الفصل السابع

السلفية والعلمانية (الاختلاف والاتفاق)

(١) الخلاف في المنهج١

إذا كان تحليل بعض الشعارات السلفية مثل «الحاكمية لله»، «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «تطبيق الشريعة الإسلامية» يؤدِّي إلى أنه من حيث مضمونها لا تختلف كثيرًا إذا حسن فهمها عن مقاصد الشعارات العلمانية، كما أن تحليل بعض الشعارات العلمانية مثل «العقل»، «العلم»، «الإنسان»، «الحرية»، «المجتمع»، «التقدم»، قد انتهى إلى أن معانيها موجودة في التراث الإسلامي القديم، ففيمَ الخلاف إذن بين السلفية والعلمانية؛ هذا الخلاف الذي انتهى إلى اقتتال دموي بين الإخوة الأعداء في مصر والجزائر والبحرين، مكبوتًا في سوريا والعراق، وسلميًّا في تونس والكويت واليمن وشبه الجزيرة العربية والأردن؟

قد يكون الخلاف في المنهج؛ يستعمل السلفيون المنهج النازل، وهو المنهج النصي الذي يبدأ من النص إلى الواقع، واستنباط الحقيقة المطلقة من النص الحرفي من أجل تطبيقها على واقع جزئي؛ فالحقيقة معطاة سلفًا، ومدونة في نص مسبق، خارج التاريخ، وخارج الزمان والمكان، واضحة لا تحتاج إلى تفسير، وبينة لا تحتاج إلى تأويل. لا تستدعي تأملًا أو نظرًا. كلها محكمات ولا متشابه فيها؛ لأنها تتعلق بأفعال العباد، وتُقيم أحكامًا لا شك فيها ولا تردُّد. وقد صلح هذا المنهج في الماضي، فلماذا لا يصلح في الحاضر؟ ألَا يصلح هذه الأمة ما صلح به أولها؟

والحقيقة أن هذا المنهج بالرغم من صوابه من حيث المبدأ إلا أنه من حيث الواقع والاستعمال في حاجة إلى مزيد من التدقيق والتفصيل؛ فالحقائق لا تستنبط من مبادئ ومصادرات سابقة فحسب، بل تستقرئ من الواقع، وتحصي من جزئياته أيضًا؛ فالاستقراء مكمل للاستنباط ومدعِّم له، والتأويل؛ أي المنهج الصاعد، الوجه الآخر للتنزيل؛ أي المنهج النازل، والشريعة أخت الحكمة، والدين متفق مع الفلسفة كما قال الفلاسفة القدماء.

والنص نفسه ليس مجرد مصدر مطلق خارج الزمان والمكان وخارج السياق والفهم الإنساني؛ فالنص له سبب نزول. النص إجابة على سؤال يطرحه الواقع، ويجتهد الناس في العثور على إجابات له، ويأتي الوحي مصدقًا لإحداها بعد أن يحتار الناس، وغالبًا ما يكون رأي عمر الذي كان يمدحه الرسول لتصديق الوحي له؛ فالمنهج القرآني: أن السؤال يأتي من الواقع والوحي يُجيب عليه؛ لذلك تبدأ كثير من الآيات بلفظ يَسْأَلُونَكَ عن الخمر، وعن الميسر، وعن الأهلَّة وعن الروح، والإجابات تبدأ بلفظ قُلْ إجابةً على السؤال، وتلك ميزة الوحي الإسلامي الذي نزل «منجمًا» أو «مفرقًا» كي يقرأه الناس على مهل. وقد كانت أمنية الكفار أن ينزَّل القرآن جملةً واحدة حتى لا يخاطب الواقع ويجيب على أسئلته المتتالية؛ فالنص والواقع واجهتان لشيء واحد؛ النص بدون واقع كما تفعل الحركة السلفية طاقة مُبدَّدة في الهواء، والواقع دون نص كما تفعل الحركة العلمانية قد يوقع في النسبية.

وعيب المنهج النازل أيضًا أنه يُستخدم لإدانة الواقع ورفضه واستبعاده بل واستبداله، فلا مصالحة بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين الهداية والضلال، بين الإسلام والجاهلية كما يبدو ذلك في كتابات المودودي؛ نظرًا لظروف اضطهاد المسلمين في الهند، وفي كتابات سيد قطب الأخيرة؛ نظرًا لظروف اضطهاده وتعذيبه في السجن. في حين أن الواقع ليس كله خطأً وزيفًا وضلالًا وبهتانًا. الواقع في بعض جوانبه هو ميدان الفطرة والحس السليم والطبيعة الخيرة. الواقع يحتاج إلى إكمال وليس إلى إدانة، إلى إصلاح وليس إلى هدم، إلى تطوير وليس إلى استبعاد. كان هذا هو المنهج الإسلامي في تعامله مع واقع شبه الجزيرة العربية، مع اليهودية والنصرانية والحنيفية، دين إبراهيم للإكمال والتطوير. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (٥: ٣).

كما يتم انتزاع النص من سياقه؛ فالنص جزء من كلٍّ، ولا يُفهم النص إلا مع غيره من النصوص دون انتقاء؛ فنصوص الأحكام جزء صغير من مجموع النصوص. والحدود جزء صغير من الأحكام، وليست كل النصوص أوامر ونواهي تتوعد بالعقاب، وتنذر بالثبور، هناك نصوص أخرى تحث على الرحمة والشفقة واللين والرفق وحسن المعاملة ولطف المعاشرة، واستبعاد الفظاظة والغلظة وسوء المعاملة والاغتياب والتنابز بالألقاب، وأكل لحم الأخ الميت.

كما أن النص لغة، واللغة في حاجة إلى فهم وتفسير وتأويل. اللغة بها حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤول، محكم ومتشابه، مجمل ومبين، مطلق ومقيد. الكتاب لا ينطق إنما ينطق به الرجال؛ لذلك تجاوز المعتزلة والفلاسفة والصوفية قديمًا المعنى الحرفي للقرآن من أجل فهم مقاصده وغاياته. وروح النص، ما سماه القدماء فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، أدل على المعنى من حرف النص.

بهذا الفهم للمنهج النازل، المنهج النصي، التفسير الحرفي، وانتقاء النص يقترب السلفيون من العلمانيين، ولا يستبعد العلمانيون السلفيين؛ فلكل من الفريقين نص وواقع، إنما الخلاف في البداية وليس في النهاية.

ويستعمل العلمانيون المنهج الصاعد ويعني البداية بالواقع والإحصاء والاستقراء، وتحليل التجارب الفردية والاجتماعية، ورصد حوادث التاريخ؛ فلغة الأرقام أبلغ لغة، ولغة الإحصاء أكثر إقناعًا من الخطابة والإنشاء. ويعتمد الاستقراء على الحس السليم الذي يعطي الأرقام للتحليل الإحصائي؛ أي للعقل السليم، وباجتماع مادة الواقع وتحليل العقل تتم صياغة الحجة ويُقام البرهان، لا يبدأ من أحكام مسبقة، ولا يستنبط نتائجه من نصوص سلفًا، بل يعتمد على الملاحظة والمشاهدة، ويستقرئ القوانين الاجتماعية من الواقع وتحديده كمًّا بالأرقام والمعادلات والنسب ومعاملات الارتباط والتحليل العاملي.

والحقيقة أن هذا المنهج يُفيد في تصوير الواقع، ويُحوِّل الخطابة والشعار إلى كمٍّ وأرقام، ومع ذلك فالأرقام قد تخطئ إذا ما كان الإحصاء ناقصًا أو كان غير دال. وقد تكون العينة العشوائية غير ممثلة للمجموع؛ فالإحصاء مثل الاستقراء لا يكون إلا ناقصًا؛ لأنه لا يمكن إحصاء الكل، ويُكتفى بعينة منه. كما أن التحليل الكمي لا يكون كافيًا دون قراءة كيفية. وقد تخطئ القراءة وتتعدد القراءات. وهنا تتدخل المذاهب الفكرية والأيديولوجيات السياسية في توجيه القراءات وكأن المعرفة العلمية تحتاج أيضًا إلى نص أو مصادرة أو بعض الافتراضات المسبقة. كما قد يكتفي الرصد بالوصف والتحليل والفهم والمعرفة دون إعطاء آليات للتغيير والتطوير على عكس السلفيين الذين يبدءون بتوجيه النص نحو الواقع من أجل التغيير حتى دون تأويل للنص أو رصد لمكونات الواقع كما هو الحال في أساليب الدعاة والمصلحين النقليين مثل محمد بن عبد الوهاب منذ قرنين ونصف من الزمان.

فالمنهج النازل الذي يستعمله السلفيون والمنهج الصاعد الذي يستعمله العلمانيون هو أحد الأسباب في هذا الخلاف بين التيارين الرئيسيين المكونين لثقافة الأمة. ولمَّا كان «التنزيل» و«التأويل»؛ أي النزول والصعود، حركتين لمنهج واحد متكامل يمكن إذن عقد حوار ثقافي وسياسي وطني بين الفريقين؛ فالمنهجان متمايزان ولكنهما متكاملان. التنزيل في حاجة إلى تأويل، والتأويل في حاجة إلى تنزيل. كل منهج يتضمن المنهج الآخر في باطنه ويعتمد عليه. المنهج الأول هو الوجه الآخر للمنهج الثاني، والمنهج الثاني هو الوجه الآخر للمنهج الأول. ووحدة المنهج شرط لوحدة الفكر، وطريق إلى رفع العداوة بين الفريقين المتقاتلين. كلاهما يعمل في وطن واحد، وربما لتحقيق غاية واحدة، المصلحة الوطنية العامة مع تكامل المنهجين وليس تعارضهما، ووحدة الهدف والقصد تسمح بتعدد الطرق والوسائل.

وقد تحقَّقت هذه الوحدة المنهجية في المنهج الأصولي كما حدَّده القدماء وكما وضعه بعض المناطقة المحدثين؛ إذ يجمع المنهج الأصولي بين الأصل والفرع؛ أي بين الاستنباط والاستقراء، بين المنهج النازل والمنهج الصاعد، بين النص والواقع؛ فالأصل هو النص المعروف، الحكم والعلة. ولا يُعرف إلا بتحليل النص لغةً وسبب نزول ونسخًا وعلةً منصوصًا عليها فيه. ولا يُعرَف الفرع إلا بتجربة ورصد وتحليل للعلل المؤثرة أو الفاعلة أو المناسبة في العالم الخارجي. فإذا ما كانت العلة في الأصل والمعروفة بالاستنباط متفقةً مع العلة في الفرع والمعروفة بالاستقراء أخذ الفرع علة الحكم؛ لذلك عرَّف الأصوليون القياس بأنه «تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة».

كل معرفة في حاجة إلى أصلين: ثابت ومتحول، ويختلف الفلاسفة في نوع الثبات بين النص الديني، والنص المذهبي، والمصادرة المنطقية، والمقدمة القياسية. ولا خلاف في التحول الذي هو الواقع الاجتماعي، وأن رصد الواقع الاجتماعي كما يقوم به السلفيون والعلمانيون لا خلاف عليه: الاستعمار، والتخلف، والقهر، والتجزئة، والفساد، والتميع، وضياع الهُوية، وسلبية الجماهير. إنما الخلاف في وسائل الفهم وطرق العلاج.

الخلاف في المنهج وارد نظرًا لتعدد المناهج، ولكن التعصب المنهجي يضر بالموضوع؛ فالمهم النتيجة وآليات التغيير، تعددية المناهج واردة ولكن التضارب بينها يشق ثقافة الأمة؛ لذلك تتكامل المناهج حتى يصحِّح بعضها البعض الآخر. المنهج في النهاية وجهة نظر، وطريقة اقتراب من الواقع. المنهج أداة وليس غاية، وسيلة وليس نتيجة. الخلاف في المنهج ليس خصامًا واقتتالًا بل تكامل وتمايز. وإذا قرَّر القرآن أن لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (٥: ٤٨)، فإن منهج الأمة هو الجمع بين النص والواقع، بين التنزيل والتأويل. ففيمَ الخلاف، وفيمَ الخصام؟ ولماذا الاقتتال؟

(٢) الخلاف في اللغة٢

وبعد الخلاف في المنهج بين السلفيين والعلمانيين، استعمال السلفيين المنهج النازل، من النص إلى الواقع، واستعمال العلمانيين المنهج الصاعد، من الواقع إلى النص، قد يرجع الخلاف بين الفريقين المتناحرين إلى خلاف في اللغة؛ فاللغة هي العنوان الخارجي للجذب أو التنافر بين الناس، وبين الفرق المختلفة، وهي أداة الاتصال أو الانقطاع بين المتحاورين، وعادةً ما تكون محملةً بشحنة من المعاني الشائعة والمتضادة، يفهمها كل فريق بطريقة مخالفة فيقع الشقاق الذي ينتهي إلى خصام واستبعاد متبادل يصل إلى حد تكفير السلفيين للعلمانيين أو تخوين العلمانيين للسلفيين. اللغة هي الفكر والمعبر إليه، وكثيرًا ما يكون الاتفاق في الفكر ممكنًا والاتفاق على اللغة مستحيلًا، مع أن الحوار يتطلَّب الاتفاق على اللغة حتى يكون الفكر ممكنًا.

واللغة هي مجموعة الألفاظ المستعملة عند كل من الفريقين؛ فالجمل ألفاظ، والألفاظ شحنات للاستحسان أو الاستهجان، للتقارب أو للتباعد. اللفظ هو الثوب والمعنى هو الجسد، وكثيرًا ما يعبِّر لفظٌ قديم عن معنًى جديد أو يعبِّر لفظ جديد عن معنًى قديم. كما تتغيَّر معاني الألفاظ عبر العصور وتوالي الأجيال؛ فللألفاظ حياة وموت وبعث. تحليل الألفاظ إذن وعلاقتها بمعانيها وبالأشياء التي تشير إليها ضروري للحوار بين السلفيين والعلمانيين، الفريقين المتخاصمين في حياة الأمة.

يستعمل السلفيون ألفاظًا تقليدية تراثية قديمة، تأتي من العلوم الإسلامية في لحظة نشأتها وتكوينها وتطورها واكتمالها في القرون السبعة الأولى دون تطوير أو تغيير أو تبديل أو تحديث في القرون السبعة التالية، لا يفهمها إلا أهل الاختصاص في المعاهد الأزهرية والجامعات الدينية والمشايخ والعلماء ورجال الدين مثل الإيمان والكفر والشرك. وهي ألفاظ تتطلب البحث عن معانيها المتجددة؛ فقد يكون الإيمان بغير الله وهو مرذول، وقد يكون الكفر بالطاغوت وهو محمود، وقد يكون الشرك بالله مع السلطة والجاه والمال والشهرة وملذات الحياة وهو مرذول، وقد يكون التوحيد في الشخص وفي المجتمع وفي الإنسانية وهو محمود. فاستعمال مثل هذه الألفاظ دون بيان معانيها يجعل الخطاب السلفي تقليديًّا في مواجهة خطاب علماني عصري، فيستحيل الحوار نظرًا لبعد المسافة الزمنية للخطابين، ما يزيد على ألف عام.

وقد تكون الألفاظ عقائديةً قطعية مغلقة لا تقبل الحوار، ألفاظ تطلب التسليم والطاعة والإيمان المطلق دون إعمال للعقل والفكر ودون تساؤل أو نقاش، وذلك مثل ألفاظ الدين والإسلام؛ فقد جرت العادة فهم الدين في مقابل الدنيا، يتعلق بعالم الغيب أكثر ممَّا يتعلق بعالم المشاهدة. مع أن الدين في معناه الإسلامي يشمل الدنيا وعالم الشهادة والواقع والمجتمع والناس والمصالح وكل ما يتحدث فيه العلماني. كما أن الإسلام كلفظ في التداول يوحي بمعنى الدين الذي أتى به آخر الأنبياء والذي يُطلَق بسببه على معتنقيه اسم المسلمين. مع أن الإسلام قد يعني الدين الفطري الطبيعي العقلي الشامل، دين البراءة الأصلية، الدين الواحد منذ آدم ونوح وإبراهيم حتى موسى وعيسى ومحمد. وقد يشمل أيضًا كل من يؤمن بالله ويعمل صالحًا، ومن ثم يتسع مفهوم الإسلام ليشمل غيره من الديانات بما في ذلك ديانات الشرق. ليس الإسلام إذن دين جماعة أو طائفة أو فرقة، بل هو دين البشر جميعًا، وهو ما يحاول العلمانيون الاقتراب منه.

وقد تكون الألفاظ غيبيةً تتعلق بعالم الغيب أكثر مما تتعلق بعالم الشهادة، وبأمور الآخرة أكثر مما تتعلق بأمور الدنيا، وبما يحدث للإنسان بعد الموت أكثر مما يحدث للإنسان قبل الموت. فيكثر الحديث عن الجن والملائكة، والصراط والميزان والحوض، والجنة والنار والأعراف؛ ممَّا يبعد الخطاب السلفي عن شئون الواقع والمجتمع، ويجعل العلماني يتساءل عن جدوى الغيب والحديث فيه والعالم في أزمة، ولبنان تُذبح، والشيشان تُستشهد، والجائع يموت، ويُفضِّل الحديث عن الظلم والعدل، والعدوان والنضال، وهي معانٍ قد تكون مطويةً في بعض الألفاظ السلفية ورموزها الأخروية.

وقد تكون الألفاظ قانونيةً إلزامية تتطلَّب الواجب والفرض، طاعةً دون تردد، وتطبيقًا دون تساؤل، كما يعبِّر أحيانًا الخطاب السلفي عن ذلك باسم تطبيق الشريعة الإسلامية. فكل شريعة فرض، وكل أمر واجب، وتطبيق الحدود لا مفر منه حتى يتحول الخطاب السلفي أحيانًا إلى نوع من القمع والإرهاب للدولة وللناس تخويفًا للسلطة والشعب. مع أن هذه الألفاظ لا تُغفل الحرية الإنسانية والاختيار الحر، وازدهار الطبيعة وتلقائيتها؛ فالواجب ما تقبله النفس طواعيةً مثل أداء الأفعال في أوقاتها والنهي عما تعافه النفس بطبعها مثل عدم إزهاق الروح. وتطبيق الشريعة أن تعطي الحقوق قبل أن تطالب بالواجبات، ومن ثم تقترب معاني الألفاظ من الخطاب العلماني إلى حد كبير.

وقد تكون الألفاظ سلبيةً منعكفة على الذات، توحي بأن مشاكل الخارج في الداخل، وأن تغيير المجتمع يبدأ بتغيير الفرد، ومن ثم انتشرت في الخطاب السلفي ألفاظ التوكل والورع والخشية والخوف والزهد، والصبر والرضا والقناعة من الموروث الصوفي القديم. وقد أثارت هذه الألفاظ الخطاب العلماني وجعلته يُحدث رد فعل عليها بألفاظ مقابلة تدعو إلى العمل والجد والاجتهاد والسعي والثقة بالنفس والمطالبة بالحقوق، وهي معانٍ إسلامية بألفاظ حديثة.

أما الخطاب العلماني فإنه يستعمل في المقابل ألفاظًا حديثة نشأت من الوافد الثقافي الغربي وإن كانت معانيها في كثير منها لا تختلف عن معاني الألفاظ السلفية. تستعملها النخبة، وتنتشر في الأوساط الثقافية، وأصبحت اللغة الشائعة في الثقافة والسياسة والإعلام في الجامعات الوطنية خاصةً في كليات الحقوق والآداب، وهي ألفاظ مغرية للشباب، مفتوحة تدعو إلى الحوار في الداخل والخارج. بها قدر من العمومية والشمول. أصبحت شائعةً في كل الثقافات لدرجة أنها أصبحت نموذجًا للغة العالمية وللثقافة العالمية، للغة الإنسانية وللثقافة الإنسانية؛ فهي ألفاظ تحديثية تشير إلى التطور والتنمية والتخطيط والتجديد والتغيير والإصلاح. وهي ألفاظ ليست غريبةً على الفكر الديني الإصلاحي الحديث الذي هو حلقة الوصل بين السلفية والعلمانية. ولمَّا ضعف الإصلاح كما ضعفت الدولة ظهر التقابل بين الخطابين السلفي والعلماني، كما ظهر الصراع بين الجناحين الرئيسيين للدولة الوطنية.

وهي ألفاظ عقلية تدعو إلى التفكير والتأمل، وتطالب بالاستدلال والبرهان وتحكيم المنطق، فتجد لغةً مشتركة بين الناس يتم الحوار حولها وبها دون استبعاد أو استقصاء، وهي دعوة في لب الخطاب السلفي في أصوله الأولى حيث يدعو القرآن إلى إعمال العقل وطلب البرهان.

وهي ألفاظ اجتماعية واقعية تتحدث عن مصالح الناس؛ الفقر والجوع والقحط، القهر والكبت والحرمان، الإزاحة والتهميش والاستبعاد، العدل وتوزيع الدخل والأجور، الإسكان والمناطق العشوائية والنجوع، المواصلات والمجاري وسكان الأرصفة. وهل هذه المعاني والأوضاع بعيدة عن الخطاب السلفي والإسلام الاجتماعي السياسي؟ أليست المصلحة أساس التشريع؟

وهي ألفاظ طبيعية تلقائية تُعبِّر عن رغبة الإنسان والمجتمع في التحرر مثل الحرية والاستقلال، وتعترف بواقع البشر وحاجات الناس الأساسية. وهل هذه الألفاظ بعيدةً عن مقاصد الشريعة في الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال؟ أليست الشريعة الإسلامية شريعةً وضعية فطرية؟ ألم يضع علماء الأصول بعض القواعد التي تُعبِّر عن هذه المقاصد مثل: «الضرورات تبيح المحظورات»، «عدم جواز تكليف ما لا يُطاق»، «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»؟

وأخيرًا، هي ألفاظ إيجابية تدعو إلى النضال والتعمير والعمل والإنتاج والاستثمار، وهي معانٍ مطوية في الألفاظ القديمة مثل الجهاد والعمل والسعي والكد والاجتهاد، والاستخلاف في الأرض وإعمارها. فالمسافة بين اللغتين السلفية والعلمانية ليست بعيدةً ولا متناقضة.

وتوجد لغة ثالثة هي في نفس الوقت سلفية وعلمانية لا تحتاج إلى حوار، هي لغة مشتركة في أصول كل منهما مثل: الأرض، والشعب، والقوم، والفعل والعمل، والعقل والعلم، والطبيعة والفطرة، والجهاد ضد التخلف والارتكان إلى الأرض والقعود. فلماذا يأخذ كل خطاب الحد الأعلى ولا يأخذ الحد الأدنى في اللغة؟ لماذا يأخذ الألفاظ التي تبدو المسافة بينها شاسعةً ويترك الألفاظ المتقاربة التي تسمح بالالتقاء والحوار؟

إن من شروط الحوار وجود لغة مشتركة وألفاظ مقبولة عند الجميع حتى يمكن الانتقال من اللفظ إلى المعنى كخطوة إلى الانتقال من المعنى إلى الشيء؛ فالحوار في الواقع أبلغ وأقدر على توحيد الفكر واللغة من الحوار على مستوى الخطاب.

تلك كانت مهمة الفلاسفة قديمًا، استعمال الألفاظ الوافدة الجديدة بعد أن شاعت وتم استعمالها في ثقافة الحياة اليومية من أجل التعبير عن المعاني القديمة الموروثة دفاعًا عن وحدة الثقافة ودرءًا للازدواجية في الفكر، وخلقًا لخطاب ثالث يجمع بين القديم والجديد، ويوحِّد بين الوافد والموروث، ولا مشاحة في الألفاظ كما يقول ابن سينا ما دام المعنى الأصيل لم يتغير، في حين أن الثوب قد تغير، وهو اللفظ، دونما حرج في العقيدة أو في الشريعة؛ فالله أمكن التعبير عنه بألفاظ واجب الوجود، والذات، والعلة الأولى، والمحرك الأول، والصورة المحضة. ولا ضير من تعريب الألفاظ الوافدة إن استعصى نقلها إلى لغة عربية أصيلة، فنشأت ألفاظ الجغرافيا، والفلسفة، والموسيقى، والهندسة، كما تم تعريب ألفاظ الديمقراطية والليبرالية في ثقافتنا المعاصرة.

الخلاف بين السلفيين والعلمانيين هو إذن خلاف في لغة الخطاب وألفاظه التي تبدو متباعدة، في حين أن المعاني قد تكون متقاربة. فهل يمكن تجاوز اللفظ إلى المعنى، واللغة إلى القصد حتى يتحول الخصام إلى حوار، والخلاف إلى اتفاق، والاقتتال إلى مصالحة؟

(٣) الخلاف في القصد٣

إذا كان الخلاف بين العلمانيين والسلفيين في المنهج: المنهج الصاعد الذي يقوم على استقراء الوقائع والانتهاء إلى الحكم في مقابل المنهج النازل الذي يستنبط الحكم من النص، وكان الخلاف أيضًا في اللغة؛ اللغة الإنسانية المفتوحة العقلية في مقابل اللغة العقائدية التشريعية المغلقة، فإن الخلاف قد يبدو أيضًا في القصد.

ويعني القصد الغاية والهدف؛ فالفكر يتحدَّد بقصده وعلته الغائية. ويعني القصد أيضًا البؤرة والمركز والمحور الذي يحدد مصب التفكير وقلبه ومركزه. ويعني أيضًا المستوى؛ مستوى النظر والتفكير طبقًا لاتجاه الفكر إلى أعلى في الإلهيات أو إلى أسفل في الطبيعيات، أو إلى الأمام في الإنسانيات. ويعني أيضًا المنظور والرؤية؛ فالفكر اختيار لمنظور وتحديد لرؤية تضع تصورًا عامًّا يتكون حول القصد، وأن اختلاف المذاهب الفكرية والسياسية إنما هو خلاف في هذا القصد بالمعنى العام.

والخطاب السلفي — كما هو واضح من الكتابات المدونة والخطاب الشفاهي — خطاب يتمركز حول الله مدافعًا عنه، ومتحدثًا باسمه، ومعلنًا حقوقه وكأنها ضد الناس والبشر والواقع والتاريخ وليست معها. ويتحدث السلفي من موقع سلطة ومن مركز قوة، وهل هناك سلطة أعظم وقوة أكبر من سلطة الله وقوته؟! ولا يمكن الاعتراض عليه وإلا كان اعتراضًا على الله. ولا يمكن مناقشته أو التساؤل حوله وإلا كان ذلك ضعفًا في الإيمان وتشكيكًا في العقيدة، ولا يمكن إيجاد بديل لتفسيره وإلا كان كفرًا وإلحادًا يستوجب تطبيق حد الردة.

وهو خطاب ثنائي الطابع يقسم الوجود كله قسمين: الله والعالم، الآخرة والدنيا، الحياة والموت، الحق والباطل، الصواب والخطأ، الإيمان والكفر، الإسلام والجاهلية، الحلال والحرام، الرجل والمرأة، الهداية والضلال، التوفيق والخذلان، الطاعة والمعصية، الجنة والنار، الثواب والعقاب، الوعد والوعيد … إلخ. ويضع السلفي نفسه في الطرف الأول، وهو الطرف الحسن، ويضع الناس في الطرف الآخر، وهو الطرف القبيح، ومن ثم يستحيل الحوار؛ لأن على الطرف الأول ابتلاع الطرف الثاني أو إلغاءه والاستيلاء عليه، صلحًا أو عنوة، سلمًا أم حربًا، سلامًا أم سيفًا. وقد تتضاعف هذه الثنائية فتتدرَّج وتصبح تصورًا هرميًّا للعالم يتراوح بين الأعلى والأدنى، بين القمة والقاعدة، بين الأشرف والأخس، بين الأكمل والأنقص وكما هو واضح في النظام العنقودي في تنظيم الجماعات.

لذلك غلب على الخطاب السلفي التصور الرأسي، وتصور العلاقة بين الطرفين على نحو رأسي، رئيس ومرءوس، سيد وعبد، حاكم ومحكوم، إمام ومأموم، أمير ومأمور. ومن يرفض أن يكون عبدًا لله مطيعًا لأوامره خاشيًا عقابه؟ كما ظهر الخطاب السلفي خطاب عزة وجلال وسلطان وعُلُو، ومن يقبل الدنيَّة في دينه؟! وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٣: ١٩٩).

ويغلب على الخطاب العلماني أحيانًا النقيض؛ فهو خطاب يتمحور حول الإنسان والمجتمع والتاريخ البشري، وينتسب إلى «الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان والمواطن». هو خطاب علماني يبدأ من العالم وليس خطابًا دينيًّا لاهوتيًّا ثيوقراطيًّا يبدأ من الله، يدافع عن حقوق الإنسان المنتهَكة باسم الدين مرةً وباسم الدولة مرةً أخرى.

وهو خطاب واحدي لا يقوم على ثنائيات متعارضة بين طرفين كما هو الحال في الخطاب السلفي التقليدي، يستعمل ألفاظًا أحادية الجانب مثل القانون، المجتمع، المواطن، الأخلاق، السياسة … إلخ. لا يقسم العالم قسمين، أحدهما أفضل وأكمل وأشرف من الآخر؛ بل يأخذه وحدةً واحدة، الإنسان من حيث هو إنسان دون قسمته إلى بدن ونفس، والواقع باعتباره واقعًا دون قسمته بين حق وباطل، والسلوك باعتباره سلوكًا دون قسمته إلى حلال وحرام. وهو خطاب يرفض التراتبية والتصور الهرمي للعالم، ويضع كل الظواهر على مستوًى واحد من التحليل، دينية أو اجتماعية أو سياسية أو قانونية أو تاريخية أو فكرية فنية أدبية.

لذلك غلب على الخطاب العلماني التصور الأفقي للعالم، يضع الأطراف في المعادلة بين الأمام والخلف وليس بين الأعلى والأدنى، على نفس المستوى من الشرعية دون أفضل وأقل فضلًا، أكمل وأنقص، أشرف وأخس. فإذا كان الخطاب السلفي بتصوره الرأسي قد اكتشف الأبدية والخلود فإن الخطاب العلماني بتصوره الأفقي قد اكتشف التاريخ.

والآن: كيف يمكن عقد حوار بين هذين الخطابين السلفي والعلماني مع هذا الاختلاف في القصد؟ هل المسافة بينهما شاسعة للغاية لا يمكن عبورها أم إنها قريبة للغاية يسهل وصلها في ساحة واحدة وفضاء فكري واحد؟

إن الخطاب السلفي المتمركز على الله في حقيقة الأمر يمكنه أن يكتشف الحضور الإنساني البالغ فيه؛ فقد عبَّر الله عن نفسه واصفًا ذاته وصفاته وأفعاله بلغة البشر تقريبًا للأفهام. تتصف ذاته بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، وهي صفات إنسانية تقال في الذات الإلهية على نحو مطلق وفي الإنسان على نحو نسبي. وأسماء الله التسعة والتسعون كلها مُثُلٌ إنسانية عامة في العدل والرحمة والعزة والجلال والقسط والكرم والجود، والوحي نفسه كلام الله للبشر على لسان الرسول؛ فهو قصد من الله إلى الإنسان، وخطاب من الله إلى الإنسان. وقد وضح ذلك كله في علم الكلام دون مساس بالتنزيه أو وقوع في التشبيه.

وظهر البعد الإنساني في باقي العلوم النقلية العقلية الإسلامية، فلا توجد حضارة حلَّلت النفس البشرية وقواها قدر تحليل الحضارة الإسلامية وظهور البعد الإنساني وإسقاطه على مظاهر الطبيعة في النبات والحيوان وحتى الجماد، قوى التغذي والنمو والتوليد، وقوى الإدراك والحركة، وقوى الإرادة والنطق. وقد تجلَّى ذلك على خير وجه في رسائل إخوان الصفا.

كما تجلَّى البعد الإنساني في أصول الفقه في مقاصد الشريعة الخمسة: الحياة (النفس)، والعقل، والدين، والعرض، والمال. وقام علم القواعد الفقهية لتقنين حياة الإنسان باعتبارها المقصد الأسنى للشريعة مثل: لا ضرر ولا ضرار، عدم جواز تكليف ما لا يُطاق، رفع الحرج، درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، درء الحدود بالشبهات. كما تمَّ وصف الفعل الإنساني في واقعة ما سُمي بالسبب والشرط والمانع من أجل معرفتها قبل تطبيق الحدود، فلا تُقطع يد لسرقة عن جوع وبطالة وفقر؛ فشرط الحد الكفاية والعدل والعمل وإشباع كافة حاجات الإنسان الأساسية.

وقد تجلَّى البعد الإنساني عند الصوفية في نظرية «الإنسان الكامل» عند الجيلي وابن عربي، وفي المقامات والأحوال، وهي تحليل للعواطف والانفعالات الإنسانية، وفي الحب الإنساني الذي يتجلى فيه الحب الإلهي، وفي لغة الرمز الإنسانية. والله يظهر في النفس وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد لدرجة قول البعض منهم بالحلول والاتحاد.

وفي العلوم النقلية الخالصة ظهر البُعد الإنساني أيضًا فيها؛ فالإنسان هو موضوع الخطاب في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ (٨٢: ٦، ٨٤: ٦). وفي الحديث ما أكثر ما قيل دفاعًا عن الإنسان ورحمةً به؛ فالله أرحم بالعباد من رحمة الأم بفلذة كبدها. وقد كُتبت عدة تفاسير للقرآن خاصةً في الفكر الإصلاحي مثل «تفسير المنار» لرشيد رضا مُستَمَدًّا من تعاليم الإمام محمد عبده على أساس إنساني اجتماعي. كما وضح البعد الإنساني الأدبي اللغوي البلاغي في «في ظلال القرآن» لسيد قطب. وفي علوم السيرة كتب المعاصرون سيرة الرسول من منظور إنساني مثل: «حياة محمد»، «في منزل الوحي» لمحمد حسين هيكل، «على هامش السيرة» لطه حسين، «محمد رسول الحرية» لعبد الرحمن الشرقاوي، «عبقرية محمد» للعقاد، وغيرها من كتب السيرة المحدثة. وفي الفقه لا تقل المعاملات أهميةً عن العبادات؛ فالمعاملات تُمثِّل البُعد الأفقي والعبادات تُمثِّل البعد الرأسي، والفقه في النهاية هو فقه المجتمع والبشر والناس.

السلفي إذن مُطالَب باكتشاف مُكوِّنات الخطاب العلماني وقصده في ثنايا خطابه الموروث حتى لا يبدو الخطاب العلماني في وادٍ، والخطاب السلفي في وادٍ آخر، بينهما برزخ لا يلتقيان.

والقصد الإنساني في الخطاب العلماني في حاجة أيضًا إلى مراجعة؛ فالإنسان في الخطاب العلماني الذي يستمد أصوله من الغرب هو الإنسان الفردي المتغير، الإنسان الواقعي بأنانيته وغروره وليس الإنسان بما هو إنسان، الإنسان الشامل الذي لا يعرف حدود الأوطان أو الأعراق أو الأقوام؛ لذلك أصبح شعار بروتاجوراس السوفسطائي «الإنسان مقياس كل شيء» عنوانًا للحضارة الغربية التي منها يستمد الخطاب العلماني أصوله. غاب المعيار، واستُبعدت القيمة، وعم الاشتباه، وسادت النسبية التي انتهت إلى شكية ولاأدرية وعدمية بحيث لم يوجد شيء؛ لا إله ولا إنسان. وقتل الألماني الفرنسي، وحارب الأوروبي الروسي، واستعمر الغربي الأفريقي والآسيوي والأمريكي الأصلي. والنزعة الإنسانية على أشدها في الحضارة الغربية منذ بدايتها في القرن السادس عشر عند أراسموس حتى نهايتها في «الوجودية فلسفة إنسانية»، وحتى اختفائها كليةً في البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة. فلا يوجد شيء، وإن وُجد فهو العدم.

فهل يستطيع العلماني أن يبحث عن قصده من جديد في ثنايا تراثه دون رفضه جملةً وتفصيلًا؟ وهل يستطيع أن ينقد الوافد الغربي الذي ينهل منه دون تقليده جملةً وتفصيلًا؟

إن السؤال للخطابين السلفي والعلماني هو: هل الدين غاية أم وسيلة؟ إن الدين ليس غايةً في ذاته بل هو وسيلة لإسعاد البشر وتحقيق مصالح الناس. وما زال حيًّا في المجتمعات التراثية وقادرًا على تحقيق المقاصد العامة للشريعة والمصالح العامة في الخطاب العلماني. وهل هناك لغة أخرى غير لغة الواقع والبشر والناس؟ وما العيب في الفكر الإصلاحي الذي حاول إيجاد خطاب ثالث يُوحِّد فيه بين القصدين؛ السلفي والعلماني قبل أن يتباعدا في هذا الجيل بعد ضعف الدولة، جسد الوطن وقلبه، فأصبحت كل رئة تتنفس بمفردها وخارجها بل وضدها؟ أليس الأولى بالخطابين السلفي والعلماني إعادة الحياة إلى الجسد الهامد والقلب الساكت بعودة الرئتين إليه والتنفس في داخله وإعادة الحياة له؟

(٤) الخلاف في المصدر٤

إذا كان الخلاف بين السلفيين والعلمانيين في المنهج؛ المنهج النازل من النص إلى الواقع عند السلفيين في مقابل المنهج الصاعد من الواقع إلى النص عند العلمانيين، وفي اللغة؛ اللغة العقائدية التشريعية المغلقة في مقابل اللغة الإنسانية العقلية المفتوحة، وفي القصد؛ القصد الإلهي في مقابل القصد الإنساني الاجتماعي، فإن الخلاف قد يكون أيضًا في المصدر، الموروث عند السلفيين، والوافد عند العلمانيين.

فالموروث القديم هو المصدر الأول عند السلفيين، ما تركه الآباء والأجداد والعلماء الأجلاء خاصةً في العلوم النقلية، في القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، وفي العلوم العقلية النقلية وفي مقدمتها علم العقائد وعلم الأصول. ويغلب على الموروث كله الاتجاه السلفي السائد، الأشعرية في العقائد، والشافعية في الأصول، والتفسير بالمأثور، وتراث أهل السلف؛ أهل السنة والحديث، الفرقة الناجية؛ لذلك يكثر الاستشهاد بالغزالي وأحمد بن حنبل وابن تيمية والسيوطي حتى الحركة السلفية الحديثة، فلا يُصلِح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.

والوافد الغربي هو المصدر الأول عند العلمانيين، وهو ما تلقيناه منذ فجر النهضة العربية على مدى قرنين من الزمان، ترجمةً وتلخيصًا وشرحًا وعرضًا وتأليفًا. وهو الوافد الحديث العصري العلمي العقلاني المدني التقدمي الذي أصبح ثقافةً عالمية ونموذجًا يُحتذى عند كل الشعوب في مقابل ثقافتها الموروثة القديمة الدينية المحلية «الماضوية».

وقد تمثَّلت الأغلبية الموروث القديم، ورأت فيه دفاعًا عن هُويتها وتواصلها في التاريخ وحمايتها من مخاطر التغريب والتقليد للوافد. في حين تمثَّلت الأقلية الوافد الغربي ورأت فيه دفاعًا عن عصريتها وتجديدها وحداثتها حمايةً لها من مخاطر التخلف والعودة إلى الماضي والانغلاق على الذات، ودفاعًا عن العالمية ولحاقًا بالحضارة. وكلاهما ينقل عن عصر غير عصره، فلا الماضي عصر الحاضر كما تفعل السلفية، ولا المستقبل عصر الحاضر كما تفعل العلمانية. نشأ الموروث في عصر مضى غير عصرنا، ونشأ الوافد في عصر لاحق غير عصرنا، ومن هنا نشأ الخلاف بين الفريقين.

والحقيقة أن لكل عصر حضارته التي يحدث فيها التفاعل بين الموروث والوافد. والعيب في التقليد؛ تقليد السلفيين للماضي، وتقليد العلمانيين للمستقبل. كلاهما يستسهل وينقل حلولًا جاهزة من مصدر مختلف عن الآخر، ولا يجتهد رأيَه في تنظير جديد للعصر مستفيدًا من الموروث القديم أو من الوافد العصري. كلاهما يتنازل عن حقه في الاجتهاد، ينكر على الحاضر خصوصيته وفرديته، وينكر على نفسه إمكانية الإبداع وتجاوز القدماء والمحدثين على حد سواء.

وقد قام الفلاسفة الأوائل بذلك خير قيام؛ بدأ المترجمون بنقل الوافد كله غربًا وشرقًا، من اليونان والرومان غربًا، ومن فارس والهند شرقًا دون تفاضل بين الشرق والغرب، ودون تحيُّز للغرب على حساب الشرق. ونحن نترجم منذ قرنين من الزمان، منذ فجر النهضة العربية، من الغرب، الأوروبي أولًا، والأمريكي ثانيًا، منحازين إلى الغرب وثقافته وحضارته باسم العلم مرةً والحرية والديمقراطية مرةً أخرى على حساب الشرق. فأصبحنا غربيين أكثر منا شرقيين بما في ذلك الخليج وهو أقرب إلى الشرق جغرافيًّا منه إلى الغرب.

قام المترجمون النصارى قديمًا بالنقل عن اليونان، كما قام نصارى الشام حديثًا بالنقل عن فرنسا. ولم يكتفوا بالنقل بل أضافوا وعلَّقوا. وقاموا بالنقل مرتين؛ مرةً محافظةً على النص اليوناني حفاظًا على اللفظ، ومرة تحسينًا للنص العربي حفاظًا على المعنى. وقام الفلاسفة بعدهم بالشرح والتلخيص والتأليف والعرض ثم الإبداع؛ الإبداع العربي الخالص دون إحالة إلى الوافد.

ونحن ما زلنا في مرحلة النقل التي بدأت منذ مائتي عام، وأقصى ما وصلنا إليه هو الشرح والتلخيص والعرض دون أن نُبدع فكرًا عربيًّا مستقلًّا لا يحيل إلا إلى ذاته ودون الإحالة إلى القيل والقال، سواء من الموروث القديم كما يفعل السلفيون أو من الوافد الغربي كما يفعل العلمانيون. يتساوى في ذلك قال الشافعي وقال ابن تيمية مع قال ماركس وقال جون استيوارت مل. استغرقت الترجمة الأولى جيلين؛ جيل حنين بن إسحاق وجيل إسحاق بن حنين، وظهر الكندي في منتصف القرن الثاني فيلسوفًا مستقلًّا. والترجمة لدينا استغرقت ما يزيد على الأربعة أجيال؛ جيلين في القرن الماضي، وجيلين في هذا القرن، وما زالت الترجمة مستمرة، وما زال العرض مستمرًّا.

كان النقل والإبداع قديمًا في الفكر دون الأدب؛ فقد كان العرب شعراء وخطباء، أهل لغة وفصاحة، وكانوا أحوج إلى الفكر والعلم منهم إلى الشعر والمسرح، وأبدعوا في الفكر والعلم بعد أن نقلوا وتمثَّلوا. ونحن بدأنا أيضًا بنقل العلم والفكر والأدب منذ القرن الماضي، وأبدعنا في الأدب، شعرًا ورواية وقصة ومسرحية دون أن نُبدع بالقدر الكافي في العلم والفكر كما أبدع القدماء. قد يرجع ذلك إلى انحسار العلوم العقلية الخالصة من وجداننا العربي، الحساب والهندسة والفلك والموسيقى في الرياضيات، والطب والصيدلة والكيمياء والطبيعة والنبات والحيوان في الطبيعيات؛ فلا السلفيون قلَّدوها ولا العلمانيون طوَّروها. توقَّفت عند السلفيين واستبدل بها العلمانيون الوافد العلمي الغربي.

فما الحل؟ ما العمل أمام ثنائية المصدر: الموروث والوافد، لعقد حوار بين السلفيين والعلمانيين وتجاوز الخلاف في المصدر بينهم؟ هل يمكن التوحيد بين المصدرين وتوحيد الثقافة الوطنية؟ ألَا يمكن للعصر الحاضر أن يكون بوتقةً مشتركة ينصهر فيها الموروث والوافد حتى تخرج ثقافة وطنية جديدة؟

لقد قام الفلاسفة القدماء بإعطاء النموذج، التعبير عن مضمون الموروث بلغة الوافد، حفاظًا على الأصل وتجديدًا للفرع، تمسكًا بالهُوية وتجديدًا للعصر، إبرازًا للمعنى في لفظ جديد؛ فقيمة الموروث ليست في الشكل بل في المضمون. وقيمة الوافد ليست في المضمون بل في الشكل. قام الفلاسفة بالتعبير عن معنى الله ومضمون التوحيد بألفاظ الوافد اليوناني؛ فاستعملوا العقل الأول، العلة الأولى، المحرك الأول، واجب الوجود، الموجود بذاته دون التضحية بالمضمون الإسلامي؛ فالعلة الأولى خالق للعالم ومدبر له على عكس اللفظ اليوناني ومضمونه اليوناني.

وقد تغيَّر الوافد الآن من الوافد اليوناني القديم إلى الوافد الغربي الحديث. وشاعت بيننا ألفاظ المطلق، واللانهائي، والخلود. وما زال مفكرونا المعاصرون يتحرَّجون من التعبير عن الموروث بلغة الوافد الغربي. يستعمل المفكر السلفي اللفظ الموروث والمعنى الموروث في حين يستعمل العلماني اللفظ الوافد والمعنى الوافد. فهل يستطيع مفكر معاصر أن يعبِّر عن المعنى الموروث بلفظ الوافد سواء كان هذا المفكر من السلفيين أم من العلمانيين؟ هل يستطيع أحد المفكرين أن يعبر المسافة بين السلفيين والعلمانيين، أو أن يقيم جسرًا يتم عليه عبور الآخرين عن طريق التمسك بالمضمون الموروث والتعبير عنه بالشكل الوافد؟

بهذه الطريقة؛ تخليص المضمون القديم من ثوبه القديم الذي ضاق عليه وإلباسه ثوبًا آخر من الوافد الجديد للتعبير به عن كل أبعاد القديم، يمكن خلق ثقافة عضوية وطنية جديدة تسمح بالحوار بين الفريقين المتخاصمين. لقد أخذ الفلاسفة القدماء مضمونهم من المتكلمين والفقهاء وعبَّروا عنه بألفاظ اليونان؛ فحموا الأمة من الوقوع في ازدواجية المصدر بين الموروث والوافد، وقدَّموا لونًا جديدًا من الثقافة، هي الفلسفة أو الحكمة، يجد فيها المتكلمون السلفيون مضمونهم العقائدي، ويجد فيها أنصار اليونان العلمانيون ألفاظهم وعباراتهم.

ليس الأمر مجرد تغيير شكلي، فتغيير ألفاظ الموروث تسمح له بالتجدد والتطور ومخاطبة أكبر قدر ممكن من الناس في الداخل والخارج. واستعارة ألفاظ الوافد تسمح بنقد ما علق بها من مضمونها الوافد إما توسيعًا للأفق، أو إكمالًا للتصور الجزئي، أو جمعًا للمختلفين في تصور واحد أعم؛ فالعلة الأولى خالق للعالم ومدبر له، وهي ليست كذلك عند اليونان. والعقل والحس، والمثال والواقع، والنفس والبدن كلاهما واجهتان لشيء واحد، وهما ليسا كذلك عند اليونان؛ لذلك جمع الفارابي بين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم، وبيَّن ابن رشد اكتمال الفلسفة في أرسطو بعد أن أنشأها سقراط وطورها أفلاطون.

والواقع نفسه، العصر الحاضر الذي يعيش فيه السلفيون والعلمانيون قادر على صهر الموروث والوافد، وصياغة ثقافة وطنية عضوية جديدة تعبر عن العصر الحاضر الذي ما زال الماضي يصب فيه، وما زال يريد التحرك نحو المستقبل. الحاضر يفرض نفسه على الماضي الذي يتمسك به السلفي، والمستقبل الذي يرنو إليه العلماني. الحاضر هو الذي يقضي على اغتراب السلفي في الماضي، واغتراب العلماني في المستقبل.

لقد نشأ الموروث القديم من واقع عصره، كما نشأ الوافد الغربي من واقع عصره، وعاش كلاهما عبر التاريخ الماضي والمعاصر في واقع عصرنا؛ لذلك نتعامل مع الاثنين لأنهما يصبان في واقع عصرنا، وهذا يستلزم من المفكر إعادة بناء الموروث القديم طِبقًا للعصر الحاضر، فيتحوَّل المصدر القديم إلى مصدر معاصر، ويعيد اجتهاد رأيه؛ فالموروث القديم ليس مقدسًا كما يتصور السلفي بل هو مجموع اجتهادات القدماء وإجاباتهم على أسئلة عصرهم.

كما يستلزم من المفكر المعاصر إعادة بناء الوافد الغربي الذي نشأ في عصر حديث آخر بناءً على عصره؛ فالوافد الغربي ليس مقدسًا كما يتصور العلماني بل هو مجموع اجتهادات الغربيين إجابةً على أسئلة عصرهم، ودون إحساس بالدونية أو الإرهاب من كلا المصدرين؛ فلكل عصر اجتهاده، ولكل زمن رجاله.

وعلى هذا النحو يصبح العصر الحاضر هو المصدر الأول للسلفي والعلماني على حد سواء، سواء لإعادة بناء التراث القديم أو لإعادة بناء التراث الغربي أو لخلق تراث عصري جديد. لا يكتفي المفكر المعاصر بتأويل الموروث القديم بناءً على ظروف عصره ولا بتأويل وإعادة توظيف الوافد الغربي بناءً على احتياجات عصره، بل يبدع تراثًا عصريًّا جديدًا يُضيف به إلى المصدرين الأولين.

المفكر العصري سلفي علماني في وقت واحد، لا يضرب المصدر الثاني بالمصدر الأول كما يفعل السلفي الخالص، ولا يضرب المصدر الأول بالمصدر الثاني كما يفعل العلماني الخالص. هو مفكر حر مثل سقراط والفارابي، يتعامل مع ما هو موجود، ويعبِّر عن كل مصدر بلغة الآخر، يعبِّر عن الموروث بلغة الوافد تطويرًا للموروث، ويعبِّر عن الوافد بلغة الموروث تمثُّلًا للوافد وإكمالًا له.

وبهذه الطريقة يحدث التفاعل الثقافي بين الموروث والوافد، وهما العنصران المكونان لثقافتنا المعاصرة. كما يحدث حوار الحضارات من موضع ندية وتكافؤ وإثراء متبادل بدلًا من الخصام والقطيعة والصدام الذي قد يكون مقدمةً لقتالٍ بين الشعوب.

وعلى هذا النحو تتحول ازدواجية الثقافة العربية المعاصرة من عنصر سلبي إلى عنصر إيجابي، ومن التجاور والتضارب إلى التفاعل والتداخل، فتنشأ ثقافة عربية جديدة متعددة الجوانب، متباينة المصادر، تجمع بين الوحدة والتعدد، وقد تكون أحد العوامل لنهضة عربية جديدة.

(٥) الصراع على السلطة٥

ليس الخلاف بين السلفيين والعلمانيين فقط خلافًا في اللغة أو المنهج أو القصد أو المصدر؛ فهذه خلافات فكرية، ولكنه أيضًا صراع على السلطة؛ فالفكر سلطة. والفكر السياسي ليس فقط مذهبًا بل هو نظام دولة، الفكر شرعية السلطة، والسلطة تحقيق للفكر.

ويبدو الفكر السلطوي عند كل فريق بارزًا واضحًا؛ فالحاكمية عند السلفيين طلب سلطة، نزع سلطة البشر باسم الله ثم تمثُّل السلفيين لهذه السلطة لأن الله لا يحكم بنفسه إلا من خلال البشر. وتطبيق الشريعة الإسلامية زعزعة لسلطة القانون وإحلال الشريعة محله، وأداة ذلك السلطة. فالإمام هو المنوط بتحقيق الشريعة، بل إن الشريعة بغير إمام تصبح غير نافذة المفعول. والإسلام هو الحل طلب سلطة، سلطة أخذ القرار وتنفيذه ضد سلطة أهل الاختصاص.

والشعارات العلمانية أيضًا سباق على السلطة؛ سلطة العقل في مواجهة سلطة الخرافة، وسلطة العلم في مواجهة سيادة الجهل، وسلطة الإنسان وحرية فكره وتعبيره ضد سلطة القهر والكبت وتكميم الأفواه، وسلطة العقد الاجتماعي وحقوق الإنسان والعدل الاجتماعي ضد سلطة الملكية الوراثية أو الانقلابات العسكرية وأجهزة الأمن والشرطة والجيش وأدوات قهر الدولة والظلم الاجتماعي.

ويظهر الصراع على السلطة بين السلفيين والعلمانيين حين تضعف الدولة وتتخلى عن رسالتها، وتصبح دولةً تابعة للغير، تفرِّط في استقلالها، قاهرةً للمواطنين معاديةً للناس، فاسدةً لا ترعى حقوق الآخرين. هنا يبرز البديلان كوريثين محتمَلين للسلطة القائمة بقدر ما يستطيع كل بديل أن يقدِّم نفسه للناس على أنه المخلِّص من الأزمة الراهنة، القادر على الحفاظ على استقلال الدولة وحرية المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية والخلاص من الفساد. أمَّا عندما تكون الدولة قويةً فإنها تحظى بولاء الناس لها، وتقدر على ضم جناحيها لها؛ السلفيين والعلمانيين كما كان الحال في عصر عبد الناصر ومن قبله محمد علي، أو تحييد الاثنين معًا وانحسار أثرهما عن الناس إما بالتمثل داخل الدولة كما فعل عبد الناصر مع بعض أجنحة الإخوان والشيوعيين، أو بالإزاحة خارج الدولة إما بالعزل في الداخل أو بالهجرة إلى الخارج. فالنجاح ولو على صعيد واحد — مثل العدالة الاجتماعية في العهد الناصري — يحصِّن الناس من اللجوء إلى البديلين القائمين: السلفية والشيوعية، متنازلًا عن بعض المخاسر مثل الحريات العامة. أما عندما تضيع كل المكاسب في العدالة والحرية هنا يبرز البديلان كوريثين للسلطة القائمة تخليصًا للبلاد وتدعيمًا من الناس.

وفي حالة الوصول إلى السلطة مثل وصول السلفيين في إيران أو السودان، فإن الرفض قد تحقَّق، والسلب قد تمَّ بفضل الشعارات السلفية. وماذا عن الإيجاب؟ ماذا عن البرنامج السياسي الاقتصادي الذي يحقِّق مطالب الناس؟ هنا تبدو السلطة السياسية فارغةً من أي مضمون وكأن الوصول إلى السلطة هدف في حد ذاته، وانفعال مؤقت، وضِيق بالنظام السابق. تأتي السلطة مبكرًا والتيار الإسلامي ليس جاهزًا للحكم؛ إذ تنقصه البرامج السياسية التفصيلية القائمة على إحصاء دقيق للواقع، وتكوين الطبقات الاجتماعية، وتوزيع الدخول، وسياسة الأجور، وطرق التصنيع، وأساليب الزراعة، وإدارة الحكم. وهنا تبدو سلبية الشعار وعجزه عن أن يتحول إلى إيجاب. لقد أدَّى دوره في هدم ما هو قائم وعجز أن يبني البديل.

وقد كانت السلطة في أيدي العلمانيين من قبل، ولا تزال منذ سقوط دولة الخلافة. وجرَّب الناس الأيديولوجيات العلمانية للتحديث؛ الليبرالية والماركسية والقومية، فتحقَّقت بعض المكاسب ولكن المخاسر ما زالت باديةً للعيان تتفاقم يومًا وراء يوم. كل منها يُدين الآخر ويجرحه، كل منها يُعتبر الفرقة الناجية؛ فهي أيديولوجيات علمانية للتحديث بعقلية سلفية في الاستبعاد والاستقصاء والاستحواذ على الحقيقة المطلقة.

جرَّبت مصر مع بعض الأقطار العربية الليبراليةَ وحققت مكاسب عامةً على مستوى الحريات الفردية والديمقراطية في الحكم، ولكن المخاسر كانت أيضًا واضحةً على مستوى العدل الاجتماعي وحقوق عامة الناس في التعليم والخدمات العامة. ثم قامت الثورات العربية الأخيرة لتحويل المخاسر إلى مكاسب وتحقيق الاشتراكية وتطبيق مجانية التعليم. ولكنها حولت المكاسب إلى مخاسر، وضاعت الحريات العامة وديمقراطية الحكم. ثم حاولت بعض الأنظمة في الوطن العربي مثل اليمن الجنوبية قبل الوحدة تطبيقَ الماركسية التي تجمع بين الحسنيين: العدالة والحرية، الاشتراكية والديمقراطية، فخسرت الاثنين معًا وانتهت إلى زوال. فإذا ما دخلت الماركسية في حلف مع بعض الأنظمة القومية مثل سوريا والعراق فإنها تُصبح بغير أثر، مجرد وجود في السلطة.

إن الدولة، بالرغم من ضعفها، ما زالت قائمة، وما زالت تمثل الحد الأدنى من الترابط الوطني والوئام الاجتماعي والإجماع التاريخي، ومحاولة السلفيين والعلمانيين وراثتها طريق مسدود؛ فما زالت الدولة من خلال أجهزة القمع قادرةً على احتواء الخصمين، وما زالت أجهزة الأمن والجيش والشرطة والمؤسسات العامة تمثل الحد الأدنى والأقصى في آن واحد من وجود الدولة من خلال رموزها، والبديل لها، خاصةً إن لم يكن مستعدًّا لتأسيس دولة وطنية، قد يقضي على ما تبقَّى منها.

والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فالمعارضة الإسلامية في الجزائر ومصر، وسوريا والعراق، وتونس وليبيا، ما زالت في مكانها؛ فلا هي قضت على الدولة، ولا هي أصبحت بديلًا لها. وما زال الاقتتال الدامي في الجزائر قائمًا، ويسقط الأبرياء من الطرفين نَيلًا من حقوق الإنسان ومن المبادئ الإسلامية في آنٍ واحد. والشعب في كلتا الحالتين هو الخاسر، ويسقط آلاف الشهداء بلا ثمن وبلا هدف منذ أربع سنوات، ويحدث نفس الشيء في مصر على نحو أقل نظرًا لمركزية الدولة وهامشية العنف المسلح.

وفي سوريا والعراق المعارضة الإسلامية معظمها في الخارج، غير مؤثرة، تعمل بمفردها أو مع فصائل المعارضة الليبرالية الأخرى؛ فالدولة ما زالت قوية، صوابًا أو خطأً، وقادرة على الصمود في وجه المعارضة. الدولة القائمة هي البديل عن المعارضة القادمة، والقوة بديل عن العجز، والحاضر أقوى من الماضي عند السلفيين والمستقبل عند العلمانيين.

وفي تونس وليبيا تتأرجح المعارضة بين النموذجين السابقين، المعارضة السلمية في الخارج في تونس وبعض أوجه المعارضة المسلحة في الداخل في ليبيا ولو على نطاق محدود، وتظل الدولة قويةً في كلتا الحالتين زعامةً وفكرًا، وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، والأمن الراهن خير من العنف القادم.

والمعارضة الليبرالية لبعض أنظمة الحكم في إيران والسودان ووسط شبه الجزيرة العربية قد تكون أيضًا محدودة الأثر نظرًا لأنها بالخارج على الأقل من حيث قياداتها، وتعتبر نفسها البديل المطلق لِمَا هو قائم. والزمن يمضي، والجسور مقطوعة بين الدولة وأحد أجنحتها، كلٌّ منهما متربص بالآخر، يعتبر نفسه وحده بيده الخلاص.

وفي أقصى المغرب العربي إلى أقصى هوامش شبه الجزيرة العربية تتجمع بعض فصائل المعارضة الوطنية التي تجمع بين التيارين في آنٍ واحد، وتعبِّر عن مطالبها في العدالة والحرية، ولكنها ما زالت مُهمَّشةً مستبعدة متهمة بالتعاون مع الخارج، وغير قادرة — على الأمد القصير — أن تكون بديلًا عن الدولة القائمة بالفعل.

وفي لبنان تكثر البدائل وتنشط الأجنحة سواء في الحركات الشعبية الإسلامية أو القومية، وتتحول إلى حركات مقاومة بالفعل تلتحم بالناس وتؤدي دور الدولة ولكن على حسابها وبديلًا عنها أحيانًا. لبنان صغير بحجمه عظيم بقدره، وما زال يمثل نموذجًا فريدًا في الوطن العربي لصلة الدولة بجناحيها وئامًا مرةً وخصامًا مرة، دون الوقوع في تناقض أساسي. المجتمع هنا أقوى من الدولة، كما أن الدولة تساير المجتمع.

ما الحل إذن لهذه المعادلة المثلثة الأطراف؛ الصراع على السلطة بين السلفيين والعلمانيين، وكل فريق يعتبر نفسه الوريث الشرعي للدولة التابعة؟

الحل هو تقوية الدولة والحرص عليها؛ فما هو موجود خير من هدم يصعب إعادة بنائه فيما بعدُ باسم الحلول البديلة. هي دولة مستقلة لا تُرتهن إرادتها الوطنية باسم الخبز والقمح والمعونة أو باسم الأمن والحلف السياسي والعسكري. هي الدولة التي تستمد مقوماتها من الداخل وليس من الخارج، خاصةً ولو كانت دولةً مركزية ذات ثقل في المنطقة وتأثير فيما حولها.

وهي الدولة الديمقراطية التي تكون السلطة فيها بانتخاب حر من الناس حتى يدين الناس لها بالولاء، وهي القادرة على التعبير عن القوى السياسية الموجودة بالفعل في الشارع، إسلامية أو ليبرالية أو قومية وليست أحزابًا سياسيةً من صنع الدولة لا جماهير لها من أجل الشكل الديمقراطي الفارغ من أي مضمون.

وهي الدولة القادرة على الحوار مع كل التيارات الفكرية والقوى السياسية التي لها وجود فعلي على مدى التاريخ الحديث؛ فالدولة عقد اجتماعي بين المواطنين تمثِّلهم جميعًا. هي السلطة الواحدة القائمة على التعدد دون استئثار فريق بها دون فريق. هي الدولة التي تجمع ولا تفرِّق، تحاور ولا تخاصم، تضم ولا تستبعد، تؤلف ولا تُنفِّر. هي الإجماع الوطني المتحقق في سلطة شعبية منتخبة.

ليس الجناحان بديلًا عن القلب، ولا الرأس بغنًى عن الرئتين، ومن ثم لا حياة للدولة في منطقتنا إلا بالحوار مع جناحيها، السلفيين والعلمانيين. ومن هنا أتت ضرورة المصالحة التاريخية بين الدولة وخصومها، وبين الخصمين العنيدين في آنٍ واحد باسم الدولة الوطنية المستقلة وريثة حركة الاستقلال الوطني وحصيلة دماء الشهداء.

لا يعني ذلك تدعيم النظم القائمة على حساب المعارضة بل يعني فقط بدايةً جديدة لحياة سياسية تجمع كل الطاقات ولا تهدرها، في وقت يشتد فيه أزر خصوم العرب. إن المصالحة التاريخية في الداخل هي شرط المصالحة التاريخية في الخارج، ولا يُعقل أن يتم الحوار من أجل السلام في الخارج والحرب دائرة في الداخل. الحوار الوطني في الداخل شرط الحوار السياسي في الخارج؛ فالسلام لا يتجزأ، والقادر على الحوار مع الصديق يكون أقدر على الحوار مع العدو.

(٦) إعادة بناء الثقافة الوطنية٦

إن هذا الخلاف بين السلفيين والعلمانيين في المنهج واللغة والقصد والمصدر لا يعني استحالة الاتفاق؛ فما زالت أوجه الاتفاق بين الفريقين عديدة؛ الغيرة على الدين أو الوطن، تغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل، إيجاد الحلول للأزمات الراهنة.

ولمَّا كانت أوجه الاختلاف ترتبط كلها بالثقافة وطبيعتها ومناهجها ولغتها ومكوناتها وغاياتها فإن حصار الخلاف وتحويله إلى حوار دون خصام وإلى تقارب دون استبعاد، إنما يتم عن طريق إعادة بناء الثقافة الوطنية.

والثقافة الوطنية هي مجموع المكون الثقافي، الموروث والوافد والواقع المعيش، الموروث الحي الذي يبدأ منه السلفيون، والوافد الجديد الذي يُبهر العلمانيين، والثقافة الشعبية التي يستعملها الناس في حياتهم اليومية من الأمثال الشعبية والحِكَم وسِيَر الأبطال؛ بل إن الموروث الحي قد تحوَّل هو ذاته إلى ثقافة شعبية حول سيرة الإسلام الأولى وعصر الخلفاء الراشدين وعجائب الإيمان ومعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، تهدف إلى إثارة المقال أكثر من إنارة العقل.

كما تحوَّل الوافد الجديد أيضًا إلى ثقافة شعبية؛ فالعلم والتكنولوجيا يفعلان السحر خاصةً بعد ثورة المعلومات. ولا فرق بين معجزات الإيمان ومعجزات العلم كما يبدو أحيانًا في برامج «العلم والإيمان»؛ فالإيمان عند السلفيين والعلم عند العلمانيين كلاهما مفتاح سحري لتغيير الأمر الواقع.

والثقافة الشعبية تجمع كل الناس: جماهيرَ السلفيين، وخاصةَ العلمانيين، وتتخلل كل الطبقات، العليا وأصحاب المال، والدنيا وأصحاب الفقر والضنك، والوسطى وأصحاب الاستقرار والنظام. العليا تجد فيها تبريرًا لسلطان المال والقوة، والدنيا تجد فيها تعويضًا وملاذًا، والوسطى تشعر معها بالأمن والطمأنينة.

وهي ثقافة حية ومؤثرة ومباشرة لا تحتاج إلى نصوص السلفيين ولا إلى نظريات وأيديولوجيات العلمانيين. الحس الشعبي المباشر، والبداهة الشعبية العيانية أصدق من أي نص وأقوى من أية نظرية مثل «اللي عاوزه البيت يحرم على الجامع» ومثل الصورة الشعبية للخواجة والأفندي، واليوناني بيجو، والبريطاني جون.

وهي ثقافة وطنية ينتسب إليها الجميع على درجات متفاوتة في الاستعمال والتوظيف؛ فالفريقان في النهاية، السلفيون والعلمانيون، يجمعهما وطن واحد، وهمٌّ واحد. ومن ثم كانت إعادة بناء الثقافة الوطنية أحد السبل لتحويل الخصام إلى حوار، والقتال إلى مصالحة، والحرب الداخلية إلى سلام ووئام وطني.

ويمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية عن طريق إعادة بناء محاورها وبؤرها ومستوياتها وتصوراتها وبواعثها ودوافعها ومصادر معرفتها وغاياتها ومقاصدها وتوجُّهاتها بحيث يلتقي عليها السلفيون والعلمانيون، ويجد الفريقان نفسيهما على أرضية مشتركة وثقافة مشتركة تسمح بالحوار وتبادل الآراء.

يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية من مستواها الإلهي إلى مستواها الإنساني في عصر حقوق الإنسان؛ فالله غني عن العالمين، ولا يحتاج إلى البشر للدفاع عنه وإثبات وجوده وحقوقه. الإنسان أولى بالدفاع؛ فحقوقه منتهكة، ووجوده مستلَب في غيره، وقد وصف الله نفسه بلغة البشر، وخاطب البشر، وأرسل إليهم الرسل؛ فالوحي متجه نحو الناس، يصف حقوقهم وواجباتهم. ومن يدافع عن الإنسان وكرامته فإنه يدافع عن خلق الله، وعمن كرَّمه الله في البر والبحر، وجعله خليفةً له في الأرض، وعمَّن قبل الرسالة والأمانة بعد أن رفضتها السموات والأرض والجبال خشيةً منها، وعلى ذلك يلتقي السلفي والعلماني.

ويمكن أيضًا التحول من ميدان العقائد والإيمانيات إلى ميدان الشرائع والعمليات؛ فليس الدين غايةً بل وسيلة، ولا توجد العقيدة في ذاتها إلا بمقدار كونها باعثًا على السلوك، ودافعًا إلى العمل. ليس المقصود منها الدفاع عن الوضع القائم بل التغيير لِمَا هو أفضل؛ فقد كان لكل نبي رسالةً اجتماعية لنقد الأوضاع في عصره، وتأسيس المجتمع الفاضل، وتغيير وضع القهر والفقر إلى وضع العدل والحرية حتى تبقى المجتمعات ولا تنهار؛ فالعقائد بواعث تدفع الحركة، وطاقة تولدها، وليست شيئًا باردًا جامدًا أو تاريخًا مضى وانقضى.

وإذا كانت الثقافة الشعبية بطبيعتها التقليدية قد ارتكنت وارتكزت على بُعدها الرأسي، بين الأعلى والأدنى، فإنه يمكن إعادة بنائها على بُعدها الأفقي بين الأمام والخلف؛ فالأعلى هو الأمام، والأدنى هو الخلف من أجل مساعدة الثقافة على أن تكون عاملًا على التقدم الذي ينشده العلماني، ويدرأ عن السلفي تهمة التخلف والعود إلى الماضي.

وعلى هذا النحو تتغير كل الأبنية الاجتماعية والسياسية، من الحاكم إلى المحكوم، ومن الرئيس إلى المرءوس. ويصبح الطرفان في علاقة مساواة وليسا في علاقة تبعية، ويخف الطابع التسلطي في المجتمعات، وتتحوَّل تدريجيًّا نحو الديمقراطية، وتخف حدة البيروقراطية وتتحول تدريجيًّا إلى المبادرات الذاتية، فيتحقَّق للسلفي مبدأ مساواة البشر جميعًا، والجهر بالحق في مواجهة الحاكم الظالم، ويتحقَّق للعلماني ما ينادي به من ديمقراطية وعدالة ومساواة.

وإذا كانت الثقافة الوطنية نظرًا لاعتمادها على الثقافة الشعبية تُغلِّب جانبها الديني على جانبها الدنيوي، والآخرة على الدنيا، رغبةً في الخلود، وضيقًا بالحياة وإيجاد بديل أفضل عنها، فإن إعادة بناء الثقافة الوطنية تساعد على إبراز قيمة الحياة بعد أن عرفنا قيمة الموت. الحياة شرط الموت وتسبقه، والدنيا مُقدِّمة للآخرة وليست تاليةً لها. وثقافة الأحياء أولى من ثقافة الأموات، وكتاب الأحياء أولى بالقراءة من كتاب الموتى. والحياة صفة وجوب من صفات الله، والموت صفة استحالة.

وكذلك يتم الانتقال من النفس إلى البدن؛ فالنفس عامرة وطاهرة، والنفس المطمئنة أحد مكتسبات الثقافة الشعبية. ومشاكلنا ليست من النفس بقدر ما هي من البدن؛ البدن هو الذي يجوع ويعرى، يعطش ولا يجد مأوًى، يمرض ويتألم. ولا توجد ثقافة حرصت على البدن قدر ثقافتنا الإسلامية القديمة الحاضرة؛ النظافة والطهارة في الحياة والموت، في الوضوء والغسل، في اللباس والكفن، وعلى النظافة يلتقي السلفي والعلماني.

وعادةً ما تُصوِّر الثقافة الشعبية العالمَ كلَّه شخصًا، يخضع لإرادة جبارة، عاقلة وعادلة، مشيئتها قانون، فارتكنت إليها من أجل نَيل حقوقها في هذا العالم. ألَا يمكن إعادة بناء الثقافة بحيث تُصبح الإرادة المشخَّصة قانونًا طبيعيًّا يُدركه العقل، وتسيطر عليه الإرادة الإنسانية؟ وهذا هو معنى التسخير؛ تسخير قوانين الطبيعة للإنسان وهنا يلتقي السلفي والعلماني، الدين والعلم. يأخذ السلفي بالأسباب، ويعترف بالسنن التي لا تتحوَّل أو تتبدَّل، وهو ما يُثبته العلماني ويُسمِّيه قوانينَ الطبيعة والتاريخ.

ويمكن أيضًا تحديد طبيعة هذا القانون؛ فهو ليس مجرد تعبير عن إرادة مشخصة أو قانون طبيعي، إنما هو قانون إنساني يعبِّر عن المصالح العامة والمنافع العمومية. هو تعبير عن إرادة الجماعة، ومصلحة الأمة، وإجماع الناس على الحق والخير والفضيلة، فما سمَّاه السلفي إجماع الأمة يعتبره العلماني العقد الاجتماعي، وهو ما تُقرُّه الثقافة الشعبية بالحكمة المتوارثة.

ويمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية عن طريق تصحيح علاقة أبعاد الزمان الثلاثة بعضها بالبعض؛ فالثقافة الشعبية ما زالت ترتكن إلى الماضي وعلى ما تبدو في الروايات والأقاصيص وسِير الأبطال واستلهام عصر البطولة الأول والترحُّم على القديم، الزمان والحنين، وهو ما يعتمد عليه السلفي في العودة إلى الخلافة الراشدة والعصر الذهبي الأول؛ إذ لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وهو ما يُثير العلماني ويجعله ينفر من الماضي ويضع نفسه في مستقبل ليس له، يمكن عن طريق إعادة بناء الثقافة الوطنية الانتقال من الماضي إلى الحاضر، وهو ما يسمِّيه الفقيه الاجتهاد، ويسمِّيه العلماني التحديث؛ فالماضي يصب في الحاضر ما دام أنه ماضٍ حي ومتصل.

وبعد ذلك يتم نقل الثقافة الوطنية وتحويلها من الحاضر إلى المستقبل الذي يتوق إليه السلفي عن طريق المعاد والحياة الأخروية والنعيم الأبدي، والذي يجعله العلماني المستقبل القريب دون انتظار للمستقبل البعيد. يقول السلفي: مملكتي ليست في هذا العالم. بينما يقول العلماني: ملكوت السموات قريب، والثقافة الوطنية قادرة على وضع ملامح المشروع القومي الطويل الأمد على خطوات تتحقَّق في الأمد القريب.

ويمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث تتحوَّل من ثقافة النقل إلى ثقافة العقل، ومن الاعتماد على سلطة النص إلى الاعتماد على حجة العقل والبرهان والمشاهدة. فما زالت الثقافة الشعبية تعتمد على الموروث الذي يأخذ منه السلفي علمه أو الوافد الذي يأخذ العلماني منه تحديثه. أما الثقافة الشعبية فهي التي تبدأ من تجارب الناس والحكمة المتوارثة للشعوب بحيث يتحقَّق صدق الموروث والوافد معًا في حياة الناس، ويصبح الحق مشاهَدًا لا مُدوَّنًا، مرئيًّا لا مقروءًا، بديهيًّا لا مؤولًا.

فإذا تمَّ ذلك تتحوَّل الثقافة الوطنية من أُحادية الطرف والرأي الواحد إلى ثقافة متعدِّدة الأطراف، متباينة الآراء؛ فقد استقر في الثقافة الشعبية أن الحق واحد بناءً على ثنائية الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، الهداية والضلال، النجاة والهلاك. وهو أحد أسباب الخصام بين السلفيين والعلمانيين والذي يؤدِّي إلى الإقصاء والاستبعاد المتبادل. يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث تسمح بالتعدُّدية الفكرية والتباين الخلَّاق، والتضاد المنتج، والتناقض الفعَّال.

ويمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية ليس فقط انتقالًا من النقل إلى العقل بل أيضًا انتقالًا من النقل إلى الواقع، ومن النص إلى الحياة؛ فقد أكمل الفقهاء والصوفية بالتحول من العقل إلى الواقع ما بدأه المعتزلة والفلاسفة من التحول من النقل إلى العقل. ولغة الواقع أبلغ وأصدق من لغة النص أو البرهان، وعمل الحواس مقدِّمة لعمل العقل، والعقل بلا حواس استنباط مجرد؛ لذلك يتأكد العلم الإلهي بالسمع والبصر، وتقوم المعرفة العلمية على شهادة الحواس، وإذا غلب على الثقافة الشعبية النقل دون الإبداع لأنها تُمثِّل الموروث الثقافي ممَّا يجعل السلفي ناقلًا أكثر منه مبدعًا، والعلماني ناقلًا أيضًا مع اختلاف مصدر النقل فإنه يمكن إعادة بناء الثقافة بحيث تميل أكثر إلى جانب الإبداع؛ فالقدماء أهل السلفي، هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم. والمحدثون أصحاب العلماني مجتهدون لا ينبغي تقليدهم، بل اجتهاد باجتهاد حتى تتعدَّد الاجتهادات بتعدُّد الأزمان والأماكن، وتتعدَّد التجارب، وتثرى بالتفاعل المتبادل. والأنا تسبق الآخر سواء كان الآخر القريب عند السلفي أو الآخر البعيد عند العلماني، سواء كان الأخ أو ابن العم.

ويمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية من القول إلى الفعل، ومن الكلام إلى السلوك؛ فمن الشائع في ثقافتنا أن الخطاب فعل، وأن القول خلق، وأن الكلام وجود. وكثيرًا ما نعى المصلحون: ما أكثر القول وأقل العمل! وعلى العمل يلتقي السلفي والعلماني؛ فلا توجد حركة نشطة وفعالة قدر الحركة السلفية متأسيةً بالجهاد، ولا توجد حركة أثَّرت في حياتنا المعاصرة وبَنَت الدول الحديثة قدر الحركة العلمانية الليبرالية والقومية خاصة.

وأخيرًا يمكن إعادة بناء قيم الثقافة الشعبية من القيم السلبية إلى القيم الإيجابية، من الزهد والتوكل والورع والتقوى والرضا والقناعة والخوف والخشية إلى قيم الرفض والاعتراض، الثورة والغضب، التمرد والمعارضة، حتى يتحوَّل المجتمع كله من الفناء كقيمة مطلقة إلى البقاء كوجود فعلي.

إن إعادة بناء الثقافة الوطنية هي المدخل النظري لتوحيد الثقافة الوطنية وانصهار السلفية والعلمانية في ثقافة الوطن.

(٧) الجبهة الوطنية المتحدة٧

إن توحيد الفكر والحوار النظري بين السلفيين والعلمانيين عن طريق إعادة بناء الثقافة الوطنية يتم على الأمد الطويل؛ فالثقافة الموروثة لها جذورها في التاريخ مئات السنين وأحيانًا ألوف السنين، وهو عمل المثقفين والمفكرين والفلاسفة، يحتاج بعد ذلك إلى تربية شعبية ونُظم سياسية تُحوِّل الثقافة الوطنية إلى مناهج تعليمية حتى تؤثِّر في الأذهان وفي التربية القومية.

والجبهة الوطنية المتحدة هي المدخل العملي لتوحيد الجهود بين السلفيين والعلمانيين على الأمد القصير حتى ولو كانت الأُطر النظرية للفريقين ما زالت متباعدةً حول المنهج واللغة والقصد والمصدر والسلطة. وتقوم على التعددية على مستوى النظر وعلى وحدة برنامج العمل الوطني بمنطق يقوم على التنوع والوحدة، الاختلاف والاتفاق، يُبقي على شرعية الاختلاف النظري، ويهدف إلى تحقيق وحدة العمل الوطني.

وهو درس من أصول الفقه القديم عندما تساءل الفقهاء بعد محاولتهم وضع منهج موحد للاستدلال وطرق الاجتهاد: هل الحق واحد أم متعدد؟ وأجابوا: إن الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد. يستطيع الفقيه أن يستدل على شيء أو أن يستنبط حكمًا بالمنهج الذي يريد، معتمدًا على النص أو على المصلحة، على الأثر أو على الرأي؛ لذلك انقسم الفقهاء إلى عدة مدارس: مدرسة الحجاز ومدرسة العراق، فقهاء الكوفة وفقهاء البصرة أو بغداد، فقهاء مصر وفقهاء العراق، فقهاء الأمصار وفقهاء المغرب، أهل الحديث وأهل الرأي. كما اختلف النحاة بين الكوفيين والبصريين، واختلف المفسرون بين التفسير بالمنقول والتفسير بالمعقول، ومع ذلك يحقِّق الجميع المصالح العامة الممثَّلة في مقاصد الشريعة.

وهو درس أيضًا من تجارب التحرر الوطني في العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات، درس الجبهة الوطنية المتحدة أو جبهة الخلاص الوطني أو جبهة الإنقاذ التي يتم فيها ائتلاف كل القوى السياسية الوطنية من أجل تحرير الوطن. تلك كانت تجربة فيتنام وكوبا والجزائر ويوغوسلافيا سابقًا والمغرب العربي. تقوم على منطق التجميع لا التفريق، والوحدة لا الاختلاف، والحوار لا الاستبعاد والإقصاء، منطق العروة الوثقى وليس منطق الفرقة الناجية في مقابل الفرق الهالكة، منطق الحوار الوطني وليس منطق التكفير والتخوين، والحوار الوطني مع الداخل قبل الحوار مع الخارج، حوار العرب مع العرب قبل حوارهم مع إسرائيل؛ فالكل رادٌّ، والكل مردود عليه، ولا يمتلك أحد الحقيقة المطلقة.

والسلفية والعلمانية مرجعيتان نظريتان في الثقافة العربية عبر التاريخ في الماضي والحاضر. وإذا كانت السلفية متعددة الجوانب والاتجاهات كما هو واضح في الحركات الإسلامية المعاصرة بين يمين ووسط ويسار فإن العلمانية أيضًا متعددة التيارات، قومية وليبرالية وماركسية. وهذه هي القوى السياسية الأربع الحاضرة في الشارع العربي: الإسلامية، والقومية، والليبرالية، والماركسية والتي تحاول أن تتحاور فيما بينها منذ هزيمة حزيران ١٩٦٧م مرورًا بمعاهدة الصلح مع إسرائيل في ١٩٧٨م وحتى التحوُّل شبه الكامل عن الثوابت في الثقافة والسياسات العربية: مناهضة الاستعمار والصهيونية، وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستقلة، والحفاظ على الهُوية، وتحالف قوى الشعب العامل وكما جسَّدتها الناصرية في الستينيات.

وقد ظهر مفكرون عرب على التخوم بين هذه التيارات، يجمعون بين تيارين أو أكثر ممَّا يسمح بالحوار الوطني والتقارب السياسي. ظهر مفكرون إسلاميون قوميون مثل خلف محمد خلف الله ومحمد عمارة، وإسلاميون ليبراليون مثل طه حسين والعقاد وخالد محمد خالد، وإسلاميون ماركسيون مثل عبد الرحمن الشرقاوي وخالد محيي الدين وعادل حسين وطارق البشري، كما ظهر قوميون ليبراليون خاصةً في الخليج مثل أحمد الربعي ومحمد جابر الأنصاري، وقوميون ماركسيون مثل أنور عبد الملك، وظهر ليبراليون ماركسيون يدعون إلى الماركسية الليبرالية، الماركسية كغاية والليبرالية كوسيلة، مثل عبد الله العروي بالمغرب؛ فالإسلام عنصر مشترك بين التيارات كلها ومكون رئيسي فيها ممَّا يُسهِّل الحوار ويساعد على توحيد الجهود. وتجاربنا في الحوار في الماضي القريب وفي سلسلة الحوارات في ملتقى الفكر والحوار وفي المؤتمرات الشعبية العربية بين القوميين والإسلاميين أو القوميين والماركسيين ما زالت مستمرة.

الجبهة الوطنية المتحدة مجرد أداة أو وسيلة أو إجراء من أجل تحقيق الأهداف العربية المشتركة التي تكوِّن وحدة الغاية والمصير بلغة الستينيات، وهي سبعة: تحرير الأراضي العربية المحتلة في فلسطين ولبنان وسوريا وما طواه التاريخ قبل النهضة العربية منذ مطلع هذا القرن، تحقيق حرية المواطن العربي ضد القهر والتسلط والتعذيب في السجون والاعتقال السياسي والاستبعاد والطرد خارج الأوطان، تحقيق العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات أو تقريبها بدلًا من هذا التفاوت الهائل في الدخول والثروات بين الأغنياء والفقراء، تحقيق الوحدة العربية على مستوى الشعوب والأوطان والثقافات أولًا قبل توحيد النظم السياسية ضد التشرذم والطائفية والقُطرية والحروب الأهلية وغلق الحدود وحرب الإذاعات والتحالف مع الأجنبي ضد العربي، تحقيق التنمية المستقلة المستديمة اعتمادًا على الذات؛ فما زال ٧٠٪ من الغذاء في الوطن العربي يأتي من الخارج، وما زالت تجارة العرب مع الخارج تفوق عشرات المرات تجارة العرب مع العرب، إثبات الهُوية عبر التاريخ ضد التميُّع والتبعية والتغريب والتقليد، وأخيرًا حشد الناس وتجنيد الجماهير بدلًا من الهجرة إلى الخارج بحثًا عن الحرية والخبز أو الهجرة إلى الداخل في الحركات السرية وجماعات العنف أو المخدرات. تلك هي الأهداف القومية والثوابت التاريخية التي لا يختلف عليها أحد، فهل تستطيع الأُطُر النظرية المتعددة في الوطن العربي وفي الثقافة السياسية العربية تحقيقها؟

إن تحرير الأرض من الغزو الاستعماري والاحتلال الصهيوني وضرورة تحريرها من العدو الغاصب واجب ديني عند الإسلاميين، يفرضه الجهاد ضد الإكراه والإخراج من الديار والظلم والعدوان، وهو واجب قومي قامت به الحركة القومية العربية منذ مطلع هذا القرن وما زالت مستمرةً في المقاومة بالرغم من المهادنة للاستعمار والاعتراف بالصهيونية، وقد جسَّدت الناصرية ذلك في الستينيات. وهو نضال ليبرالي كما حدث في مصر؛ فقد كانت الليبرالية وراء ثورة ١٩١٩م. فالحرية في الداخل شرط الحرية في الخارج، وهو شعار ماركسي في تحرير الأوطان، فالاستعمار أعلى مرحلة للرأسمالية، وليس هناك ما هو أعز على الشعوب من التحرر الوطني.

وتحرير المواطن واجب ديني؛ فلا إكراه في الدين، والساكت عن الحق شيطان أخرس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعلان لحرية الفكر، وأعظم شهادة قول حق في مواجهة سلطان جائز. ولماذا يُستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ وإن شعار «لا إله إلا الله» يبدأ بالرفض والنفي والاحتجاج والاعتراض والتمرد ضد آلهة العصر: السلطة والمال والجاه والشهرة والجنس. والقومي شعاره الحرية في شعاره المثلث: الحرية والاشتراكية والوحدة. والحركة القومية بالرغم من تقييد حريات المواطنين في بعض الأوطان في الممارسة الفعلية للقومية هي التي قادت حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار والصهيونية في الخارج على حساب تحقيق الحرية للمواطنين في الداخل، مما يفسِّر أحيانًا انحسار الفكر القومي، وأن تحرير المواطن من الفقر والإقطاع كان مدخلًا اقتصاديًّا لم يتبعه التحرر الثقافي والفكري، وذلك أحد مواطن مراجعات الفكر القومي لنفسه. والليبرالي قضيته الحرية، ومنها اشتق اسمه. ولا يوجد عصر ازدهرت فيه الحريات الفكرية العامة كما ازدهرت في مصر الليبرالية قبل ١٩٥٢م بالرغم من وجود الإقطاع والاستعمار والقصر. والماركسي يريد تحرير العالم كله وليس المواطن وحده بالرغم من تقييد الحريات في النظم الشمولية في الممارسة.

وفي العدالة الاجتماعية تبرز الاشتراكية الإسلامية كأحد الحلول لتذويب الفوارق بين الطبقات؛ فهناك حق للفقراء في أموال الأغنياء غير الزكاة، والمجتمع الواحد الذي فيه إنسان واحد جائع تبرأ ذمة الله منه، وليس من المسلمين من بات جوعان وجاره طاوٍ، والناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، وهما الزراعة والصناعة أساس القطاع العام. والعمل وحده مصدر القيمة ضد الربا والاستغلال وتوليد المال للمال. والملكية استخلاف، للإنسان حق الانتفاع والاستثمار والتصرف، وليس له حق الاستغلال والاحتكار والاكتناز. والقومي هو الذي وضع أُسس الاشتراكية العربية وسياسات التأميم، وتدعيم الدولة للمواد الغذائية الأولية، وإسكان الفقراء، ومجانية التعليم، وحقوق العمال، والإصلاح الزراعي. والليبرالي يضع قوانين لحماية المنافسة الحرة، ويفرض الضرائب التصاعدية، ويسن قوانين التكافل الاجتماعي. أما الماركسي فإن الملكية العامة لوسائل الإنتاج ورفض فائض القيمة تجعل الماركسية مساويةً للاشتراكية.

وفي الوحدة العربية، يعتبرها الإسلاميون خطوةً في سبيل الوحدة الإسلامية؛ فالعرب قلب المسلمين، وكان توحيد شبه الجزيرة العربية مقدمةً لتوحيد آسيا وأفريقيا، والقومي رسالته الوحدة؛ أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وأول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث بين مصر وسوريا قام بها القوميون، والليبرالي يراها توسيعًا للسوق، وقد ناضل الحكم الليبرالي في مصر ضد الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا والمغرب العربي وضد الصهيونية في فلسطين. أما الماركسي فيعتبرها خطوةً من أجل توحيد الطبقات الكادحة وتحقيق وحدة النضال العالمي: «يا عمال العالم اتحدوا.»

وفي التنمية المستقلة يحاول الإسلاميون الاعتماد على الذات في اقتصاد مستقل في إطار من سوق إسلامية مشتركة بالرغم من سيطرة الاقتصاد الليبرالي عليهم وروح التجارة والربح والاستثمار في الغرب، والقوميون هم الذين وضعوا التخطيط الاقتصادي العربي الحديث من أجل تنمية مستقلة مستديمة، والليبراليون يقومون بتنمية الخدمات الضرورية للاستثمار وتشجيع رأس المال الوطني والأجنبي. وقد قامت الخطوات التنموية الأولى في التصنيع في ظل الليبرالية المصرية قبل ١٩٥٢م. والماركسيون يركِّزون على التصنيع وزيادة الدخل القومي والإنتاج والصناعات الثقيلة وتنمية الموارد ربما على حساب الاستهلاك والصناعات الصغيرة.

وفي إثبات الهُوية يعتز الإسلاميون بالهُوية الإسلامية لدرجة المفاصلة، ونقد الآخر، والوقوف أمام موجات التغريب وتحريم موالاة الأجنبي. والقومي يدافع عن الهُوية القومية ضد التبعية والتفكُّك والتشرذم للأوطان. والليبرالي يرى أن هُويته في الحرية، والحرية بطبيعتها تعبير عن الأنا وليس الضياع في الآخر، والماركسي يرى هُويته في تقدميته ونضاله وأمميته حتى برزت تيارات ماركسية لا تُضحِّي بالقومية لصالح الأممية.

وأخيرًا في حشد الناس، نجح الإسلاميون إلى حد كبير في تجنيد الجماهير وقيام حركات إسلامية شعبية ومعارضة فعالة، كما استطاع القوميون الصمود في مواجهة التفكُّك والخصخصة والأحلاف مع أعداء الأمس القريب، والليبراليون أيضًا استطاعوا تحريك النقابات والجماهير دفاعًا عن الحريات العامة، أما الماركسيون فهم قادرون على النشاط من خلال فعاليات الأحزاب الشيوعية والخلايا التنظيمية كالإسلاميين الآن.

إنما شرط الجبهة الوطنية المتحدة الحرية للجميع، والاحتكام إلى الشعب في انتخابات حرة عامة ونزيهة، ونبذ العنف والانخراط في الحركات السرية؛ فالعمل من أجل تحقيق الأهداف الوطنية حتى لو تعدَّدت الوسائل ليس جريمةً يعاقب عليها القانون.

إن بداية التجربة هي الطريق إلى الانصهار وبروز الروح العربي من جديد محركًا للتاريخ ابتداءً من حركة الوطن في الداخل، وإنه أبقى للحكام وللشعوب العمل نحو مصير مشترك وهو البقاء في التاريخ، وهذا هو الدرس المستفاد من مؤتمر القمة العربي الثاني والعشرين بالقاهرة: الحرص على الأهداف المشتركة حتى لو تعدَّدت الأُطُر النظرية والمرجعيات.

١  البيان ١٣ / ٥ / ١٩٩٦م.
٢  البيان ٢٠ / ٥ / ١٩٩٦م.
٣  البيان ٢٧ / ٥ / ١٩٩٦م.
٤  البيان ٣ / ٦ / ١٩٩٦م.
٥  البيان ١٠ / ٦ / ١٩٩٦م.
٦  البيان ١٧ / ٦ / ١٩٩٦م.
٧  البيان ٢٤ / ٦ / ١٩٩٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥