تقاتل الأكراد على أرض العراق، وأطماعها في الأراضي والثروات العربية لا تتوقف.
كما أنها دخلت في أحلاف مع الغرب منذ حلف بغداد، وحلف جنوب شرق آسيا حتى حلف الأطلنطي لمحاصرة العرب شمالًا كما تحاصرهم إيران شرقًا. يؤيِّدها الغرب في حربها ضد الأكراد، ويؤيِّد الأكراد في شمال العراق، ويدعوهم إلى الانفصال تقطيعًا للعراق. ومن القواعد العسكرية الأمريكية على أرضها انطلق العدوان على العراق في حرب الخليج الثانية. وما زالت صورة التركي في الذهن العربي صورة المتسلط المتعصب الجاهل المستغل الدموي الذي يملأ سجونه بالأحرار. التركي بيده السوط، وفوق رأسه الطربوش، يستعلي ويستكبر، حاكم لا محكوم. وهي نفس الصورة التي رسمها له الغرب في العصر الحديث حتى أصبح تعبير «رأس التركي» معادلًا للجهل والتعصب والتسلط والاستعباد.
واعترفت تركيا بإسرائيل، وأقامت معها العلاقات السياسية والاقتصادية، وكوَّنت معها محورًا يُلهب ظهر العرب، ويُحقِّق أهداف الاستعمار؛ فالإسلام عدو لهما، وهما عدوان له. وصداقة تركيا لإسرائيل تُثبت تعصُّب العرب لجنسهم، وقَبول الإسلام لإسرائيل بما في ذلك احتلال القدس، فأصبحت تركيا وإسرائيل في ذهن العرب قرينتين.
وفي إطار مراجعة النفس، وتغيُّر موازين القوى، وبحث العرب عن استراتيجية عربية جديدة يستأنفون من خلالها تاريخهم النضالي الطويل وتحميهم من الوقوع في الأحلاف الجديدة المناهضة لهم مثل المتوسطية والشرق أوسطية، فإنه يمكن الاعتماد على المخزون النفسي الإيجابي في العمق بالنسبة للأتراك من أجل وضع العرب من جديد في مسار التاريخ بدلًا من الحزن على الماضي، وعصر القومية العربية الذي ولَّى، وغياب البديل عن أمريكا وإسرائيل.
فالأتراك هم في النهاية من دول الجوار مثل إيران، وهم الظهير العربي وامتداده الطبيعي في آسيا شمالًا كما أن الملايو وإندونيسيا والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى هي الظهير العربي شرقًا؛ فالقومية العربية ليست مذهبًا مغلقًا على نفسه محدودًا بحدود العرب كعرق، بل هي ثقافة وحضارة ولغة وتراث مشترك بين العرب وغير العرب، مفتوحة على الأقطار وخصوصياتها من الداخل، ومفتوحة على الأمة الإسلامية وشمولها من الخارج؛ فالعرب هم حَمَلة الإسلام لآسيا وأفريقيا. واللغة العربية في آسيا، لغة القرآن، يتحدث بها المسلمون، ويُعبِّرون بها عن ولائهم الثقافي والحضاري للدين الذي جاء للعرب، وحَمَله العرب إلى كل الناس شرقًا وغربًا. تركيا هي المجال الحيوي للعرب، ومناطق إشعاع الثقافة العربية. وكما تعرَّب المغرب العربي مع الإسلام، فإن العروبة تظل محمولةً عبر الإسلام إلى آسيا، شرقًا إلى إيران وشمالًا إلى تركيا.
وبين العرب والأتراك تاريخ مشترك، حَمَل العربُ الإسلامَ إلى تركمانستان في أواسط آسيا، ثم حَمَل التركُ الإسلامَ إلى أناضوليا فورثوا بيزنطة والمسيحية الشرقية. فتاريخ العرب الحديث جزء من تاريخ تركيا، وتاريخ تركيا جزء من تاريخ الإسلام الذي حمله العرب. ومحمد علي، مؤسس دولة مصر الحديثة ألباني من دول الجوار التركي. وإبراهيم باشا ابنه حَمَل لواء العروبة في مصر والشام. وعُرف قدرُ العرب في اللغة والثقافة والفتح. وقد شيَّد الأتراك الثغور، وأقاموا الحصون، وأنشئوا القلاع دفاعًا عن بلاد العرب ضد الاستعمار الغربي والشرقي، كما ساهمت تركيا بثقافتها وعلمها في الحفاظ على التراث الإسلامي العربي، وفي إقامة المطابع العربية (الجوائب)، وفي إنشاء الجرائد العربية. كما ناضل المفكرون الأحرار العرب مثل أحمد فارس الشدياق والكواكبي والأفغاني والضباط العرب مثل عزيز المصري والقادة العرب مثل مصطفى كامل داخل تركيا ومعها ضد التغلغل الغربي في أمور الأمة.
واليوم تكتشف تركيا أهمية الإسلام، ويتغلَّب الماضي البعيد، ويتجاوز الماضي القريب. وتبدأ حركة نقد للعلمانية والثورة الكمالية، كما يبدأ التقارب مع العرب. وتكتشف تركيا تواصلها التاريخي بعد الانقطاع الذي أحدثه في مسارها التاريخي مصطفى كمال، وتعود تركيا في مركز القلب كما كانت عبر تاريخها الطويل مركزًا للأمة الإسلامية مع مصر قلب العروبة، والملايو وإندونيسيا والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا حتى تتعدد مراكز الإبداع في الأمة.
وتُدرك تركيا كما أدرك العرب من قبلُ وهم في مرحلة التحرر الوطني تعارض المصالح مع الغرب. وتقوى معاداة الغرب في تركيا وعند العرب. كما تدرك تركيا، بالرغم من مشاريع السلام، خطورة إسرائيل في قلب العالم العربي الإسلامي كما يُدركها العرب. ويمكن للعرب والأتراك تكوين محور مباشر ثقافي وسياسي واقتصادي دون المرور بإسرائيل والغرب الأوروبي والأمريكي.
إن تركيا ما زالت أقرب إلى العرب من إسرائيل وأمريكا، ويستطيع العرب معها تنمية الموارد، والتصنيع، وتحديث المجتمع، والتكامل الاقتصادي نظرًا للجوار الجغرافي والتواصل التاريخي والتراث الحضاري المشترك. أليس من حق العرب وضع استراتيجية مستقلة لهم تُعبِّر عن مصالحهم في عالم متغير؟ ولماذا يُخطَّط للعرب دورهم في التاريخ ويُحدَّد مسارهم فيه دون أن يقوموا بذلك هم أنفسهم لهم ولغيرهم؟ هذا هو السؤال.
(٤) العرب وإسرائيل (العقول والسواعد والثروات)٤
المنطقة العربية منذ فجر التاريخ حُبلى بالأحلام أو بلغتنا المعاصرة بالمشاريع الكبرى، وهي نفس الأحلام من حيث المضمون وإن تغيَّرت من حيث الشكل؛ فمنذ حضارات الشرق الأوسط القديمة بدأ حلم الوحدة والنهضة والعمران في حضارات مصر وبابل وآشور، على ضفاف النيل وما بين النهرين. كما بدأ في شبه الجزيرة العربية، شمالًا في بلاد كنعان؛ فلسطين، وجنوبًا في اليمن، وشرقًا في عمان والبحرين، وغربًا في منطقة الحجاز.
وفي هذه المنطقة ظهرت الأديان لتُواكِب النهضات الكبرى وحضارات المنطقة. وتوالى الأنبياء؛ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم جميعًا الصلاة والسلام تأكيدًا على الصلة بين الدين من ناحية والحضارة والعمران من ناحية أخرى. وبفضل الدين والحضارة تحوَّلت شعوب المنطقة إلى دول عظمى وإمبراطوريات قديمة تُعادِل تاريخ الإنسانية القديم قبل أن يتحوَّل المسار الحضاري من الشرق إلى الغرب، وتُوحِّد أوروبا بين تاريخ الغرب وتاريخ العالم.
ومن أشكال هذه الأحلام والمشاريع الحضارية الكبرى، الحلم العربي المعاصر، حلم هذا الجيل في الخمسينيات والستينيات الذي تم إجهاضه في السبعينيات والثمانينيات، وما زلنا نبحث عن بديل له في التسعينيات وفي العقد الأول من القرن القادم، وهو الحلم الذي أصبح شعاره في مصر والشام: الحرية والاشتراكية والوحدة.
وحول هذا الحلم وبفضله قامت حركات الاستقلال الوطني وبناء الدولة الوطنية المستقلة ونظمها الاجتماعية الحديثة ونهضتها العمرانية وخطط تنميتها الزراعية والصناعية والبشرية. وتحوَّل العرب إلى قُطب جديد في نظام العالم في عصر الاستقطاب، وأصبحوا قلب العالم الثالث ودول عدم الانحياز وحلقة الوصل بين شعوب آسيا وأفريقيا خاصةً وأمريكا اللاتينية عامة.
ومنذ إجهاض هذا الحلم صَعُب إيجاد حلم بديل؛ فقد تحول التخطيط الاقتصادي إلى اقتصاد السوق، وتحوَّلت الاشتراكية العربية إلى جزء من الاقتصاد الدولي. وتحوَّلت أحلام الوحدة إلى أحلام أصغر في لجان التعاون أو تقوية الدولة القُطرية. وتقلَّصت الحرية لحساب التيارات المحافظة التقليدية التي تغلب الاتباع على الإبداع، والتقليد على الاجتهاد، والنقل على العقل، والطاعة على النقد.
وفي غياب الحلم العربي البديل نشأ حلم إسرائيل الكبرى في نهاية عصر الاستقطاب وبداية نظام جديد للعالم أحادي القطب، وبدأت الموجات الثانية للهجرات اليهودية من الاتحاد السوفيتي وهو على وشك الانهيار.
وآن وقت الحصاد منذ البذور الأولى في مؤتمر بازل، المؤتمر الصهيوني الأول في ١٨٩٧م، والهجرات اليهودية الأولى في العقد الأول من هذا القرن إلى فلسطين إلى وعد بلفور في ١٩١٧م، وإنشاء الدولة اليهودية في ١٩٤٨م حتى بداية التوسع الجديد في حروب ١٩٥٦م وعدوان ١٩٦٧م، واتفاقيات كامب دافيد في ١٩٧٨م ثم اتفاقيات السلام منذ ١٩٧٩م في مصر، والأردن في ١٩٩٥م. والآن تتم صياغة حلم جديد بعد أن ظهرت صعوبة تحقيق حلم إسرائيل الكبرى بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، والانتفاضة الفلسطينية منذ ١٩٨٨م، والمقاومة اللبنانية في الجنوب؛ فقد تنوعت أشكال الهيمنة من الأرض إلى الثروات ومن المصالح إلى العقول. ويتجلَّى هذا الحلم على استحياء وأحيانًا على الملأ في صيغة العقول والسواعد والثروات: العقل الإسرائيلي والعمالة العربية والثروة النفطية، لخلق شرق أوسط جديد تصبح فيه إسرائيل بمثابة العقل المدبر، والعرب بمثابة الجسم المستهلك. إسرائيل هي الروح الذي يسري في البدن العربي فيُحرِّكه ويولِّد طاقاته ويستنفد موارده.
ومن هنا أتت أهمية الإسراع في اتفاقيات السلام، ومظاهر التطبيع والتبادل الاقتصادي والثقافي، وتأسيس بنك لتنمية الشرق الأوسط من أجل تحقيق هذا الحلم، وبتحقيقه تُحل أزمة التخلف العربي، والعمالة العربية الزائدة في فلسطين أولًا، واستثمار الثروات العربية في مشاريع السلام بدلًا من إنفاقها في التسليح. والأولوية للاقتصاد على السياسة، والتبعية على الاستقلال، وللتعاون على الصراع، وللسلام على المقاومة، وللخبز على الحرية.
وكما تكسَّر حلم إسرائيل الكبرى منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣م والانتفاضة الفلسطينية والمقاومة في الجنوب ومقاومة التطبيع، كذلك قد ينكسر هذا الحلم الصهيوني الجديد «العقول والسواعد والثروات» على أُسس هذا الحلم في الداخل وعلى مقاومته في الخارج.
فالعقل الإسرائيلي ليس مجرد أداة للتفكير والتخطيط بل يقوم على وجدان عنصري؛ فهو عقل متميز يرث عبقرية الغرب والشرق على حد سواء، ويستأنف النظرية العنصرية التي عبَّرت عن ذروة انتصار الغرب في القرن التاسع عشر وتفوقه العلمي والصناعي والمادي والعسكري. هو عقل منغلق على ذاته، يرفض التعامل مع الآخر أو حتى الاعتراف بوجوده. عقل سري يعمل في الداخل ضد الخارج، وكما وضح في الصهيونية والماسونية. هو عقل بيولوجي يقوم على نقاء الدم والحفاظ على السلالة. ولا غرو فقد نشأت الصهيونية السياسية في القرن الماضي من خلال الداروينية ونظرية التطور وخلق الأحياء المتميز والجنس المتفوق.
وهو عقل يستبعد ويرفض ولا يعرف سلوكًا أو يضع تخطيطًا إلا للعدوان واحتواء الآخر والهيمنة عليه، يقوم على ثنائية المركز والأطراف؛ فهو المركز ودونه الأطراف، هو الأصل وغيره الفرع، هو الشعب وغيره «الجونيم»؛ لذلك ائتلف مع العنصرية الغربية وعبَّر عنها والتحم بها باستثناء لحظات التصادم معها كما حدث مع النازية، نازية آرية في مقابل النازية السامية التي مثَّلتها الصهيونية؛ لذلك كانت حدود إسرائيل ليست جغرافيةً أو سياسية أو اقتصادية، بل المدى الذي تستطيع أن تصل إليه الهيمنة من خلال القوة المسلحة أولًا والسيطرة الاقتصادية ثانيًا.
ويقوم هذا الحلم على نوع من المركزية الجديدة في المنطقة العربية أثَّرت على القومية العربية وأعادت توظيف المركزية الغربية الأوروبية والأمريكية لصالحها بالسيطرة عليها لحساب المركز الجديد، وتكبيل دول المنطقة التاريخية بما في ذلك تركيا بالأحلاف، وإيران بالتهديد، والعرب بالتطبيع إلى هوامش له، فلا تتحمل المنطقة مركزين، الصهيونية والقومية العربية، كما لم يتحمل العالم مركزين في نهاية عصر الاستقطاب.
وينكسر هذا الحلم الصهيوني الجديد ليس فقط لنقص في أسسه الذاتية، بل أيضًا بسبب الرفض الخارجي له؛ فالوجدان العربي ينأى عن العنصرية والعدوان والتهميش. حمل التوحيد عبر العصور، وتحررت شعوب المنطقة من إسار العنصرية والعدوان، وتعدَّدت المراكز فيه، في المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة ومراكش والأندلس وخراسان وإسطنبول، كما يقف دونه الرفض العربي ومقاومة الجماهير للتطبيع. وما زال الإحساس العربي العام على مستوى الوجدان الشعبي أن الكيان الصهيوني جسم غريب مزروع من الخارج في الجسم العربي الذي يلفظه بطبيعته حتى وإن طال الأمد. كما يرفضه التاريخ العربي الذي ما زال متواصلًا منذ بداياته الأولى في شبه الجزيرة العربية حتى تجلياته الأخيرة في عصر القومية العربية والتنسيق العربي، والإجماع العربي على الحد الأدنى من مقومات الوجود العربي والكرامة العربية.
ويظل الخطر الأعظم أمام هذا الحلم الصهيوني الجديد «العقول والسواعد والثروات» هو غياب حلم عربي جديد في مواجهته حتى لا يكتفي العرب بمجرد الرفض والمقاومة للحلم الصهيوني دون تقديم حلم جديد يقوم بدور الهجوم إن كان الرفض مجرد دفاع.
لم تخلُ المنطقة العربية من الأحلام عبر التاريخ منذ تأسيس الدول العربية الأولى قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية وعلى أطرافها في الشمال والجنوب الشام واليمن، وفي الشرق والغرب عمان والحجاز. وقامت أول دولة عربية في التاريخ باسم الإسلام، وانتشرت شرقًا إلى آسيا، وغربًا إلى أفريقيا والأندلس، وشمالًا إلى أوروبا. كان هذا حلم خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وطارق بن زياد وموسى بن نصير، وتأسَّست بفضل هذا الحلم أعظم حضارة عرفها التاريخ قبل نشأة الحضارة الأوروبية الحديثة الوارثة لها والمستمدة منها جذورها.
وكان الحلم الثاني درءَ العدوان الصليبي من الغرب من أجل الاستيلاء على فلسطين وتحرير القدس كغطاء ديني للاستيلاء على ثروات الشرق. وحمل هذا الحلم صلاح الدين الذي أصبح في وجداننا التاريخي رمزًا للمقاومة وتوحيد مصر والشام والدفاع عن القدس والإعلان عن مُثل الإسلام وأخلاقياته وحضارته وسماحته في علاقته مع الغرب العنصري المتعصب العدواني الجديد.
وكان الحلم الثالث درء العدوان الشرقي الوافد من أواسط آسيا: غزوات التتار والمغول التي وصلت إلى دمشق بعد تدمير بغداد. وقام سلاطين المماليك بتوحيد مصر والشام من جديد والانتصار على العدوان في عين جالوت وحماية البوابة الشرقية للعالم العربي.
وكان الحلم الرابع درء العدوان الاستعماري الأوروبي الحديث الوافد من الغرب أولًا؛ فرنسا وإنجلترا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإيطاليا، ومن الشرق ثانيًا، روسيا القيصرية أو الدولة الشمولية لابتلاع الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا وتحويلها إلى هوامش لمركز جديد هو إمارة موسكو بعيدًا عن مراكزها العربية الإسلامية في آسيا وأفريقيا.
وكان الحلم الخامس نشأة الدول المستقلة الحديثة وبناءها وتخطيطها وتنمية مواردها، وهو حلم هذا الجيل الذي تم إجهاضه بعد التفريط في الاستقلال الوطني والتنمية المستقلة حتى أصبح الوطن العربي مُهدَّدًا بالحصار من الخارج والابتلاع من الداخل.
فهل يستطيع الخيال العربي أن يُعيد صياغة حلم عربي جديد في مقابل الحلم الصهيوني؛ العقول والسواعد والثروات؟ هل يمكن إيجاد عناصر هذا الحلم فيما تبقَّى من حُلم الوحدة في التعاون والتنسيق والحد الأدنى من الإجماع العربي، في المصالح العربية لتحويل الأقوال إلى أفعال وتجاوز مراحل السياحة إلى تبادل فعلي تجاري بين العرب يفوق التبادل بين العرب والغرب في أهمية القرابة والجوار تحقيقًا لمبدأ الشُّفعة في التواصل مع التاريخ واستثمار هذا الحنين إلى الماضي عند العرب والعودة إلى العصر الذهبي سواء كان عصر الخلفاء الراشدين عند الإسلاميين أو فجر النهضة العربية عند الليبراليين أو حلم الستينيات عند الناصريين والقوميين؟
هل يستطيع الخيال العربي أن يقدم إبداعًا ذاتيًّا عربيًّا لحلم عربي بديل يعتمد على المقومات الذاتية، ويكون قادرًا على حشد الجماهير وتحقيق حلم: العقول العربية والسواعد العربية والثروات العربية؟
(٥) العرب وأمريكا٥
في زيارة لمدة ثلاثة أسابيع للولايات المتحدة والمحاضرة في خمس جامعات منها قبل وبعد حضور المؤتمر السنوي للجمعية الأمريكية للدين في مدينة نيو أورلينز، أردت أن أعرف صورة العرب في أجهزة الإعلام الأمريكية، في الصحف والإذاعة والتلفزيون كي أقارن بين صورتهم في الداخل عند أنفسهم وصورتهم في الخارج عند غيرهم. وأنا مهموم بالعرب في الداخل، وأحمل همي معي في الخارج لعلي أستطيع أن أخفف من حمله أو قد يزداد الحمل.
وبحثتُ عن وضع العرب، وصورة العرب، ونحن نصحو كل يوم على الخليل والقدس وجنوب لبنان والجولان، والعراق وليبيا المحاصرين، وإيران والسودان المهدَّدين، والعنف المسلح في الجزائر، وعرفات ونتانياهو والشرق أوسطية والمتوسطية، ومؤتمر القاهرة الاقتصادي، والسلام والحرب، والاستقلال السياسي والتعاون الاقتصادي أيهما أسبق، فلم أجد شيئًا من ذلك كله في الإعلام الأمريكي وكأن العرب قد غاصوا في قاع المحيط، ابتلعتهم المياه، وكأنهم هبطوا إلى أعماق الأرض بعد زلزال كبير.
تلك هي صورة العرب في الإعلام الأمريكي، لا وجود لهم، لا قادة ولا شعوبًا، لا ماضيًا ولا حاضرًا ولا مستقبلًا، لا سياسة ولا اقتصادًا، لا حربًا ولا سلمًا، لا دمًا ولا حياة، لا همًّا ولا وجودًا؛ فازداد همي في الخارج على همي في الداخل، أزمة العرب في الداخل وإسقاط العرب في الخارج، صراع العرب في الداخل لصنع التاريخ، وتهميشهم في الخارج خارج التاريخ. أتنقَّل بين الجامعات وأُحاضر هنا وهناك. والكل يسأل: من هذا؟ ومن هم العرب؟ مسلم غير إرهابي كيف يكون؟
الموضوع الأول في الإعلام الأمريكي الذي يتصدر محطات الإذاعة والتلفزيون هو محاكمة سيمبسون لاعب الكرة الأسود المتهم في قضية قتل زوجته السابقة وعشيقها ذبحًا بعد أن برَّأته محكمة الجنايات، ويحاكَم من جديد في محكمة مدنية للحكم بالتعويض عليه في حالة الإدانة. الكل يعلم أنه قاتل ولكن إجراءات التقاضي في الولايات المتحدة وبراعة المحامين ونظام المحلفين والإجراءات الكثيرة المعطاة للمتهمين دفعًا للظلم تجعل أحيانًا المذنب بريئًا، والقاتل مقتولًا. والقضية مطروحة على الإعلام الأمريكي منذ أكثر من عام، وتجاوزت تكاليف المحامين فيها عشرات الملايين من الدولارات، وتحولت إلى وسيلة للكسب والإثراء والتبرعات لهذا المحامي أو ذاك، للمتهم أو للادعاء. وتحولت إلى شرائط فيديو بالمسلسلات التلفزيونية.
وتتجلى براعة أدلة الإثبات، وتظهر إمكانيات العلم الحديث في العثور على القرائن: اختبارات الدم، والبصمات، وإثبات وجود المتهم في مكان آخر غير وقوع الجريمة بالدقائق، ونوع الحذاء الذي ترك آثار الدماء عليه على البساط. ويُعرض كل ذلك أمام المحلفين الذين ينقطعون عن العالم كله لا يتصلون بأحد ولا يتصل أحد بهم كي يسمعوا كل شيء وينتهوا إلى الحكم.
ولمَّا كان المتهم أسود يظهر عامل اللون في الدفاع واتهام شهود الإثبات بالتمييز العنصري وبتاريخهم العنصري، ويتعاطف بعض المحلَّفين السود مع المتهم الأسود منذ البداية بصرف النظر عن الأدلة، والمحامون من السود والبيض لإخفاء العامل العنصري. وتطغى الإجراءات على الموضوع، والكل يحرص على سلامة الشكل حتى لو ضحَّى بالمضمون، وإلا فمن القاتل إذن؟ وما زال الأمر مستمرًّا لإثبات حق القتيلين في التعويض المدني حتى ولو كان القاتل بريئًا في الحكم الجنائي، ولو أثبتت محكمة الجنايات الجريمة لَمَا قُتل القاتل ولَمَا وقع القصاص؛ فالإعدام محرم في ولاية كاليفورنيا، أما القتل فحلال!
وهناك احتمالات أخرى ولكنها لا تأتي إلا في الدرجة الثانية: الأخطاء الفنية، العطل الكهربائي، صواريخ التدريب الأمريكية في المنطقة، عبوات الأوكسجين في خزانة البضائع. ولكن العرب هم الأشرار، ولا يأتي الشر إلا منهم. وما زالت صورتهم في أجهزة الإعلام ورسومات الأطفال والأفلام الروائية والدعائية: القتل والاغتيال والتآمر والإرهاب وسفك الدماء، بالإضافة إلى الملذات الحسية: الخمر والنساء والمال والبذخ حتى في الخيمة وعلى الجمال. وبعد خطف الطائرة الإثيوبية ووقوعها على سواحل جزر القمر لم يعلم الأمريكيون إلا أن أربعةً من الأمريكيين أحياء بصرف النظر عن المائة وعشرين غريقًا؛ فحياة أمريكي أو صهيوني لا يعادلها موت المئات من غير الأمريكيين أو من العرب.
والموضوع الثالث هو التحرش الجنسي في الجيش الأمريكي؛ فالجيش الأمريكي يضم الرجال والنساء في التدريب والعيش المشترك إلا في القتال، وبطبيعة الحال تنشأ العلاقات العاطفية بين المجندين والمجندات، والرؤساء والموظفات في المكاتب. وما دام لا يشتكي أحد فالأمور طبيعية. أما إذا حاول رجل التحرش بامرأة وهي غير راغبة اشتكته إن لم ينفع معه النهر والتحذير. وازدادت الشكاوى بالمئات ثم بالآلاف. فما العمل؟ الانتباه إلى الدرس أم الإغراق في التدريبات حتى يهلك الجميع أم العقاب؟ ولا أحد يُفكِّر في فصل المجندين عن المجندات لحل المشكلة من أساسها فالاختلاط أساس المجتمع الحر.
ويتم استدعاء المجندات الضحايا المتزينات ويشرحن ما حدث لهن وآراءهن، كما يتم استدعاء الرؤساء لاستطلاع الآراء ورؤية الحل دون المساس بمقدسات المجتمع الأمريكي: الحرية والاختلاط، ورفض التمييز بين الرجل والمرأة في أي مجال بما في ذلك التجنيد والتدريب والقتال. ولا يُفكِّر أحد في إطفاء الحريق من البداية وأسباب اشتعاله دون وقوعه ثم التفكير في طرق الإطفاء.
والموضوع الرابع الفضائح المالية للحزبين الديمقراطي والجمهوري في التبرعات لتمويل الحملة الانتخابية الأخيرة. لقد نجح الرئيس الديمقراطي في الرئاسة ونجح الجمهوريون في السيطرة على المجلسين: النواب والشيوخ. ولكن الحزب الجمهوري يريد أن يستأنف حملته ضد نزاهة الديمقراطيين رئيسًا وحزبًا. والرئيس الديمقراطي يعد بتعيين وزراء جمهوريين في إدارته الجديدة. ويستعد الجمهوريون إذا ما فتح الحزب الديمقراطي ملف التبرعات أن يفتح هو أيضًا ملف تبرعات الجمهوريين؛ فالكل في التلاعب في الأموال والتحايل على القانون سواء. وقد كانت الحملة الانتخابية الأخيرة أغلى الحملات الأمريكية تكلفةً على الإطلاق. الفساد عند الجميع، المهم ألَّا يكشف سره أحد. ولو وقعت البقرة كثرت سكاكينها كما يُقال في المثل العربي.
ومع فضائح المال فضائح النساء والعلاقات الخاصة التي قد تؤثر سلبًا على صورة المرشحين. وتُغرى النساء بالمال صدقًا أم كذبًا للإعلان عن هذه الفضائح. وتقف زوجات المرشحين بجانب أزواجهم لإعلان براءتهم أمام الجماهير حرصًا على مستقبلهم السياسي أكثر من التحقق من صدق الاتهامات أو كذبها. تظل ذيول الحملة الانتخابية باقيةً في الإعلام الأمريكي استعدادًا للحملة القادمة بعد أربع سنوات. فكما أن العين على المال، العين على السلطة دون هدوء أو استبطاء ودون رعاية للحياة الخاصة في مجتمع أصبح كل شيء فيه عرضةً للاستهلاك والإعلام.
والموضوع الخامس والأخير هو أخبار الرئيس وزيارته الأخيرة لأستراليا وجنوب شرق آسيا للمتعة والعمل، للراحة والسياسة. وكما فتح نيكسون باب الصين فإن كلينتون يزور جنوب شرق آسيا، وهو أول رئيس يقوم بذلك منذ أربعة عشر عامًا. ويلبس القميص الوطني الفلبيني، ويصافح الرئيس الصيني، ويتقايضان معًا حقوق الإنسان في الصين مع التجارة في أمريكا؛ فأمريكا تدافع عن حقوق الإنسان عند الآخرين وليس عندها، وتساوم على صمتها عنها إذا ما كان في ذلك تجارة وربح.
ومع أخباره في الخارج، تُذكر أخباره في الداخل، التغييرات المتوقعة في إدارته، خاصةً المناصب الحساسة مثل الخارجية والدفاع. كما استقال البعض من نفسه لأنه لا يكسب بما فيه الكفاية، ومعروض عليه مرتب أكثر من القطاع الخاص. بل إن الحديث عن احتمال تعيين أولبرايت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة والمعروفة بمعاداتها للعرب وبمناصرتها لإسرائيل فإنه موضوع يحمل همه العرب وليس الأمريكيون.
فأين العرب؟ إنهم في عالم مُهمَّش على الأطراف، يستجدون العون الاقتصادي والسياسي، والمجتمع الأمريكي لا يعرف إلا لغة القوة والمال؛ لذلك أسقط الإعلام الأمريكي العرب من الحساب. فلسطين ليست بؤرة اهتمام، حصار شعبها واحتلال أرضها، وعنف المستوطنين المدجَّجين بالسلاح، ورفض الانسحاب من الخليل وبداية المفاوضات حول مستقبل الأراضي المحتلة طبقًا لاتفاقيات مدريد وأوسلو والقاهرة، واحتلال جنوب لبنان، واحتمال العدوان على سوريا، وانتشار الاستيطان في الجولان، والتنقيب عن النفط، ومؤتمر القاهرة الاقتصادي، كل ذلك خارج العالم وليس له مكان في بؤرة الاهتمام الأمريكي العام.
وما يحدث في الجزائر من قتل وقتل متبادل وسفك للدماء ووقوع الضحايا كل يوم، وما يحدث في أفغانستان بالرغم من ضلوع أمريكا فيه منذ مساعدة المجاهدين ضد الغزو الروسي لاستنزاف الجيش الروسي حتى مساعدة الطالبان تدعيمًا لحكم إسلامي محافظ يقوم على الاتجار بالمخدرات ويتعاون مع الولايات المتحدة في التجارة والسوق، كل ذلك ليس بالحدث الإعلامي، بل نشاط المخابرات الأمريكية أو الرياسة، لا شأن للرأي العام بها.
بل إن الملايين الأفارقة المهددين بالموت جوعًا ومرضًا على الحدود بين زائير ورواندا، وتكوين قوة دولية لحمايتهم وإنقاذهم من الهلاك جوعًا أو قتلًا من القبائل وميليشياتها موضوع يُهم الإدارة الأمريكية، وتتردَّد أمريكا في إرسال قوة صغيرة رمزية غير مقاتلة مع القوات الكندية وباقي قوات الأمم المتحدة بالرغم من الموافقة عليها من المنظمة الدولية، في حين أنها عزمت أمرها للتخلص من العراق، وحشدت الحشود لأكثر من ثلاثين دولةً وما زالت تفعل.
فالعرب مثل الأفارقة خارج التاريخ وخارج بؤرة الاهتمام، وأمريكا هي التي تصنع الأحداث وتُحرِّك مسار التاريخ. ورأت تهميش العرب، والعرب يرون أن ٩٩٫٩٪ من اللعبة ما زالت في يد أمريكا، وأنها الحليف والصديق والوسيط والراعي الأول والأخير لعملية السلام. وينتظر العرب ستة أشهر قبل الانتخابات لانشغال الرئيس، وعدة أشهر بعدها حتى يعود الرئيس، ويطول الانتظار. والعرب ليسوا على بال أجهزة الإعلام الأمريكية التي تُعتَبر مؤشرًا عمَّا يدور في العقل والوجدان الأمريكي وكيف يتصور العالم.
لذلك خرجت أوروبا عن صمتها لعلها تستعيد دورها مع آسيا وأفريقيا وهي الامتداد الطبيعي لها، وهنا قد يظهر العرب في هذا التحول في مسار الوعي الأوروبي من الغرب إلى الشرق والجنوب.
ويظل العرب ينظرون إلى العالم، والعالم لا ينظر إليهم.
(٦) القوة والثروة والجنس٦
انهارت النظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية كلها وفي الاتحاد السوفيتي وربما بقيت مُثُلها في العدالة الاجتماعية والمساواة، فما انهار هو الطابع الشمولي التسلطي لهذه النظم التي أعطت الأولوية للجماعة على الفرد، وللعام على الخاص، وللدولة على المواطن، وللخبز على الحرية.
وتبقى النظم الرأسمالية خاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، هذا العالم الجديد الذي ليس له رصيد كبير في الحضارة أسوةً بالرأسمالية الغربية التي قامت على رصيد ضخم من الليبرالية على مدى عدة قرون، ولكن قد لا تبقى مُثلها والقيم التي تقوم عليها ممَّا يؤذن أيضًا بانهيارها.
وأهم المُثل التي يقوم عليها النظام الأمريكي: القوة والثروة والجنس؛ فالمجتمع الأمريكي مجتمع وليد، نشأ من مجموعة من المهاجرين، الباحثين عن المال والثروة والذهب، أو مجموعات من الهاربين من العدالة الخارجين على القانون، أو مجموعات ثالثة من قُطاع الطرق الذين يودون اللحاق بالثروة اعتمادًا على القوة، وأقلها الطالبون للحرية المضطهدون دينيًّا مثل بعض الفئات البروتستانتية أو بعض الطوائف مثل المرمون الذين يقولون بنُبوات جديدة بعد المسيح.
وسارعت الطوائف وتسابقت على الانتشار في الأرض وفي مقدمتهم البريطانيون والفرنسيون والإسبان والإيطاليون والبرتغاليون والهولنديون زحفًا نحو الشمال الأمريكي مثل الفرنسيين أو نحو الوسط مثل البريطانيين أو الجنوب مثل الإسبان. وبدأت أكبر عملية إبادة في التاريخ للشعوب الأصلية، الهنود الحمر على عدة قرون حتى فُرض على ما بقي منها نظام المعسكرات المعزولة، يقوم السياح بمشاهدتها أو تستعملها هوليود في أفلامها. كما بدأت أكبر عملية نزح من أفريقيا وسرقة شعوب بأكملها مستقلة وتحويلها إلى عبيد للعمل في الأراضي الجديدة على مدى خمسة قرون حتى الحرب الأهلية في القرن الماضي. وما زالت قضية المساواة بين الأجناس مطروحةً على النظام الاجتماعي الأمريكي الذي قام منذ البداية على العنصرية وتفاوت الأجناس. أعلاها الجنس الأبيض الأنجلوسكسوني البروتستانتي وأدناها الجنس الأسود، وما بينهما باقي الأجناس الأوروبية أولًا والعربية ثانيًا.
ويتجلى مثال القوة في الخارج والداخل؛ التدخل العسكري الأمريكي في الخارج والاعتماد على القوة العسكرية في إملاء الإرادة الأمريكية على باقي الشعوب حتى أصبحت شرطي العالم. وما زالت أساطيلها تجوب البحار والمحيطات، وأصبح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي أكبر مجمع في العالم، يزدهر باندلاع الحروب، وينتعش الاقتصاد بكثرة ما يُنتَج من أسلحة الدمار كما كان الحال أثناء الحرب الكورية والفيتنامية. يُورَّد القديم إلى شعوب أفريقيا وآسيا ويُستبقى الجديد. ويُقيم المعسكرات خارجه والقواعد العسكرية في القارات الخمس للسيطرة على مُقدَّرات العالم تحقيقًا لنموذج القوة.
وقد ولَّد هذا النموذج حركات معاديةً للأمريكيين في شتى أنحاء العالم، خارج الولايات المتحدة وداخلها، داعيةً للسلام واستقلال الشعوب، ورفضًا للعدوان والانخراط في الجندية، وحرق الأعلام الأمريكية، وكتابتها ورسمها على المقعدة والحذاء من الشباب الرافض لمثال القوة.
كما تتجلَّى القوة في الداخل، في الجريمة المنظمة التي تقوم بها جماعات الضغط والمليشيات المسلحة التي أصبحت جيشًا داخل الجيش، ودولةً داخل الدولة، والجماعات العنصرية والطوائف بحيث تجاوزت عصابات المافيا الإيطالية الشهيرة في جنوب إيطاليا وصقلية، فدمَّرت الأبنية الحكومية مثل حادث تفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما، وقتل الرؤساء والزعماء مثل كيندي ومارتن لوثر كنج وزعماء الفهود السوداء. تحاول كل طائفة فرض سلطتها بالقوة على باقي الطوائف كما هو الحال في النظم القبلية القديمة.
وهناك جرائم الأفراد؛ فأصبحت القوةُ إحدى الوسائل لتحقيق المطالب دون حق؛ اغتيال الخصوم، الاعتداء على المخالفين، قتل الرجل لعشيقته أو العشيقة لرجلها كما هو الحال في قضية سيمبسون الأخيرة، اعتداء الأبيض على الأسود أو الملون، بل قتل الأبيض للأبيض للسرقة أو للإزاحة من الطريق، وكلما زاد الخطر ازدهرت شركات التأمين على الحياة، بل وعلى عضو عضو من أعضاء الجسد، وتجمَّع رأس المال، وزادت الفوائد، وعظم الربح.
وتتمثَّل القوة في علاقات العمل وفي باقي مظاهر العلاقات الاجتماعية في طلب المناصب والرقي فيها، والسعي إلى السياسة والمناصب السياسية، وطلب المناصب العليا في الإدارة والصناعة. وتطغى الأهواء والمصالح على القوانين والحقوق. الأعلى يستغل الأدنى ويسيطر عليه ويُوجِّهه، والأدنى يرشي الأعلى ليُحقِّق مطالبه.
وانتشر نموذج القوي في الأفلام وصناعتها في شخصيات راعي البقر القاتل القوي الخارج على القانون، والبطل الرياضي مثل روكو الأول والثاني والثالث، والرجل الحديدي، والمرأة الحديدية، واليد الفولاذية؛ فالقوة تصنع الأعاجيب وتُحقِّق المعجزات.
والمثال الثاني في المجتمع الأمريكي الثروة أو المال أو الغنى أو الكسب السريع، فقد تكوَّن المجتمع الأمريكي من مجموعة من الفقراء لا يملكون إلا أجر المركب الشراعي إلى العالم الجديد بهدف الاغتناء. والأراضي شاسعة، والثروات الطبيعية متوافرة، والعقل الأوروبي الناهض أداة للسيطرة على الطبيعة.
وبدأ البحث عن الذهب في الداخل ثم قطع الأشجار والاتجار في الثروة الحيوانية والبشرية ثم إقامة المزارع الجماعية والصناعات الأولى من أجل تجميع رأس المال الأوَّلي قبل أن يتحوَّل إلى مضاربات وأسواق وعقار وأراضٍ منهوبة للبيع والشراء.
وبعد نهب الثروات في الداخل بدأ التحول إلى الخارج؛ جنوبًا إلى المكسيك، وشمالًا إلى كندا، وغربًا حتى كاليفورنيا وشمالها في ألاسكا. وبعد أن ظهرت أمريكا كقوة دولية في هذا القرن بدأ نهب الثروات من الشعوب القديمة في آسيا وأفريقيا حتى استولت على ثروات العالم بعد أن بدأت القوى الاستعمارية الأوروبية في الانحسار.
وظهرت قيم الكسب السريع، كيف نكسب مليون دولار؟ ويُقيَّم كل شيء بثمنه حتى الأفكار، فكرة بمليون دولار، رجل بمليون دولار، بل القتل من أجل حفنة دولارات.
والثروة لا تعرف القيمة، قيمتها في زيادتها؛ فكثر الغش، وازدادت حوادث السرقة بالإكراه أو التحايل؛ فرأس المال يجلب قيمه. ولا فرق في التسمية بين الرشوة والهدية والعمولة والربح والإكرامية.
أصبحت قيمة المنصب في مقدار ما يُدِره من ربح على صاحبه دون ولاء لعمل أو مؤسسة أو قضية. يترك الأستاذ الجامعي جامعته وولايته إلى جامعة أخرى في ولاية أخرى لمرتب أفضل وأجر أزيد. أصبح الربح قيمة، والأجر المرتفع فضيلة؛ بل قامت حركة النساء أساسًا في بدايتها وحتى الآن للمساواة في الأجر بين المرأة والرجل.
وكانت الثروة أحد الدوافع الأساسية للهجرات العربية والآسيوية إلى أمريكا بحثًا عن رزق أوسع. ويُتيح المجتمع الأمريكي ذلك عن طريق الاقتراض من البنوك والفوائد المرتفعة واستثمار رأس المال الأوَّلي حتى عن طريق استغلال العمالة الوافدة. ولا حدود للربح أو الثراء؛ فالمليونير والبليونير شخصيات أمريكية تجذب انتباه الشعوب والأفراد. وكثرت أفلام الباحث عن المال، والباحث عن الثروة، والباحث عن الذهب.
والمثال الثالث في الحياة الأمريكية الجنس أو لذة الحياة أو السعادة بالمعنى الضيق المحدود، الطعام والشراب والكساء والرفاهية والمتعة والراحة والوفرة والجنس، ولا يوجد مجتمع يُوفِّر هذه المطالب باعتبارها حاجات أساسية مثل المجتمع الأمريكي.
الطعام الأمريكي الهامبورجر والآيس كريم، والشراب الأمريكي الكوكاكولا، والكساء الأمريكي البلوجين، والرفاهية الأمريكية العربة والمنزل والحديقة، والمتعة الأمريكية في وسائل الراحة وسهولة الحياة، والوفرة في استغنائها عن الاستيراد؛ فكل شيء موفور على مدى فصول العام. مجتمع يُنتج كل شيء، ويستهلك كل شيء، وسعيد بكل شيء بلا حدود.
والجنس بلا رقابة أو رعاية أو قانون؛ لذلك ازدهرت تجارة الجنس وصور الجنس وأفلام الجنس وممارسات الجنس الفردية والجماعية بالرغم من انتشار الأمراض. الجنس قيمة في ذاته ومطلب، وجسد المرأة موضوع للمتعة بلا نظام.
وانتشر الشذوذ الجنسي بعد الإشباع الطبيعي، اللواط والسحاق، وممارسة الجنس مع الأطفال. ويُطالَب الآن بتشريع الزواج بين رجلين أو امرأتين ما دام كل طرف يُحب أن يعاشر الطرف الآخر ويأنس له، وقد تم ذلك بالفعل في ولاية هاواي.
وانتشر الإيدز، وعم السرطان من الرغبة الشديدة في التمتع بالحياة والتدخل المصطنع في مسار الطبيعة؛ فضعفت خلايا، وتكاثرت أخرى بلا نظام. ويزدهر التأمين الطبي، ويثرى الأطباء كما أثرى المحامون، والآن يثرى المحللون النفسيون من أجل علاج المرضى النفسيين والبؤساء، وكأن مُثُل القوة والثروة والجنس لم تُحقِّق السعادة المرجوة للفرد والمجتمع.
لذلك ظهرت قضية الولاء في المجتمع الأمريكي، تطرح نفسها على المفكرين ويتناولها الفلاسفة. فولاء الأمريكي لمن؟ لله أو للوطن أو للقضية؟ الله هو الدولار والثروة والمال، والوطن هو القوة والطغيان والسيطرة والغزو، والقضية هي التمتع بالحياة بلا حدود.
لذلك ثار الشباب، ورفضوا هذه المُثل الثلاثة في المجتمع الأمريكي مكتشفين الشرق: البوذية أو الهندوكية أو الإسلام حتى يحدث توازن في حياتهم بين المادة والروح، فينتقلون من طرف إلى طرف، ومن نقيض إلى نقيض؛ فيُغالون في لباس الرهبان، ويرفضون مظاهر الحداثة.
مُثل المجتمع الأمريكي، القوة والثروة والجنس، أقرب إلى مُثل المجتمع الوثني منها إلى مُثل الجماعة اليهودية أو المسيحية، تُؤلِّه الدنيا وتُنكر الآخرة، أو هي أقرب إلى مُثل المجتمع اليهودي وليس المسيحي والذي حوَّل المعبد إلى تجارة، والإيمان إلى مصلحة، والروح إلى بدن. وقد نقد محمد إقبال من قبلُ هذه الحضارة المادية: «لقد جعلتم أرض الله دكانًا.»
وسادت الفلسفات العملية؛ قيمة الشيء في مقدار النفع الذي يُحقِّقه، والنتيجة المادية التي ينتهي إليها. كما سادت الذرائعية، الغاية تُبرِّر الوسيلة، وأن القيم والمُثل العليا والأفكار ما هي إلا وسائل لتحقيق منافع عملية.
ولا ضير أن تتحول المسيحية إلى دين مدني يحافظ على تماسك المجتمع الأمريكي، ويُرفع بجوار القداس العلمُ الأمريكي، لا فرق بين دين ووطن، إيمان وسياسة. وأصبح للبيت الأبيض قساوسته ودعاته وخطباؤه ووُعاظه، يُساهمون في الدعاية الانتخابية للمرشحين الديمقراطيين أو الجمهوريين.
ولا عجب أن يؤمن الأمريكي بالطهارة وصفاء القلب ونقاء الضمير وأن يشعر بالحياة الروحية بينه وبين نفسه كنوع من الاطمئنان الداخلي وعزاء النفس بالنفس وراحة الضمير في ساعة الصفو وأيام الآحاد والعطلات الدينية، ولكنه في الحياة العامة ينغمس في مُثل المجتمع الأمريكي في ملكوت القوة والمال ولذة الحياة حتى يتعب ويُرهَق، ثم يعود إلى طهارته القلبية ليُخلِّص نفسه من هموم الدنيا ومتاعب المال.
غاب القانون العام، وحلَّت المصلحة محله، وساد القوي على الضعيف، والغني على الفقير، وظهر المعيار المزدوج في كل شيء، في الداخل والخارج، في حقوق البيض والملونين في الداخل، وفي الخليج وفلسطين في الخارج.
والخطورة في ذلك هي سيادة هذه المُثل الثلاثة في الإعلام الأمريكي لخلق صورة مجتمع واحد لا تمايز فيه، وإخفاء جانب آخر في المجتمع الأمريكي، واقع الضعف والفقر والحرمان لملايين من البشر في أبلاشيا في الساحل الشرقي أو على مقربة منه وملايين من الأمريكيين الأفارقة ضحايا المرض والبطالة والعوز، وملايين من الأمريكيين الإسبان «الشيكانو» الذين يتسوَّلون العمل والخبز بعد أن احتلت أمريكا سلمًا أو حربًا الأجزاء الشمالية من أراضي المكسيك في المكسيك الجديدة وكاليفورنيا.
يبدو أننا في العالم العربي ما زلنا نظن أن أمريكا هي أرض الأحلام، وما زالت طوابير الانتظار أمام السفارات الأمريكية في العواصم العربية طلبًا للهجرة نحو العالم الجديد دون وعي بالفرق بين الأسطورة والواقع، بين الحلم واليقظة، بين الوهم والحقيقة.
(٧) الإسلام والغرب٧
يُثار في هذه الأيام موضوع قديم جديد له صياغات عديدة مثل: الإسلام والغرب، أوروبا والإسلام، حوار الشمال والجنوب، الحوار العربي الأوروبي؛ ليرث الموضوع القديم الشرق والغرب أو الستار الحديدي والعالم الحر. وتدل كل صياغة على عقلية التحيز ضد الإسلام لصالح المركزية الأوروبية، فالإسلام دين وحضارة، والغرب منطقة جغرافية في التقابل بين الإسلام والغرب؛ فالمعيار ليس واحدًا بل هو معيار مزدوج؛ فالغرب يرى الإسلام دينًا ويرى نفسه موقعًا جغرافيًّا مما يكشف عن تعصُّب الغرب تجاه الإسلام ودفاعه عن نفسه كموقع جغرافي سياسي. يُكره الإسلام كدين ويُدافع عن نفسه كموقع سياسي. يرى الآخر كثقافة وحضارة ويرى نفسه كمنفعة ومصلحة. ويسمي البوسنيين المسلمين في مقابل الصرب والكروات.
ومثل ذلك أيضًا صياغة أوروبا والإسلام، البداية بأوروبا قبل الإسلام وبالأنا قبل الآخر، وأوروبا أكثر خصوصيةً من الغرب الذي قد يشمل الغرب الأمريكي، كما أن أوروبا لفظ أكثر دلالةً على الحضارة مثل الحضارة الأوروبية في حين يظل الغرب موقعًا جغرافيًّا. وقد تعني هذه الصياغة حضور الإسلام داخل أوروبا أكثر ممَّا تعني وجود الإسلام خارج الغرب متحديًا إياه كما هو الحال في الصياغة الأولى؛ فقد أصبح الإسلام الدين الثاني في أوروبا بعد المسيحية، وتأتي اليهودية بعده، بل إنه يكاد يصبح كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من وجود ثمانية ملايين يهودي فيها، بفضل دخول الأمريكيين الأفارقة الإسلام وبفضل الهجرات العربية الإسلامية الأخيرة. فإذا كان الإسلام في الصياغة الأولى، الإسلام والغرب، يُمثِّل تهديدًا خارجيًّا، فإن الإسلام في الصياغة الثانية، أوروبا والإسلام، يُمثِّل تحديًا داخليًّا.
أما الصياغة الرابعة؛ حوار الشمال والجنوب فإنه يُمثِّل نطاقًا أوسع؛ فالعرب جزء من الجنوب مع أفريقيا، والغرب هو الشمال. مع أن العرب أيضًا جزء من الشرق الآسيوي؛ بل إن معظم أقطاره هناك باستثناء مصر والسودان وموريتانيا والمغرب العربي ودوله الأربع. وقد تعني هذه الصياغة الرابعة إبراز صلة الجوار بين العرب وأوروبا أكثر من صلة الجوار بين العرب وآسيا، مع أن أوروبا نفسها بدأت تحاور آسيا في الحوار الأوروبي الآسيوي، والعرب أولى به نظرًا لطول جناحهم الآسيوي.
وتظل الصياغة الأولى، الإسلام والغرب، أكثر انتشارًا ودلالة؛ فقد ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي وارثًا عصر آباء الكنيسة اليونان واللاتين ومبينًا أوجه الخلاف بين الفِرَق المسيحية، وكاشفًا عن اليقين الذين غطوه بمجموعة من الظنون حول شخص عيسى بن مريم، وهو روح الله وكلمة منه كما يصف القرآن الكريم. وينتقد الرهبانية التي ابتدعها المصريون في الصحراء الغربية في القرن الرابع. كما يكشف عن أقوال عيسى ابن مريم قبل أن يتم تدوينها على نحو غير دقيق ممَّا أوقع المسيحيين في خلافات عقائدية حتى اليوم لدرجة الاقتتال بين الفِرَق المسيحية وسفك الدماء.
كما ورث الإسلام التراث اليهودي، وأعاد توضيح دين إبراهيم وتخليصه ممَّا علق به من غلو في العقائد ونسبة نبوة أشخاص بعينها إلى الله، وادعاء الاختيار والاصطفاء والعهد والميثاق بلا طاعة مرتجاة أو إيمان صادق، وبالرغم من العصيان. وأعاد إلى الدين صدقه الداخلي بعيدًا عن الرسوم والأشكال والمظاهر التي تحوَّلت إلى نفاق وتسلُّط على رقاب الناس قام به الأحبار والرهبان. ودعا إلى المساواة بين البشر، وعدم اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، فرَّد إلى التوحيد نقاءه وفعاليته في أخلاق البشر ونُظمهم الاجتماعية، بالحرية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.
ولم يَرِث الإسلام الدين والحضارة فقط، بل ورث إمبراطورية الروم؛ ففي أواخر الدعوة الإسلامية والرسول ما زال حيًّا بدأت الحرب بين العرب والروم في شمال شبه الجزيرة العربية لتأمين حدودها الشمالية وضم العرب في الشمال إلى المركز في الحجاز. وبانتشار الإسلام فوق المستعمرات الرومانية في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وعلى شمال شبه الجزيرة العربية في الشام والعراق والمستعمرات البيزنطية، ورث الإسلام الغربَ حضارة وموقعًا حتى فتح القسطنطينية في ١٤٥٣ ميلادية قبل انحسار الإسلام عن الأندلس وسقوط غرناطة في ١٤٩٢ ميلادية.
وتمَّت ترجمة التراث اليوناني القديم وتم شرحه وتلخيصه وعرضه وإكماله ووضعه في تصور حضاري جديد أعمَّ وأشمل يقوم على وحدانية الله وخلق العالم وخلود النفس والثواب والعقاب جزاءً على الأعمال. ولا فرق بين العقل والنقل، بين الحكمة والشريعة، بين الفلسفة والدين. فإذا كان القدماء قد توصَّلوا لذلك بالعقل فإن المحدثين قد عرفوه بالوحي تأكيدًا للعقل. وإذا كان الأوائل قد عرفوا الفضيلة فإن الأواخر قد تلقَّوها عن طريق النبوة. وأبدعت الحضارة الإسلامية الفلسفات والعلوم، وشيَّدت العمران، وبلغت الذروة في عصر المتنبي والبيروني وابن سينا.
وكان الغرب في ذلك الوقت قد انتهى من العصر القديم، القرون السبعة الأولى قبل ظهور الإسلام، وبدأ عصره الوسيط، القرون السبعة التالية حتى قبيل عصر النهضة، يترجم من الحضارة الإسلامية، من العربية إلى اللاتينية مباشرة، أو عبر العبرية في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا في المغرب، وبيزنطة في المشرق. وكان للحضارة الإسلامية أنصار داخل الغرب خاصةً الرشديين اللاتين، وكان لابن سينا أنصار. كانت الحضارة الإسلامية هي الإطار المرجعي للغرب في العصر الوسيط، وكان كل عقلاني يُسمَّى مسلمًا، والفلاسفة أنصار المسلمين يقولون مِثلهم بالتوحيد بين العقل والنقل، وبين الفلسفة والدين؛ فنشأ تيار علمي عقلاني إنساني في العصر الوسيط، هو امتداد للحضارة الإسلامية في الغرب، وأصبحت مؤلفات البيروني والرازي والكندي وابن الهيثم هي الإطار المرجعي للعالم.
كان العرب هم المركز، وأوروبا هي الأطراف. كان الإسلام هو المبدِع، وأوروبا هي الناقلة والمستهلكة. وكان الإعلام في يد المسلمين، فتحوَّلت الحضارة إلى قوة، وظل الأمر كذلك وحتى خلال الحروب الصليبية وبعدها؛ فقد تعلَّم الأوروبيون، من خلال الاتصال المباشر، العلمَ والحضارة. أتوا لاحتلال أراضي الإسلام عنوةً وفي مقدمتها بيت المقدس بالسلاح، وعادوا حاملين لواء العلم والحضارة، ممَّا ساعدهم فيما بعدُ على التغير وبداية العصور الحديثة اعتمادًا على العقل والعلم.
وفي العصر الحديث نهضت أوروبا بدايةً بالإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، وكان لوثر يريد الإصلاح على الطريقة الإسلامية، إصلاح المسيحية بلا كنيسة وكهنوت وسلطة وتوسط بين الإنسان والله، مؤكدًا على حرية التفسير، وعلى أن الكتاب وحده مصدر الإيمان وليس آباء الكنيسة، وتعلَّم اللغة العربية ليعرف الإسلام من مصدره الأول. واستمرَّ الأمر كذلك في عصر النهضة في القرن السادس عشر تأكيدًا على قيمة الاجتهاد ورفضًا للتقليد.
ونشأ النقد التاريخي للكتب المقدسة على منوال علم مصطلح الحديث للتحقق من صحة الروايات وتطبيق شروط التواتر التي وضعها علماء الحديث والأصول، وأثبت تحريف الكتب المقدسة، وتغيير أقوال الأنبياء. وأصبحت الحضارة الأوروبية الحديثة تقوم على العقل والعلم وحقوق الإنسان، والحرية والعدالة والمساواة، واكتشفوا دين الفطرة، الدين الطبيعي، بعيدًا عن دين الأحبار والرهبان، مقتربين من نموذج الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي.
ومنذ القرن الماضي وإبَّان نهضتنا المعاصرة واضعين حدًّا لقرون التوقف بعد ابن خلدون وعصر الشروح والملخَّصات إبَّان الحكم العثماني، بدأت الترجمة من الغرب إلى الإسلام منذ القرن التاسع عشر، منذ إرسال محمد علي البعثات التعليمية وعودتها لنقل أهم المؤلفات في الفنون والعلوم والصناعات والآداب، وحدث ذلك في بر مصر وفي بر الشام، وأصبحت أفكار التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية جزءًا من الثقافة العامة، وانتشرت ألفاظ الحرية والإخاء والمساواة والعدالة الاجتماعية والعقد الاجتماعي والتقدم والطبيعة وحقوق الإنسان تُؤثِّر في الثقافة العربية المعاصرة.
ونشأ من بيننا الليبراليون والماركسيون والوجوديون والظاهراتيون والبنيويون والعقلانيون والتجريبيون والوضعيون والرومانسيون العرب. وأصبحت الثقافة العربية في أحد جوانبها امتدادًا للتيارات والمذاهب الغربية باسم التنوير والنهضة العربية. وأصبح كل مدافع عن العقل ديكارتيًّا بالضرورة، وكل قائل بالعدالة الاجتماعية ماركسيًّا بالضرورة، وكل مُنبِّه على أهمية العلم وحسن استعمال اللغة تجريبيًّا وضعيًّا بالضرورة.
أصبح المذهب الغربي هو المقياس والإطار المرجعي لكل شيء خارجه. أصبح الغرب هو المركز الجديد بعد أن كان محيطًا للإسلام، وأصبح الإسلام محيطًا للمركز الجديد بعد أن كان مركزًا للغرب.
وقد ساعد الاستعمار الحديث على هذا التحول من المركز إلى المحيط في الإسلام، ومن المحيط إلى المركز في الغرب؛ فالحضارة أحد مظاهر القوة، وتنتشر بانتشار القوة ومراكز الإعلام. وذاعت المذاهب والتيارات الغربية من خلال مراكز الثقافة الأجنبية والترجمة وأقسام الحضارة في الجامعات والإعلام، وأصبحت الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية، والغرب هو نموذج الحداثة.
وبعد التحرر من الاستعمار في منتصف هذا القرن أو بعده بقليل لم ينشأ تحرُّر موازٍ على المستوى الثقافي، فأصبحت الدول العربية حديثًا مستقلةً سياسيًّا وهامشيةً ثقافيًّا وحضاريًّا، وظل الغرب هو الإطار المرجعي الذي يُقاس عليه كل الإنتاج الثقافي العربي ابتداءً من ذيوع المذاهب الغربية كما هي أو بعد قراءتها عربيًّا مثل الشخصانية الإسلامية، والوجودية العربية. وما زال كل إبداع المحيط يُحال إلى أثر المركز. وإذا أبدع أحد الكتاب العرب مثل نجيب محفوظ فإن المركز هو الذي يعطيه شهادة الإبداع، جائزة نوبل، بمواصفات الأدب العالمي وهو أدب المركز.
وكما كان الإسلام في عصره الذهبي الأول هو المركز والغرب في العصر الوسيط هو المحيط بِناءً على ميزان القوى الأول، ثم أصبح الإسلام الآن بعد ابن خلدون وحتى فجر النهضة العربية الحديثة هو المحيط والغرب في عصوره الحديثة هو المركز تعبيرًا عن ميزان القوى الثاني، فإن التحدي الآن في المستقبل هو: مَن المركز ومَن المحيط؟ ما هو ميزان القوى في المستقبل؟
وإذا كان بعض فلاسفة الغرب يتنبئون بنهاية العصور الحديثة؛ فيتحدث اشبنجلر عن أُفول الغرب، وشيلر عن قلب القيم، وبرجسون عن الحضارة المادية الحديثة التي تصنع آلهة، وتوينبي عن محاكمة الغرب، وهوسرل عن ضياع الإحساس بالحياة وأزمة العلوم الأوروبية، وإذا كان العرب يتحدثون منذ الجيل الماضي عن فجر النهضة العربية، وفي هذا القرن عن عصر التحرر من الاستعمار، وفي هذا الجيل عن الصحوة الإسلامية، فهل يدل ذلك على تغير جديد في ميزان القوى بين الإسلام والغرب؟ هل نحن على أعتاب فترة تاريخية ثالثة تتعدَّد فيها المراكز وتتفاعل فيما بينها أم إننا ما زلنا في جدل السيد والعبد الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية باتخاذها الإسلام عدوًّا لها بديلًا عن الشيوعية، تُحاصِر وتُهدِّد باسم مواجهة الإرهاب؟ فماذا يقول العرب؟
(٨) العرب والشرق٨
كثُر الحديث عن العرب والشرق هذه الأيام، كبوة العرب وانقلابهم على أنفسهم من الخمسينيات والستينيات إلى السبعينيات والثمانينيات حتى التسعينيات، ونهضة الشرق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية هذا القرن واستعدادًا للقرن الواحد والعشرين.
ويظهر في هذا الخطاب نوع من الإعجاب بالشرق وبتجربته النهضوية، وفي نفس الوقت حسرة على النفس، وحزن على الماضي القريب عندما سبقت مصر في عصر محمد علي نهضة اليابان الحديثة في عصر ميجي؛ بل إن الإمبراطور الياباني قد أرسل رسلًا إلى مصر محمد علي لنقل التجربة المصرية إلى اليابان في عصر انفتاحها الجديد في أوائل هذا القرن، فأين مصر الآن من اليابان بعد قرن أو يزيد؟
كما ظهر الإعجاب بالشرق في الفكر العربي المعاصر، فكثير من الصحف العربية كانت تُعَنوِن نفسها «الشرق»، و«صوت الشرق» ولقب أم كلثوم «كوكب الشرق». وتصدح أم كلثوم بشِعر حافظ إبراهيم في قصيدة «مصر تتحدث عن نفسها»:
ويتحدَّث الأفغاني عن الشرق والشرقيين، ويُعجَب بنهضة اليابان وروحه القومي، ويتغزَّل حافظ إبراهيم في «غادة اليابان»، ويدعو عبد الله النديم في ثورته ضد الاستعمار البريطاني إلى وحدة الشرق والشرقيين.
وبعد الثورة المصرية والعربية الحديثة بدأ الانفتاح على الشرق من جديد، أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي من أجل تدعيم حركات التحرر الوطني من الاستعمار الغربي، وتوريد السلاح، والمساهمة في خطط التنمية والتي كان أهمها بناء السد العالي في مصر. وبلغت قمة التعاون بين العرب والشرق في مؤتمر باندونج في ١٩٥٥م حين اجتمع زعماء الشرق، شوين لاي، نهرو، ناصر، تيتو، سوكارنو وغيرهم من أجل التعبير عن وعي العالم الثالث المناهض للاستعمار والمؤيد لنضال الشعوب، والمتمسك بسياسة الحياد الإيجابي في الصراع بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتوريد الأسلحة التشيكية إلى مصر في نفس العام لردع العدوان الصهيوني على غزة، ثم إعادة تسليح الجيش المصري بعد هزيمة حزيران (يونيو) ١٩٦٧م، وتسليح الجيوش العربية خاصةً في سوريا والعراق واليمن والجزائر.
وما زال حتى الآن، يُثير الشرق الإعجاب بالنفس، فنحن جزء منه، وهو جزء منا بالرغم من التمايز بين قطاعاته المختلفة. هناك الصين واليابان اللذان يكوِّنان معًا أكثر من ربع المعمورة، عملاق الصناعة وعملاق البشر. وهناك تايوان، وهونج كونج، وكوريا، وسنغافورة، وتايلاند، ومعظمها قليلة السكان باستثناء كوريا وتايلاند وعظيمة الإنتاج. فسنغافورة التي لا يتجاوز عدد سُكانها الثلاثة ملايين أي واحد على عشرين من سكان مصر يبلغ إنتاجها القومي ما يزيد على الألف مليار دولار؛ أي أربعين مرة أكثر من الإنتاج القومي لمصر! وهناك إندونيسيا والملايو، أكبر تجمع سكاني آسيوي إسلامي، يصل معدل التنمية فيهما ٧٪، ٩٪ ضعف معدل التنمية في مصر أو ثلاثة أضعاف. وهناك أخيرًا إيران وأواسط آسيا بما في ذلك الجمهوريات الإسلامية بما لديها من رصيد زراعي وصناعي، ومن طاقة نفطية ونووية.
ومع ذلك، نظرًا لقرب مصر والمغرب العربي والشام، وهي مراكز النهضة العربية منذ القرن الماضي من الغرب؛ فقد قوي الجناح الغربي للأمة العربية على حساب الجناح الشرقي. ونظرًا لأن الاستعمار أتى من الغرب وليس من الشرق، باستثناء استعمار روسيا للجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا؛ بخارى، وطشقند، وسمرقند، وفرغانة، وباكو، فقد تم الاتصال به أثناء حركة التحرر الوطني. ولمَّا بدأت تجارب التحديث في العالم العربي بعد الاستقلال، بدأت أيضًا بالتعاون مع الغرب؛ فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا. وبعد انحسار موجة الاستقلال لصالح التبعية بدأ التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وريثة الغرب الحديث وبعد أفول نجم الغرب القديم.
والوطن العربي — بأهمية المكان، والتوسط الجغرافي بين الشرق والغرب — هو ميزان الثقل بين الجهتين، لا يستطيع أن يميل غربًا أو أن يميل شرقًا حتى لا ترجح إحدى الكفتين على الأخرى. وهذا موضع فريد للوطن العربي الذي يمتد عبر شبه الجزيرة العربية والعراق والشام إلى آسيا، وعبر المغرب العربي إلى أوروبا، وعبر مصر إلى أفريقيا، ومن خلال الهجرات اللبنانية إلى أمريكا الجنوبية، ومن خلال هجرات العرب الحديثة وظهور أمة الإسلام في أمريكا إلى أمريكا الشمالية؛ فالعرب أمة متوسطة جغرافيًّا بين الشرق والغرب، وتاريخيًّا بين الحضارات القديمة في الهند والصين وفارس واليونان والرومان إلى الحضارة الأوروبية الحديثة، وسياسيًّا بين الشيوعية والرأسمالية. هكذا وصفها القرآن الكريم في عديد من الآيات وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (٢: ١٤٣)، وبالصورة الفنية لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (٢٤: ٣٥).
وهنا يبرز الدور الرائد للخليج؛ فهو جغرافيًّا، وسكانيًّا، واقتصاديًّا، وتاريخيًّا حلقة الاتصال بين الشرق والغرب، وأكثر المناطق العربية امتدادًا نحو الشرق. يُمثِّل السكان الآسيويون في بعض دوله بين النصف وثلاثة أرباع السكان، يقومون بالعمالة والتجارة، يتعربون من خلال اتصالهم بالعرب، وتنتشر لغات آسيا من خلالهم إلى العرب. وقد كانت عُمان من أوائل الدول التي ركبت البحار استكشافًا لجنوب شرق آسيا قبل قدوم الرجل الأبيض.
وتجارة العبور مزدهرة بالخليج، في اقتصاد حر مفتوح بلا حواجز جمركية ورسوم كما هو الحال في باقي الدول العربية. ويُصدَّر النفط إلى آسيا خاصةً اليابان، وهي أسواق للمنتجات الصناعية الشرقية من اليابان وتايوان وسنغافورة، وهونج كونج، وكوريا، والصين. وهو نموذج التكامل بين المسلمين العرب والعجم، استمرارًا للأمة الإسلامية وتحت راية التوحيد الذي يجُبُّ العِرْق واللغة والقوم. يخطب وده الجميع في الشرق والغرب لاستثمار فائض أموال النفط، وتصدير العمالة الأجنبية، وتصريف المنتجات الصناعية. تأتيه العمالة من الشرق والغرب، من مصر وفلسطين وسوريا ولبنان والسودان واليمن، كما تأتيه من الهند وباكستان وبانجلادش والفلبين. والآن تزدهر التجارة الحرة مع الروس كأفراد كما كان الحال في المجتمع التجاري القديم.
يستطيع الخليج أن يكون بوتقة تفاعل بين الشرق والغرب، بين آسيا وأوروبا، وبين الشمال والجنوب برًّا، وبآسيا وأفريقيا بحرًا؛ من أجل خلق منطقة حضارية جديدة، تجمع بين الماضي والحاضر، بين الحضارة والتجارة. ثم تتجاوز الحاضر إلى مستقبل أفضل عن طريق التحول من اقتصاد الخدمات إلى اقتصاد الإنتاج، وأن تكون شريكًا صناعيًّا للنمور الآسيوية؛ فالعمالة آسيوية، ورءوس الأموال خليجية، والمهارة عربية، في وقت تُقدِّم المهارة الإسرائيلية نفسها كبديل عن المهارة العربية، وتُحوِّل العرب إلى مجرد عمالة. وتلك مهمة الفكر العربي في الخليج، في جامعاته ومراكز أبحاثه ومجمعاته الثقافية وصحفه؛ أن يكون حاملًا لمشروع نهضوي خليجي عربي جديد، يُجدِّد به المشروع القومي العربي، ويعطيه ركيزةً مادية وطيدة، وتُقلِّل من شعاراته المبدئية القديمة التي ساعدت على بلورة الوعي القومي العربي في الخمسينيات والستينيات إلى واقع عربي جديد في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات ونحن على مشارف قرن جديد، نحن في بداية قرن، والعالم في نهاية قرن.
إن اتجاه العرب شرقًا يُقلِّل من الاعتماد المتزايد على الغرب، وإيقاف ظاهرة «التغريب»؛ أي اعتبار الغرب نموذجًا فريدًا ووحيدًا لكل الشعوب، وتوحيده مع الثقافة العالمية ومع الحداثة والعصرية؛ فالعالم العربي بمثابة القلب. له جناحان: واحد في الغرب، وواحد في الشرق. وما دام الجناح الغربي أقوى من الجناح الشرقي، يتجه الطائر غربًا كما هو الحال في السياسات العربية الحالية. فإذا ما تساوى الجناحان في القوة يستطيع الطائر أن يحفظ توازنه بين الشرق والغرب دون أن يتجه غربًا فترجح كفة الغرب على الشرق أو أن يتجه شرقًا فترجح كفة الشرق على الغرب. وإذا كان رأس الطائر في الشمال، وذيله في الجنوب، الأول في الحداثة والثاني في التراث، الأول نحو المستقبل، والثاني في عمق الماضي، أصبح الطائر العربي راسخًا في الجغرافيا والتاريخ على حد سواء.
إن ميزة الشرق على الغرب في الوجدان العربي المعاصر هي غياب الآثار المتبقية من الاستعمار وغياب التاريخ الاستعماري للشرق في الوجدان العربي باستثناء الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا من أثر التوسع الروسي في العهدين القيصري والشيوعي. لا يوجد عائق نفسي أو تاريخي بين العرب والشرق، بل على العكس هناك أواصر قرابة ورحم؛ فقد انتشر الإسلام شرقًا قدر انتشاره غربًا، إلى فارس والهند، وأواسط آسيا حتى الصين والملايو، وإندونيسيا، والفلبين، قدر انتشاره إلى مصر وشمال أفريقيا والأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط؛ فهناك تاريخ ثقافي وديني وحضاري مشترك. وتظهر تلك التجارب المشتركة في اللغة والعادات والتقاليد وأساليب الحياة بين العرب، خاصةً عرب الخليج، وبين الآسيويين. ويخلو الشرق من العنصرية والتمييز العنصري الذي يقوم على العرق ولون البشرة، والأنانية، والسيطرة، ومركزية العالم مقارنةً بتاريخ الغرب. ولا توجد حركة عربية معادية للشرق كما هو الحال في الحركات المناهضة للغرب عند الإسلاميين والماركسيين والقوميين؛ فالشرق مجال حيوي للعرب، أدركته ألمانيا سابقًا في «الاتجاه نحو الشرق»، كما صاغته فلسفات «ريح الشرق» عند جوزيف نيدهام باكتشافه الصين، وأنور عبد الملك باكتشافه اليابان ثم الصين، وأخيرًا مارتن برنال باكتشافه دور مصر والحضارة الأفريقية الآسيوية في تكوين الحضارة الأوروبية ابتداءً من اليونان القديم.
إن اتجاه العرب شرقًا يساعد على حل مشاكل العرب. وإذا كان الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية قد ساعدت العرب في الخمسينيات والستينيات أثناء حركة التحرر الوطني وفي خطط التنمية الأولى والثانية، وإذا كان الغرب قد حاول القيام بذلك في السبعينيات حتى التسعينيات في مرحلة التبعية له، فإن مجموع دول الشرق تستطيع أن تكون حليفًا جديدًا للعرب في المستقبل القريب. وقد بدأ العرب قرنهم الخامس عشر منذ عقدين من الزمان والعالم من حولهم يستعد لبداية القرن الواحد والعشرين.
يستطيع الشرق أن يساعد العرب على حل مشكلة الغذاء في الوطن العربي؛ فما زال ٧٠٪ من غذائه يأتي من الخارج. ومن لا يُطعم نفسه يظل عبدًا للقمة العيش. وفرة المياه واتساع الأراضي وامتداد رقعة الشواطئ والبحيرات تجعل الوطن العربي قادرًا على الاكتفاء الذاتي بالقمح وبدائله من الحبوب وبالثروة السمكية كما تفعل الصين واليابان. كما يستطيع مساعدة العرب في تجربة التصنيع الجديدة بعد التجربة الأولى في مرحلة التحرر الوطني، صناعة البتروكيماويات في الخليج، وصناعة المنسوجات، والعربات، والإلكترونيات، وأن يُنتج العرب ما يستهلكون ولو بدايةً بالتجميع الصناعي كما تفعل اليابان مع أوروبا وأمريكا. كما يمكن للعرب بداية الاكتفاء الذاتي بالسلاح بدلًا من أن تذهب مدخراتهم في شرائه من الغرب أو الشرق. يستطيع الشرق أن يوفِّر للعرب الخبرة العالمية الضرورية للتصنيع الآلي الحديث، ولربط الوطن العربي بأكبر شبكة من المواصلات الأرضية والجوية، السلكية واللاسلكية. كما يستطيع الشرق الاشتراك الفعلي في العمليات التنموية الشاملة حتى يصبح العالم العربي مستقلًّا بذاته في الطعام والدفاع بدلًا من إبقائه سوقًا لإنتاج الآخرين، وطاقةً لتصنيع الآخرين. على هذا النحو يستمر تاريخ العرب في الاتجاه شرقًا مع حاضرهم. وكما نجح العرب في الماضي في تكوين أمة تجمع بين الشرق والغرب، فقد ينجحون في إعادة بنائها كميزان التعادل بين الشرق والغرب.