الفصل الخامس

الثقافة والسياسة

(١) الثقافة والسياسة١

هناك تصور شائع أن الثقافة والسياسة عالمان متعارضان؛ فالثقافة لا شأن لها بالسياسة وإلا حدث تسييس الثقافة، والسياسة لا شأن لها بالثقافة وإلا حدَث تثقيف السياسة. الثقافة عمل النخبة والسياسة حركة الجماهير، الثقافة اهتمام العلماء والسياسة حرفة السياسيين، الثقافة للخاصة والسياسة للعامة، الثقافة للأقلية والسياسة للأغلبية، الثقافة نظر وبحث عن الحقيقة، والسياسة عمل وتحقيق للمصلحة؛ الثقافة ميدان الصدق والسياسة عالم الكذب. وكيف تجتمع الحقيقة والزيف، الصراحة والنفاق، الآخرة والدنيا؟

وهذا تصوُّر مزدوج للحقيقة التي تجمع بين النظر والعمل، بين العلم والوطن، يقوم على تطهُّر وترفع ورغبة في الوصول إلى المطلق الذي لا شأن له بالنسبي، والتعلق بالأصول التي لا شأن لها بالفروع. وربما يقوم هذا الفصل بين الثقافة والسياسة على رغبة في السلامة والاطمئنان خلف الثقافة أو على الرغبة في الوصول إلى السلطة بأي ثمن باسم السياسة. فالمثقف هنا يكتفي بأضعف الإيمان؛ الإعلان عن النوايا، وملء الفراغ بالفكر، والوقت بالعلم، والجامعة بالنظريات، والورق الأبيض بالحبر الأسود. والسياسي يشاغب ويناور ويتحالف مع الشيطان من أجل الوصول إلى السلطة.

وتاريخ الثقافة وحركات التغير الاجتماعي يدحض هذا التصور الثنائي. ويبين أن الثقافة سياسة غير مباشرة، وأن السياسة ثقافة بلا جذور، وأن الثقافة سياسة على مستوى النظر، وأن السياسة ثقافة على مستوى الممارسة؛ فهناك ما يُسمى بالثقافة السياسية، التمهيد للسياسة بالثقافة، وتحقيق الثقافة في السياسة. وبدونها تصبح الثقافة منعزلةً عن الواقع الذي تعمل فيه، وتُصبح السياسة مجرد غوغائية ديماجوجية، نفعية وارتزاق، مجرد قوة وتسلط.

ويشهد تاريخ الفكر السياسي على ذلك في الغرب والشرق، ولدينا في الماضي والحاضر؛ فقد كانت عظمة فلاسفة التنوير في الغرب، فلاسفة الثورة الفرنسية؛ روسو، ومونتسكيو، وفولتير، ودالامبير، وديدرو، أنهم مهَّدوا للثورة الفرنسية بآرائهم في الحرية والإخاء والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان والمواطن والقانون والدستور والفصل بين السلطات. وانتشرت هذه الثقافة السياسية خارج فرنسا؛ في ألمانيا عند هردر ولسنج وكانط، وفي إيطاليا عند مازيني، وفي إنجلترا عند لوك وهيوم، وفي أمريكا عند توماس بين، وفي روسيا في الحركة السلافية. فتغيير العقول والأذهان يسبق تغيير المجتمعات والنظم السياسية.

وقد قام رُوَّاد النهضة العربية بالجمع بين الثقافة والسياسة، كان الهدف من التنوير إنارة العقول وتحريك الأذهان كمقدمة لتغيير المجتمعات والنظم السياسية. فقام الأفغاني أشهر ممثل للإصلاح الديني بإعادة فهم العقائد من أجل المقاومة، مقاومة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وردَّ على الدهريين من أجل تنشيط العقيدة وربط العالم بالألوهية، ونقد عقيدة القضاء والقدر بمعنى التواكل والتقاعد والتخلف والاستكانة، وأعاد تفسيرها بمعنى الشجاعة والإقدام والرضا بالموت والاستشهاد؛ وأبرز رابطة الأخوة بين المسلمين التي تفوق رابطة الجنس والقومية. ومن أفكار الأفغاني قامت الثورة العرابية في مصر وتأسَّست معظم الأحزاب الوطنية، وما زالت الحركة السلفية أحد الروافد الأساسية للحركة الوطنية خاصةً في مصر والمغرب العربي.

وأسَّس الطهطاوي في مصر، وخير الدين في تونس الدولة الوطنية الحديثة في «مناهج الألباب» وفي «أقوم المسالك»، وتأسَّس الفكر السياسي الليبرالي الحديث الذي على أساسه قامت الدولة الوطنية: البرلمان، والدستور، وتعدد الأحزاب، وحرية الصحافة، وتعليم البنين والبنات، والعمران الذي يشمل الزراعة والصناعة والهندسة. «فليكن هذا الوطن مكانًا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع». وما زالت هذه الأفكار بالرغم من وضع نهاية للدولة الليبرالية بعد الثورات العربية الأخيرة تُعبِّر عن واقع فعلي وممارسات سياسية دفاعًا عن حرية المواطن، وحقوق الإنسان، وديمقراطية الحكم، وعدالة التوزيع. وما زالت أفكار أحمد لطفي السيد وعلي مبارك وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد تجد لها صدًى في عقول الناس، وتُعبِّر عن احتياجاتهم وأشواقهم.

وشارك في ذلك رُواد الفكر العلمي؛ شبلي شميل، وفرح أنطون، ويعقوب صروف، وسلامة موسى، وزكي نجيب محمود، دفاعًا عن حرية الفكر كمقدمة للدفاع عن الحرية السياسية، وعن حرية الفرد كمقدمة لديمقراطية الحكم، وعن المعذبين في الأرض، والقرية الظالمة دفاعًا عن العدالة الاجتماعية. وكما قامت ثورة عرابي إثر تعاليم الأفغاني، وقامت ثورة ١٩١٩م بفضل الفكر الليبرالي، قامت الثورات العربية بدايةً بثورة ١٩٥٢م بفضل الأفكار الوطنية والاشتراكية التي روَّج لها الفكر العلمي.

وإن مراجعة الأيديولوجيات السياسية المعاصرة مثل: الرأسمالية، والاشتراكية، والقومية بل والصهيونية، لا تجد فرقًا بين الثقافة والسياسة؛ فقد قامت الرأسمالية كنظام سياسي على الليبرالية كتيار فكري، كما قامت الشيوعية والاشتراكية كنظام سياسي على الأفكار الاجتماعية حول العدالة والمساواة والحقوق كأفكار فلسفية. وتأسَّست القومية كنزعات سياسية على أفكار القوم والجنس واللغة والتاريخ والأصالة والعودة إلى الجذور التي حملها الفلاسفة، بل إن الصهيونية قبل أن تتجسد في دولة كانت فكرًا وثقافة وتراثًا في أحلام بعض المفكرين القوميين اليهود الغربيين خاصةً في روسيا وأوروبا الشرقية.

وإن تراثنا القديم كله الذي ترسَّب في وعينا القومي كان في البداية ثقافةً سياسية، وما زال يقوم بهذا الدور في اللاوعي القومي حتى الآن. وقد ظهر ذلك بوضوح في الفِرق الإسلامية، وهو الشكل الثقافي للأحزاب السياسية؛ السنَّة والشيعة، المعتزلة والأشاعرة، الخوارج والمرجئة ثقافة سياسية، أحداث سياسية تحوَّلت إلى ثقافة، وثقافة تحوَّلت إلى سياسة. الخلاف حول الإمامة خلاف سياسي تحوَّل إلى ثقافة، التعيين بالنص أو الاختيار الحر من الناس. والخلاف حول عدم التطابق بين الإيمان والعمل تحول إلى ثقافة ونظريات بين الخوارج، وحدة النظر والعمل، والمرجئة، إرجاء العمل على الإيمان، والمعتزلة، المنزلة بين المنزلتين.

لقد ارتبط التوحيد بالعدل، والعقيدة بالشريعة، والتصور بالنظام، وكما تقول الحركات الإسلامية المعاصرة في «الحاكمية» نظرًا للارتباط الجوهري بين الثقافي والسياسي. ونشأت مؤسسات ونظم بأكملها لتحقيق هذه الوحدة العضوية بين الاثنين مثل: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، و«الحسبة» للرقابة على الحياة العامة وتطبيق القانون ورعاية مصالح الناس دون غش أو تدليس. وما زال الإسلام السياسي المعاصر يُمثِّل أحد الأشكال الموروثة للصلة بين الثقافة والسياسة، وكما عبَّرت عن ذلك بعض الأدبيات الوجودية المعاصرة باسم «الالتزام».

والسؤال الآن: من الذي يقوم بهذه الوحدة العضوية بين الثقافة والسياسة؟ من هو المثقف السياسي أو السياسي المثقف؟ من هو العالم المواطن، والمواطن العالم؟ من هو الذي يُمهِّد للسياسة بالثقافة ويخرج الثقافة إلى أرض الواقع، ويكتشفها في ممارسات الناس وحركات الجماهير؟

إن الشائع الآن هو تبرير السياسة باسم الثقافة كما يفعل مثقف السلطة، يجعل السياسة هي الأصل، والثقافة هي الفرع. السياسة غاية، والثقافة وسيلة، والغاية تبرر الوسيلة. فإذا ما تغيرت السياسات تغيرت التبريرات؛ ففي ذروة المد القومي العربي، الدولة القُطرية جزء من الأمة العربية؛ وفي ذروة المد القُطري، الوحدة العربية أحلام وتمنيات؛ وفي ذروة المقاومة للعدو الصهيوني، الإسلام عقيدة وجهاد؛ وفي عصر المصالحة والسلام، الإسلام دين محبة وسلام. هنا يفقد المثقف احترام السلطة له بالرغم من استعمالها له، كما يفقد احترام الجماهير له بالرغم من كتابته لها وترؤُّس صحفها.

وقد ينشأ تبرير الثقافة باسم السياسة كما هو الحال في الدعاية السياسية وكما حدث في المقررات القومية في الجامعات العربية؛ فهي ثقافة مُوجَّهة لحشد الجماهير وإعادة تربيتها ثقافيًّا باسم السياسة. فأثناء المد القومي العربي في الستينيات كانت الثقافة الاشتراكية والأدب الاشتراكي هو الشائع والذي عليه تتربى الجماهير من خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات التربوية. وفي انحسار المد القومي الاشتراكي وسيادة المد الإسلامي تتحول أجهزة الدولة إلى أدوات لنشر الثقافة الإسلامية المحافظة من أجل جذب الجماهير وحمايتها من الانخراط في الجماعات الإسلامية.

فإذا حاول المثقف العضوي بالتعبير المعاصر الالتزام بالثقافة كسياسة وبالسياسة كثقافة، فإنه يجد نفسه محاصرًا بين الخط الأحمر الذي تضعه السلطة والذي لا يمكن تجاوزه والخط الأحمر الذي تضعه الجماهير والذي لا يمكن النزول عنه. فيجد نفسه محاصَرًا بين المطرقة والسندان، بين واجبات السلطة وحقوق الجماهير، بين العمل في إطار الشرعية ومن خلال قنواتها ورعاية مصالح الناس.

يستطيع الأديب استعمال الرمز في الرواية والقصة والمسرحية والشعر، ويستطيع المفكر أن يترجم ويشرح ويعرض أفكار الآخرين، وأن يتحدث على لسان الفلاسفة، وناقل الكفر ليس بكافر. ويستطيع الفيلسوف الاكتفاء بعالم المثال دون إعطاء الأمثلة الآنية في الزمان والمكان، وأن يُعبِّر عن المعاني الخالصة دون الوقائع المتعينة، وكما هو الحال في الأمثال العامية: «الكلام لك، واسمعي يا جارة.»

ومع ذلك، هناك الحد الأدنى من الالتزام الثقافي والسياسي، الخط الأحمر المتبادل، من أعلى ومن أدنى للسلطة وللجماهير، دون الخروج على السلطة أو خيانة الجماهير. وهي معادلة صعبة، وميزان يصعب تعادل الكفتين فيه؛ فقد تميل الكفة مرةً إلى أعلى نحو السلطة فتفرح وتغضب الجماهير، ومرةً إلى أسفل فتغضب السلطة وتفرح الجماهير. ويمكن بالمران اكتساب مهارة الالتزام الثقافي والسياسي وتعدد أشكال التعبير.

وما لا يؤخذ كله لا يترك كله، والتدرج فضيلة، عرفها الشرع قديمًا في تحريم الخمر، وعرفتها السياسة حديثًا فيما يُعرَف بالخطوة خطوة. كما عرف الأنبياء نفس الطريقين: الأول طريق المسيح الذي يعلن عن الحق كله في مواجهة الرومان واليهود كما فعل يوحنا المعمدان، وتكون النتيجة الاستشهاد والبقاء رمزًا للبطولة والفداء، وكما فعل الحسين؛ والثاني طريق محمد بن عبد الله الذي يؤاخي بين الأوس والخزرج، بين المهاجرين والأنصار، بين المسلمين وأهل الكتاب، بين الإسلام والحنيفية، دين إبراهيم، من أجل تحقيق المصالح العامة، ووحدة جزيرة العرب كدولة وقاعدة لوحدة العالم قبل الانتشار شرقًا للقضاء على إمبراطورية الفرس، وغربًا للقضاء على إمبراطورية الروم.

الثقافة والسياسة عمل على الأمد الطويل بعيدًا عن آنيات السياسة، وإعادة بناء الثقافة السياسية قد يكون أحد الحلول لأزمتنا الراهنة.

(٢) العلم والدين والثقافة٢

هناك ثلاثة نماذج فكرية في حياتنا: العلم والدين والثقافة تجسَّدت في ثلاث شخصيات كما يُعبِّر عن ذلك عبد الله العروي بالصورة: المقبَّع والمعمَّم والمطربش، الخواجة والشيخ والأفندي. وفي هذه النماذج الثلاثة تتحدَّد وحدة الشخصية أو تعدُّدها، تآلفها أو تنافرها.

وقد عرفت الثقافة العربية منذ أقدم العصور الوحدة العضوية بين هذه الأنماط الفكرية الثلاثة. عرفتها حضارات مصر وبابل وآشور وكنعان، كما عرفتها حضارات الشرق القديم في الهند والصين وفارس قبل اليونان.

فقد ارتبطت الفلسفات بالعلم، لا فرق بين علوم طبيعية وعلوم رياضية، بين العالم والحكيم. وقد تراكم ذلك في الثقافة الشعبية في مفهوم الحكيم الذي يعني الطبيب. كما خرج كلاهما من الدين، فلا فرق بين الدين الصيني والفلسفة الصينية والعلم الصيني. وكذلك الأمر في الهند وفي مصر، فارتبط التحنيط بعقيدة خلود البدن، كما ارتبطت الهندسة المعمارية وبناء الأهرامات بخلود الروح. وقد استقر ذلك أيضًا في الثقافة الشعبية حتى الآن حتى أصبح العالِم هو رجل الدين.

ثم تعدَّدت هذه النماذج الثلاثة وتنافرت بل وتضاربت ونفى بعضها بعضًا، وأحيانًا تجاورت وتماسَّت حتى برزت ازدواجية الثقافة والفكر. واشتد الخصام بينها، كل نموذج يعتبر نفسه هو الفرقة الناجية، ويُكفِّر النموذجين الآخرين. وعلى أحسن تقدير تجمع ثقافة بين نموذجين على التجاور أو التماس منتقلةً من أحدهما إلى الآخر دون وحدة عضوية بين الاثنين.

وطبقًا لحساب الاحتمالات بين الدين والعلم قد يوجد علم بلا دين أو دين بلا علم؛ فالعلم بلا دين وقوع في النسبية والشك واللاأدرية، وهو ما يسميه المحافظون المادية والإلحاد. وقد كان أشهر نموذج على ذلك نظرية التطور لداروين والوضعية الاجتماعية أو الوضعية المنطقية في الغرب. صحيح أن العقل البشري يتحرَّر من كل أحكام مسبقة، وبالتالي يتقدم العلم، ولكن التقدم المستمر للعلم له حدود من داخل العلم؛ فقد يُورِّث التردد والحيرة والشك. وله حدود من خارج العلم في حدود التقدم والعمران والرفاهية والاستهلاك وارتفاع مستوى المعيشة والذي قد ينقلب إلى النقيض كما هو الحال في الغرب المعاصر.

ونظرًا لفصل العلم عن الدين، انفصلت أحكام الواقع عن أحكام القيمة؛ فاستُخدم السلاح النووي وأُلقيت القنابل الذرية على اليابان، وظهرت قضايا التلوث وموت الطبيعة والكائنات الحية بنُفايات المصانع وعادم السيارات والطائرات. وأصبح العلم بناءً وتدميرًا في نفس الوقت، حياةً وموتًا، نهضةً وسقوطًا، تقدمًا ونكوصًا.

والدين بلا علم مجرد إمكانية بلا تحقق، غايات بلا وسائل، طاقة بلا حركة، مشروع بلا تاريخ، يتحول الدين حينئذ إلى مجموعة من العقائد الغيبية والطقوس والرسوم والشعائر الخارجية والمؤسسات الدينية التي تبغي الترؤس والتسلط؛ بل ويُعادي العلمَ إذا ما نشأ لينازع الدين بعض اختصاصاته مثل: تفسير نشأة الكون، وطبيعة النظم الاجتماعية، وأُسس القوانين البشرية. كما يُعادي الثقافةَ التي قد تتجرَّأ على سلطة رجال الدين، وترفع شعارات حرية الفكر وحق الاجتهاد وحقوق الإنسان، ويحدث ذلك في كل حضارة في لحظات الضعف وسيادة الاتجاهات المحافظة، الكنيسة في العصور الوسطى وإبَّان محاكم التفتيش، والمحاكم اليهودية، وفتاوى ابن الصلاح التي تُحرِّم الفلسفة والمنطق وباقي علوم الحكمة. الدين بلا علم موت للدين، وعزلة عن الدنيا، تجعل الناس يفرون إلى العلم والثقافة كبديلين عنه.

والثقافة بلا دين أو علم قد تكون مجرد بحث نظري خالص، يطول أو يقصر، يصيب أو يخطئ. تصبح الحقيقة المرجوة غايةً في ذاتها، تصورات خالصةً للنخبة لا تستطيع الجماهير فهمها أو تحقيقها أو الاستفادة منها في حياتهم العملية. قد تتحول إلى عموميات وإلى فلسفات نظرية لا تقدر على تحليل الجزئيات والسيطرة على قوانين الطبيعة؛ فالدين هو القادر على تحويل الثقافة من مستوى النظر إلى مستوى العمل، والعلم هو القادر على تحويل الدين من مستوى الكليات إلى مستوى الجزئيات.

فإذا استحال انفراد الدين عن العلم، والعلم عن الدين، والثقافة عن الدين والعلم معًا، فكذلك يستحيل ازدواج العلم والثقافة بلا دين، والعلم والدين بلا ثقافة، والدين والثقافة بلا علم.

ففي الغرب الحديث ازدوج العلم والثقافة بلا دين نظرًا لظروف الغرب وطبيعة الدين الذي تكوَّن فيه وهو المسيحية الغربية؛ فقد قامت على الثقافة الرومانية وداخل الإمبراطورية الرومانية بما تمثل من قيصرية، وتماثيل، ورسوم، وأساطير، وآلهة إبَّان العصر الوسيط. ومنذ الإصلاح الديني الذي رفض هذه الأشكال وفضَّل التقوى الباطنية، ومنذ عصر النهضة الذي أعلى من شأن الإنسان، ومنذ القرن السابع عشر الذي فضَّل التعامل بالعقل مع الطبيعة مباشرة، ومنذ القرن الثامن عشر الذي أحلَّ الثقافة محل الدين، والسياسة محل العقائد، والدولة بديلًا عن الكنيسة، تجاورَ العلم والثقافة واتحدا ضد الدين وعلى أنقاضه؛ الطبيعة والعقل ضد الكتاب المقدس وسلطة القدماء والتاريخ والروايات التي لم تصمد أمام النقد الحديث، ثم غالى العلم في الوضعية وعادى الثقافة النظرية، وتفرَّد العلم، وانفرد بالحقيقة كلها. وهي الحقيقة الطبيعية الكمية التي تخضع للقياس. وتنافرت النماذج الثلاثة في الغرب: العلم والدين والفلسفة، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يكون عالمًا ومؤمنًا وفيلسوفًا في آنٍ واحد. فتجزَّأت الحقيقة، وتضاربت الأجزاء واحتار الأوروبي أيها يختار؟ فاختارت الأقلية الدين، وتنازعت الأغلبية الحيرة بين العلم والثقافة.

وفي اليابان الحديث ازدوج العلم والدين بلا ثقافة، وقد خرج اليابان الحديث في عصر ميجي من التقاليد القديمة إلى العلم الغربي الحديث، دون أن يجد في أحدهما بديلًا عن الآخر. وآثر اليابان تجاور القديم مع الجديد، الدين مع العلم، الدين في الحياة الخاصة، والعلم في الحياة العامة؛ الدين لأعياد الأسرة والأعياد الوطنية، والعلم للحياة المهنية في الصناعة والتجارة والإدارة. وينتقل الياباني من أحدهما إلى الآخر دون أن يشعر بالتناقض أو التنافر، يذهب إلى المعبد ويستدعي الأرواح ويقرأ الكف ويُطعم بوذا في أيام العطلة والأعياد، ويذهب إلى المصنع الآلي ويتعامل مع آخر تطورات العلم الحديث بالحساب والعقل والمادة. ولا يُفكِّر في احتمال وجود علاقة بين الاثنين أو نقد أحدهما بالآخر كما تفعل الثقافة؛ لذلك غابت الثقافة، وضعفت العلوم الإنسانية، وغاب الفكر الياباني إلا من ترشيد للبوذية وإعادة توظيف لقيمها وأخلاقها وروحها في الصناعة والتجارة مثل: العمل، والإخلاص، والتضحية، وروح الجماعة، والشهادة أو الانتحار في حالة الإحساس بالإثم، وعدم رعاية الصالح العام أو تجاوز الأعراف والتقاليد.

وفي حياتنا المعاصرة، نحن العرب، ازدوج الدين مع الثقافة وندر العلم؛ فالدين هو ما ورثناه عن القدماء وانغرس في نفوسنا منذ إبراهيم عليه السلام حتى لقد وُصفت الثقافة العربية بأنها ثقافة دينية بالأساس، أما الثقافة فيها فوافدة من اليونان. والعلم هو احتكار للغرب الحديث وحده، ثم نشأت العلوم الإنسانية حول هذا التراث الديني سواء العلوم العقلية النقلية: الكلام والفلسفة والتصوف وأصول الفقه، أو العلوم النقلية الخالصة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه. كما نشأت العلوم العقلية الخالصة الرياضية مثل: الحساب والهندسة والموسيقى والفلك؛ والطبيعية مثل: الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والحيوان والصيدلة والمعادن وعلوم البحار؛ والإنسانية مثل: اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ. ولم تستمرَّ في وجداننا إلا العلوم النقلية؛ فهي التي أصبحت مرادفة التراث. وانزوت العلوم النقلية العقلية ثم اختفت تمامًا العلوم العقلية الخالصة؛ الطبيعية والرياضية والإنسانية.

ومنذ فجر النهضة العربية ازدهرت الثقافة من خلال التراث الديني في حركة الإصلاح الديني أو في الفكر السياسي الليبرالي، وبدأت تتأصل الحداثة في القديم كي تمتد جذور الحاضر في الماضي. وعاش العرب أزهى عصر حديث لهم في الشعر والأدب والفن حتى الآن. وبدأت الثقافة العلمية والدعوة إلى العلم في الفكر العلمي العلماني، وتأسَّست المجلات للترويج للثقافة العلمية مثل «المقتطف». وكما أرسل محمد علي البعثات العلمية للغرب في القرن الماضي أرسل عبد الناصر البعثات العلمية إلى الشرق لبناء نهضة مصر المعاصرة، ولكنه كان علمًا منقولًا أكثر منه نابعًا من التراث كما كان علم القدماء. والعلم له تاريخ، وفصل العلم عن التاريخ في كل ثقافة هو تدعيم للنقل وترويج للثقافة الغربية التي نشأ العلم فيها كظاهرة تراكمية منذ الشرق القديم حتى العلم العربي الذي صب أخيرًا في الغرب الحديث.

ومنذ الثورات العربية الأخيرة التي فضَّلت تغيير الهياكل الاجتماعية للمجتمعات العربية وهي في حماسها القومي وفي نضالها ضد الاستعمار تأجَّلت قضايا الثقافة باسم الدعاية السياسية، وتأجَّلت قضية نقد الموروث باسم المحافظة على الهُوية، وانزوى العلم إلا من دائرة المتخصصين في مراكز البحث العلمي وفي الأكاديميات العسكرية. واشتدَّت المحافظة الدينية التقليدية وأصبحت هي التيار الثقافي السائد، وأصبح الدين هو المسيطر على العلم والثقافة على حد سواء. يذهب العالم إلى المعمل في الصباح ويتبرك بالأولياء في المساء. ويصبح شرط التدين معاداة العلم والثقافة. ويأخذ المثقف الدين مقياسًا لصحة الثقافة أو خطئها.

والحقيقة أن الثقافة هي الرباط الطبيعي بين الدين والعلم، وبدونها يصبح العلم مجرد صناعة، والدين مجرد تجارة. الثقافة هي شرط الفهم المستنير للدين، وتحوَّل العلم من المعمل إلى تصوُّر علمي للعالم عند الناس. بالثقافة تنشأ التيارات العقلانية والنزعات الإنسانية، ويتم الدفاع عن الحرية كشرط موضوعي للفهم. الثقافة شرط الإبداع في العلم وتأسيس العلوم الدينية اعتمادًا على العقل والتجربة ورعاية لمصالح الأفراد والجماعات والشعوب.

وفي الثقافة تكمن روح العلم وروح الدين: البحث عن الحقيقة، رعاية المصالح العامة، التحقق من صدق الفروض بالعقل والتجربة، البحث الحر؛ فالنظر شرط التكليف في الدين، والتخلص من المسلَّمات المسبقة شرط التقدم في العلم.

والثقافة يحملها الإنسان، ومرتبطة أشد الارتباط بحقوقه الطبيعية وفي مقدمتها حرية الفكر والتعبير. وكذلك ارتبط العلم بالإنسان وبمصالحه وبالمنافع العمومية، وجاء الدين لصالح الإنسان وفوزه في الدنيا والآخرة؛ فالوحي خطاب الله للبشر وغايته الإصلاح في الأرض وإعمارها.

إن الوحدة العضوية بين الدين والعلم والثقافة هي شرط التقدم الاجتماعي والنهضة الشاملة حتى لا تزدوج الشخصية القومية بين نموذجين، العلم والدين، وننسى الثالث وهو الثقافة، ولا تكثر برامج العلم والإيمان وتقل البرامج الثقافية؛ لذلك قال ديكارت: «أنا أفكر فأنا إذن موجود» ولم يقل: «أنا أومن فأنا إذن موجود»، أو «أنا عالم فأنا إذن موجود»؛ ولذلك أيضًا قال القدماء: العقل أساس النقل، وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول. وإن الحكمة هي ما يقتضيه النظر بحسب طبيعة البرهان.

(٣) التنوير والتثوير٣

كثر الحديث هذه الأيام عن التنوير، وصدرت كتب التنوير، وتكونت جماعات ثقافية باسم التنوير، وأُعيدت كتابة تاريخ العرب عامةً ومصر خاصةً من خلال التنوير.

أصبح التنوير مفتاحًا سحريًّا يتم به فتح مغاليق الأمور، يُغيِّرنا من حالٍ إلى حال بعد غمضة عين وانتباهتها. وكم من المفاتيح السحرية يُعثَر عليها في أوقات الأزمات: العلم والتكنولوجيا، العلم والإيمان، نُظم المعلومات، الصحوة الكبرى، انظر حولك، وأخيرًا التنوير!

والمقصود به ليس كما يبدو عليه اللفظ البَرَّاق، فمن منا يرفض التنوير؛ بل الهجوم على الحركات الإسلامية باعتبارها داعيةً للإظلام. هذا هو المسكوت عنه وراء المنطوق به؛ فالجماعات الإسلامية عدوة النظم السياسية، ومطارَدَة من أجهزة الأمن والشرطة، ومتهمة بتدبير الانقلابات على نظم الحكم وممارسة العنف وشتى أنواع الإرهاب. وهنا يبرز التنوير كأداة من الدولة ومن خلال أجهزتها للتصدي لأعداء النظام، وتُرصَد له الملايين لإصدار كتب التنوير، وإخراج أفلام ومسرحيات التنوير، ولعقد مؤتمرات وندوات ولقاءات التنوير، ولإنشاء جماعات وصحافة للتنوير. أصبح التنوير شرطةً عقلية جديدة يتم بها ملاحقة المخالفين في الرأي والمعارضة السياسية خاصةً الحركة الإسلامية. كان اسمه المواجهة في البداية، فلما كُشف الأمر تحوَّل إلى التنوير، يُخفي أكثر ممَّا يُعلِن؛ فأصبح التنوير في الظاهر عنوانًا على المواجهة في الباطن، وضد الحوار. يبغي الاستئصال والاستبعاد والإقصاء، وليس الفهم وتبادل الآراء والأخذ والعطاء مع الخصوم.

ويتولى المهمة مجموعة من المثقفين وأساتذة الجامعات والكتَّاب والشعراء والصحفيين والفنانين والموظفين وناصبي المهرجانات تقرُّبًا إلى السلطان ودعاةً للنظم الحاكمة، نيلًا للمناصب، ورغبةً في الحظوة والقربى. فَداءُ المثقف دائمًا هو السلطة، ورغبته في أن يكون قريبًا منها، مُبرِّرًا لها، موظفًا عندها، خادمًا لها، منفذًا لسياساتها، مدافعًا عنها حتى تجتمع له السلطتان الثقافية والسياسية، رجال دين جدد تجتمع لهم السلطتان الدينية والسياسية، السيف والقلم، وزارة الداخلية ودار الإفتاء.

وقد تم رد التنوير في نهضة العرب الحديثة منذ القرن الماضي إلى أحد روافده وهو التيار العلماني وحده. ولم يكن التنوير منذ فجر النهضة العربية علمانيًّا فقط، بل كان إصلاحيًّا أو ليبراليًّا كذلك. كان الأفغاني رائد الحركة الإصلاحية الحديثة دينيًّا مستنيرًا ومنه خرج محمد عبده، وكان الطهطاوي ليبراليًّا يجمع بين العقلانية القديمة والليبرالية الغربية، وكلاهما أقدم من التيار العلمي العلماني الذي أسَّسه شبلي شميل ويعقوب صروف وإسماعيل مظهر وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وجابر عصفور في هذا القرن.

كانت هناك ثلاثة اختيارات مطروحة على الفكر العربي الحديث، وكلها من أنصار التنوير: التيار الإصلاحي الذي يبدأ بأنه لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للدين أولًا، والتيار الليبرالي الذي يبدأ بأنه لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبنِ الدولة الحديثة أولًا؛ فالدولة عماد التحديث، محمد علي ثم عبد الناصر. والتيار العلمي العلماني الذي يقصره دعاة التنوير وحده على التنوير يبدأ بأنه لا يتغيَّر شيء في الواقع إن لم يتغيَّر فهمنا للطبيعة ونبدأ بالعلم أولًا.

لم تكن هذه التيارات الثلاثة متخاصمةً فيما بينها، بل كانت في حوار مستمر، لم يستبعد أحدها الآخر تقربًا إلى السلطان، بل ساهمت جميعًا في صنع فجر النهضة العربية. كان الأفغاني الإصلاحي صديق شبلي شميل العلمي العلماني أو التنويري بلغة تنويريي الدولة المحدثين، الأول ضد نظرية التطور والثاني مدافعً عنها ومن دعاتها. ويكتب إبراهيم أدهم العلمي العلماني «لماذا أنا ملحد؟»، ويرد عليه محمد فريد وجدي الإصلاحي: «لماذا أنا مؤمن؟». وكان محمد عبده الإصلاحي صديقًا لفرح أنطون العلماني، ودخلا معًا في حوار حول «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية» على صفحات «المنار» و«الجامعة».

لم تتخاصم التيارات الثلاثة بل تكاملت وتحاورت وتوحدت من أجل الإصلاح بالمعنى العام. لم يعتبر أحدها نفسه الفرقة الناجية والأخرى الفرق الهالكة. لم يسكب التيار العلمي العلماني الزيت على النار لإشعال الحريق، بل حاول تقديم بديل جديد عن البديلين المطروحين على الساحة الفكرية: الإصلاح الديني، والليبرالية السياسية. كان معظم أنصاره من نصارى الشام، يفكرون ويكتبون في بيئة ذات ثقافة إسلامية، يأخذون بيدها تدريجيًّا لتطويرها وليس لاستئصالها.

إن نفاد طبعات «التنوير» ليس حبًّا في التنوير أو تقديرًا له أو تشبعًا به، بل لرخص أسعارها والاتجار فيها في السوق السوداء، وفي أحسن الأحوال اقتناؤها للأحفاد في مكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع. ونظرًا لغلاء الأسعار بما في ذلك أسعار الكتب وولع العرب عامةً والمصريين خاصةً بكل ما هو رخيص وبثمن زهيد نفدت الطبعات، بالرغم من عدم إعطاء حقوق المؤلفين بدعوى أنها منشورة سلفًا، ومساهمة من المثقفين في مواكب التنوير. قد يكون القصد منها عند التنويريين عمل «غسيل مخ» للثقافة الوطنية من التيارات الإسلامية، ولكن الواقع يدل على حب الناس للثقافة الشعبية والطبعات الرخيصة بصرف النظر عن مضمونها. وكما تدعم الدولة كتب التنوير، تدعم شركات توظيف الأموال ودور النشر الإسلامية كتب التراث. وتحوَّل الأمر إلى سباق تجاري في معارض الكتب العربية، أيها أرخص للشراء وليس أيها أقيم للقراءة، فتحولت الثقافة إلى سلعة، والتنوير إلى تجارة.

إن إعادة نشر كتب التنوير من إنتاج الجيل الماضي هو إعلان إفلاس هذا الجيل التنويري وعجزه عن إبداع مثل ما أبدع القدماء وكأنه ليس في الإمكان أبدع ممَّا كان، ولا يختلف التنويريون في ذلك عن السلفيين، فكل منهم ينشر تراثه القديم لعجزه عن إبداع تراث مماثل، إسلامي في حالة السلفيين، وتنويري في حالة التنويريين، وعدنا إلى عصر الشروح والملخَّصات، العصر المملوكي التركي العثماني، عندما عجز العقل العربي عن الإبداع فاعتمد على الذاكرة، واجترَّ الماضي وشرح النصوص ولخَّصها دون أن يُبدع نصوصًا جديدة.

وكلا الموقفين يتجاوزان التاريخ ويعيشان في المطلق؛ فكل عصر له معاركه، وكل جيل له اجتهاداته. كلاهما سلفي النزعة، هذا سلفي تراثي وذاك سلفي تنويري. نموذجهما في الماضي، العودة إلى التراث السلفي في الماضي البعيد أو التراث التنويري في الماضي القريب. كلاهما عاجز عن التحديث والمواجهة لأن كلًّا منهما يريد مواجهة الآخر بسلاح مضى، ولا أحد منهما يقبل تحديات الواقع بأسلحة جديدة. وتظل الثقافة الوطنية محاصرةً بين هؤلاء وهؤلاء لا تجد لها مخرجًا، ولا تجد من يحاول إعادة بنائها خارج معارك الخصوم، مراعيًا المصالح العامة للناس، وعاقدًا الحوار الوطني بين مختلِف التيارات بعيدًا عن إغراء السلطة، والعمل في كنفها كما يفعل التنويريون، أو الانقضاض عليها كما يريد السلفيون.

إن الأجدى ليس تكرار التنوير القديم؛ فقد أدَّى دوره منذ القرن الماضي وفي هذا القرن حتى قبيل الثورات العربية الأخيرة، بل تطويره ونقده وبيان حدوده من أجل إكماله ونقله من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الشعوب، ومن القرن الماضي حتى النصف الأول من هذا القرن إلى القرن القادم بعد تعثُّر التنوير في النصف الثاني من هذا القرن بالرغم من التغير الاجتماعي والثورة السياسية.

لقد نشأ التنوير القديم في حضن الدولة وعلى أكتافها، بل وبمبادرة منها ورعاية لها منذ إرسال الطهطاوي إمامًا للبعثات التعليمية إبَّان حكم محمد علي، وتأسيس جريدة الوقائع المصرية، والقيام بترجمة رُواد التنوير، وإعادة قراءة التراث القديم من منظور التنوير: الحُسن والقبح العقليان، مقاصد الشريعة، المصالح العامة، العقل مناط التكليف … إلخ. في حين كان الإصلاح الديني معارضًا للدولة كما هو الحال عند الأفغاني وحسن البنا، وكان التنوير العلمي العلماني على هامش الدولة وعلى أطراف الثقافة المصرية. وما زال الخط سائدًا عند التنويريين الجدد، العمل من داخل الدولة وفي كنفها ممَّا يصنع أشكال الصلة بين المثقف والسلطة، بين الثقافة والدولة، بين الأستاذ الدكتور وسيادة اللواء.

كما تمَّت صياغة التنوير بناءً على النموذج الغربي في القرن الثامن عشر الذي عرفه الطهطاوي: الدستور، والنظام البرلماني، والتعددية الحزبية، وحرية الصحافة، والتعليم، لا فرق بين ذكور وإناث، وحكم العقل. وتم تعريب روسو وفولتير ومونتسكيو؛ ابن خلدون الغرب. لم يرتبط التنوير بجذوره في التراث القديم عند المعتزلة والفلاسفة، فتحول إلى تغريب. تبنَّته الطبقة الحاكمة والنخبة المثقفة ولم يتحول إلى ثقافة شعبية عامة ظلَّت تغلب عليها المحافظة الدينية، فسهل حصاره وإضعاف أثره على الحياة العامة.

لم يتحوَّل التنوير إلى تثوير، ولم يتحوَّل العقل إلى ثورة، ظل فكرًا عقلانيًّا خالصًا يتبناه الإقطاع الحاكم والتعليم الجامعي للطبقات العليا. وفي موجة التنوير ساد الإقطاع وعمَّ الفقر، تعلمت الأقلية، وجهلت الأغلبية، وانفصل المجتمع إلى طبقتين؛ طبقة النصف في المائة التي بيدها الثروة والحكم والتنوير، وجموع الشعب الفقيرة خارجة الحكم، تعيش في موروثها القديم وتتمسَّك به.

ونجح التنوير في اندلاع ثورة ١٩١٩م باسم الحرية والدستور، والحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة. وعاشت مصر أزهى فتراتها الليبرالية بعد أن تأسس أول برلمان فيها في سبعينيات القرن الماضي. ثم جاءت ثورة ١٩٥٢م لتضع نهايةً لليبرالية والتنوير بعد أن كانا أكبر دعامة للرأسمالية الزراعية.

وبدأ التثوير خلافًا للتنوير، وقضى على طبقة النصف في المائة بالإصلاح الزراعي الأول والثاني والثالث، ووُزعت الأرض على الفلاحين، وأُممت الشركات الأجنبية، ومُصِّرت الأخرى، وتحول رأس المال الزراعي إلى التصنيع، وأُعطي العمال الحقوق، وعمت مجانية التعليم كل مراحله حتى التعليم الجامعي، وأُنشئ القطاع العام منعًا للاستغلال والاحتكار من القطاع الخاص، وقامت الدولة بتدعيم المواد الغذائية الأساسية، وأُعيد توزيع الدخل القومي بوضع حد أدنى وحد أعلى للأجور.

ولكن هذا التنوير لم ينشأ من العقول؛ حيث قبع التنوير القديم، ولكنه أتى من القيادة الثورية بقرارات فوقية، فأخذ الناس حقوقهم دون استردادها، وانشغل الناس في البناء القومي، في الحزب الواحد، ممثِّل الرأي الواحد، فانزوى التنوير لصالح التثوير، وتنازل الناس عن حرياتهم لصالح بنائهم القومي وثقةً بالقيادة الثورية.

ولما تعثرت التجربة الثورية بعد هزيمة ١٩٦٧م واختفاء عبد الناصر في ١٩٧٠م، وحدوث الثورة المضادة ابتداءً من ١٩٧١م حتى ١٩٧٤م بالرغم من حرب أكتوبر ١٩٧٣م، خسر الناس التنوير قبل ١٩٥٢م والتنوير بعدها، وارتدوا على أعقابهم بعد أن فقدوا الحسنيين.

والآن يعود التنوير من جديد راغبًا في الثأر من التثوير، مكررًا تجربة مصر والعالم العربي منذ مطلع القرن الماضي حتى أواخر هذا القرن، والتاريخ لا يعيد نفسه.

هل يمكن إذن الانتقال من التنوير إلى التثوير كعمل إبداعي لهذا الجيل عن طريق إحداث ثورة في الفكر تجمع بين تنوير العقل وتثوير الواقع؟ لا تتم ثورة الفكر إلا بالحوار ومقارنة البدائل وإعادة الاختيار بينها. هل يمكن ذلك عن طريق إعادة بناء الثقافة الوطنية ونقلها من المحافظة إلى التحرر، ومن التقليد إلى التجديد؟ وذلك لا يتم إلا بإعادة بناء الموروث من الداخل وليس نقل التنوير أو التثوير من الخارج. هل يمكن إحداث تغيير اجتماعي يحافظ على مكاسب التثوير بسند من التنوير حتى لا يكون التنوير في جانب العقول، والفساد والاستغلال والاحتكار والتهريب والمضاربات خارج العقول؟ وذلك لا يتأتى إلا بإحداث تغيير جذري في مناهج التعليم حتى يتعود جيل جديد على التفكير، لعله يستطيع أن يبدأ هذه المرة بمهمة «المفكرين الأحرار» بعد أن بدأ الجيل الماضي بحركة «الضباط الأحرار».

(٤) نقد المدخل الأيديولوجي للواقع العربي الراهن٤

لا يوجد شعب غني بالأفكار ومرتبط بالأيديولوجيات قدر الشعب العربي، يعيش من الأيديولوجية؛ فهو أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وهو خير أمة أُخرجت للناس، وهو أعرق حضارة في التاريخ منذ حمورابي وأخناتون وسبأ، وإليه أتى الأنبياء في الماضي، ومنه خرج زعماء التحرر الوطني في الحاضر؛ ناصر، ابن بلَّا، وفيه نشأت أفكار التحرر من الاستعمار عند الأفغاني والاستقلال عند إقبال.

ولا يوجد شعب مطحون بالأزمات، يئن بالأوجاع، وتسوده الأحزان قدر الشعب العربي: مساومات مستمرة على الحق العربي، تجزئة وتفتت ومخاطر الطائفية والعرقية في وقت خفتت فيه أيديولوجيات الوحدة، عربية أم إسلامية، ازدياد البون الشاسع بين الأغنياء والفقراء، عموم القهر والقمع من المحيط إلى الخليج، التبعية في الغذاء والكساء والثقافة والسلاح، التميُّع والتذبذب حول الهُوية والإحساس بالاستقلال، لا سلبية الناس ولا مبالاتهم حتى لو دخل أعداء الأمس وأصدقاء اليوم العواصم العربية كفاتحين جدد؛ فعلى أيديهم يعم السلام ويزداد الرخاء!

وفي نفس الوقت الشعب العربي من أغنى شعوب العالم؛ ثروة، وموقعًا، وبشرًا، وإمكانيات عمالة، وتخطيطًا، وثقافة، ونضالًا، وإبداعًا. تجمَّعت ثروات النفط بالرغم من ضياع الكثير منها في حربي الخليج الأولى والثانية، وبالرغم من بقاء البعض الآخر في الاستثمارات خارج الوطن العربي. هاجرت العقول ولكن البعض ما زال صامدًا يبني ويبدع ويخطط في الحرب والسلام، له عمقه التاريخي في ألوف السنين بالرغم من قصر عمر حداثته في قرنين من الزمان.

لذلك يبرز سؤال: لماذا إذن هذا التفاوت بين الغنى الفكري والمادي من حيث الإمكانيات وبين الواقع العربي المتأزم من حيث ما يُشاهد؟ ما السبب في هذا التناقض الشديد بين الحلم والواقع، بين الإمكان والاستحالة، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن؟ لماذا هذا الفصام في الشخصية العربية بين ماضيها وحاضرها، بين ما تتمناه وما يتحقق؟

قد تكون الإجابة على هذا السؤال في غلبة المدخل الأيديولوجي للواقع العربي الراهن، وإعطاء الأولوية للفكر على الواقع، وللنظر على العمل، وللماضي على الحاضر، وللسلطة على الشعب. ومن ثم يكون السؤال التالي: وإلى أي حد يمكن نقد هذا المدخل الأيديولوجي والتحرر منه حتى يمكن رؤية الأزمة العربية الراهنة والإمساك بها ومحاولة حلها؟

هناك أيديولوجيات أربع في الساحة العربية وعلى مدى أكثر من قرن من الزمان. هناك الليبرالية كما تجلت في مصر والشام خاصة، والتي بشَّر بها رفاعة رافع الطهطاوي في مصر، وخير الدين في تونس تحذو حذو الليبرالية الغربية: الملكية المقيدة، والدستور، والتعددية الحزبية، والبرلمان. وقد حكمت في مصر منذ ثورة ١٩١٩م حتى ثورة ١٩٥٢م كنموذج لبلد عربي، وحكمت على فترات وبأشكال متعددة المغرب وتونس ولبنان وسوريا والكويت، والبحرين، وأخيرًا الأردن واليمن.

وهناك أيضًا الاشتراكية العربية كما تجلَّت في الناصرية في مصر وفي حزب البعث العربي الاشتراكي في الشام والعراق، حكمت بعد الثورات العربية الأخيرة، ونادت بالحرية والاشتراكية والوحدة بصرف النظر عن أولوية كل منها على الآخر، وحققت أكبر إنجاز عربي وحدوي قومي تنموي حديث. وبنفس معدل الصعود بدأ الهبوط، وكما حدث النصر وقعت الهزيمة، وكما قامت الثورة انقلبت إلى ثورة مضادة تمارس نقيض ما كانت تدعو إليه.

وهناك الحركة الإسلامية بكل فصائلها بالرغم من تباين أشكالها. حكمت منذ الوهابية في شبه الجزيرة العربية، وفي فترات قليلة باسم المهدية في السودان، وأصبحت في السلطة أخيرًا في الثورة الإسلامية في إيران وفي السودان، وتناضل في الجزائر من أجل استعادة شرعيتها في الحكم. والعنيف منها مطارد في المغرب وتونس ومصر واليمن والكويت وسوريا والعراق، وأخيرًا فازت بالأغلبية في تركيا. وإيران وتركيا دول الجوار للوطن العربي وامتداد له عبر الإسلام والثقافة والتاريخ والنضال المشترك في العصر الحديث.

وهناك الماركسية العربية في كافة أرجاء الوطن العربي سواء كانت منظمةً في أحزاب أو حركات ثقافية أدبية. كانت أحزابها قويةً إلى عهد قريب في مصر والشام والعراق ولبنان واليمن قبل الوحدة. حكمت سواء بمفردها كما كان الحال في عدن، أو في تحالف مع حزب البعث في سوريا والعراق، أو كانت جزءًا من جبهة التحرير الوطني كما كان الحال في الجزائر. البعض منها كان وطنيًّا والبعض الآخر كان «كوسموبوليتانيًّا»، البعض كان مستقلًّا، والبعض الآخر كان مرتبطًا بالاتحاد السوفيتي.

وكانت حصيلة تجارب الماضي للأيديولوجيات الأربع هي الاستبعاد المتبادل. إذا ما أتت إحداها في السلطة استقصت الأخرى وأودعتها السجون، ولم تسمح لها حتى بالمعارضة العلنية الشرعية؛ فعندما حكمت الليبرالية في مصر قبل ١٩٥٢م استبعدت الإخوان والماركسيين، وعندما حكمت الاشتراكية العربية أو الناصرية مصر بعد ١٩٥٢م استبعدت الإخوان والماركسيين والليبراليين كتنظيمات شرعية، وإن تعاونت مع الماركسيين مرةً في العهد الناصري ومع الإخوان والوفد مرةً أخرى بعد اختفاء عبد الناصر. وعندما حكمت الماركسية في جنوب اليمن، في عدن قبل الوحدة استبعدت الإخوان والقوميين بدعوى الماركسية العالمية، ولم توجد ليبرالية حديثة في تاريخ اليمن المعاصر لاستبعادها. وعندما حكمت الجبهة القومية في السودان استبعدت الماركسيين والقوميين والناصريين والليبراليين باعتبارهم علمانيين. كما تفكَّكت عروة الثورة الإسلامية في إيران التي كانت أحد أسباب نجاحها، واستُبعد الماركسيون والليبراليون. وما زالت الوهابية تحكم بمفردها في شبه الجزيرة العربية باسم الإسلام المكتفي بذاته الذي لا يحتاج إلى أيديولوجيات غربية دخيلة.

وقد يحدث تحالف وقتي بين الأيديولوجية الحاكمة وإحدى فصائل المعارضة ضد فصائل أخرى، ضربًا للمعارضة بعضها بالبعض الآخر لإضعاف الجميع وتقوية الأيديولوجية الحاكمة، وذلك مثل تحالف الاشتراكيين والناصريين مع القوميين ضد الإخوان والليبراليين في العهد الناصري، ثم تحالف الثورة المضادة في مصر بعد اختفاء عبد الناصر مع الإخوان والوفد من أجل تصفية الناصريين كخصوم مشتركة وإضعاف الجناحين لتقوية القلب في الظاهر وموته بالفعل.

صحيح ولا شك أن بعض الإنجازات على أرض الواقع قد تحققت جزئيًّا طبقًا لطبيعة الاختيار الأيديولوجي، فتحقَّقت في الفترة الليبرالية الحرية دون العدالة الاجتماعية، وتحقَّقت في الفترة الاشتراكية العدالة الاجتماعية دون الحرية، وفي الأيديولوجيات الإسلامية تحقَّقت بعض الهُوية المستقلة في إيران والسودان دون تنمية بشرية واقتصادية كافية، وفي شبه الجزيرة العربية تحقَّقت بعض الخدمات والوفرة الاستهلاكية دون تنمية بشرية موازية، ولكن يظل الدافع الرئيسي للأيديولوجيات هو الصراع على السلطة والتنافس عليها سلمًا أو حربًا، ديمقراطيًّا أو انقلابًا، طبقًا للأثر الموروث: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» السلطة أولًا، وكل السلطة ثانيًا، ويأتي الواقع والإصلاح بعد ذلك إن أتى. وتتحوَّل أيديولوجية السلطة إلى سلطة الأيديولوجية تستقصي وتستبعد، تقهر وتتكبر حتى تقع إما بسلطة أيديولوجية أعتى وأكبر، أو بثورة الواقع المأزوم وتحت أثر ضغط الحياة المادية.

وفي نفس الوقت الذي تشتد فيه الحرب بين الأيديولوجيات، وتستأسد فيه سلطة الأيديولوجية يتأزم الواقع، ويعز الخبز قبل الحرية، وتتعثر الخدمات، ولا تتحقق الحاجات الأساسية للمواطنين: الغذاء والكساء والسكن والمواصلات والمستشفيات والهواء النظيف والمياه النقية والطعام غير الفاسد. وتُرفع شعارات الوحدة ويقف المواطن على الحدود مُتَّهمًا مدانًا كمهرب أو عميل. ويُغنى بالاشتراكية في التلفزيون الملون وفي صالات الرقص؛ فالاشتراكية «للناس اللي فوق». والكل يعظ بالإسلام، وتفيض أعينهم بما عرفوا من الحق، وتذرف الدمع ولا أحد يعرف من سرق المصحف. والنظام القومي يعتدي على دولة عربية باسم القُطري والتوسع القُطري، وباسم الحرية يُسجن الأحرار.

تأزم الواقع العربي، وتفاقمت مشاكله، وعزت أمانيه، والشعارات مرفوعة، والأيديولوجيات تتصارع، والخبز عزيز، والحريات مسلوبة، والأوطان منتهكة، والكرامة ضائعة، والأرض محتلة، والقدس مهوَّدة، والاستقلال الوطني مرتهن، وشعارات الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والقومية والإسلامية في كل مكان.

لذلك يبرز سؤال: وما نهاية المدخل الأيديولوجي للواقع العربي الراهن؟ وهل من سبيل للخلاص منه والبداية بالواقع نفسه وتطويع الأيديولوجيات له؟ وما السبب في هذا الطغيان الأيديولوجي، اقتناعًا أو تبريرًا على الواقع العربي؟

الأيديولوجيا وريثة التراث القديم أو التراث الغربي، وما دام التراث القديم ما زال حيًّا في النفوس حاضرًا في الأذهان تنشأ الأيديولوجيات الإسلامية رافعةً شعار: «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «تطبيق الشريعة الإسلامية»، وما دام التراث الغربي ما زال وافدًا في الوجدان العربي المعاصر. تختار النخبة الحاكمة الليبرالية أو القومية أو الماركسية بشتى فصائلها نظمَ الحكم باسم الحداثة والعصرية. والواقع العربي في كلتا الحالتين هو الخاسر، في الأيديولوجيات الأولى يحضر الماضي على حساب الحاضر، وفي الأيديولوجيات الثانية يحضر المستقبل على حساب الحاضر، وفي كلتا الحالتين الزمن العربي هو الخاسر، والفكر الموروث سُلطوي الطابع كما مثَّلته الأشعرية بعد أن تحوَّلت إلى ثقافة تُعطي الأولوية للأعلى على الأدنى في النظر والعمل، في الفرد والدولة.

والآن، نحن في مرحلة إعادة بناء الوطن، وذلك يقتضي البداية بالواقع وليس بالفكر، بالأزمة وليس بالحلول المسبقة. ولمَّا كانت الأُطر النظرية متعددةً كما مثَّلتها الأيديولوجيات الأربع، فيمكن صياغة برنامج عمل وطني موحد تتفق عليه هذه الأطر النظرية كمرشد عملي. والحكم للناس بعد انتخابات حرة قد لا تضع إحدى هذه الأيديولوجيات في السلطة بمفردها كما هو الحال في الانتخابات التركية؛ لذلك لزمت الجبهة الوطنية المتحدة التي تحكم باسم الجميع.

قد يقال إن ذلك تبسيط وتكرار، وإنه تنكُّر للأيديولوجيا وهي المدخل الطبيعي للعمل السياسي. ولا رؤية للواقع أو لمسار التاريخ دون أيديولوجيا، ولا برنامج للعمل الوطني يمكن صياغته دون أيديولوجيا، وهو سؤال يتضمن نفس الحكم المسبق وهو المدخل الأيديولوجي للمأزق العربي الراهن.

(٥) الاغتراب في الزمان٥

ليست المفاهيم الفلسفية مفاهيم مجردة نظرية، يصعب فهمها على الخاصة والعامة، بل هي تعبيرات عن واقع حي نشأت فيه وتعود إليه من جديد، ويكون لها أكبر الأثر على سلوك الناس، فهي تنبثق من الواقع تعبيرًا عنه، وتعود إليه مؤثرةً فيه. وعبر الزمن، وتناقل هذه المفاهيم، تترسَّب في الوعي القومي وتصبح بناءً فيه يحدِّد معالم الشخصية القومية وحركة ثقافتها وجماهيرها في نفس الوقت.

ومن ضمن هذه المفاهيم الزمان والاغتراب، وكلاهما مفهومان في التراث الغربي وفي تراثنا على حد سواء، في الغرب عند القدماء والمعاصرين خاصةً الوجوديين منهم، وفي تراثنا القديم والمعاصر، بل إنهما لفظان وردا في الحديث النبوي؛ فقد خلق الله الزمان مستديرًا ومنه نشأت السنون والشهور والأيام. وجاء الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء. وقد سمى الدلجي الاغتراب «الفلاكة» والمغتربين «المفلوكين»؛ أي الذين يعيشون زمان الأفلاك خارج زمانهم، غرباء عن العالم وخارج التاريخ.

ووضعُ الزمان في الوجدان العربي قد يكون أحد أسباب الأزمة السياسية الراهنة؛ فالزمان هو ركيزة الوعي التاريخي، والوعي التاريخي هو رصيد الوعي السياسي. ويمكن تلخيص هذا الوضع في أن الزمان في الوعي العربي إما الماضي وإما المستقبل وليس الحاضر. يتجه نحو الماضي، نحو يوتوبيا ماضية كانت هي والواقع شيئًا واحدًا ثم انفصلت عنه نظرًا لتسرب الواقع منها، منحدرًا عنها حتى حدث فصام في الشخصية العربية بين المثال والواقع، المثال البعيد والواقع القريب، الماضي والحاضر. والماضي الزاهر خير من الحاضر الأليم، ولا حل لأزمة الحاضر إلا بالعودة إلى الماضي. وهو في الواقع هروب لا حل، وسكينة ورضًا وليس مواجهةً للأزمات؛ فالنجاح في الماضي تعويض عن تعثُّر الحاضر، واسترجاع الحلم أسهل من تحليل الأزمة، وحلم اليقظة خير علاج للواقع الأليم.

وقد يتجه الوعي بالزمان إلى المستقبل؛ فالتطلع إلى المستقبل خير من الركون إلى الحاضر، والهروب إلى الأمل البعيد خير من مواجهة البؤس القريب؛ ففي نهاية الزمان حل لبدايته، والتفاؤل خير من التشاؤم، والفرج قريب. عنق الزجاجة مؤقت بعدها تأتي الانفراجة؛ فالهروب من الحاضر مرتان، مرة إلى الماضي في عصر ذهب، ولَّى وانقضى، ومرةً إلى المستقبل في عصر ذهبي ما زال قادمًا.

ولا فرق في ذلك بين الإسلاميين والقوميين والليبراليين والماركسيين؛ فالخطاب الإسلامي المعاصر فيما وراء الرفض المباشر للواقع؛ أي الحاضر وعدم الاعتراف به يرنو إلى الماضي إلى عصر النبوة والخلافة الراشدة، عصر الطهارة والنقاء الأول قبل أن تتحول النبوة، والخلافة إلى ملك عضود. وخير القرون قرن الرسول، ويقل الفضل تدريجيًّا، جيلًا وراء جيل حتى نصل إلى التدهور الحالي، وفتن آخر الزمان؛ فالسلف خير من الخلف. حافظ السلف على تراث الأمة، أما الخلف فقد أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. فنعم السلف وبئس الخلف، ولا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وجاء الإسلام غريبًا ويعود غريبًا، فطوبى للغرباء.

وكما ينتقل الحاضر المتأزم إلى الماضي السعيد فإنه قد ينتقل أيضًا إلى المستقبل البعيد، حياة السعادة والهناء بعد الموت بعد نيل الشهادة والعمل على تحقيق كلمة الله في الأرض لتكون هي العليا، وسعادة المستقبل الدائمة خير من وهم السعادة في الحاضر، والآخرة خير من الدنيا، والبقاء خير من الفناء. فلا يأس من الحاضر، والفرج قريب، ولا خوف من موت في الحاضر والحياة الأبدية في متناول الأيدي.

ويتجلى هذا الخطاب الطوباوي المزدوج، مرةً في الماضي ومرةً في المستقبل في خطاب الجماعات الإسلامية المعاصرة، بل وفي الخطاب الديني العادي كما يبدو في خطبة الجمعة؛ فالخطيب يتحدث عن عصر النبوة والخلافة الراشدة، ويحوِّل التاريخ إلى مثال، وينتزع المصلين من حاضرهم إلى ماضيهم، ومن بؤسهم الحالي إلى نعيمهم الأول، ترحُّمًا على ما فات. والشخصية العربية في بعض جوانبها مولعة بالحزن وباستدعاء الذكريات وما عُرف بالبكاء على الأطلال في القصيدة العربية القديمة.

ويمكن للإمام أيضًا بعد أن يستنفد الطاقة في العود إلى الماضي أن يتجه بوعي المصلين إلى المستقبل فيبشرهم بجنة النعيم، ويحذِّرهم من العذاب الأليم، ويوعدهم بالحور العين وبجنة الرضوان. فيُشبع الجائع، ويكسو العاري، ويُخفِّف من شقاء الحضور وبؤس المصلين. وتصبح خطبة الجمعة أشبه بالدواء الأسبوعي أو الحقنة المخدرة للجماهير، فمأساتهم في ضياع النموذج الماضي، وحلها في انتظار عودته في المستقبل.

ولا يختلف خطاب القوميين عن خطاب الإسلاميين في وضع الزمان، وتوجيه الوعي بالتاريخ إلى طوباوية مزدوجة، مرةً نحو الماضي ومرةً نحو الحاضر؛ فالخطاب القومي المعاصر، نموذج الخطاب الناصري، فإنه يترحَّم أيضًا على حلم الستينيات، ووحدة مصر وسوريا ١٩٥٨–١٩٦١م، أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث. ويعيد قراءة ساطع الحصري وميشيل عفلق ونديم البيطار وصلاح البيطار. أين هذا الزمان الذي كان فيه الخطاب القومي العربي حاملًا لآمال الحرية والاشتراكية والوحدة ومتحدًا مع خطاب التحرر الوطني الشامل متجاوزًا حدود الأوطان وقاضيًا على الأحلاف العسكرية ومناطق النفوذ. وما زالت خطب عبد الناصر ترن في الأذهان، وأغاني عبد الحليم حافظ الوطنية، وفيلم ناصر ٥٦ يكتسح الأسواق، ويعيد إلى الجمهور ذكريات حلم سعيد.

وفي نفس الوقت يُمنِّي الناصريون جماهير عبد الناصر بأن الزمان سيعود، وبأن ما مضى لم ينقضِ، إنما توارى في الأعماق. وحلم الماضي يعود حلمًا للمستقبل تخفيفًا عن آلام الحاضر ودون حل لمآسيه؛ فالدولة القُطرية لم تكن البديل الناجح عن الوحدة العربية. فباسم الدولة القُطرية وقعت حربا الخليج الأولى والثانية، ووقَّعت مصر ثم الأردن اتفاقيات السلام. وإلى وقت قريب كانت الهرولة إلى إسرائيل على قدم وساق، كل قُطر يريد اللحاق بقطار المستقبل تصبح فيه إسرائيل جسر الأمان للنظم السياسية وللتنمية الرأسمالية وللاستثمارات الأمريكية. والغرب حاضر بيننا لا يحتاج إلى جسر، تظل الوحدة العربية حلم المستقبل كما كانت أمل الماضي، والحاضر نفسه يعيش أزمته، ولا أحد يسبر أغواره، والأحلام تتزايد في كل خطاب.

ولا يختلف خطاب الليبراليين عن خطاب الإسلاميين والقوميين بالنسبة للوعي بالزمان وحركة التاريخ؛ فالخطاب الليبرالي أيضًا يترحم على أسلوب الحياة وحرية الفكر، والتعددية الحزبية، والدستور، والجامعات الوطنية التي كانت سائدةً في مصر والعالم العربي قبل الثورات العربية الأخيرة. وكان العقاد يصيح داخل البرلمان المصري أنه يستطيع أن يحطم أكبر رأس في البلاد، وكان أحمد حسين يكتب تحت صور الفقراء على أرصفة الطريق: «هؤلاء رعاياك يا مولاي.» ولم تستطع إنجلترا تغيير قانون المطبوعات وفرض الرقابة على الصحف. وكان أول برلمان في مصر في سبعينيات القرن الماضي. وفي هذا العصر الليبرالي في بر مصر والشام نشأ فجر النهضة العربية، وازدهرت حركة التأليف في الفكر والأدب، وتأسست الصحف العربية حاملةً لواء حرية الفكر ومناهضة الاستعمار، وانفتح الخطاب الليبرالي على الشرق، على اليابان والصين والهند، لا فرق بين سعد زغلول وغاندي، ولا حل لأزمة الحرية والديمقراطية في عصرنا إلا بالعودة إلى العصر الليبرالي دفاعًا عن الحريات العامة والتعددية الحزبية والانتخابات الحرة وحقوق الإنسان، ولا فرق في ذلك بين الشرق والغرب، بين تراثنا وتراث الآخر؛ فالليبرالية تراث إنساني عام لكل الشعوب وفي كل الأزمان.

وبالرغم من تواري الخطاب الماركسي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية إلا أن بعض المخلصين للخطاب التقليدي ما زالوا يحرصون عليه؛ فباسم الاشتراكية انهارت القيصرية في روسيا، ونشأت الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية، واندحر العدوان النازي على الشرق، وقوي ساعد حركة التحرر الوطني وتنمية شعوب العالم الثالث. وما زال حلم لينين وماوتسي تونج وهو شي منه وجياب وجيفارا يراود الشيوخ، ويتوق إليه الشبان. وما زال رأس المال قائمًا، وما زالت أدبيات الماركسية هي أساس التجديد في ماركسيات القرن العشرين.

وما ضاع في ١٩٩١م يمكن أن يعود بدليل عودة الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الشرقية للحكم بناءً على انتخاب ديمقراطي حر، وقد تعلَّمت الشعوب أن حقيقة الماضي ولو مُرةً خير من أحلام المستقبل الوهمية التي تقوم على الرأسمالية الغربية واقتصاد السوق. فإذا كانت الحرية قد ضاعت في الماضي دفاعًا عن الخبز فإن الخبز أيضًا قد عز في الحاضر ولم تأتِ الحرية. أما بالنسبة للمستقبل فالحرية عادت ولم يعد الخبز، وازداد الفقر، ودخل اقتصاد البلاد الاشتراكية سابقًا إلى اقتصاد السوق مع أزمة الفقر في كلتا الحالتين. ويظل الخطاب الماركسي التقليدي يعد بطوباويتين؛ الأولى في الماضي والثانية في المستقبل، والحاضر نفسه له لغته ومنطقه.

قضية الوعي العربي المعاصر إذن وأزمته هي اغترابه في الزمان، وعدم بدايته في الحاضر دون تحويله إلى ماضٍ سعيد أو مستقبل زاهر كما هو الحال في الخطاب العربي المعاصر بصرف النظر عن نوعيته. الحاضر نقطة البداية، وفيه الحاجات الأساسية من خبز وحرية، والماضي حالٌّ فيه، إسلاميًّا كان أم قوميًّا أو ليبراليًّا أو ماركسيًّا؛ فكلها تجارب عاشها العرب في الماضي بحلوها ومرها، ورصيد لهم في التاريخ. والمستقبل أيضًا حالٌّ في الحاضر عن طريق التطلع إليه وسيناريوهات المستقبل التي يتم الإعداد لها؛ فالحاضر هو الأساس والماضي والمستقبل بُعدان له.

وهذا هو التحدي أمام الوعي العربي المعاصر، كيف يشخِّص الحاضر؟ في أي مرحلة هو يعيش؟ ماذا يفعل في حضور الماضي فيه هذا الحضور الطاغي الذي يمنعه أحيانًا من التوجه نحو المستقبل؟ قد يكون الماضي عائقًا إذا كان ممثَّلًا في تراث السلطة والطاعة والتسليم والتقليد والنقل، وقد يكون دافعًا على التقدم إذا كان ممثَّلًا في تراث الناس والمصالح العامة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد يكون التطلع نحو المستقبل أيضًا عائقًا إذا كان مجرد تقليد للآخر ونقل لإبداعاته وتبعية له. هو ينتج، والأنا تستهلك. هو يبدع، والأنا تقلد. وقد يكون التوجه نحو المستقبل دافعًا إلى التقدم للمساهمة في صنعه والقدرة على الاجتهاد فيه وإيجاد ميزان التعادل في مسار التاريخ، والعمل من مركزه وليس من أطرافه.

ويكون التحدي أيضًا أمام الوعي العربي المعاصر هو سبر أغوار الحاضر، حاضر من؟ حاضر النخبة أم حاضر الجماهير؟ حاضر الأقلية أم حاضر الأغلبية؟ حاضر الرفض والعنف والغضب أم حاضر التدريج والحوار الوطني والجبهة المتحدة؟ إن الحاضر في الزمن هو الواقع الإحصائي، والوعي بالحاضر هو اجتماع الوعي بالزمان والمكان ومسارهما في التاريخ. يظن الخطاب الإسلامي أننا في عصر الإصلاح؛ فالإصلاح لم يكتمل بعد. ويظن الخطاب القومي أننا في عصر الوحدة الكبرى؛ فتجارب التوحيد لم تنتهِ بعد، ويظن الخطاب الليبرالي أننا في العصر الليبرالي منذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي وحتى الآن بالرغم مما فيها من انتكاسات، ويظن الخطاب الماركسي أننا في عصر الثورة والتنمية والتقدم الاجتماعي وانتصار العلم بالرغم من انهيار النظم الاشتراكية وسيادة اقتصاد السوق.

والبعض يلعن هذا الزمن الرديء، رافضًا كل شيء، ويعلن الإفلاس التاريخي الشامل وينتهي إلى العدمية المطلقة، وهذا عجز عن الفهم وعدم قدرة على الفعل وسب الزمان: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.»

نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا

(٦) الدولة والمجتمع٦

يُثار نقاش هذه الأيام ومنذ عقد من الزمان وفي عصر الانفتاح الاقتصادي حول «الدولة والمجتمع»، سيطرة الدولة على المجتمع، وأولوية الدولة على المجتمع، وهو ما يمنع من تطور المجتمع العربي وتطلعاته نحو الحرية والديمقراطية نظرًا لتخوفه من الدولة وسيطرتها عليه. وبدأت مراكز الأبحاث تنظِّر للموضوع، وتُصدر النشرات والمجلات الدورية وغير الدورية تدعو له، ويتشدق به عديد من المثقفين «المستنيرين» دفاعًا عن حقوق الإنسان، وقد كانوا بالأمس القريب من أنصار الدولة حتى ولو تغير نظامها السياسي عدة مرات.

وأحيانًا تكون الدعوة «كلمة حق يراد بها باطل»؛ فالوجدان العربي يعاني من سيطرة الدولة بالفعل، ويتوق إلى مجتمع ديمقراطي حر، يتمتع فيه المواطن بحقوقه الطبيعية. وهي دعوة براقة مرتبطة بالاستنارة وبالحداثة، لا يرفضها الوجدان الطبيعي لأول وهلة؛ وفي الحقيقة قد يُراد بها باطل إذا كان المقصود منها إضعاف الدولة وإزاحتها عن دورها الطبيعي في الحفاظ على الأمن القومي، وتحقيق الانسجام الداخلي بين طبقات المجتمع، والتخطيط لصالح الأغلبية والتعبير عن الإجماع الوطني العام.

ومع ذلك تظل الدعوة محدودة الأثر بين جمهور المثقفين، أصحاب العلم، ورجالات السياسة، وصفوة القوم وعليتهم المطلعين على الثقافة الغربية، وأصحاب المصلحة إما في الدولة الرخوة إذا كانوا من أهل القلم أو في الانفتاح الاقتصادي إذا كانوا من أصحاب المصالح ورءوس الأموال. أما الجماهير فإنها لا تدري من الأمر شيئًا وتحسبه نقاشًا بين مثقفين علمانيين، تصفية حسابات بينهم. وفي نفس الوقت تهتز الجماهير للدعوات الإسلامية والانخراط في حركاتها وأساليبها؛ فهي دعوة من الداخل وليست من الخارج، تستهوي القلوب، وتلجأ إلى الموروث الثقافي كمخلِّص لها في ساعة الضنك واشتداد الكرب؛ فقد نجحت الدعوة قديمًا وسادت، وبها ارتفع شأن الأمة، ثم اضطُهدت الدعوة حديثًا ولذلك ذلت الأمة في الداخل والخارج. ولا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وبالرغم من انتشار النقاش حول الدولة والمجتمع في أجهزة الإعلام وربما بتأييد من الدولة إلا أنها هامشية بالمقارنة بالدعوة الإسلامية، مضمونًا وأسلوبًا.

والحقيقة أن النقاش في هذا الموضوع وافد من الغرب مثل النقاش حول السلفية والعلمانية، الدين والعلم، الحداثة وما بعد الحداثة. المعركة غربية الأصل، وافدة المنشأ؛ نشأت في إنجلترا خاصةً عند لوك وفي هولندا عند اسبينوزا ضد الكنيسة والمعبد ومن أجل إيجاد بديل عن مجتمع الإيمان الكنسي السلطوي في مجتمع مدني حر، وضد الإمبراطورية وبقايا سيطرة الإقطاع ضد النظم الملكية والإمبراطورية والإقطاعية وإيجاد بديل عن مقولات: القن، والرعية. وتجمعت هذه البدائل كلها في مفهوم «المجتمع المدني»، وهو مجتمع يسوده القانون الطبيعي وليس القانون الكنسي أو اليهودي، ويعبِّر عن حقوق الإنسان الطبيعية التي تحوَّلت بعد ذلك إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن». وفي مقدمتها حرية التفكير والتعبير، حرية القول والعمل، وحرية الاعتقاد، وحرية الحركة والانتقال، وحرية الاختيار بين المذاهب والنظم السياسية. ويتلو هذه الحرية الطبيعية «العقد الاجتماعي» الذي ينظِّم العلاقات بين الأفراد، وبموجبه يتنازل كل فرد عن جزء من حريته الطبيعية لممثل عن المجموع، مفوَّض في التعبير عن المصالح العامة للكل؛ فهو الجامع لحريات الأفراد أو البعض منها والذين تنازلوا عنها بمحض اختيارهم؛ فالسلطة السياسية ليست ثيوقراطية، حكم الله، ولا أوليجاركية، حكم الأقلية، ولا إقطاعية، حكم الإقطاع، ولا طبقية، حكم الطبقة، بل سلطة سياسية من اختيار الأفراد، تُمثِّل مجموع الإرادات الحرة المستقلة.

ثم تنتقل هذه الدعوة خارج إطارها التاريخي الغربي الذي نشأت فيه من أجل زرعها في إطار تاريخي آخر، فينشأ الخلط، وتضطرب المفاهيم. ففي النقاش الدائر الآن حول «الدولة والمجتمع» يُفهم من الدولة النظام السياسي الشمولي، ويعني خاصةً الناصرية، وكأن باقي نظم الحكم في العالم العربي تقليدية أو تقدمية، محافظة أو ليبرالية، ملكية أو جمهورية ليست نُظمًا شمولية. مع أن الدولة ليست النظام السياسي. الدولة بناء سياسي مستقل، كيان صوري يمثل الإرادة العامة لمجموع المواطنين. تبقى الدولة وتتغير النظم السياسية.

كما قد تعني الدولة أجهزة الأمن والشرطة، وقوات الحرس الوطني، والقوات المسلحة، وباقي أجهزة القمع. وهي القوى التي يئن من تضخمها الوجدان العربي، خاصةً بعد الثورات العربية الأخيرة. وهذه ليست الدولة بل أجهزة الأمن خارج حدودها لأن الدساتير البشرية تحمي حقوق المواطنين الطبيعية في حرية القول والعمل.

وقد تعني الدولة في هذا النقاش الدائر حول سيطرة الدولة على المجتمع وضرورة التخفف منها، الدولة في الداخل وليس في الخارج، سيطرة الدولة على الحياة السياسية في الداخل عن طريق سيطرة الحزب الحاكم الأوحد وقهر المعارضة السياسية وتهميشها أو اضطهادها، تخوينًا أو تكفيرًا. ولا تعني الدولة الرخوة في الخارج، الضعيفة في العلاقات الدولية، التابعة للقوى الكبرى، وأحيانًا المتحالفة مع أعداء الوطن.

والحقيقة أن الهدف غير المعلن من هذه الدعوة، الإقلال من سيطرة الدولة على المجتمع هو استبدال سلطة بأخرى، ونبذ سلطة الدولة الممثِّلة لإرادة المجموع من أجل سلطة الطبقة، طبقة الأغنياء أصحاب رءوس الأموال من أجل حرية انتقالها من الداخل إلى الخارج والتي تكدَّست في الريف والمدن في إقطاع زراعي وصناعي وتجاري وعقاري جديد من أجل الانتقال من السيطرة الاقتصادية إلى السيطرة السياسية.

كما أن الهدف منها هو تفتيت سلطة الدولة وإنهاء التخطيط الاقتصادي لصالح «الخصخصة» بدعوى الانفتاح في مقابل الانغلاق، ومن أجل الدخول في اقتصاديات السوق الحر، والمنافسة والربح، وتطبيق اتفاقية «الجات» والخروج بالاقتصاد من المحلية إلى العالمية، تهريبًا للأموال إلى الخارج، بعد المضاربة والتهرب من الضرائب في الداخل، وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد تابع، اقتصاد خدمات، والسوق الوطنية إلى عمالة واستهلاك، وتجميع رءوس الأموال الوطنية في الخارج، والخبرة الفنية في الخارج؛ فنظام العالم الجديد أحادي القطب في السياسة، ويتجه إلى أحادية القطب في الاقتصاد باسم «الكوكبية» و«العولمة»، والعالم القرية الصغيرة، وثورة المعلومات، وعصر التقنية الجديد، والقرن الواحد والعشرين.

ولتصحيح هذا النقاش حول «الدولة والمجتمع» بعد استبعاد سياقه الغربي وسوء استغلاله المحلي، يمكن في البداية تحديد معنى الدولة ومعنى المجتمع؛ فالدولة هي دولة المؤسسات المستقلة، الجامعات، والقضاء، والصحافة والقوات المسلحة، والمجالس النيابية، والأحزاب السياسية، وأجهزة السلطة التنفيذية. وهي هياكل صورية قائمة بذاتها يملؤها النظام السياسي طبقًا لأيديولوجيته واختياراته السياسية؛ فالدولة في حد ذاتها ليست خيرًا ولا شرًّا، حريةً أو قهرًا، رأسماليةً أو اشتراكية، سلطويةً أو فوضوية، قويةً أو ضعيفة. الدولة بناء صوري يملؤه النظام السياسي، فهي خير أو شر لا بد منه من أجل خير عميم أو شر أعظم.

أما المجتمع فهو مجموع الأفراد في تنظيمات مستقلة عن الدولة تعبيرًا عن اختيار الأفراد والجماعات الحر. ثم تتحول التنظيمات إلى مؤسسات اجتماعية يحكمها قانون الجمعيات الأهلية، ويتكون المجتمع من الجمعيات العلمية والأدبية، والنوادي السياسية والثقافية، والنقابات والاتحادات المهنية، وكل ما يُطلق عليه اسم المنظمات غير الحكومية أو الجمعيات العلمية بالإضافة إلى مجموع العلماء والأئمة وأهل الرأي، ومنظمات حقوق الإنسان والمرأة والبيئة والخدمات الاجتماعية وتنظيم الأسرة ودُور المناسبات والعيادات الأهلية … إلخ. فالمجتمع يولِّد مؤسساته وتنظيماته في إطار القانون الذي ينظمها وتحت إشراف الدولة حتى تتحقق الأهداف ولا تتناقض الاختصاصات مع مؤسسات الدولة.

الدولة والمجتمع بهذا المعنى واقعان وضرورتان؛ الأولى صورية والثانية مادية، الأولى من أعلى والثانية من أدنى، الأولى لتحقيق الوحدة في المجتمع، والثانية لتحقيق التعددية فيه، وسيطرة الدولة على المجتمع تقضي على حرية القول والعمل، وسيطرة المجتمع على الدولة تقضي على هيبة الدولة وقوتها في الداخل والخارج، وتتحول إلى جماعات ضاغطة أو صراع قوي دون تجسيد لإرادة المجموع؛ فالقضية إذن ليست على التبادل، أولوية الدولة على المجتمع أو أولوية المجتمع على الدولة، بل قيام الدولة والمجتمع معًا، دولة قوية ومجتمع قوي.

ويظل السؤال: أي دولة؟ وأي مجتمع؟ الدولة هي الدولة القوية في الداخل والخارج التي تعطي المواطن الأمن السياسي في الداخل والأمن القومي في الخارج، وليست الدولة الرخوة التي تنال منها قوى المعارضة في الداخل بالتجريح والسب العلني أو بالطعن في الشرعية القانونية أو بالعنف المسلح ضد الأفراد والمؤسسات أو الدولة الرخوة في الخارج التي تتحالف مع أعداء الوطن تتبعه في مخططاته حفاظًا على النظام السياسي.

وهي الدولة التي تحقِّق الانسجام الوطني والوفاق القومي والتي تجمع الناس على كلمة سواء في ميثاق شرف أخلاقي سياسي اجتماعي، لا يستبعد أحدًا تخوينًا أو تكفيرًا، ولا يستأثر بالسلطة حزب واحد، ولا يُكمَّم فم، ولا يُقصف قلم.

وهي الدولة التي تجسِّد مصالح الأغلبية الصامتة، وتدافع عن الملكية العامة لوسائل الإنتاج التي تمس كل مواطن في حاجاته الرئيسية، مثل الصناعات الكبرى، والبنوك الوطنية، والقطاع العام المنتج، والتخطيط الاقتصادي.

وهي الدولة التي تدافع عن استقلالها الذاتي ضد جماعات الضغط في الداخل وقوى الهيمنة والسيطرة في الخارج، ولا ترهن إرادتها الوطنية بسبب الغذاء أو السلاح، الأمن الغذائي أو الأمن القومي. تعتمد في تنميتها على مواردها الذاتية، ومشاركة جماهيرها، وتخطيط علمائها حتى تصل حد الاكتفاء الذاتي.

وهي الدولة التي يدين لها المواطن بالولاء لأنه يشعر فيها بحريته الفردية وبديمقراطية الحكم، وبالتعددية الفكرية والسياسية وبقدرته على الاختيار، وفي نفس الوقت هي الدولة التي ترعى الجبهة الوطنية وتوحد قواها السياسية، وتجسد إرادة المجموع.

وبهذا المعنى للدولة وللمجتمع يصح النقاش، ويصبح حوارًا وطنيًّا بين الحاكم والمحكوم وليس موضوعًا منقولًا من ثقافة إلى ثقافة، ضرره أكثر من نفعه. دولة قوية في الداخل والخارج، ومجتمع قوي في الداخل أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (٤٨: ٢٩).

(٧) إرهاب الأفراد وإرهاب الدول٧

كثر الحديث عن الإرهاب هذه الأيام حتى تحول إلى نوع من الإرهاب في أجهزة الإعلام، ويا ويل المفكرين والكتَّاب إن لم يتعرضوا للإرهاب بالإدانة، وإن لم ينادوا بعقاب الإرهابيين! وتُعقد المؤتمرات الدولية على أرض ضحايا الإرهاب كما حدث في مؤتمر شرم الشيخ الأخير لإدانة الضحايا وترك المجرمين، إدانة إرهاب الأفراد وتبرئة إرهاب الدول.

صحيح أن الإرهاب أيًّا كان مصدره يأخذ البريءَ بجرم المتهم، فيقتل الأطفال والنساء والشيوخ، ويسفك دماء الأبرياء كما يحدث في إسقاط الطائرات، وإلقاء المتفجرات في الحدائق العامة، وتفجير المباني الحكومية؛ لذلك استثنى الإسلام من القتال الأبرياء والضعفاء، والنساء والأطفال والشيوخ من الحرب؛ فالقتال لمن يقاتل وعلى من يقاتل.

ولا أحد يفكِّر فيما يُسمى بالإرهابي لماذا صار كذلك؟ يستعمل العنف مع الآخرين ومع نفسه، ويحوِّل نفسه إلى قنبلة بشرية تنفجر في نفسه قبل أن تنفجر في أعدائه، يُخرَج من سياقه وكأنه يولد إرهابيًّا ولا يجعله المجتمع إرهابيًّا.

لقد فقد أرضه واغتُصبت منه، وضاع وطنه وأصبح لاجئًا سياسيًّا في العالم. هُدِّم منزله، وفقد عائلته. ضاع منه ماضيه، ولم يعد له حاضر ولا مستقبل. خسر كل شيء، ولم يبقَ له إلا أنفاسه التي لا يدري لمن يعطيها. فيُستشهد بما تبقى منه لعله يحصل على كل شيء في السماء بعد أن خسر كل شيء في الأرض، وكما يقال في المثل العامي المصري: «ضربوا العورة على عينها قالوا خسرانة خسرانة.»

وماذا عن المقاومة المشروعة؟ هذا الفدائي في جنوب لبنان أو على الجولان أو على روابي فلسطين؛ حيث احتُلت أرضه أو انتُزع منها وأصبح لاجئًا في الخارج أو محتلًّا في الداخل أو نزيل مخيمات على الحدود، يوصف بأنه إرهابي عندما يدافع عن نفسه، ويقاوم المحتل، ويحرِّر أرضه، والمحتل الغاصب نفسه هو الضحية تقام له المؤتمرات للدفاع عنه!

وإرهاب الدول لا يتمثَّل فقط في الدولة الأخرى، إسرائيل أو أمريكا، بل قد يأتي أيضًا من الدولة؛ الوطن على الأفراد والجماعات. ليس فقط إرهابًا من الخارج، بل يكون أيضًا إرهابًا من الداخل.

فالدولة في الداخل تسيطر على كل شيء، على السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والتعليم، وكما قال نجيب محفوظ على لسان أحد أبطاله: «لا تسبوا الله فإن الله هو الدولة.» تسيطر على الأحزاب والحياة البرلمانية؛ بل إن أحزاب المعارضة أيضًا إما تدور في كنف الدولة أو مهمشة على حياة الدولة غير مؤثرة فيها.

هذه الدولة-الوطن ترهب المواطن صباحًا ومساءً بنظام اقتصادي اشتراكي أو رأسمالي لم يختره، وبتوجهات سياسية في السلام والحرب لم يُستشر فيها، وبمجموعة من القوانين في حياته العامة تتغير كل يوم لم يُسأل عنها، وبمناهج في التعليم يئن منها، وبإعلام مفروض عليه يدور حول خصال الرئيس وإنجازاته وتبرير سياساته من ناحية ثم الإسفاف في الإعلانات والبرامج الدينية والترفيهية من ناحية أخرى، يدور حول الدين والجنس والسلطان، وليس حول الدنيا والناس ومصالح الشعوب.

ولا يُسمح لكافة القوى السياسية والتيارات الفكرية بالتعبير الشرعي وبحرية تكوين الأحزاب إلا بموافقة السلطان، يختار من لا يُمثِّل أحدًا ولا وجود له في الشارع السياسي فيعطيه الشرعية، ويمنع من يمثل الشارع السياسي ويحكم عليه باللاشرعية، فإذا ما حاول التعبير عن نفسه فكريًّا وسياسيًّا اتُّهم بالانقلاب على نظام الحكم، وقُدم إلى المحاكم العسكرية.

إرهاب الأفراد المنظور قد يكون رد فعل على إرهاب الدولة-الوطن غير المنظور، ويستمر مسلسل العنف والإرهاب المتبادَل بين الدولة والأفراد في تصاعد مستمر، كل طرف يعتبر الآخر هو المسئول. ولو أعطت الدولة حق التعبير الحر والتنظيم السياسي الشرعي للأفراد لقضى على إرهاب الأفراد وبالتالي على إرهاب الدولة، ولكن ما زال الشائع حتى الآن هو أن الإرهاب ما يرتكبه الآخر ضدي وليس ما أرتكبه أنا ضد الآخر. الآخر متهم وأنا بريء، الآخر الجلاد وأنا الضحية.

وعندما يُذكر الإرهاب فإنه يُشار إلى المنطقة العربية أو إلى الشرق الأوسط أو إلى الإسلام، حتى ارتبط في الإعلام الغربي الإسلام والإرهاب ارتباطًا عضويًّا، وأصبحت صورة العربي الإرهابي، وصورة الإسلام العنف، وصورة الشرق الأوسط القنابل البشرية وسفك دماء الأبرياء.

وماذا عن الإرهاب في أوروبا ضد العرب والمسلمين؟ إن إرهاب فرنسا للمسلمين الجزائريين داخل الأراضي الفرنسية بدايةً بالاغتيال بالشبهات دون محاكمات قانونية في بلد القانون والدستور حتى منع الحجاب في المدارس في بلد الحريات العامة هو إرهاب للدولة ضد الأفراد والجماعات، وإرهاب الأحزاب النازية الجديدة في ألمانيا للمسلمين الأتراك وحرقهم في دورهم ومحالهم إرهاب في بلد التنوير والعقلانية، والقنابل التي يلقيها الجيش الجمهوري الأيرلندي، الكاثوليك ضد البروتستانت، ليس إرهابًا ولا يسمى إرهابًا، ولا أحد يربط بين المسيحية والإرهاب، ولا أحد يتحدث عن الاستعمار البريطاني لأيرلندا الشمالية، وسيطرة طائفة على طائفة، ولا أحد يتحدث عن المافيا الإيطالية في الجنوب وفي صقلية وتأجير العنف والقتل لمن يشاء الدفع وتنظيم الجرائم.

ومنذ ثلاث سنوات يُذبَّح المسلمون في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب، لتطهير أوروبا الشرقية من المد الإسلامي التركي، وتُسفك دماء النساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين، ويُقضى على استقلال دولة، عضوًا في الأمم المتحدة، ولا أحد يسمِّي ذلك إرهابًا، بل تطهير الصرب للمسلمين من أجل تكوين إمبراطورية الصرب الكبرى والقضاء على المد الإسلامي في أوروبا معقل المسيحية.

وتُكرِّر النازيةُ الجديدة الصربية في البوسنة وفي أواخر القرن العشرين ما قامت به النازية الصهيونية القديمة في فلسطين في منتصف القرن؛ استئصال شعب، وطرده من وطنه وخلق دولة جديدة باسم الشرعية الدولية وبتواطؤ الدول الكبرى والموافقة على سياسة التطهير العرقي.

بل لقد كان الإرهاب أساسًا لنشأة الدول مثل إسرائيل في فلسطين، وأصبح قدماء الإرهابيين حكامًا وقادة يعترف بهم العالم ويتم التصفيق لهم داخل الكونجرس الأمريكي، بلد «إعلان الاستقلال» وابنة الثورة الفرنسية. ويصبح تاريخ الدولة محدَّدًا بدَير ياسين في البداية وقانا في النهاية.

تحتل إسرائيل أرض ثلاث دول، وتطرد السكان، وتهدم المنازل، وتخطف القادة، وتغتال المجاهدين، ويُعتبر ذلك حقًّا مشروعًا للدفاع عن النفس وليس إرهابًا في حين أن المجاهدين الذين يقومون بالدفاع عن أوطانهم هم الإرهابيون. تكسير عظام الأطفال ليس إرهابًا، وإلقاء الكاتيوشا من المقاومة اللبنانية على شمال فلسطين المحتل إرهاب.

واضطهاد اليهود الشرقيين، واستعباد «الفلاشا» واعتبار دمهم الأسود أقل نقاءً من الدم الأبيض لليهود الغربيين، واستقصاء اليهود العرب من الحياة العامة والقيادة السياسية والعسكرية، واغتيال رابين ليس إرهابًا. أما تفجير شاحنة مملوءة بجنود الاحتلال أو مركبة لدورية أو اغتيال مستوطن مدجج بالسلاح فهو إرهاب.

ساد هذا المعيار المزدوج، وأصبح عملةً شائعة في أجهزة الإعلام الغربية. إرهاب الدولة ليس إرهابًا وإرهاب الأفراد هو الإرهاب، عدوان القوي ليس إرهابًا ومقاومة الضعيف هي الإرهاب، سطوة الغرب على غيره من الشعوب دفاع عن القيم والمبادئ، الحرية والديمقراطية، ومقاومة الشعوب دفاعًا عن حقوقها عنف وإرهاب.

والآن، يأتي دور الدولة العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت في الآونة الأخيرة هدفًا لإرهاب الأفراد سواءً في الرياض أو في الظهران أو في لوكيربي أو في أوكلاهوما أو في أطلانطا أو تفجير الطائرة الأخير في عرض المحيط.

عندما كان العالم ذا قطبين، وكان المعسكر الاشتراكي موجودًا كانت أمريكا تشعر بوجود قوة أخرى تحد من قوتها وتمثِّل تحديًا لها. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تفرَّدت أمريكا بالعالم، ووصل التاريخ إلى نهايته، وبدأ صراع الحضارات، واتخذت أمريكا من الإسلام عدوًّا بديلًا عن الشيوعية تصارعه وتحاصره وتهدِّده وتُشوِّهه حتى تستأسد بالعالم وتقضي على احتمال وجود بدائل عنها في أقطاب جديدة في المستقبل. تحاصر العراق بعد أن تحرَّرت الكويت، وتحاصر ليبيا أخذًا بالشبهات، وتُهدِّد بحصار السودان وإيران. تربط بين الإسلام والعنف والإرهاب والعدوان والنيل من حقوق الإنسان والمرأة والطفل. وبدأت تلعب دور شرطي العالم. تتعالى على باقي الشعوب، وتستغل المنظمات الدولية لتنفيذ سياساتها.

وبدأ العالم يضج من هذا المارد الذي يهب ويمنع، يوالي ويعادي، يأمر وينهى، يعد ويتوعد؛ فالوعي البشري بطبيعته يرفض التجبر والاستكبار، ومن يحل نفسه محل الله، ويتمثَّل صفاته وإرادته وقدرته، فبدأ النيل من هذا المارد في الداخل قبل الخارج، وأصبح الإرهاب الداخلي من الميليشيات المسلحة العنصرية في الداخل صاحب اليد الطولى في رد المارد إلى حدوده الطبيعية في أوكلاهوما وأطلانطا وربما بإسقاط الطائرة في المحيط بصاروخ أو بقنبلة، وقبلها اغتيال مارتن لوثر كينج وجون كيندي كاغتيال الدولة لزعماء الفهود السوداء. فلعل البالون المنتفخ يُسرِّب بعض هوائه بالإرهاب الداخلي، ويقل تخايل المارد وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (١٧: ٣٧).

ولمَّا كان الإرهاب باستمرار يأتي من الآخر وليس من النفس، سرعان ما تُلصق أمريكا الإرهاب بالشرق الأوسط وبالإسلام وليس بالداخل، بالعنصرية المسلحة البيضاء؛ بل إن تفجير مركز التجارة الدولي إنما تم في الداخل بفعل عناصر من الداخل، وطبقًا لنموذج العنف في الداخل، وبعناصر متعاونة مع أجهزة المخابرات الأمريكية في الداخل منذ حرب أفغانستان حتى ولو كانت الأداة في الظاهر من الخارج، من المهاجرين.

ولكن من المهاجر؟ أليس الشعب الأمريكي كله من المهاجرين؟ ألا تعطي أمريكا البطاقة الخضراء للمهاجرين كي يصبحوا مواطنين؟ هل حقَّقت أمريكا حلم «إناء الانصهار»؟ أم إنها ما زالت مجموعةً من المهاجرين؟ فلأيها تكون الغلبة؟

(٨) الحصار والتهديد٨

لا توجد منطقة محاصرة هذا الحصار الشديد من كل الجهات ومهددة من الداخل عبر التاريخ قدرَ المنطقة العربية، وما زال الحصار قائمًا، والتهديد مستمرًّا باسم الشرعية الدولية ومواثيق الأمم المتحدة وقراراتها، وعشرات البنود والقرارات الأخرى، غير مطبقة في حالات أخرى كإسرائيل تضرب بها جميعًا عرض الحائط، دون حصار عليها أو تهديد لها.

صحيح أن كوبا محاصرة أيضًا منذ ثلاثين عامًا أو يزيد، منذ انتصار كاسترو وجيفارا بحجة وجود نظام شيوعي بالقرب من السواحل الجنوبية الشرقية للولايات المتحدة، ووجود صواريخ سوفيتية على أرضها مما يهدد أمنها. وبالرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي، وتطوير الصواريخ الأمريكية، وسحب الصواريخ السوفيتية، وبالرغم من محاولة غزو كوبا منذ خليج الخنازير في عهد كيندي إلا أن الحصار ما زال مضروبًا عليها.

والسبب في كلتا الحالتين واضح، العرب وكوبا، التكفير عن ذنب الستينيات عندما بدأت حركات التحرر في العالم الثالث، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ضد الاستعمار القديم والجديد بزعامة قادة العالم الثالث منذ مؤتمر باندونج ١٩٥٥م حتى مؤتمرات بلجراد والقاهرة والجزائر لدول عدم الانحياز. استُشهد جيفارا في كولومبيا، وحوصرت كوبا منذ زمن طويل، وكوبا ما زالت صامدة، وأوروبا تريد رفع الحصار، وتختلف مع الولايات المتحدة أكثر مما تختلف معها حول حصار العراق وليبيا، وتهديد السودان وإيران.

وباختفاء تيتو وعبد الناصر ونهرو بدأ التخطيط لحصار مراكز التحرر وعدم الانحياز؛ فحوصرت مصر منذ أوائل السبعينيات من أجل إخراجها من المعركة، ونزع القلب عن الأطراف، وظهرت دعوات «مصر أولًا» حتى عمت القُطرية، وظهرت النزعات الطائفية والعرقية بدعوى الدفاع عن حقوق الأقليات وحقوق الإنسان في المنطقة كلها. وتمزقت يوغوسلافيا وتفتتت إلى ثلاث دول، ثم تم تمزيق إحداها، البوسنة والهرسك، بتواطؤ بلجراد بعد أن دار عليها الزمن، من الشيوعية الوطنية إلى القيصرية والطائفية. والهند قنبلة موقوتة بعد مسلسل الاغتيالات: أنديرا غاندي، راجيف غاندي، واحتمالات تفجير مئات القوميات واللغات والطوائف والمذاهب والديانات والعودة إلى الاقتتال بين المسلمين والهنود دون غاندي، وبين الهنود والسيخ. وكشمير فُوهة بركان في الشمال، وسيرلانكا قاعدته في الجنوب، وباكستان كقوة سياسية، والملايو وإندونيسيا كقوتين اقتصاديتين في الطريق، طريق أفغانستان. ثم يتم التحول إلى القلب، إلى مصر وسوريا والعراق في طريق لبنان والجزائر.

وبعد أن رفع العالم العربي الراية في الخمسينيات والستينيات، وأخفضها في السبعينيات والثمانينيات، فإنه نكَّسها كليةً في التسعينيات، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين. رُفعت الأعلام مع بدايات حركات التحرر الوطني متزامنةً مع الثورات العربية، وخُفضت باختفاء عبد الناصر ثم نُكست كليةً بعد انقلاب الثورات على نفسها مائةً وثمانين درجة، من مقاومة الاستعمار والصهيونية في الخارج ومناهضة الإقطاع والرأسمالية في الداخل إلى الصلح والتحالف معهما، ومن الدولة الوطنية المستقلة إلى الدولة التابعة، ومن التخطيط الوطني لمظاهر النشاط الاقتصادي إلى الخصخصة وتهميش دور الدولة والبنك المركزي والرقابة على حركة الأموال في الداخل والخارج.

وبدأ حصار العالم العربي بعد تنكيس الأعلام، العراق في الشرق مع تهديد إيران بالحصار والضرب باعتبارها مركزًا يأوي الإرهابَ ويُصدِّره إلى جنوب لبنان عبر سوريا. ويتم حصار ليبيا في الغرب أخذًا بالشبهات، وتهديد مصر بفتح حدودها البرية معها ولاستقبالها رئيسها بطيرانه المفاجئ من قُطر عربي إلى قُطر عربي آخر وفوق الصحراء الغربية؛ فقد أصبح رؤساء البلاد سجناء في أقطارهم، يتجوَّلون فيها خشيةً وهربًا من الرصد والإنذار وتحت التهديد بالقتل والاغتيال والاصطياد الفردي بعد فشل غارة الطيران الأولى في الثمانينيات.

ويتم تهديد السودان في الجنوب، وتغذية الانفصاليين في جنوب الجنوب حيث يبدأ نهر النيل، شريان الحياة في مصر. وتقترح إسرائيل على الحبشة إقامة السدود على النيل الأزرق لتجفيف منابع النيل. ويتم حصار باب المندب، وتتربص إريتريا باليمن على مداخل البحر الأحمر لخنق مصر والسعودية والانفتاح على إيلات وإسرائيل، فلم يعد البحر الأحمر بحرًا عربيًّا على ضفتيه شرقًا وغربًا في السعودية ومصر وفي شماله وجنوبه في اليمن ومصر، بل بحرًا إسرائيليًّا في الجنوب في جزر حنيش وفي الشمال في إيلات، وما يتم تخطيطه حاليًّا من إنشاء قنوات بديلة عن قناة السويس.

وفي الشمال يكتمل الحصار عن طريق الحلف الإسرائيلي التركي والضغط على سوريا بعد اقتطاع لواء الإسكندرونة لحساب تركيا واحتلال مرتفعات الجولان لحساب إسرائيل، وحصار شمال العراق وكل مناطق الأكراد بدعوى الدفاع عن أكراد العراق في نفس الوقت الذي تستأصل فيه تركيا الأكراد الأتراك، ويُستعمل أكراد إيران لصالح إيران.

وبعد أن يتم حصار العالم العربي من الشرق والغرب والجنوب والشمال يتم ضرب القلب والطعن في المركز في مصر والشام، فسيناء منزوعة السلاح، وفلسطين محتلة، والحكم الذاتي محاصر في الداخل، وخبز فلسطين يأتي من العدو وعن طريق العمالة الفلسطينية في حالة السماح لها بتجاوز الأرض المحتلة في ١٩٦٧م إلى الأرض المحتلة في ١٩٤٨م. ومن إحكام الحصار في الخارج والطعن في الداخل يتفتت العالم العربي، من أقطار إلى دويلات، في العراق والخليج والسعودية واليمن ومصر وسوريا ولبنان وكل أقطار المغرب العربي والسودان، ثم تشغلها كلها معارك الحدود، فلا يوجد قُطر عربي إلا وله مشاكل حدود مع القُطر العربي المجاور، ويتحقَّق الحلم القديم، الاستيلاء على فلسطين أيام الحروب الصليبية، ومحاصرة العالم العربي من البحار أثناء الاستعمار الغربي الحديث.

والنتيجة من هذا كله أبعد من احتلال الأراضي وحصار الدول وتهديدها، بل أبعد من ذلك بكثير؛ جرح الكرامة العربية. فبدلًا من شعار الستينيات «أحرار يا عرب أحرار، في بلادنا كرام أسياد» يأتي واقع التسعينيات، «سجناء يا عرب سجناء، في بلادنا عبيد أذلاء». وقَبِل العالم العربي ممثِّلًا في بعض نظمه سياسات التركيع أو التجويع أو التخويف، تلويحًا بقطع المعونات، وتهديدًا بإسرائيل أو تفكيرًا في إيجاد البدائل الشعبية عن النظم الحالية، تحالف الوفد والإخوان. أصبح الهدف من الحصار والتهديد كسر الإرادة الوطنية المستقلة، وإدخال الجميع بيت الطاعة باسم النظام العالمي الجديد، والكوكبة، والعولمة، واقتصاديات السوق، ونظم المعلومات، واتفاقية الجات، والعالم قرية صغيرة، يتربع فوقها القطب الواحد.

ومن الطبيعي أن يكون الحصار والتهديد للعالم العربي في عالم ذي قطب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية؛ فالمنطقة العربية الإسلامية هي المنطقة التي لم تمت بعد، فما زالت حيةً بنضالها وإبداعها والقدر الهائل من تساؤلات شبابها وشيوخها، أين المصير؟ واحتمال ظهور قطب ثانٍ يتحدَّى القطب الأول فيها؛ فآسيا مشغولة بنهضتها الصناعية وتقدُّمها الاقتصادي وتبحث عن هُويتها وثقافتها الوطنية كدعامة لنهضتها الصناعية، على الأمد الطويل خشية التهديد والحصار.

العالم العربي منطقة الحضارات القديمة، مصر وبابل وآشور وكنعان، وهي التي ما زالت تحفظ بقاءه، وتمده بعمق تاريخي لا يتوافر في غيره من المناطق. وهو مهد الديانات الكبرى، وموطن الأنبياء، ومهبط الرسالات. غرز في وجدانه التوحيد مقرونًا بالعدل منذ حمورابي وآمون حتى موسى وعيسى ومحمد. ربط الدنيا بالآخرة، والزمان بالخلود، وعرف الحساب والجزاء، والاستحقاق، والثواب والعقاب.

وهو الذي أنشأ حضارةً زاهرة في العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، أثَّرت في الغرب في العصر الوسيط، وكانت وراء نهضته الحديثة. ومآثر العمران فيه ما زالت واضحةً في العمارة والمدن، واللغة والأدب والثقافة. استطاع الصمود في مواجهة الصليبيين من الغرب، والتتار والمغول من الشرق، ثم الاستعمار الأوروبي الحديث من الغرب مرةً ثانية سواءً الاستعمار العسكري المباشر أو الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. وما زال مبدعًا ثقافيًّا وأدبيًّا، يموج بالتساؤلات، ويزخر بالهموم، ويرتبط بأرض الوطن، ويعشق التاريخ، ويحلم بالمستقبل.

وبالإضافة إلى جذور الماضي هناك إمكانيات الحاضر، الإمكانيات البشرية والثروات الطبيعية والعقول الإبداعية والسواعد ووفرة العمالة؛ فأكبر نسبة من المؤهلات العليا وأهل الاختصاص في العالم العربي الذي يُصدِّر الهجرات للخارج، وأكبر قدر من الثروات والأموال في العالم العربي في البنوك الأجنبية من عوائد النفط، وأكبر قدر ممكن من العمالة متوافرة في العالم العربي في مصر وفلسطين والشام واليمن والمغرب وتونس والسودان؛ فالعالم العربي متكامل بثرواته البشرية وموارده الطبيعية.

فهو الوحيد المرشَّح لأن يخلق قطبًا ثانيًا أمام الولايات المتحدة الأمريكية. هو البديل للاتحاد السوفيتي، القادر على إعطاء نمط حياة جديد ومُثُل جديدة ورؤًى جديدة أكثر إنسانيةً وعدلًا من رؤى الغرب وطموحاته القديمة، فهو بديل محتمل في المستقبل، يعادل حجم الولايات المتحدة مساحةً وسكانًا وثروات، ويعادل حجم أوروبا الموحدة. وإمكانيات الوحدة لديه متأصلة الجذور وإن عاقتها الموانع الوقتية، فما زال المجتمع العربي في عصر النهضة الثاني بعد عصر النهضة الأول في القرن الماضي وتعثره في هذا القرن. وقد حاول محمد علي تحقيق الحلم فتكالبت عليه قوى الاستعمار القديم لتحجيمه، وعاود عبد الناصر تحقيق المشروع؛ فانقضَّت عليه قوى الاستعمار الجديد حتى تتوب المنطقة عن أحلامها بالمرة.

إن آسيا الصناعية مشغولة بنهضتها لمنافسة أوروبا الغربية والولايات المتحدة واللحاق بالدول الصناعية السبع وبمساعدة رأس المال الغربي. وبقدر المعدل العالي للتقدم الذي يبلغ ٩٪ قبل الصين بقليل تعاني من نقص في المشروع الثقافي النهضوي، وتعاني من الشعائرية والتقليدية والمحافظة في الثقافة، وتشعر بأنها على أطراف العالم العربي، لا تتحدث العربية، ونموذجها ومصدر علمها الأزهر الشريف.

وأمريكا اللاتينية ولَّى عصر جيفارا بها ولاهوت التحرير عند توريز وروميرو، ومشغولة بالمخدرات والجنس والفقر، وتقتل الأطفال مع الكلاب الضالة. وقُضي على ثقافاتها الوطنية الهندية القديمة فأصبحت مجتثة الجذور، ومن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له.

وأفريقيا مهددة بالأمراض، الإيدز وغيره، والتصحر، والجفاف، والفقر، والمجاعة، والقحط، والحروب القبلية التي تقضي على الملايين، وبمعارك الحدود، وبالنظم التسلطية، وبالثقافات التقليدية عند العامة، والتغريب والتبعية للغرب عند الخاصة.

وهنا تبدو الأولويات في الوطن العربي، بدايةً بفك الحصار عن العراق وليبيا، والوقوف في مخاطر التهديد ضد السودان ودول الجوار، ولم الشمل العربي، والوصول إلى الحد الأدنى من الإجماع العربي، وأقل القليل من مظاهر الوحدة العربية، حرية التجارة، وتبادل المطبوعات، وإلغاء التأشيرات، والحوار مع دول الجوار الإسلامية والأفريقية الآسيوية، وتحييد الغرب، والاتجاه نحو الشرق من أجل إيجاد التوازن في علاقات الوطن العربي بين الغرب والشرق، وبين قواه الذاتية الحاضرة والمستقبل وقوة والولايات المتحدة الأمريكية.

ولماذا لا يحلم العربي ولديه الشِّعر والخيال؟

١  البيان ٢ / ٩ / ١٩٩٦م.
٢  البيان ٢٣ / ٩ / ١٩٩٦م.
٣  البيان ٢٦ / ٨ / ١٩٩٦م (لم يُنشر).
٤  البيان ١٥ / ١ / ١٩٩٦م.
٥  البيان ٢٦ / ١١ / ١٩٩٦م.
٦  البيان ٢٨ / ٣ / ١٩٩٦م.
٧  البيان ٥ / ٨ / ١٩٩٦م (لم يُنشر).
٨  البيان ١٢ / ٨ / ١٩٩٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥