السلفية والعلمانية (تحليل الشعارات)
(١) السلفية والعلمانية١
تظهر في فكرنا العربي المعاصر عدة معارك زائفة وثنائيات مصطنعة مثل السلفية والعلمانية، الدين والدولة، الدين والعلم، الدين والفلسفة، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الإيمان والإلحاد، الدين والعقل، الله والطبيعة، الله والإنسان، النفس والبدن، الآخرة والدنيا، الرجل والمرأة … إلخ. وتوحي هذه الثنائيات بتناقض أطرافها واستحالة الجمع بينهما لأنهما على طرفي نقيض بمنطق «إما … أو»، وتنقسم الأمة إلى فريقين متصارعين كل فريق في صف طرف ضد الفريق الآخر الذي في الطرف الثاني. وتنقسم الثقافة الوطنية إلى قسمين متصارعين، يدمر أحدهما الآخر ويقضي عليه، فينتهي الإبداع، ويعم النقل، ويتوقف الحوار، ويسود التعصب.
والحقيقة أن هذه المعارك الزائفة قد نشأت في الغرب وتجربته في الحداثة، فبعد أن اكتشف الغرب في مطلع عصوره الحديثة منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة استحالة الجمع بين الكنيسة والدولة، بين الدين والعقل، بين الإيمان والعلم، بين أرسطو والطبيعة، آثر استبعاد القديم واستبقاء الجديد، وترك الكنيسة والدين والإيمان وأرسطو وبطليموس، والاعتماد على العقل والعلم والطبيعة وقدرة الإنسان على الفهم والنقد والتحليل؛ فنشأ في الوعي الأوروبي هذا الصراع بين القديم والجديد، وتربَّى على هذه الثنائيات المتعارضة.
ومنذ ريادة أوروبا في عصورها الحديثة، وتحوُّلها إلى مركز للعالم، وانتشار ثقافتها منذ القرن الماضي خارج حدودها مصاحبةً للمد الاستعماري في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، انتشرت هذه الثنائيات خارج حدودها، وعمَّت الثقافات الوطنية في الأطراف، ومنها الوطن العربي؛ فنشأ لدينا ومنذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي هذا الرافد الجديد في الثقافة العربية، وبدأ التقابل بين الموروث والوافد في الظهور على نفس النمط الغربي خاصةً في التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا. وكلما زاد العداء للموروث انتشر النمط الغربي الذائع خارج الحدود، وكلما أراد المثقفون إدارة المعارك تبنَّوا هذه الثنائيات الوافدة؛ فشقَّت الثقافة الوطنية إلى شقين متعارضين، ثم إلى قتال بين الإخوة الأعداء ما زال دائرًا حتى الآن.
وقد حدث هذا الفصام في الثقافة الوطنية في لحظة تاريخية توقف فيها الإبداع، وعم فيها التقليد والاتباع؛ فلا فرق بين النقل من القدماء لملء الفراغ أو النقل من المحدثين. فضَّل البعض النقلَ عن القدماء لعجزهم عن الإبداع وتوقفهم عن الاجتهاد، فتراكم القديم فوق واقع لا يتلاءم معه، ويتطلب حلولًا أخرى غير التي صاغها القدماء، فدفع ذلك البعضَ الآخر إلى أن يولي وجهه شَطرَ الحلول الجاهزة الوافدة من الغرب، فتراكم بعضها فوق البعض. وأصبح الواقع يئن تحت الموروث والوافد، وكلاهما نقل. فإذا انتفض الواقع باسم الحاضر تهاوى الموروث والوافد معًا كما حدث إبَّان الثورات العربية الأخيرة التي بدأت من الواقع الوطني من أجل التحرر من الاستعمار الخارجي والقهر الداخلي والقضاء على الفقر والتخلف والتجزئة والتبعية دفاعًا عن استقلال الإرادة الوطنية.
ولما ضعفت الدولة الوطنية التي تعبِّر عن الواقع وإبداعاته، وهي بمثابة القلب للجناحين، الموروث والوافد، أنصار القديم وأنصار الغرب، السلفية والعلمانية، اشتد الصراع بين الإخوة الأعداء، واحتدم الخلاف حتى وصل إلى حد الاقتتال وسفك الدماء في مصر والجزائر وسوريا. كل جناح يريد أن يكون وريث القلب الذي كاد أن يتوقف عن الحياة والنبض. فإذا ما قوي القلب، ودبت فيه الحياة من جديد، وشعر بخطورة الوريثين؛ السلفية والعلمانية، ضرب أحدهما بالآخر لإضعافهما معًا، ضرب السلفية بالعلمانية كما كان الحال في العهد الناصري، ثم ضرب العلمانية بالسلفية كما هو الحال في عصر السادات. والآن يتم ضرب السلفية بالعلمانية في الجمهورية الثالثة كما كان الحال في الجمهورية الأولى في مصر باسم التنوير في مواجهة الإظلام ومن خلال الإعلام والثقافة.
الصراع بين السلفية والعلمانية ليس فقط صراعًا بين مصدرين للمعرفة — الموروث والوافد — بل هو أيضًا صراع على السلطة، كل منهما يشعر بأنه الوريث الطبيعي للدولة الرخوة، الكل يريد الحكم، الدولة الوطنية أو ما تبقى منها: أنصار السلفية اعتمادًا على الشرعية الموروثة، وأنصار العلمانية استدعاءً لشرعية الحداثة والعصر. فلا حل إلا بالسلطة، والسلطة هي الحل، وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
والحقيقة أن لكل من السلفية والعلمانية جانبين: إيجابيًّا وسلبيًّا، ويختلط المعنيان في الثقافة العربية على التبادل؛ فالهجوم على السلفية نظرًا لمعناها السلبي، والدفاع عنها لمعناها الإيجابي. والهجوم على العلمانية نظرًا لمعناها السلبي، والدفاع عنها لمعناها الإيجابي.
فالسلفية إيجابًا تعني الأصالة ضد التغريب، وأولوية الأنا على الآخر، والدفاع عن النفس ضد المخاطر التي تهدِّدها، وهو شيء طبيعي في مرحلة التحرر من الاستعمار، وقد كانت حركات التحرر الوطني كلها دفاعًا عن الهُوية في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا ومصر ولبنان، كما تعني أن القديم ما زال حيًّا في النفوس، وأن الموروث هو المكوِّن الرئيسي في الثقافة الوطنية، وأن التواصل مع القديم خير من الانقطاع عنه، بل إنه من المستحيل الانقطاع عنه نظرًا لطابع المجتمعات التقليدية، وأن نموذج التواصل كما عبر عنه؛ الاجتهاد وتواصل مراحل الوحي، خروج المسيحية من اليهودية، والإسلام من المسيحية واليهودية، لا يقل إبداعًا عن نموذج الانقطاع في الغرب ونموذج التجاور في الشرق، في اليابان وكوريا خاصة. كما أن السلفية رد فعل مشروع ضد التغريب والتبعية الثقافية للغرب، وناقوس الخطر على خطورة النقل، سواء من المحدثين أو من القدماء.
والسلفية سلبًا تعني الموروث الديني الفقهي الذي ضم العلوم الدينية أساسًا بينما الواقع ينادي على علوم الدنيا ويتطلبها، تعني العقائد والشعائر والواقع يتطلب الأيديولوجيات والمذاهب السياسية والأعمال الوطنية وبرامج التنمية الاجتماعية، كما تعني المحافظة والتقليد كما بدت لدى الأشاعرة قديمًا وإعطاء الأولوية للإرادة الإلهية على الإرادة الإنسانية وقوانين الطبيعة، وجعل النقل أساس العقل، وحصر الإمامة في قريش، وتأجيل العمل على الإيمان. تعني السلفية الكتب الصفراء والثقافة العتيقة التي لا تتفق مع متطلبات العصر، الشيخ في مقابل الأفندي، والعِمة في مقابل القبعة، والجامعة الأزهرية في مقابل الجامعة الوطنية بالرغم من محاولات تجاوز هذه الثنائيات في الفكر العربي الحديث، تطويرًا للأزهر أو تأسيسًا لدار العلوم، كما حاولت الحركة الإصلاحية منذ الأفغاني، وكما حاول الفكر الليبرالي الحديث منذ الطهطاوي وخير الدين.
والعلمانية إيجابًا تعني العلم وتطبيقاته في التقنية، والبداية بالطبيعة والعالم والكون لمعرفة قوانينه وسبر أغواره اعتمادًا على العقل الإنساني وقدراته المعرفية الخالصة والحواس والتجارب، والتصديق والمراجعة، والمقاييس الكمية الدقيقة. كما تعني حقوق الإنسان في الحرية؛ حرية الإيمان والتفكير والتعبير والانتقال، واختياره النظام السياسي بناءً على عقد اجتماعي وليس حكمًا إلهيًّا؛ فالإنسان مواطن في مجتمع وليس عضوًا في كنيسة أو مملوكًا لسيد أو رعية لراعٍ أو قِنًّا لإقطاعي أو عاملًا لرأسمالي. والتقدم هو جوهر الكون وقانون الحياة، فالحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أغنى من الحاضر. تعني العلمانية الجديد ضد القديم، والتوجه نحو المستقبل ضد التوجه نحو الماضي. لقد جربتها الشعوب وأفلحت، فلماذا لا يجربها العرب بدلًا من أن يبدءوا من الصفر دون التعلم من تجارب الآخرين، والثقافة واحدة، والعلم واحد بين الشعوب؟
وتعني العلمانية سلبًا التبعية للغرب، وتبنِّي نمطه للتحديث، والمساهمة في ازدياد التغريب، والعداء للموروث، والدعوة إلى الانقطاع عنه؛ فالعلمانيون يدينون بالولاء للغرب، ووكلاء حضاريون له، نخبة مثقفة، أقلية تحكم الأغلبية، بعضهم من النصارى كما كان الحال في فجر النهضة العربية في القرن الماضي. تعني العلمانية المادية الغربية لا فرق في ذلك بين الرأسمالية والشيوعية. ويتبع المادية الإلحاد، إنكار الله والنبوة والوحي. ويتبع الإلحاد النسبية والعدمية والشك واللاأدرية والفوضوية والانحلال؛ لذلك هاجمها الأفغاني في «الرد على الدهريين».
والحقيقة أن هذه المشكلة الزائفة قد أضرَّت بالثقافة الوطنية وبالوحدة الوطنية، وبسببها تصادمت شرعيتان: شرعية الماضي وشرعية الحاضر، شرعية الدين وشرعية الثورة. والفكر الإبداعي الوطني يوحِّد بين الشرعيتين اللتين تكونان أساس الوجود العربي.
وقد توحدت هاتان الشرعيتان في القرآن الكريم في الجمع بين الدين والدنيا، بين مقتضيات النفس وضرورات البدن، بين حقوق الله وحقوق الإنسان. وقد ظهر هذا التوحيد في مقاصد الشريعة كما عرضها علم أصول الفقه، وهي المصالح العامة التي تقوم عليها الشريعة؛ فالشريعة الإسلامية شريعة وضعية تقوم على رعاية المصالح العامة، وتتأسس في واقع الناس وحياتهم. ولفظ الوضع ليس حكرًا على العلمانيين وحدهم ولا لفظ العقد الاجتماعي ولا ألفاظ العقل والعلم والطبيعة والتقدم والإنسان والحقوق والواجبات والمواطنة. ومقاصد الشريعة الخمسة هي: الدفاع عن الحياة (النفس)، والعقل، والدين (الحقيقة)، والعِرض (الكرامة)، والمال (الثروة). وعلى هذه المقاصد والدفاع عنها لا فرق بين السلفية والعلمانية. والإمامة عقد وبيعة واختيار وليست حكمًا إلهيًّا أو اختيارًا ربانيًّا. فالإمام يمثل الأمة ولا يمثل الله. وعلى هذا الأساس لا فرق بين السلفية والعلمانية.
وقد أكَّد الفكر الإسلامي القديم ذلك؛ فعند المعتزلة العقل أساس النقل، والطبيعة لها قوانينها المستقلة، والعدل مع التوحيد أصلان من أصول الدين، والإنسان صاحب أفعاله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرقابة على الحكام واجب العلماء. ولا فرق في ذلك بين السلفية والعلمانية. وقد أكَّد الفلاسفة ما أكَّده المعتزلة من قبل؛ فالعقل والوحي متفقان في الهدف والغاية، ولا فرق بين الدين والفلسفة، بين الوحي والعقل. وأكَّد الصوفية الوحدة بين النظام الإلهي والنظام الكوني، وتجليات الله في الكون، والطبيعة باعتبارها دلالةً على وجود الله. وخرجت العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية من ثنايا الوحي وعقلية التوحيد.
ويقوم الإسلام على التعددية، والاجتهاد؛ فللمخطئ أجر وللمصيب أجران، وعلى التعبير الحر، فالكل رادٌّ والكل مردود عليه، والحق النظري متعدد وإن كان الحق العملي واحدًا، فأي خلاف بين السلفية والعلمانية على قيم التعددية، وحرية الرأي، والديمقراطية، والحداثة، والعصرية، والاجتهاد، والعقل، والعلم، وحقوق الإنسان والشعوب؟ هل من المستحيل تكوين جبهة وطنية واحدة يلتقي فيها السلفيون والعلمانيون، والاتفاق على برنامج عمل وطني موحد، يحقِّق مطالب الأمة، ويحرص على وحدتها الوطنية؟ هل من الصعب تطهير الثقافة العربية من المشكلات الزائفة والتوجه إلى مواطن الإبداع الثقافي العربي؟
(٢) الشعارات السلفية٢
إذا كان هدف الثقافة العربية الآن هو توحيد الجهود ولم الشمل، وتجميع القوى الوطنية من أجل درء الأخطار المحيطة بالأمة: أخطار التجزئة والقُطرية وانحسار القومية والدخول في أحلاف بديلة عن التضامن العربي؛ حلف العرب مع أنفسهم، فإن المهمة الآن هي توحيد الجهود بين السلفيين والعلمانيين من أجل خلق حوار وطني بين أهم جناحين في عقل الأمة ووجدانها حول الدولة الوطنية التي هي بمثابة القلب؛ ويمكن ذلك عن طريق تحليل شعارات كل تيار لمعرفة إلى أي حد يمكن توحيد الثقافة الوطنية فيما وراء اللغة والقصد المعلن والقصد غير المعلن، المنطوق به والمسكوت عنه.
والشعار يعبِّر عن بناء نفسي واجتماعي في صياغة لغوية، ومعناه ليس في العبارة بل فيما وراء العبارة من مضمون نفسي يعبِّر عن واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي وقانوني وتاريخي. الشعار موقف وليس مجرد معنًى، حركة واقع وليس مجرد تصور أو رؤية، تجنيد للجماهير وليس فقط صياغة مقولة وإصدار حكم. الشعار شحنة وجدانية للرفض والقبول، إعلان عن حركة للهدم والبناء، بيان للناس حول حاضرهم ومستقبلهم.
وأهم الشعارات السلفية ثلاثة: «الحاكمية لله» و«الإسلام هو الحل» أو «الإسلام هو البديل» و«تطبيق الشريعة الإسلامية». فماذا تعني هذه الشعارات التي ترفعها الحركة الإسلامية عن حق وتلقى نجاحًا كبيرًا في أوساط الإسلاميين، من الجمهور والنخبة على حد سواء؟
يعني شعار «الحاكمية لله» رفض حاكمية البشر؛ فالشعار يعني سلبًا رفض نظم الحكم القائمة، وراثية أو عسكرية، ملكية أو جمهورية، بنص القرآن وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٥: ٤٤). وقد تكررت الآية عدة مرات، تصف من يحكمون بغير ما أنزل الله مرةً بالكافرين، ومرةً بالفاسقين، ومرةً بالظالمين؛ فالشعار يتضمَّن شحنةً من الغضب ضد نظم الحكم القائمة لتقويضها. فالحكم لله، والسيادة لله، والله أدرى بمصالح البشر منهم بأنفسهم.
يدل الشعار سلبًا على ضيق بنظم الحكم القائمة ورفضٍ لها بدعوى أنها حكم البشر، واعتمادًا على فتوى ابن تيمية بفساد حكم التتار الذين لا يحكمون بالشريعة التي أنزل الله حتى ولو أعلنوا الشهادتين. كما كرَّر ذلك أبو الأعلى المودودي في الهند من أجل المفاصلة بين المسلمين والهندوس، وإعطاء المسلمين شرعية وجود منفصل عن مجموع الهنود الذين لا يحكمون بما أنزل الله؛ وعبَّر عن ذلك في كتيبه «المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم» وهي: الحاكمية، والألوهية، والربانية، والعبودية. وهي تُعبِّر عن مأساة المسلمين في الهند وضرورة تحررهم من حكم الهندوس؛ حكم البشر، إلى حكم الإسلام؛ حكم الله.
وكرَّر ذلك سيد قطب مرةً ثالثة في «معالم في الطريق»، يجعل الحكم الإسلامي قائمًا على الحاكمية لله ضد حكم البشر، ولا مصالحة بين الله والطاغوت، بين الإسلام والجاهلية، بين الإيمان والكفر، نظرًا لما ألمَّ به من تعذيب واضطهاد في السجون هو وجماعة الإخوان المسلمين في العهد الناصري، بصرف النظر من المخطئ ومن المصيب.
الحاكمية لله إذن شعار يعبِّر عن حالة نفسية من الاضطهاد، ويحتوي على قوة هائلة من الرفض للوضع القائم. قوته في سلبه، وخطورته في هدمه كل شيء من أجل إعادة البناء من جديد، من الألف إلى الياء، البداية بالصفر للوصول إلى كل شيء. يقوم الشعار على إدانة الواقع، ورفض كل شيء فيه؛ فالإسلام لا يعرف «الترقيع»، إما إسلام، أو لا إسلام.
والحقيقة أن الإسلام يبدأ مما هو موجود، فليس كل ما في الواقع كفرًا وجهالة. الإسلام يبدأ من الواقع، ويُقر الفطرة، ويؤيِّد حكم العقل، ويتأسَّس على المصلحة، ويستطيع البشر بفطرتهم الوصول إليه. الإسلام يطوِّر ما هو موجود، يطوِّر شعائر إبراهيم، ويُنقِّح اليهودية، ويُصلح مسار المسيحية، ويهذِّب الجاهلية، ويطهِّر العروبة.
كما أن الحاكمية لله تعني إيجابًا ليس مجرد الرفض لحاكمية البشر؛ بل حاكمية من يختاره الناس كي يرعى مصالحهم. فالله لا يحكم بذاته ولكن من خلال الأمة وأهل الحل والعقد. الإمامة، كما يقول الأصوليون، عقد وبيعة واختيار. والإمام نائب عن الأمة وليس نائبًا عن الله.
وعلى هذا النحو يقترب شعار الحاكمية لله — بهذا المعنى الإيجابي — من الشعارات العلمانية مثل الحرية والديمقراطية والاختيار الحر. وينتهي هذا التضاد بين «الثيوقراطية» و«الديمقراطية» الموروث من التجربة الغربية؛ فالحاكمية لله عندنا تعني حاكمية البشر الذين تختارهم الأمة لتطبيق الشريعة ورعاية مصالحها.
والشعار الثاني «الإسلام هو الحل» أو «الإسلام هو البديل» يعني أيضًا السلب أكثر ممَّا يعني الإيجاب، يعني أن الحلول المطروحة على الأمة وما زالت كنظم سياسية واقتصادية لم تحل مشاكلها بل زادتها تفاقمًا وصعوبة؛ فمزيد من الأراضي تم احتلالها في فلسطين. احتُلت فلسطين في ١٩٤٨م أثناء النظم الملكية الدستورية أو الليبرالية الغربية، ثم احتُلت فلسطين كلها في ١٩٦٧م أثناء النظم العربية باسم القومية العربية أو الاشتراكية العربية، وضاعت حريات المواطنين، واغتيل زعماؤهم أثناء الحكم الليبرالي قبل الثورات العربية الأخيرة، واضطهدت الأحزاب الحاكمة قوى المعارضة باسم القانون والدستور، وظل اضطهاد الإخوان والشيوعيين قبل الثورات العربية الأخيرة وبعدها. واشتدت أزمة الحرية والديمقراطية بعد الثورات العربية باسم الثورة الاجتماعية دفاعًا عن تحقيق المكاسب الشعبية. وكان التفاوت بين الأغنياء والفقراء شاسعًا في النصف الأول من هذا القرن في النظم الليبرالية والإقطاعية والرأسمالية. ثم عادت الرأسمالية في عصر الانفتاح والخصخصة، وازداد الأغنياء غنًى، والفقراء فقرًا. وارتفعت الأسعار ولم ترتفع الأجور على نفس الوتيرة، وتراكمت الديون، وتفاقمت مشاكل الإسكان والمواصلات والبطالة، وما زالت الأمية متفشيةً في أكثر من نصف الأمة. أما بالنسبة للتنمية فما زال الوطن العربي يعتمد في أكثر من ٧٠٪ من غذائه على الخارج، يستورد الغذاء والسلاح والتقنية والخبرة بالرغم من فوائض الأموال وتوفر الخبرات والعمالة المحلية. ما زال الوطن العربي مصنفًا ضمن الدول النامية بكل مشاكلها، وما زالت قضية الهُوية مطروحةً كلما ازدادت درجة التغريب في مرحلة اقتصاديات السوق والإعلانات والاستيراد للمنتجات وللقيم. والجماهير ساكنة لا تتحرك باستثناء بعض الهَبَّات الشعبية هنا وهناك من أجل الخبز أو مقاومة النقابات والاتحادات دفاعًا عن استقلالها.
فما الحل؟ جرَّب العرب الليبرالية قبل الثورات العربية الأخيرة، والقومية العربية بعدها، كما جربوا الماركسية في جنوب اليمن قبل الوحدة وفي إطار من التحالف الوطني في سوريا والعراق، والمشاكل تزداد تفاقمًا، والمواطن يزداد بؤسًا. هنا يأتي شعار «الإسلام هو الحل» أو «الإسلام هو البديل» ليجد آذانًا صاغية عند الناس. لقد تم تجريب كل الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، ولم يتم تجريب الإسلام بعد. فلماذا لا يكون هو الحل؟
يعني الشعار سلبًا رفض الأيديولوجيات والمذاهب السياسية الحديثة التي جربها الوطن العربي في القرنين الأخيرين. فإذا ما أصبح السؤال إيجابًا بعد السلب: وما هو النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي النابع من الإسلام الذي يكون هو الحل أو البديل؟ استعصت الإجابة إلا من رؤية هنا أو هناك تعود من جديد إلى المذاهب الاقتصادية والسياسية العلمانية. ويتساءل الناس: هل الإسلام رأسمالي أم اشتراكي؟ اقتصاد سوق أم اقتصاد مُوجَّه؟ تجارة حرة أم تخطيط مركزي؟ ولاية الفقيه أم الشورى؟ حكم رجال الدين أم أهل الاختصاص؟ فما زال الشعار إيجابًا لا يعني الكثير، وإن كان سلبًا به قدر كبير من رفض ما هو قائم عن حق؛ نظرًا لضيق الناس وضنكهم.
فلو كان الإسلام هو الحل والبديل يعني حل الأزمات الضخمة في الوطن العربي: احتلال الأرض، وقهر المواطن، وفقر الفقراء، وتجزئة الأمة، وتبعيتها على الغير، وتغريبها وسلبيتها فكيف يكون ذلك؟ إذا كان الشعار يعني إيجابًا تحرير الأرض كما تفعل حماس والجهاد في فلسطين، وحرية المواطن كما يفعل حزب العمل في مصر، والعدالة الاجتماعية كما يريد الناصريون، ووحدة الأمة كما يريد القوميون، والتنمية المستقلة، والدفاع عن الهُوية، وتجنيد الجماهير، فما الفرق بين المضمون الإيجابي للشعار السلفي وبين الشعارات العلمانية التي يرفعها الليبراليون والناصريون والقوميون والماركسيون؟
والشعار الثالث «تطبيق الشريعة الإسلامية» يعني سلبًا أيضًا رفض القوانين السائدة والضيق بها؛ فهي قوانين تضر بمصالح الناس، قوانين العمل والأجور والإسكان والضرائب والمعاشات والاستيراد والتصدير والتعليم والصحة. تضاربت وتكاثرت وتناقضت وتبدَّلت طبقًا لأهواء الحكام وأصحاب المصالح وجماعات الضغط؛ لذلك تربَّت لدى المواطن ملكة التحايل على القانون والالتفاف حوله وتأويله وتفريغه من مضمونه حتى تتحقَّق مصالحه ضد القانون وعلى الرغم منه. وأصبحت البيروقراطية والتعقيد سمةً عامة في الحياة اليومية.
يعني شعار «تطبيق الشريعة الإسلامية» الهروب من القوانين السائدة وإيجاد ملاذٍ آخر لتحقيق العدل وتجنب الظلم، فإذا ظلمت قوانين البشر فإن الشريعة الإلهية لا تظلم.
وتُسمى القوانين السائدة القوانين الوضعية، في حين أن الشريعة الإسلامية أحق بلفظ «الوضع» كما قال الشاطبي في «الموافقات»؛ أي إنها تتأسَّس في العالم، وتقوم على المصلحة والدفاع عن الضروريات الخمس: الحياة (النفس)، والعقل، والدين، والعرض، والمال. فبهذا المعنى الإيجابي لا فرق بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني؛ إذ يقوم كلاهما على تحقيق المصالح. المصلحة أساس التشريع، وهي أساس القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي. لا يعني القانون الوضعي الخضوع لأهواء البشر؛ بل يعني قيام شريعة موضوعية لا تنحاز ولا تُحابي، وتُدافع عن المصالح العامة للجميع. فما الخلاف إذن بين شعار السلفية والقوانين الوضعية والمدنية؟
وقد يعني شعار تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيق الحدود؛ أي قانون العقوبات تخويفًا للناس من الجماعات الإسلامية ومن النظم الحاكمة على حد سواء، ما دام المقصود بالشريعة الردع والعقاب والزجر والضبط. والحقيقة أن الشريعة الإسلامية كل لا يتجزأ، تُعطي الناس حقوقهم قبل أن تطالبهم بواجباتهم. وحقوق المواطن: إشباع حاجاته الأساسية وحقوقه الطبيعية في الغذاء والكساء والتعليم والصحة والانتقال والسكن. فإذا سرق بعد ذلك يُطبَّق الحد. وحقوق المواطن الشاب: الزواج المبكر وتوفير السبل إلى ذلك بعد المغالاة في المهور، وتوفير السكن الملائم والحياة الأخلاقية في مظاهر الحياة العامة بعيدًا عن الإثارات للغرائز في أجهزة الإعلام، فإذا أخطأ بعد ذلك يُطبَّق عليه الحد؛ فالحدود تأتي في النهاية وليس في البداية، كواجبات تقابلها حقوق. وتوفير الحاجات الأساسية هو ما تنادي به العلمانية فتبدو أكثر رحمةً بالناس من توقيع العقوبات وتطبيق الحدود.
هناك إذن مساحة للالتقاء بين الشعارات السلفية والأهداف العامة التي تحاول الأيديولوجيات والمذاهب العلمانية تحقيقها، إنما يتطلب الأمر تحليل الشعارات والمقاصد واللجوء إلى الأُسس النفسية والاجتماعية للشعارات والأهداف والمقاصد الإنسانية العامة اعتمادًا على العقل والفطرة والمصلحة، فإذا تم التقارب الفكري فربما يكون ذلك خطوةً نحو المصالحة الوطنية.
(٣) الشعارات العلمانية (١)٣
كما أن الشعارات السلفية لها مضمون نفسي واجتماعي وسياسي، وتُعبِّر عن أزمة اجتماعية حقيقية، وتكشف عن رفض للواقع، وضيق بالنظم القانونية التي يئن تحتها المواطن، وتُعبِّر عن السلب أكثر ما تُعبِّر عن الإيجاب؛ فإن الشعارات العلمانية مثل: العقل، والعلم، والحرية، والإنسان، والمجتمع، والتقدم، تكشف عن رغبات دفينة وحاجات فعلية وتمنياتٍ حقيقية للوجدان العربي.
والسؤال هو: هل هذه الشعارات العلمانية غريبة على الثقافة العربية والتراث الإسلامي الذي يُشكِّل الرافد الأساسي فيها أم إنها تُعبِّر عن مضمون الثقافة العربية سواءً بألفاظها أو بألفاظ أخرى بديلة؟
فشعار «العقل» أو «العقلانية» أو «التنوير» يُعبِّر عن لب الثقافة العربية والتراث الإسلامي؛ فقد ذُكر العقل بكل مشتقاته الاسمية والفعلية في القرآن الكريم حوالي ٤٩ مرة؛ عقل الكلام والأفعال، وفهم الوقائع، والوعي بالمصير، والتدبر بالإرادة، وتأويل الأمثال، والتأمل في الطبيعة لمعرفة قوانينها، وسبر أغوار المجتمع لمعرفة مكوناته. ويستهجن القرآن من لا يُعمل عقله في عدة صياغات هي أوسع الاستعمالات انتشارًا مثل أَفَلَا تَعْقِلُونَ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. وهناك ألفاظ أخرى مثل: البرهان، والعلم، واليقين، والتفكر، والتدبر، وكلها تحيل إلى معاني العقل. وهو العقل النظري العملي، المنطقي الأخلاقي وليس العقل الصوري الذي غلب على الفلسفة الغربية والذي انفصل عن القيمة بدعوى الموضوعية والحياد، فاصِلًا بين أحكام الواقع وأحكام القيمة.
وظهر الإعلاء من قيمة العقل في الحديث النبوي وفي إحساس العرب بأنه لا يوجد أمر في الدين نهى عنه العقل، ولا يوجد نهي في الدين أمر به العقل. والعرب أهل الفطرة والفصاحة. ويروي الصوفية حديثًا قدسيًّا: «أول ما خلق الله خلق العقل، فقال له أقبل فأقبل، أدبر فأدبر، وعِزتي وجلالي ما خلقت أعز منك.» فالعقل أول ما خلق الله، يستجيب للأوامر، لا فرق بين طاعة العقل وطاعة الوحي.
وقد أكَّد علماء أصول الدين وفي مقدمتهم المعتزلة على دور العقل وجعله أصلًا من أصولهم الخمسة في التوحيد والعدل، العقل أساس النقل. والواجبات العقلية مثل الخلق، والتكليف، وشكر المنعم. والنظر أول الواجبات حتى قبل الإيمان؛ لأن الإيمان لا يُعرَف إلا بالنظر، وأن إيمان المقلد لا يجوز، وأن العقل قادر على إيجاد البراهين على وجود الله، ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا، تنزيهًا وكمالًا، وقادر على إثبات خلق العالم، وقادر على إثبات خلود النفس وقانون الاستحقاق طبقًا للجزاء على قدر الأعمال.
وقد أكَّد الفلاسفة أيضًا نفس الشيء؛ فالعقل والوعي طريقان متفقان في الغاية، معرفة الحقيقة، والكمال الخلقي. ويستطيع الفيلسوف بالعقل أن يصل إلى كل الحقائق التي يصل إليها النبي بالوحي. الحقيقة أخت الشريعة كما يقول ابن رشد، متفقتان بالطبع، متحابتان بالجوهر والغريزة. ويستطيع العقل أن يتصل بمصدر الحقيقة، وأن ينال منه العلم دون خيالات وأمثال، إدراكًا مباشرًا للحقائق والماهيات.
بل إن الصوفية الذين يعتمدون على منهج الذوق والكشف والرؤية العيانية المباشرة يصنعون منطقًا للإشراق كما فعل السهروردي، تصورات وقضايا، تصديقات وأحكامًا. كما وصل ابن سبعين إلى نوع من الفلسفة الإلهية يضعها العقل ويؤكِّدها الكشف، فلا فرق بين الحدس والبرهان، بين الرؤية والاستدلال، بين العيان والنظر.
أما الفقهاء فإنهم جعلوا القياس المصدر الرابع للتشريع، والقياس استدلال عقلي يقوم على تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. ويعتمد على تحليل العلة في النص عن طريق التفسير اللغوي والعقلي له ثم البحث عن العلة في الفرع عن طريق الاستدلال التجريبي. كما أقرَّ ابن تيمية بموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيه، وأن وجود الشيء هو البرهنة عليه.
واستمرَّ العقل في باقي العلوم مثل علم التفسير في التفسير بالمعقول في مقابل التفسير بالمأثور كما فعل الزمخشري في «الكشاف»، وفي علم السيرة عند كُتاب السيرة المحدثين مثل طه حسين في «على هامش السيرة»، ومحمد حسين هيكل في «حياة محمد» وفي «في منزل الوحي»، وعبد الرحمن الشرقاوي في «محمد رسول الحرية»، والعقاد في «عبقرية محمد»، وخالد محمد خالد في «محمد». وفي علوم اللغة اعتمد البصريون على العقل في القياس اللغوي، فلا توجد حضارة قامت على العقل وعظَّمته كما فعلت الحضارة الإسلامية؛ ففيمَ الخلاف بين العقل كقيمة إسلامية وبين شعار العلمانية عن العقل والعقلانية والتنوير إلا في المصدر، الموروث أو الوافد؟
كما ترفع العلمانية شعار «العلم» وتعني بالعلم العالم الطبيعي وتطبيقاته في التقنية أكثر ممَّا تعني الرؤية العلمية للعالم؛ بل ويُقصر الشعار على العلم التجريبي في مقابل العلم الديني أو الميتافيزيقي أو حتى العقل؛ ممَّا سبَّب أزمةً في العلم، وشكًّا فيه كقيمة معرفية.
ولا توجد حضارة قامت على العلم كما قامت الحضارة الإسلامية، بل إن آلاف المخطوطات التي لم تُنشر بعد، وفي عصر ما قبل الطباعة ما زلنا غير قادرين على نشرها، ونعيش عليها وربما أقل إبداعًا منها. روح الحضارة الإسلامية روح العلم، فلم يتوقف ابن رشد عن القراءة والكتابة طيلة حياته، وكما تروي الآثار، إلا ليلتين: ليلة وفاة أبيه وليلة البناء على أهله. ومات الجاحظ بعد أن وقعت مكتبته عليه كما تخبر الروايات. ووقت احتضار البيروني ظل يرسم بأصبعه دوائر وخطوطًا في الهواء، فأن يموت عالمًا بمسألة رياضية خير من أن يموت جاهلًا بها!
وقد ذُكر لفظ العلم ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي ثمانمائة مرة؛ أي ست عشرة مرة أكثر من العقل؛ فالعلم أول صفة للذات الإلهية، وأول فعل إدراك للذات الإنسانية. وأحاديث فضل العلم لا حصر لها، بل إن كل كتب الحديث تبدأ بكتاب العلم وبكتاب الإيمان. وكل علم من العلوم الإسلامية يبدأ بفضل العلم كما هو الحال في «إحياء علوم الدين» للغزالي، وعشرات الكتب تتحدث عن «بيان العلم وفضله»، وساعة علم خير من عبادة الله سبعين سنةً كما تروي الآثار، والعلماء ورثة الأنبياء، ويمدح القرآن الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. والعلم قارٌّ في صدور العلماء، لا ينتزعه الله مباشرة، إنما ينتهي بانقضاء العلماء.
ويبدأ علم أصول الدين بوضع أصول للعلم قبل الحديث عن قواعد الإيمان؛ فالحديث عن العلم يسبق الحديث عن المعلوم، والسؤال: كيف أعلم؟ سابق على سؤال: ماذا أعلم؟ والعلم فطري ومكتسب، بديهي واستدلالي، عقلي وحسي، وجداني ونظري، داخلي وخارجي. وكذلك يضع علم أصول الفقه مقدماته الأولى في منطق الاستدلال ومنطق اللغة؛ فالعلم تصور وتصديق، حد وبرهان. كما وضع الفلاسفة أصول العلم المنطقي والعلم الطبيعي والعلم الإلهي، وسمَّوها حكمة؛ فالعلم أحد أبعاد الوعي بالحقيقة. والعالم هو الفيلسوف، بل إن الصوفية أيضًا وضعوا قواعد العلم اللدني القائم على الكشف والإلهام، والمعاينة والمشافهة، من علم اليقين إلى حق اليقين إلى عين اليقين.
ولم يكتفِ القدماء بالعلم الديني وعلوم اللغة، بل انتقلوا منه إلى العلم الرياضي والعلم الطبيعي وعلوم الجغرافيا والتاريخ، ولا يوجد إبداع في العلوم الرياضية كما أبدع العرب القدماء إضافةً على إبداعات الصين والهند وفارس واليونان، وتضم العلومَ الرياضية الحساب والهندسة والفلك والموسيقى؛ الكاشاني في الحساب، وابن الهيثم في الهندسة، والبيروني في الفلك، والفارابي في الموسيقى، وجعل إخوان الصفا قسمًا بأكمله من رسائلهم في المنطق والرياضة.
ويضم العلم الطبيعي الكيمياء والطبيعة والطب والصيدلة والنبات والحيوان؛ الكيمياء عند جابر بن حيان، والطبيعة عند أبي بكر الرازي والكندي، والطب عند ابن سينا وابن رشد والرازي، والصيدلة عند ابن البيطار، والحيوان عند الدميري.
كما أن إبداعات القدماء في علوم الجغرافيا الطبيعية والبشرية ووصف طبقات الأرض والخرائط عند الإصطخري والإدريسي، ظلت قائمةً حتى الكشوف الجغرافية الحديثة في الغرب. أما علوم التاريخ والتدقيق في الرواية وكشف أخطاء المؤرخين فقد وضعها القدماء سواءً في الحوليات أو الطبقات أو في فلسفة التاريخ كما بدت عند ابن خلدون.
فإذا كان شعارَا العلمانية العقل والعلم، قد تم تحقيقهما في الثقافة العربية وفي التراث الإسلامي، ففيمَ الخلاف بين الشعارات العلمانية ومضامينها التراثية؟ ولماذا فَصْل العلوم الدينية والإنسانية عن مفهوم العلم الشامل وقصره على العلم الطبيعي كما هو الحال في الغرب؟ لقد خرجت العلوم الرياضية والطبيعية من ثنايا العلوم الدينية واللغوية؛ الحساب لمعرفة الشهور والأيام ومواقيت الحج وقوانين الميراث، والفلك لمعرفة أوقات الصلاة، والهندسة لمعرفة بناء القبلة والمساجد وعمارة الأرض، والموسيقى مرتبطة بأوزان الشعر وبموسيقى القرآن. كما ارتبطت العلوم الطبيعية بحاجات المسلمين وتوجيه القرآن العقل نحو النظر في الطبيعة والتدبر في آيات الخلق. فالآية نص وظاهرة، لفظ وشيء. وقد سخَّر الله الطبيعة لصالح البشر، وعليهم سبر أغوارها ومعرفة قوانينها؛ الطب لعلاج المصابين في الفتوحات، والكيمياء لصناعة السلاح، والنبات لصناعة الأدوية، والحيوان لإطعام الجنود. وكانت الرؤية الإنسانية الشاملة للعلم تحفظ العلوم الطبيعية من الوقوع في النظرة المادية للعلم الطبيعي أو الصورية للعلم الرياضي وكما وضح ذلك في علوم الحكمة ورسائل إخوان الصفا. وكان تصنيف العلوم في تراثنا القديم يضع العلوم كلها في منظومة شاملة كما فعل الفارابي في إحصاء العلوم بادئًا بعلوم اللسان ثم العلوم الرياضية ثم المنطق ثم العلم الطبيعي والإلهي ثم علوم الفقه والكلام والعلم المدني، لا فرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإلهية، ولا فرق بين العلوم الفقهية والعلوم الاجتماعية، كما صنَّفها ابن سينا في العلم النظري، الرياضية والطبيعة والمنطق، والعلم العملي، الأخلاق والسياسة والاقتصاد، لا فرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
فلماذا ترفع العلمانية شعار العلم بمعنى العلم الطبيعي وفصله عن باقي منظومة العلوم كما فعل القدماء؟
وهل تقليد الغرب أولى من إحياء القدماء؟
(٤) الشعارات العلمانية (٢)٤
إذا كانت العلمانية ترفع شعار «العقل» و«العلم» فإنها أيضًا ترفع شعار «الحرية» و«الإنسان»، فإلى أي حدٍّ هذان الشعاران الأخيران خاصان بالعلمانية وحدها أم إنها شعارات إنسانية عامة موجودة في كل ثقافة حتى لو اختلفت الألفاظ؟
إن نقد العلمانية الدائم للثقافة الإسلامية والتراث القديم هو أن مفهوم الحرية لم يرد فيه إلا في مقابل «العبودية»، ومن ثم غاب مفهوم الحرية من ثقافتنا الإسلامية في حين أبدعته الحضارة الغربية، وناضلت من أجله منذ محاكم التفتيش حتى انتصاره في الثورة الفرنسية في شعاراتها الثلاثة: الحرية، والإخاء، والمساواة.
والحقيقة أن هذا النقد يخلط بين اللفظ والمعنى، بين الشكل والمضمون؛ فبالرغم من عدم ظهور لفظ «الحرية» إلا في مقابل «العبودية» في الفقه القديم، الحر في مقابل العبد، إلا أن مدلوله يظل واردًا، عدم جواز استعباد الإنسان للإنسان، فحرية الوجود الإنساني سابقة على حرية الاختيار في الأفعال؛ فالوجود أعم وأشمل من الاختيار. وقد أتى الإسلام لتحرير العبيد في عصر كانت العبودية فيه نظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا عند الفرس والرومان. وأراد الإسلام نزع العبودية من الشعور، بتقرير المساواة بين البشر جميعًا في الإيمان والشهادة والأخوة وعدم التفاضل، والعلم وسيلة للتحرر؛ إذ لا يجوز استرقاق من يعرف القراءة والكتابة وأصبح في أول طريق العلم، ولا يجوز استرقاق الأمة بعد أن تحمل وتلد؛ فالحرية شرط لتعليم الأطفال، حرية الأمهات ضرورة لتربية الأبناء. وإذا ما اقترف الحر ذنبًا فعليه تحرير رقبة، ذنبًا بذنب، ولا يُكفِّر عن ذنب إلا رفعُ ذنب. والأغنياء الذين يكنزون المال عليهم شراء العبيد لتحريرهم؛ فحرية الإنسان أولى من كنوز الأرض؛ فالحرية بهذا المعنى تحرُّر للإنسان، وعلامة على طريق تحرير الإنسانية كلها من نظام الرق الذي ظلَّ موجودًا حتى القرن الماضي في الحرب الأهلية الأمريكية. وما زال استرقاق الشعوب قائمًا فيما تبقَّى من استعمار، واسترقاق الأُجَراء فيما تبقَّى من نُظم.
ثم ظهرت حرية الاختيار في علم أصول الدين في تراثنا القديم خاصةً في التراث الاعتزالي في خلق الأفعال؛ فبعد التوحيد، تفرد الله بالذات والصفات، يثبت العدل وهو حرية الإنسان وعقله؛ فالإنسان يتم إثباته من خلال التوحيد بفعل حر، «أنا حر فأنا إذن موجود» في مقابل الكوجيتو الديكارتي «أنا مفكر فأنا إذن موجود.» وجود الإنسان في تراثنا الإسلامي يثبت بالحرية في حين أن وجوده في التراث الغربي يثبت بالفكر. ولما كانت الحرية في حاجة إلى سند عقلي للاختيار بين الخير والشر، والتمييز بين الحسن والقبح أتى العقل سندًا للحرية؛ لذلك كان الإنسان عند المعتزلة حرًّا عاقلًا مسئولًا.
وفي الفلسفة في تراثنا القديم التي هي تطوير للاعتزال وإعمال العقل تأكَّدت الحرية الإنسانية في إطار الضرورة الكونية والحتمية التاريخية؛ فهناك قوانين طبيعية مستقلة عن الإنسان، وهي القوانين التي يحاول العلم الطبيعي معرفتها، وهي سنن الله في الكون والتي جعلته يخضع لنظام متقن لا خلل فيه، ولا فوضى تعتريه. والتاريخ مثل الطبيعة يخضع لقوانين حتمية أشبه بقوانين الأخلاق التي وراء قيام الأمم والشعوب وانهيارها في حالة التمسك بها أو التخلي عنها؛ فالحرية تتم وسط الضرورة وليس ضدها أو معها، وهو نفس التصور الذي ظهر عند اسبينوزا وهيجل وكورنو في الفلسفة الغربية.
وفي التصوف ظهرت الحرية باعتبارها تحررًا من قهر العالم والمجتمع، حرية الداخل قبل حرية الخارج، وحرية الفرد قبل حرية المجتمع. وهو المعنى القرآني لمصطلح العبودية لله وليس لأحد سواه، التحرر من سلطان البشر والعبودية لله وحده، وشهادة «لا إله إلا الله» تحمل أكبر قدر ممكن من الحرية والتحرر؛ فالشهادة إعلان دون كتمان، وتصريح دون تلميح حتى لو أدَّت الشهادة باللسان إلى شهادة بالفعل، وأصبح الشاهد شهيدًا.
وتتضمن الشهادة فعلين؛ إيجابي وسلبي. السلبي في «لا إله»؛ أي نفي كل آلهة العصر المزيفة: المال، والجاه، والسلطة، والشهرة، والمنصب، والإغراء، والغرور … إلخ، حتى يطهر القلب من كل قيد، ويُبعِد الإنسان عن نفسه كل خوف وتقية وكل ازدواجية، يُظهر غير ما يُبطن، ويُبطن غير ما يُظهر، والإيجابي في «إلا الله»؛ أي إثبات الله الواحد الحق الذي يتساوى أمامه الجميع بلا تفاوت بين الناس لعرق أو لون أو طائفة أو قبيلة أو عشيرة.
وهذا أيضًا هو شعار «الله أكبر»، شعار يُرفع على كل من طغى وتكبَّر، وأراد أن يساوي نفسه بالله في الغلبة والسلطان؛ فالله أكبر من كل من يطغى ويتجبر حفاظًا على حرية البشر، والمساواة بين الناس. وهذه الحرية للجميع والمساواة أساس المباهلة قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (٣: ٦٤).
فكيف تقتصر الحرية على الثقافة الغربية وتخلو منها الثقافة الإسلامية؟ اللفظ موجود، والمعنى متضمَّن في ألفاظ أخرى. فلماذا لا تحاول العلمانية أن تأخذ موقفًا نقديًّا من الغرب دون تقليده؟ لماذا ترفض تقليد القدماء وتقع في تقليد المحدثين؟ لماذا لا تجتهد في البحث عن الحرية، تلك الضرورة للعصر، سواء في تراثنا القديم أو في التراث الغربي دون رفض لأحدهما وتقليد للآخر؟
وبالرغم من التصاق الحرية بالفكر الغربي منذ ديكارت حتى سارتر حتى أصبحت الليبرالية عنوانًا له إلا أنها ارتبطت بالفردية دون النظر إلى حرية الآخرين ومصلحة الجماعة أحيانًا، كما غابت عنها القيم نظرًا لأنها قيمة في ذاتها، وقيمة مطلقة ترفض أن تكون لها مراعاة لمنظومة قيم أخرى أعلى منها احترامًا للآخرين أو للطبيعة؛ لذلك أدَّت أحيانًا إلى الاستغلال والاحتكار كما وضح في النظم الرأسمالية وإلى الحروب باسم التفوق العنصري. كما أدَّت إلى تلوث البيئة دون احترام للطبيعة وحرية الأحياء؛ لذلك أصبحت حريةً عادمة.
والشعار الثاني للعلمانية شعار «الإنسان» الذي بدأت به العصور الحديثة في الغرب باسم «النزعة الإنسانية» عند أراسموس في القرن السادس عشر وحتى الوجودية باعتبارها فلسفةً إنسانية في القرن العشرين، وأذاعت الحضارة الغربية من خلال سيطرتها على أجهزة الإعلام أنها هي الحضارة الإنسانية الوحيدة، وأنها هي التي صاغت «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن» في حين عرفت الحضارات اللاغربية حقوق الله وحقوق السلطان.
والحقيقة أنه لا توجد حضارة إلا وبها نزعة إنسانية، سواء في الصين أو الهند أو فارس أو حضارات ما بين النهرين، سواءً باللفظ أو بالمعنى. كونفوشيوس، وبوذا، وزرادشت، وحمورابي، مفكرون وقادة، فلاسفة ومشرعون، كلهم قصدوا الإنسان كغاية للفكر والتشريع.
والحضارة الإسلامية ليست بدعًا في ذلك؛ فقد ذكر القرآن الكريم الإنسان حوالي خمسًا وستين مرةً للإشارة إلى خلق الإنسان، وتكوينه النفسي، والتحذير من أعدائه الذين يُنكرونه، ومسئوليته والأمانة التي حملها ورفضتها الأرض والسموات والجبال، وكماله وبره وتكريمه في السموات والأرض.
وقد ظهر الإنسان والتاريخ محورين أساسيين في علم أصول الدين، الإنسان الكامل في التوحيد، الذات والصفات والأفعال والأسماء، وقيم العلم والقدرة والحياة وما تدل عليه الأسماء الإلهية من مُثُل عليا إنسانية. كما ظهر الإنسان في العدل، الإنسان المتعين بالعقل والإرادة.
وظهر الإنسان العامل في علم أصول الفقه، الإنسان بأفعاله الضرورية الإيجابية والسلبية في الفرض والحرام، والاختيارية في المندوب والمكروه، والحرة الطبيعية في المباح، وهو الإنسان الفاعل في الدنيا كوسيلة لتحقيق الشريعة على الأرض. وهذه الشريعة نفسها لها مقاصد إنسانية عامة؛ الحياة (النفس)، والعقل، والحقيقة (الدين)، والعرض، والثروة (المال)؛ فالإسلام له أيضًا إعلانه العالمي عن حقوق الإنسان، وأكمله نضالنا بإعلان ثانٍ عن حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال.
كما ظهر الإنسان في علوم الحكمة خاصةً عند الفارابي، الإنسان العاقل الفاضل السعيد الذي يعرف الحق ويعمل به. وهو الحامل للفضائل مثل الحكمة والعدالة والعفة كما وضح ذلك عند مسكويه. وهو المواطن في أمة، الفرد في مجتمع، حكيم البشرية.
وظهر في التصوف، الإنسان الوجداني العاطفي الذي ينفعل بالحق ويُخلص له، بين الإقدام والإحجام، التقدم والنكوص، الحركة الدائبة نحو الكمال ليتحقَّق بمثل الإنسان الكامل، شيخًا أو مريدًا، قطبًا أو بدلًا.
فلماذا تقصر العلمانية قيمة الإنسان عليها وحدها، تقليدًا للغرب، ولا تحفر في التراث القديم لعلَّها تجد ما تحتاجه، فتُحدث التغيرَ من خلال التواصل وليس الانقطاع؟ ولماذا يتم تقليد النزعة الإنسانية في الغرب، والإنسان في الغرب هو الإنسان الفردي، مقياس كل شيء؟ وهي قيمة نسبية، ومن ثم انتهى إلى الشك واللاأدرية والعدمية. لماذا الازدواجية في القيم الإنسانية، تُطبق داخل الغرب وتُخرق خارجه؟ فالحرية والإنسانية للغربي، ولغير الغربي العبودية والقضاء على الإنسان الأفريقي الآسيوي الأمريكي اللاتيني.
إن استئثار العلمانية بقيمتَي الحرية والإنسانية نوع من الغرور الغربي من داخله والتبعية له من خارجه، وظلم لباقي ثقافات الشعوب وحضارات الأمم. واتهام الثقافة الإسلامية بأنها لم تعرف إلا العبودية والألوهية كما أوضح المودودي في «المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم» مع الربوبية والحاكمية لَرؤيةُ الحقيقة من جانب واحد؛ الإلهية لنا، والإنسانية للغرب، الإلهية دون الإنسانية وقوع في القهر، والإنسانية دون الإلهية وقوع في النسبية، الإنسان هو القصد، والألوهية هي التي تحفظ للإنسان شموله وعمومه بحيث يكون ممثلًا للإنسانية جمعاء.
(٥) الشعارات العلمانية (٣)٥
وإذا كانت العلمانية قد رفعت شعارات «العقل» و«العلم» و«الإنسان» و«الحرية» فإنها رفعت أيضًا شعارَي «المجتمع» و«التقدم»، وكلها تجعل مُثلَ التنويرُ مُثلًا علمانيةً صرفة، لا يشاركها فيها أحد من التيارات الفكرية الأخرى خاصةً ولو كانت متصلة بالدين؛ لأنها شعارات أتت مناهضةً للدين طبقًا لتجربة الغرب مع المسيحية الغربية في مطلع العصور الحديثة، الإصلاح الديني وعصر النهضة.
ويتضمن شعار «المجتمع» عدة شعارات أخرى مثل المساواة، والعدالة الاجتماعية من الناحية الاقتصادية، والديمقراطية والعقد الاجتماعي من الناحية السياسية، والقانون الوضعي وحقوق الإنسان من الناحية القانونية.
ومنذ مبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة الشهيرة، بدا شعارا الإخاء والمساواة على أساس أنهما بناء اجتماعي جديد يرفض اللامساواة والتفاوت الطبقي كما كان الحال في المجتمع الإقطاعي، ولكن تشكيل المجتمع الرأسمالي في القرن التاسع عشر القائم على الربح أدَّى إلى ظهور الأيديولوجيات الاشتراكية الطوباوية والأخلاقية والدينية والعلمية دفاعًا عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، بل إن المجتمعات الرأسمالية ذاتها تبنَّت كثيرًا من المبادئ الاشتراكية لتحقيق المساواة بين المواطنين مثل قوانين العمل والتكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة والعجز والشيخوخة إلى آخر ما هو معروف باسم الاشتراكية الاسكندنافية. وقامت ثورات اشتراكية كبرى في الغرب مثل ثورة ١٩١٧م في روسيا دفاعًا عن شعارَي المساواة والعدالة الاجتماعية.
والسؤال الآن: لماذا يقتصر هذا الشعار على العلمانية وحدها؟ ألَا يوجد في كل ثقافة غربية أو شرقية، تقليدية أو علمانية؟ فإذا أخذنا التراث الإسلامي نموذجًا، ألم تظهر قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي في ثناياه؟ وماذا عن الأحاديث النبوية الكثيرة في ذلك مثل: «الناس سواسية كأسنان المشط»، و«أنا شهيد على أن عباد الله إخوان»، «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ»، وكل الأدبيات التي برزت في الستينيات عن الإسلام والاشتراكية، سواء نصوص القرآن أو الأحاديث أو نظريات الاستخلاف والعلاقة بين العمل والقيمة، والملكية العامة لوسائل الإنتاج التي تمس الصالح العام مثل الماء والكلأ والنار بالعقلية الصحراوية؛ أي الزراعة والصناعة بالمعنى الحديث؟ وقد برزت عند المصلحين المحدثين أقاويل عمر وأبي ذر الغفاري مثل: «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه»، أو «والله لو كان الفقر رجلًا لقتلته»، وزيادة الأفغاني: «عجبت لك أيها الفلاح تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك.» فلماذا تقتصر شعارات المساواة والإخاء والعدالة الاجتماعية على العلمانية الغربية وحدها إلا تقليدًا للغرب ونسيانًا للتراث؟
كما يتضمن شعار المجتمع العلماني شعارَي «العقد الاجتماعي» و«الديمقراطية» بالمعنى الغربي؛ فالإنسان مواطن في مجتمع، والمجتمع مجتمع المواطنين، وليس قِنًّا عند إقطاعي أو من رعية عند ملك أو مؤمن في كنيسة. ويرتبط الإنسان بغيره عن طريق عقد اجتماعي يخوِّل به جزءًا من سلطته إلى ممثل لمجموع المواطنين لتحقيق مصالح المجموع طبقًا لمبدأ الانتخاب الحر، وأولوية الإرادة الجماعية على الإرادة الخاصة.
فلماذا يقتصر هذان الشعاران على العلمانية وحدها كما وردت من الغرب في الفكر العربي الحديث، والإصلاح الديني ما زال يُجدِّد ويجتهد لتحقيق غايات الأمة ابتداءً من موروثها الثقافي تحقيقًا للتغير من خلال التواصل وليس تقليدًا للغير من خلال الانقطاع؟ ألم ينص القرآن على الشورى؟ ألم يُحذِّر الحديث من التسلط والاستئثار بالرأي: «لا خاب من استشار»؟ لقد جعل علماء الأصول الإمامة عقدًا وبيعةً واختيارًا؛ فإمام المسلمين ممثل لهم في مصالحهم وليس ممثلًا عن الله أو نائبًا أو خليفة له، والخروج على الإمام الظالم واجب شرعي؛ لأن الإمام خرق العقد من طرفه بظلمه، ولم يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا إلى النصيحة.
ويتضمن شعار المجتمع مفهوم «القانون الوضعي» في مقابل الشريعة الإلهية، الإرادة العامة في مقابل الإرادة الإلهية. وقد كانت هذه تجربة الغرب عندما جعلت الكنيسة نفسها ممثلةً للإرادة الإلهية ولم تراعِ مصلحة الناس، فثار الناس عليها واضعين الإرادة الجماعية التي تُعبِّر عن مصالحهم ضد الإرادة الإلهية الممثَّلة في الكنيسة، وأصبح القانون الوضعي الذي يُعبِّر عن القانون الطبيعي الذي يُعبِّر بدوره عن حقوق الإنسان الطبيعية هو أساس القانون والدستور في المجتمع.
فلماذا يقتصر هذا الشعار «القانون الوضعي» على العلمانية الغربية وحدها؟ إن الشريعة الإسلامية كما قال الشاطبي في «الموافقات» شريعة وضعية تقوم على رعاية الضروريات الخمس: الحياة (النفس)، والعقل، والدين، والمال، والعرض، وهي حقوق الإنسان والمجتمع بالمعنى الحديث. والشريعة الإسلامية فطرية تتفق مع القدرة والأهلية، ليس فيها التكليف بما لا يُطاق، وترفع الحرج، والضرورات فيها تُبيح المحظورات. وهذه حكمة الشارع؛ لذلك يمكن استنباطها من العقل والمصلحة. العقل أساس القياس والمصلحة أساس التشريع.
وأخيرًا ترفع العلمانية شعار «التقدم»، وتجعل ما سواه من دعاة التخلف والعودة إلى الوراء، وتفخر العلمانية الغربية بأنها أنجبت للعالم مفهومين أساسيين في العصر الحديث، الإنسان والتقدم.
لقد حوَّل هردر العناية الإلهية من كونها صفةً لله كي تصبح قانونًا للتاريخ في القرن الثامن عشر، وأصبح بذلك مؤسس فلسفة التاريخ. وظهر التقدم محور التاريخ وقانون تطوره، من الدين إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل، ومن السماء إلى الأرض في إيقاع ثنائي، أو من الدين إلى الميتافيزيقا إلى العلم، ومن الآلهة إلى الأبطال إلى الإنسان، أو من الشرق إلى اليونان إلى الغرب في إيقاع ثلاثي. وهو تقدم في العقل والوعي؛ أي في الروح. وفي نفس الوقت هو تقدُّم في العلم ومعرفة العالم الخارجي. وهو ثالثًا تقدُّم في المجتمع من العبودية إلى الحرية، ومن الثيوقراطية إلى الديمقراطية، ومن حقوق الله إلى حقوق الإنسان.
فلماذا يقتصر شعار «التقدم» على العلمانية الغربية وحدها؟ أليس التقدم جوهر كل تاريخ، ومسار كل حضارة؛ فقد تحوَّل الدين من السماء إلى الأرض، ومن الله إلى الإنسان في التراث الشرقي القديم، في الصين من ديانات الصين القديم إلى كونفوشيوس ولاوتزي، وفي الهند من الهندوكية إلى البوذية، وعند اليونان من الأساطير إلى الفلسفة، وفي حضارات ما بين النهرين من الآلهة إلى قوانين حمورابي.
وقد عبَّر الإسلام عن جوهر التقدم بإعلانه نهاية تطور الوحي وختم النبوة من آدم حتى محمد مرورًا باليهودية والمسيحية. وختمُ الرسالة يعني أن الإنسان أصبح مستقلًّا عقلًا وإرادة، قادرًا على الفهم السليم والفعل الحر؛ فالوحي في جوهره قد ساهم في تقدُّم البشرية وساعدها في نضالها ضد الظلم والطغيان والتسلط والاستغلال حتى إعلان «لا إله إلا الله»، حرية البشر ومساواتهم جميعًا أمام مبدأ واحد. كما ظهر في العقائد مفهوم التقدم، ليس فقط في النبوة بل أيضًا في المعاد، واستعداد الإنسان للمستقبل وحياته في الآخرة بعد الحياة الدنيا. كما ظهر في عقائد المهدي وظهوره آخر الزمان حتى تمتلئ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا. وظهر التقدم في مصادر الشرع الأربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والاجتهاد. المصدران الأولان منقطعان، أما المصدران الأخيران فمتصلان ومتواصلان حتى يوم الدين، إجماع كل عصر واجتهاد كل مجتهد، والله يبعث على رأس كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها. كما عبَّر الصوفية عن الاتقاء الروحي، والتقدم الخلقي، وحوَّل ابن عربي ذلك إلى تجليات في التاريخ، خطوةً خطوة، من البداية إلى النهاية في «فصوص الحكم»؛ بل إن القرآن يشير صراحةً إلى السباق والتنافس في الخير وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (٥٦: ١٠)، ويستعمل لفظ التقدم لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٧٤: ٣٧). وقد حاول الفكر العربي الحديث إبراز مفهوم التقدم في سؤال شكيب أرسلان «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟» كما حاول الأفغاني وضع فلسفة للتاريخ تُعيد وضع المسلمين في مساره، وحاول تلميذه أديب إسحاق صياغة فلسفة في التقدم، ومحمد عبده في آخر «رسالة التوحيد» يُبين كيف انتشر الإسلام بسرعة لم يشهد لها التاريخ من قبل. فلماذا يقتصر شعار التقدم على العلمانية وحدها؟
إن مفهوم العودة إلى الوراء في الزمن الماضي هو أحد المفاهيم الموروثة بالفعل التي تجعل التاريخ متناقصًا في الكمال جيلًا وراء جيل، وتجعل العصر الذهبي إلى الوراء وليس إلى الأمام، وأن الإيمان يتناقص مع الزمن، ولكن هذا التصور كان باستمرار تصور السلطة السياسية دفاعًا عن نفسها ضد المعارضة. أما تصور المعارضة للتاريخ فكان يجعل المستقبل خيرًا من الماضي، وأن العدل سينتصر على الظلم مهما طال الزمن.
هذه الشعارات العلمانية أيضًا ليست خاليةً من العيوب إذا كانت وافدةً من الغرب؛ فلم تمنع من وقوعه في أبشع أنواع الاستغلال واقتصاد السوق القائم على الربح بالرغم من رفع شعار المساواة والعدالة الاجتماعية، ولم تمنع شعارات الديمقراطية والعقد الاجتماعي من ظهور النازية والفاشية والعنصرية ونظم التسلط والتحايل على القانون وتغييره طبقًا لموازين القوى وتبدل المصالح. كما انتهى مفهوم التقدم المطلق إلى نكوصٍ وإفلاسٍ وتشاؤمٍ والرغبة في العودة إلى الوراء ونمط الحياة البدائية البسيطة الساذجة في الفن والفكر وأساليب الحياة العامة؛ فقد حصل الغربي على التقدم ولكنه لم يحصل على السعادة، وكانت نهاية التقدم الانتحار واليأس والضياع والحرب وانتهاك حقوق الإنسان والتصنت على حياته الخاصة باسم التقدم في المعلومات.
إن الفكر العربي في مرحلته الراهنة في حاجة إلى نظرة نقدية لهذه الشعارات العلمانية عن طريق ردها إلى مصادرها ونشأتها في الغرب كتجربة خاصة لشعب خاص وبيان حدودها إذا ما انتقلت إلى غيرها من الثقافات. كما يحتاج الفكر العربي إلى أن يؤصِّل احتياجاته وغاياته في موروثه الثقافي لعله يستطيع أن يحقِّق التغير من خلال التواصل، وأن يبدع مرتين في نقد الثقافة الوافدة ونقد الثقافة الموروثة بدلًا من أن يقلِّد الوافد ويرفض الموروث.