الفصل الثامن

ما بعد الأصولية

(١) ما بعد الأصولية١

جرت العادة في تاريخ الفكر تحقيب مرحلتين متتاليتين بنفس المصطلح ثم إضافة «ما بعد» للمرحلة الثانية. كانت هناك البنيوية ثم ما بعد البنيوية، والحداثة ثم ما بعد الحداثة، والآن ما زال الغرب خاصةً يتحدَّث عن الأصولية في حين أن هناك مرحلةً تالية لها قد بدأت هي مرحلة ما بعد الأصولية، لا يهتم بها أحد نظرًا لرغبة الغرب في خلق عدو جديد له بديلًا عن الاتحاد السوفيتي والشيوعية والستار الحديدي والنظم الشمولية، وهو ما يجده في الأصولية. أما «ما بعد الأصولية» أو ما يسمى بالإسلام المستنير أو الإسلام التقدمي أو اليسار الإسلامي فإنها توصف بأنها حركة أقلية، مجموعة من الأقلام لم تُكوِّن تيارًا شعبيًّا بعد.

وبالرغم من أن لفظ «الأصولية» الذي اشتقه الغربيون قياسًا على الأصولية المسيحية التي تود العودة إلى الأصول، إلا أن اللفظ الأصيل عندنا هو الحركة الإسلامية أو الجماعة الإسلامية أو الاتجاه الإسلامي أو الإسلام السياسي. ومع ذلك، نظرًا لأن لفظ «أصول» لفظ إسلامي فهناك علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلم الأصول في مقابل علم الفروع.

والأصولية ليست مجرد ظاهرة وقتية هامشية يمكن القضاء عليها بأجهزة الأمن والشرطة بل والجيش أحيانًا، بل هي ظاهرة تاريخية من منظور أعم؛ فالظواهر الاجتماعية هي في أحد جوانبها ظواهر تاريخية، تراكم تاريخي عبر العصور من خلال الوعي التاريخي، رصيد الوعي الاجتماعي؛ فقد نشأ الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا، وأقام حضارته في عصرها الذهبي في القرون السبعة الأولى التي بلغت الذروة في القرن الرابع؛ عصر البيروني والمتنبي وابن سينا ومسكويه. وجاء الغزالي في القرن الخامس تدعيمًا للدولة ودفاعًا عن نظام الملك في بغداد، فقضى على العلوم العقلية، وهاجم كل خصوم الدولة: الفلاسفة والمتكلمين والباطنية، وأنهى التعددية الفكرية، وانتصر للأشعرية في العقيدة، وللشافعية في الفقه، وكتب «الاقتصاد» ليؤسس أيديولوجية السلطة للحاكم. وكتب «إحياء علوم الدين» ليربِّي الناس على الطاعة والولاء والخشية والخوف والرضا والقناعة والتوكل. ولم تنجح محاولة ابن رشد في الأندلس في رد الاعتبار إلى العقلانية من جديد؛ فقد كان الأندلس بعيدًا عن قلب المشرق، وتم حصاره من الفقهاء والقضاء عليه، وبالتالي انتهت هذه الفترة الأولى بابن خلدون يؤرخ لها، ويبيِّن أسباب قيامها وانهيارها، ووضع تصوُّره في الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة، والتصور الدائري للتاريخ واضعًا النهاية للقرون السبعة الأولى.

ثم جاءت الفترة الثانية من القرن الثامن الهجري حتى القرن الرابع عشر، عصر الشروح والملخَّصات إبَّان العصر المملوكي العثماني؛ توقَّف العقل عن الإبداع، وبدأت الذاكرة في الحفظ، واجترار الماضي بالشروح والتلخيصات مثل جمل الصحراء، وتم ذلك في مصر وتركيا خاصة، في دولة الخلافة وفي الخلافة البديلة، واستمرَّ الإبداع في الرياضيات خاصةً في أواسط آسيا فهي منطقة الأمان الجغرافي والفكري.

فنحن الآن على أعتاب فترة ثالثة، السباعية الثالثة، من القرن الخامس عشر الذي بدأ منذ عقد ونصف من الزمان حتى القرن الواحد والعشرين الهجري، تلحق بالفترة الأولى، بالعصر الذهبي الأول الذي انقضى في عصر ذهبي ثانٍ قادم؛ فالإسلام قادم وليس ذاهبًا، آتٍ وليس موليًا. وهذا ما يُفسِّر الثقة بالنفس عند الحركات الإسلامية الحالية، والنغمة العالية للتفاؤل التي تظهر في كتابتهم. لم يعد الإسلام غريبًا كما جاء أو غريبًا كما عاد فطوبى للغرباء؛ بل أصبح الإسلام أليفًا كما كان، وأليفًا كما عاد، ومنتصرًا كما سيكون وكما تُعبِّر عن ذلك مقدمة «الفريضة الغائبة».

وفي نهاية هذه الفترة؛ أي منذ ما يقرب من قرن ونصف أو قرنين من الزمان، بدأت حركات الإصلاح الديني الحديث كي تنهي هذه الفترة الثانية، هذه السباعية الثانية بدايةً بمحمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية وبأحمد خان في الهند. كان الأفغاني أكبر ممثل لهذه الحركة؛ فقد اعتمد محمد بن عبد الوهاب على النصوص، واعتمد أحمد خان على بريطانيا، الأول على القديم والثاني على الجديد، وجاء الأفغاني فشق الطريق بين الاثنين، وبالرغم من أنه أفغاني أو إيراني النشأة إلا أنه أصبح مؤسس المدرسة المصرية بتلاميذه المصريين.

صاغ الأفغاني الإسلام الحديث: الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وحاول إيقاظ المسلمين في مواجهة الأخطار، داعيًا لوحدة الأمة ابتداءً من وحدة وادي النيل أو وحدة مصر والسودان، أو وحدة المغرب العربي أو الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية الجامعة، وفي كل هذه الدوائر مصر في المركز، ومن تعاليمه قامت الثورة العرابية.

فلما فشلت وانتهت باحتلال مصر ارتدَّ محمد عبده تلميذُه النجيب من الثورة إلى الإصلاح، ومن السياسة إلى التربية، ومن الانقلاب على السلطة إلى التغير الاجتماعي، فهبط الدافع الثوري من الأفغاني إلى محمد عبده إلى النصف، وتأسس الحزب الوطني «مصر للمصريين»، وأنجب الإصلاح هذه المرة ثورة ١٩١٩م بقيادة سعد زغلول تلميذ محمد عبده. وعندما استولى كمال أتاتورك على السلطة في تركيا وقضى على الخلافة في ١٩٢٣م خشي رشيد رضا تلميذ محمد عبده أن يتكرَّر النموذج في مصر، وأن تنتصر العلمانية وتقليد الغرب والقوميات في العالم الإسلامي فارتدَّ سلفيًّا، من الإصلاح إلى السلف، ومن التجديد إلى الأصولية، فعاد إلى محمد بن عبد الوهاب الذي أعاده إلى ابن تيمية الذي أعاده إلى أحمد بن حنبل، وأصبح رشيد رضا هو مؤسس الحركة السلفية المعاصرة وريثة الإصلاح الديني.

وكان حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم في منتصف الثلاثينيات فتشبَّع من سلفيته، وأراد تحقيق حلم الأفغاني: إنشاء حزب ثوري إسلامي قادر على النضال، ويكون الوجه الثوري الآخر للأيديولوجية الثورية الإسلامية؛ فأسَّس جماعة الإخوان المسلمين على ضفاف القناة وفي مواجهة الاستعمار والقصر. وفي أقل من عقدين من الزمان أصبحت أكبر حركة إسلامية معاصرة لها امتداداتها في المغرب العربي واليمن وسوريا والأردن وفلسطين، وكانت أحد روافد الضباط الأحرار بعد أن التقى الاثنان على ربوع فلسطين في ١٩٤٨م.

ولمَّا اندلعت الثورة المصرية في ١٩٥٢م وانتهى الوفاق بين الإخوان والثورة، صراعًا على السلطة، انتهى الإخوان إلى السجون. وفي إطار التعذيب والاعتقال نشأ فكر إخواني جديد، يكفِّر المجتمع، ويرغب في الانتقام من الناصرية وكل الأيديولوجيات العلمانية، وظهرت هذه الردة خاصةً في سيد قطب، فبعد أن كان بؤرة تلاقٍ بين القديم والجديد، بين طه حسين والعقاد، بين الاشتراكيين والقوميين والليبراليين، وبعد شِعره الوطني في دواوينه الأولى وقصصه للأطفال، وبعد محاولاته النقدية في الأربعينيات في «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه» و«التصوير الفني في القرآن الكريم» و«مشاهد القيامة في القرآن» بدأ اكتشاف الجانب الاجتماعي السياسي في الإسلام في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام»، ثم كتب في السجن «معالم في الطريق» الذي يكفِّر فيه المجتمع ويقسِّمه إلى إسلام وجاهلية، حاكمية وطاغوت، إيمان وكفر، وهو ما زال حتى الآن الرصيد الفكري الأول للأصولية الإسلامية لأنه ما زال يُعبِّر عن نفسية السجين والإسلام المضطهد المعزول.

أصبحت الأصولية الإسلامية تمثِّل أكبر رد فعل على الأيديولوجيات العلمانية للتحديث: الماركسية بما في ذلك الناصرية، والقومية، والليبرالية في مقابل الإسلام، خصام إلى الأبد، لا بقاء لأحدهما إلا بفناء الآخر؛ فقد هُمشت الحركة الإسلامية وعُذبت أثناء الليبرالية في مصر قبل ١٩٥٢م وأثناء المد القومي الاشتراكي في كل أرجاء الوطن العربي بعد ١٩٥٢م.

وفي نفس الوقت ما زال الغرب يتخذ من الإسلام عدوًّا منذ الاستشراق التقليدي القديم الذي يكشف عن التحيز والعدوانية ضد الإسلام والعنصرية والمركزية الأوربية في الغرب حتى علوم الأنثروبولوجيا الحديثة والاستشراق الجديد؛ فالإسلام أصبح مرادفًا للتخلف والإرهاب والعنف والعدوانية واللاعقلانية والدكتاتورية، وكل ما يوصف به العالم الإسلامي جُعل الإسلام عنه مسئولًا. ولم يقتصر الأمر على المؤلفات التاريخية والعلمية بل امتدَّ إلى أجهزة الإعلام المؤثرة في ثقافات الناس وسلوكهم اليومي. أصبح الإسلامي هو المسئول عن «العربي القبيح» في لندن، عصر الحريم والحجاب والنيل من حقوق المرأة والأقليات.

وفي نفس الوقت ومنذ الثورة الإسلامية في إيران يمثِّل الإسلام نجاحًا على ساحة الواقع في الحرب الأفغانية وفي الفلبين. وتستمر الصحوة في أواسط آسيا محافِظةً على الثقافات الإسلامية الشعبية في الجمهوريات الإسلامية. ويصحو الإسلام في شرق أوروبا ممَّا يفسر العدوان الصربي على شعب البوسنة والهرسك. وقد شارك الإسلام في كل حركات التحرر الوطني في المغرب العربي وفي مصر وفي اليمن وفي جنوب أفريقيا. وتستمر المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وفي فلسطين، وإذا كان الإسلام قد نجح في الماضي البعيد في توحيد الأمة واستقلالها ونهضتها، ونجح في الماضي القريب في مقاومتها للاستعمار ونضالها الوطني فلماذا لا ينجح في المستقبل في إقالة الإصلاح من كبوته، واستئناف حركات التحرر الوطني بعد أن امتدَّت في الخمسينيات والستينيات، وتعثَّرت في السبعينيات والثمانينيات، والآفاق ما زالت مفتوحةً في التسعينيات وعلى مشارف القرن القادم؟

إن تحليل أهم شعارات ثلاثة للحركة الإسلامية «الحاكمية لله»، «الإسلام هو الحل» أو «الإسلام هو البديل» و«تطبيق الشريعة الإسلامية» يبيِّن أن الناس تهرب إلى الإسلام ولا تختاره، تفر إليه وقد لا تعقله. تعني «الحاكمية لله» رفض حاكمية البشر التي تسلَّطت على رقاب الناس، قمعت الحريات، وتسلطَ الحكام، وبعدت المسافة بين الأغنياء والفقراء، وتجزَّأت الأمة الواحدة، وازدادت تبعيتها للأجنبي، وتميَّعت هُويتها واغتربت في الآخر، واستكانت الناس حتى لو دخل اليهود المسجد الأقصى. الحاكمية لله إذن أفضل من حاكمية البشر، حاكمية الله حيث الحرية والعدل، أملًا وتمنيًا؛ فالشعار له جانب سلبي قوي وإن كان جانبه الإيجابي ما زال غامضًا ومتشابهًا، هل حاكمية الله هي الثيوقراطية وحكم رجال الدين أم إنها حكم شورى؛ فالأمانة عقد وبيعة واختيار؟

وشعار «الإسلام هو الحل» يعني أن كل الحلول التي تمَّت ممارستها في حياة العرب المعاصرة لم تؤدِّ إلى حل المشكلات التي يعانون منها؛ فباسم الليبرالية تم اضطهاد الحريات وفتح السجون والمعتقلات وخرق حقوق الإنسان، وباسم الاشتراكية ازدادت الفوارق بين الطبقات، وباسم القومية قامت الحروب الأهلية في لبنان، واعتدى العراق على الكويت، ونشأت الحرب بين إيران والعراق؛ وباسم الماركسية كادت الوحدة اليمنية أن تنفك عراها، وباسم الكل احتُل مزيد من الأراضي العربية في فلسطين ولبنان وسوريا. «الإسلام هو الحل» إذن قارب النجاة، البحث عن حل سحري لمآسي العرب سلبًا إن لم يكن إيجابًا.

وشعار «تطبيق الشريعة الإسلامية» هو أيضًا هروب من القوانين السائدة التي تتغيَّر كل يوم طِبقًا لجماعات المصالح ونُظم الحكم وصعود الطبقات الجديدة. أصبح المواطن في عذاب في حياته اليومية إذا ما تعامل مع مجموعة القوانين السائدة في المصالح وفي المحاكم حتى عمَّت الرشوة لقضاء المصالح، وتم التحايل على القانون من أجل تحقيق مصالح الناس؛ في الإسكان والتعليم والصحة والخدمات العامة؛ فالشريعة الإسلامية على الأقل لا تظلم الناس شيئًا.

ونظرًا للفراغ السياسي على مستوى الشارع السياسي، وضعف أحزاب المعارضة الرسمية نشطت الحركة الإسلامية في الشارع، وقامت بتوفير الخدمات العامة في العيادات ودُور المناسبات الملحقة بالمساجد. واستطاعت أن تستحوذ على ثقة النقابات المهنية والاتحادات والروابط، فبدأت في السيطرة على مظاهر الحياة العامة. أجهزة الحكم تسيطر على الدولة من أعلى، والحركة الإسلامية تسيطر عليها من أسفل، وكلاهما ينتظر ويصارع لمن تكون الغلبة، ولمن يكون الحكم في المستقبل. إن الحركة الإسلامية بوضعها الفكري الراهن، وهو ما يسمى بالأصولية، ترث ألف عام من المحافظة الدينية وأحادية النظرة والتصور الأخلاقي للحقيقة الذي يرفض التعددية والحوار والنسبية تحت تأثير حديث الفرقة الناجية الذي يشكِّك في صحته ابن حزم.

إن «ما بعد الأصولية» تعني الدخول في تحدٍّ فكري للظواهر الفكرية المكوِّنة للأصولية، فما زالت الأصولية تيارًا فكريًّا يتسم بإعطاء الأولوية المطلقة لله على الإنسان مع أن الإنسان خليفة الله في الأرض الذي كرَّمه الله في البر والبحر، ولحاكمية الله على حاكمية البشر مع أن حاكمية الله لا تتحقق إلا من خلال حاكمية البشر؛ فالحاكم ممثل للناس ويقضي مصالحهم العامة وليس ممثلًا لله، وما زال النص هو المصدر الأول للمعرفة مع أن النص نفسه قائم على أسباب النزول؛ أي أولوية الواقع على الفكر، والسؤال على الجواب، وعلى الناسخ والمنسوخ؛ أي أخذ الزمان والتطور في الاعتبار. وما زال الدين غاية في ذاته، والعقيدة غاية في ذاتها، والإيمان مقصود لذاته، مع أن الدين والعقائد والإيمان كل ذلك وسائل لإسعاد البشر وتحقيق المصالح العامة، وما زالت الأصولية ترى أن الماضي أفضل من الحاضر، وأن العصر الذهبي ولَّى وانقضى، وأنه لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وأن السلف خير من الخلف الذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وأن القديم أفضل من الجديد. والعصر في حاجة إلى نظرة مستقبلية وتخطيط مستقبلي، وإلا فما معنى الاجتهاد، وحديث المجدِّدين الذي ينص على ظهور على رأس كل مائة عام مَن يجدد لهذه الأمة دينها؟

أما على مستوى الممارسة فما زالت الأصولية تفعل بمنطق الكل أو لا شيء، هدم كل شيء قبل بنائه من جديد، القضاء على جاهلية القرن العشرين قبل أن يحقِّق الإسلامَ جيلٌ قرآنيٌّ فريدٌ تحت شعار «لا إله إلا الله». وترفض التدرج والبناء المرحلي، وإكمال ما هو موجود كما فعل الإسلام أول مرة، مبقيًا على اليهودية والمسيحية ودين إبراهيم، ومطهِّرًا إياها من بقايا الوثنية والتحريف والتسلط، وما زالت متعصبةً حانقة متشنِّجة، ترفض الحوار وتُكفِّر المخالفين في الرأي فيخونها الناس، مع أن الإسلام دين حوار، حاور المخالفين والمشركين والكفار والمنافقين، والحضارة الإسلامية حضارة حوار، مذاهب فقهية، ومدارس كلامية، وفرق صوفية؛ فالكل راد والكل مردود عليه، واختلاف الأئمة رحمة بينهم. وما زالت تمارس العنف، وتلجأ إلى القوة ما دامت مهمشةً لا شرعية غير معترف بها، ترد على القوة بالقوة، وتواجه العنف بالعنف مع أنه لا إكراه في الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وكل نفس بما كسبت رهينة، ولا يضر الإنسان من ضل إذا اهتدى. فإذا ما عزَّت القوة تلجأ الحركة الإسلامية إلى العمل السري، وتصطدم بأجهزة الأمن وعيون الدولة فتُتهم بتدبير الانقلابات، ويكون مصيرها السجون في مسلسل لا ينتهي من التشريد والتعذيب، مع أن الدعوة إلى الإسلام ليست جريمة، والعمل العلني متاح للجميع، الرأي بالرأي، والبرهان بالبرهان.

إن أهم تيار في مرحلة ما بعد الأصولية هو الإسلام المستنير الذي يقبل التعددية وشرعية الخلاف في الرأي، ويقبل أساليب العمل الديمقراطية، ويحتكم إلى الرأي العام وصناديق الاقتراع. فمن الأفضل أن يأتي الإسلام محمولًا على الأعناق من أن يأتي من غياهب السجن والحركات السرية، محمولًا على البنادق أو المشانق.

يرتبط بالقديم، وتتأصل جذوره فيه عند الفلاسفة خاصةً عقلانية ابن رشد، وعند المتكلمين خاصةً المعتزلة، وفي مدارس الفقه التي تقوم على المصالح العامة، فالمصلحة أساس التشريع كما هو الحال في المالكية وعند الطوفي، وفي الطرق الصوفية المجاهدة للاستعمار والطغيان. وهو سليل الحركة الإصلاحية، منذ الأفغاني حتى سيد قطب الأول قبل أن يتحوَّل إلى سجين «معالم في الطريق»، ويقيلها من كبوتها، ويرد إليها عنفوانَها الإصلاحي الثوري الأول، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل.

ويؤمن بالتعددية السياسية وبتعدد الأُطُر النظرية، ويُقر بأنه ليس وحده في الشارع السياسي؛ فهو مع القوميين والليبراليين والماركسيين، وبالرغم من التعددية في النظر إلا أن هناك إمكانيةً لوضع برنامج موحَّد للعمل الوطني يقوم على القضايا الرئيسية للعصر: تحرير الأرض من بقايا الاستعمار القديم والاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وتحرير المواطن من القهر والتسلط، وتحقيق العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الطبقي، والعمل على وحدة الأمة ضد التجزئة والطائفية والقُطرية والنزعات العرقية، وتحقيق أكبر قدر ممكن من معدلات التنمية المادية والبشرية ضد التخلف والديون الخارجية والتبعية، والدفاع عن الهُوية ضد التميُّع والتغريب والتقليد، وتجنيد الجماهير ضد اللامبالاة والفتور.

ويقوم بتحقيق ذلك الجبهة الوطنية المتحدة أو الائتلاف الوطني بعد انتخابات حرة لكل القوى السياسية والفكرية، ومن خلال التجربة الديمقراطية ينصهر الجميع، وينتهي القتال بين الإخوة الأعداء.

(٢) السؤال والجواب٢

إن الحياة حوار، وعلاقة الإنسان مع الطبيعة ومع الآخرين ومع الله أيضًا علاقة حوار، والحوار أساسًا هو فن السؤال والجواب.

وقد أصبح السؤال أحد تيارات الفلسفة الغربية المعاصرة فيما يسمَّى بالفلسفة التساؤلية التي تهتم بوضع السؤال دون الجواب؛ فالسؤال الصحيح يتضمن نصف الإجابة كما يُروى عن عمر بن الخطاب. السؤال تعبير عن الدهشة وحب المعرفة بصرف النظر عن الجواب الذي قد يخطئ وقد يصيب، السؤال واحد وقد تتعدد الإجابات. السؤال أبدي والإجابات وقتية. وهذا هو الفرق بين السؤال والتساؤل: السؤال له إجابة محددة كما هو الحال في العلوم الرياضية والطبيعية، أما التساؤل فلا جواب له لأنه متعلق بمصير الإنسان، من أين أتى، وإلى أين انتهى؟

لذلك ارتبطت الفلسفة الوجودية بالتساؤل؛ فالتساؤل عند ياسبرز مع الدهشة أصل الفلسفة، والسؤال عند هيدجر عود إلى الطبيعة وإلى الأصل بعيدًا عن الإجابات الجاهزة والمذاهب المغلقة. السؤال يبعث على التفكير والجواب ينهيه. بالسؤال يتقدَّم العلم، وبالإجابة يتوقف العلم.

وفي ثقافتنا العربية المعاصرة، وهي الامتداد الطبيعي للموروث الثقافي القديم، تسود الإجابات الجاهزة القطعية دون إلقاء السؤال؛ فكثرت الإجابات، وتعدَّدت المذاهب، واختلفت الفرق، كل فرقة تكفِّر الأخرى أو تخوِّنها دون معرفة السؤال، كل فرقة تجيب بأنها الفرقة الناجية والفرق الأخرى ضالة هالكة دون معرفة ناجية في ماذا والأخرى هالكة لماذا؛ أي السؤال. فاتسم الفكر العربي المعاصر بمجموعة من الإجابات الجاهزة: الليبرالية، والقومية، والماركسية، والإسلامية، معطيات جاهزة دون معرفة هذه الإجابات عن أي سؤال. أصبحت الإجابة نوعًا من إثبات الوجود ضد القهر الداخلي والخارجي، نوعًا من المعارضة المذهبية والعقائدية. فتحوَّل الصراع الفعلي إلى صراع وهمي، والصراع على الأرض إلى صراع في الذهن؛ فالحليف والعدو في عالم الأذهان وليسا في عالم الأعيان كما يقول الفلاسفة؛ لذلك اتسم جيلنا بالقطعية والدجماطيقية والتحزب والتكفير والتخوين والاستبعاد والإقصاء والإزاحة وأحادية الطرف والخصام ورفض الحوار والاقتتال بين الإخوة الأعداء، والتراشق بالإجابات دون معرفة السؤال، والتقاذف بالثمار دون معرفة جذور الأشجار.

وفي مصدر الثقافة العربية الأولى، وهو القرآن الكريم، يتم التنبيه على السؤال والفكر التساؤلي والبداية بالسؤال؛ فقد ورد اللفظ ومشتقاته (حوالي ١٢٩ مرة) معظمها في صيغ فعلية للدلالة على أهمية فعل التساؤل، وأقلها (١٩ مرة) في صيغ اسمية: سؤل، وسؤال، وسائل، ومسئول. فالسؤال دعوة إلى التفكير دون إعطاء إجابة مسبقة، سابقة التجهيز، منهج لا موضوع، مقدمة لا نتيجة، طريقة لا حقيقة. الواقع يسبق الفكر، والواقع نفسه مجموعة من التساؤلات، والوحي مجموعة من الإجابات عليها على مدى ثلاثة وعشرين عامًا؛ لذلك كثرت صيغة وَيَسْأَلُونَكَ … قُلِ أي السؤال والجواب. أما مناهج التلقين في نظمنا التعليمية فإنها تقوم على تحفيظ الأجوبة دون الأسئلة، ولا تسمح للطالب بالسؤال؛ فالسؤال كفر في الدين، وخروج على النظام في السياسة.

ويكون السؤال في الدنيا وليس في الآخرة حتى يمكن الانتفاع به وبالاجتهادات فيه؛ فالسؤال في الآخرة بعد أن ينتهي الزمان لا نفع فيه إلا الندم على ما فات. السؤال من أجل التدبر في الدنيا والاسترشاد والتوجه والفعل، والزمان موجود، وفي العمر بقية فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (٢٣: ١٠١). السؤال قبل الهزائم لمنعها وليس بعد وقوعها للتعرف على أسبابها. السؤال إعداد للمستقبل حتى لا يؤخذ الإنسان على غِرة، وتكون الأمة باستمرار على أُهبة الاستعداد.

والجواب على السؤال الطبيعي بديهي لا يحتاج إلى جهد؛ فالواقع مرئي، والطبيعة مشاهدة، والحقائق ظاهرة للعيان؛ فالسؤال عن خلق السموات والأرض وعن إنزال المطر من السماء له إجابة معروفة. كلما كان السؤال عن واقع حسي كانت الإجابة بديهية، ومن ثم لا مكان للأسئلة النظرية الفقهية الخالصة عن موضوعات لا وجود لها في الحس مثل عالم الجن والملائكة، وأمور الغيب والمعاد التي ما زالت تسيطر على الفكر العربي المعاصر والتي يكثر التأليف والنشر فيها.

السؤال إذن له شروط: أن يتوجه نحو الواقع، وأن يتساءل حول الممكن، وأن يكون طلبًا للعلم، وأن يكون في مقدور الإنسان؛ فالسؤال عن حب استطلاع خالص سؤال مجاني؛ فالمعرفة ليست للمعرفة بل للسلوك والعمل، وليست لاستطلاع بواطن الأمور كما فعل موسى مع الخضر عليه السلام. والسؤال في حدود الممكن والحاجة، وما تتم به المعرفة الإنسانية، فلا يكون عن طلب المستحيل وما لا يمكن الوصول إليه كما سألت اليهود موسى رؤية الله جهرةً أو سؤال أهل الكتاب أن يُنزل اللهُ عليهم كتابًا من السماء. ولا يكون السؤال عن أفعال الله وحكمته؛ فالحكمة سؤال إنساني، وتدبر فردي، واجتهاد شخصي.

والسؤال لا يكون إلا عمَّا ينفع ويُفيد؛ فالنظر للعمل، والماهية للوجود، مثل السؤال عن ماهية الروح وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (١٧: ٨٥) أو السؤال عن الساعة؛ فالإجابة عليها ليس بتحديد الوقت بل بالاستعداد لها في كل لحظة. والسؤال الضار يسبِّب الفرقة والإساءة للسائلين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (٥: ١٠١). السؤال ليس تجريحًا أو إهانة، إحراجًا أو حصارًا، تضييقًا أو تعسفًا. السؤال للمعرفة وليس للتحذلق وادعاء العلم.

والسؤال عن البعيد تكون إجابته بالقريب وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (٢: ١٨٦). والسؤال المعرفي تكون إجابته عملية. الأَهِلة مواقيت للناس وللحج ومعرفة السنين والحساب، وهو ما ساعد على نشأة علم الفلك فيما بعد. والسؤال العام عن الإنفاق الإجابة عنه بالتحديد، كل ما يزيد عن حاجة الإنسان وهو «العفو». والسؤال عن القتال في الشهر الحرام الإجابة عليه بالإيجاب؛ فالدفاع عن النفس ضد العدوان حفاظًا على الحياة صالح في كل وقت بعيدًا عن الشرائع والمواثيق والمعاهدات الدولية. والسؤال عن الخمر والميسر الإجابة عنه بالإثم الكبير وما يحقِّقه من منفعة أو ضرر، والسؤال عن اليتامى الإجابة عنه بالإصلاح والخير، والسؤال عن المحيض الإجابة عنه عضويًّا أنه أذًى ومن ثم اعتزال النساء، والسؤال عن الحلال الإجابة عنه بالطيبات دون تنطُّع أو تضييق للرحمة، السؤال إذن عن المنافع والمضار؛ فالمنفعة أساس التشريع، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، دون اعتبار لحاكم أو نظام سياسي أو حاسية فطرية.

والسؤال يكون لأهل الاختصاص والعلم القادرين على الإجابة المتخصصة العالمة بعد تحويل المبادئ العامة التي يرسيها الوحي إلى سلوك إنساني تفصيلي طبقًا للزمان والمكان فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٦: ٤٣). وليس سؤال الجهال، عالم الدين الذي يفتي في السياسة والاقتصاد والفلك وعلم النفس والاجتماع والتاريخ والقانون بل وفي العلوم الطبيعية وفي أوقات الحرب وكيفية إدارة المعارك. وتشكو الحياة العربية المعاصرة من سيطرة العسكر ورجال الدين وكلاهما ليسا أهل اختصاص؛ لذلك تتواطأ السلطتان الدينية والسياسية في كل عصر، وهما أهل الثقة ضد أهل الاختصاص وهم أهل الخبرة.

وقد يكون السؤال للتاريخ للتعلم منه، سؤال الموءُودة عن سبب قتلها نبذًا للعادة الاجتماعية، وهو نفس السؤال القائم الآن عن أسباب القتل للأبرياء في حوادث الطريق وفي الاقتتال بين الإخوة الأعداء كما هو الحال في الجزائر وقتل الرهبان والأطفال والنساء والشيوخ وعن أسرى الحرب المصريين في سيناء، ومثل السؤال عن ذي القرنين والقادة العظام لمعرفة أحوال الشعوب ونهضات الأمم، والسؤال عن الأمم السابقة: نوح وإبراهيم وعاد وثمود للتعلم من الخبرات السابقة، وبلورة الوعي التاريخي، والاستفادة من التراكم التاريخي، حينئذٍ يتحول التاريخ من مجرد فخر بالآباء والأجداد إلى بُعد سياسي في تحليل الحاضر الذي يصب الماضي فيه.

أما السؤال بمعنى التسول وسؤال الناس العطاء دون حياء، والاستدانة وطلب المعونة والتضحية باستغلال الإرادة وارتهان الوطن فهو ليس سؤالًا بل تسول تعافه النفس بالرغم من الحاجة. أما السؤال المشروع فهو حق الفقير في مال الغني وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٥١: ١٩)، وحق السائلين مع ذوي القربى واليتامى والمساكين في بيت المال؛ لذلك لا يسأل الأنبياء الناس أجرًا على التعليم والإرشاد فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ (١٠: ٧٢)، وقديمًا رفض سقراط أن يأخذ أجرًا على تعليمه الناس كما كان يفعل السوفسطائيون؛ لذلك كان أحكم البشر.

وهو نفس اللفظ الذي يعني المساءلة والمسئولية، مساءلة المرسلين والأنبياء عن البلاغ، وسؤال البشر أجمعين عن أداء الأمانة، والسؤال عن الوفاء بالعهد وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (٣٥: ١٦) بشهادة السمع والبصر والفؤاد والجوارح على مسئولية الإنسان في الدنيا والآخرة.

تلك فلسفة السؤال كما يعرضها القرآن الكريم، فما هو السؤال الآن؟ وعن أي شيء تسأل الناس القادةَ والحكام قياسًا على القرآن الكريم وفلسفته في السؤال؟

ويسألونك عن الاستعمار قل هو احتلال واغتصاب للأراضي ونهب للثروات وضياع للكرامة وارتهان للإرادة، وتبعية للأمة لا يجوز التحالف معه أو موالاته، بل تجب مقاومته والتحرر منه.

ويسألونك عن الصهيونية قل هي استعمار استيطاني وتوسع عدواني يقلع الشعوب من أراضيها بدعوى أرض الميعاد، والميثاق، والاختيار، والاصطفاء. وهي عنصرية جديدة تُنكِر وجود الشعوب على منوال الفاشية والنازية، لا يجوز الصلح معها أو الاعتراف بها أو التعاون معها أو التطبيع سرًّا أو علنًا، تدريجيًّا أو هرولةً إليها.

ويسألونك عن التجزئة والطائفية والقُطرية والعشائرية قل هي إنكار لوحدة الأمة التي تنصهر فيها الأقطار والطوائف والأقوام والعشائر والعائلات والقبائل كما فعلت أول مرة، وكما حاولت في تاريخها الحديث ثم تعثرت في آخر عقدين من الزمان.

ويسألونك عن القهر والاستبداد قل هو إنكار لحرية الأفراد وحقوق الإنسان، وحق الإنسان الطبيعي في التفكير والتعبير والشهادة على عصره؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، والدين النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل قادر، رجلًا أو امرأة.

ويسألونك عن الفقر والظلم الاجتماعي قل هو إنكار للمساواة الطبيعية بين البشر، وحق الفقراء في أموال الأغنياء، وأن ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ، وأن أي عرصة فيها إنسان واحد جائع تبرأ ذمة الله منه.

ويسألونك عن التخلف قل هو الاعتماد على الغير، وعجز عن استثمار الموراد الطبيعية والبشرية والسيطرة على قوانين الطبيعة وتخطيط البيئة، ونقص الخدمات العامة من تعليم وصحة ومواصلات وإسكان ومستوى منخفض لسوء الدخل وسوء توزيعه.

ويسألونك عن الهُوية قل هي دفاع عن الذات ضد التقليد والتغريب والتميع وفقدان الشخصية القومية وذوابها في الآخر وموالاة الآخر على حساب الذات، والتزلف للبعيد على حساب القريب.

ويسألونك عن حشد الناس وتجنيد الجماهير في أمة عربية قوامها مائتان وخمسون مليونًا، قل إن داء الأمة هو اللامبالاة والفتور كما بيَّن الكواكبي في «أم القرى». ضعف إحساسها بالرسالة، وحملها للأمانة حتى انتصرت عليهم أمم أقل عددًا، واستولت أمة لا تتجاوز الخمسة ملايين على فلسطين في قلبها.

تلك أسئلة العصر لمن يُريد أن يسأل ولمن يُريد أن يُجيب، أم إن الأسئلة ما زالت عن الروح والساعة وعالم الجن والملائكة وعذاب القبر ومنكر ونكير وموضوعات الغيب والمعاد حتى سُلبت الأرض من تحت الأقدام، وتسربت المياه من بين الأصابع؟ هذا هو السؤال.

(٣) الدين والحياة

يظن الناس خطأً أن الدين مجرد عقائد للإيمان بها وكأن العقائد غاية في ذاتها وليست وسيلةً لبناء الضمير الإنساني الذي هو ركيزة المجتمع ومحرك التاريخ. وما أكثر العقائد في التاريخ وفي الأديان! إنما المحك هو معيار الصدق؛ فالإيمان بالعقيدة ليس مجرد قرار فردي بل هو برهان وتصديق وأثر في الحياة الفردية والاجتماعية. وما أكثر العقائد التي ألهت السلاطين والملوك أو التي طالبت الناس بالخضوع والولاء لمن يقول مثل فرعون فقال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٧٩: ٢٤)! العقيدة هي حقيقة تتكشَّف في القلب، وتتحوَّل إلى فعل وممارسة، وتُعبِّر عن مستقبل أفضل للعالم. العقيدة طاقة وحركة، تصوُّر ونظام، نظر وعمل، تُحاول الأيديولوجيات والمذاهب السياسية في المجتمعات الغربية أن تكون بديلًا عنها.٣

كما يظن البعض خطأً أيضًا أن الدين هو مجرد شعائر أو طقوس تمارس فردًا أو جماعة، مجموعة من المظاهر الخارجية الأقرب إلى الاحتفالية وكما كان الحال في الديانات القديمة. وكلما زاد الانبهار بالطقوس عظم شأن الدين من حيث عظمة الكنائس، وكبر المعابد، وثراء المساجد، ولبس رجال الدين بما فيها من ألوان براقة وحُلي مدلاة، ورموز حسية مثل إطلاق اللحى، ومسك المسبحة، ولبس الجلباب الأبيض، والتعطر بعطر مكة والمدينة والحجاز مما يباع في الأسواق، يضاف إلى ذلك البيارق والأعلام وإنارة المساجد والمآذن ومكبرات الصوت، وبالتالي تغليب الشكل على المضمون، والمظهر على المخبر، والخارج على الداخل. مع أن الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وأن العمل هو العمل الصالح النافع للفرد والجماعة؛ لذلك جاء نداء القرآن باستمرار إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. كما نقد السيد المسيح هذا الجانب الخارجي الشعائري للدين الذي لا يقوم على تقوى باطنية، ويصبح أقرب إلى الالتفاف والتظاهر والخداع.

ويظن فريق ثالث أن الدين هو المؤسسات الدينية التي تكوِّن سلطةً وأحيانًا واسطةً بين الإنسان والله، وهي في الغالب مؤسسات تاريخية نشأت في ظروف تاريخية محددة مثل الكنيسة في الغرب والمعبد أيام الرومان، ومشيخة الطرق الصوفية ودُور الإفتاء أيام الدولة العثمانية. والحقيقة أن الدين في القلب، علاقة مباشرة بين الإنسان والله، ولا يحتاج إلى توسط مؤسسة دينية تاريخية، سلطة بشرية في أصلها وتَدَّعي بعد ذلك أنها سلطة دينية في جوهرها. تسيطر أكثر مما تحرِّر، وتقمع أكثر مما تطوِّر. وقد دعا هذا البعض إلى التفرقة المستمرة بين الدين ورجال الدين؛ الدين في القلب، تقوى باطنية، ورجال الدين بشر، يخضعون لما يخضع له البشر من أهواء: السلطة والجاه.

ويظن فريق رابع أن الدين هو لحظات فريدة في التاريخ، يعيش معها الناس بذاكرتهم إلى الوراء منتزعين أنفسهم من حاضرهم وتاركين مستقبلهم؛ ففي اليهودية يظن البعض أنها العهد أو الميثاق في صيغته الأخيرة عند موسى مع ما يتضمنه ذلك من أرض المعاد والشعب المختار، والأرض والمدينة والمعبد، والنصر، والجيش، والمغنم، والخروج من مصر، والتوجه إلى الأرض المقدسة. هذا التصور للدين يبرِّر القتل والعدوان كما تفعل الصهيونية في فلسطين وكأن الدين بضاعة يدافع عنها صاحبها. ويتصوَّر المسيحيون أن الدين أيضًا لحظة فريدة في التاريخ، ظهور السيد المسيح عندما اجتمع الخلود والزمان في الشخص. ويتصور المسلمون أيضًا أن الدين فقط هو العودة بالذاكرة إلى أيام النبوة وحكم الخلفاء الراشدين والسيرة العطرة للصحابة والتابعين. ويؤدي هذا التصور إلى رد الزمان كله إلى لحظة واحدة في الماضي وإلى إيقاف التاريخ كله، مساره وتقدمه في مرحلة واحدة في الماضي وكأن ما يحدث الآن ليس من الدين في شيء.

ويظن فريق خامس أن الدين هو ميدان الأسرار والغيبيات والمعجزات، وكل ما يخرج عن نطاق العقل ويسبح في الخيال، ميدان الدهشة والعجب الذي يدفع الإنسان إلى الإيمان والاستسلام؛ فالدين ميدان الخوارق، مخالف للعلم ميدان الطبيعة، وللفكر ميدان المنطق والفلسفة. مع أن الإسلام دين العقل والبرهان، والرسول بشر مثلنا يوحى إليه، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وعندما طُلب منه إجراء المعجزات كما فعل موسى؛ تنزيل المطر من السماء، أو تفجير العيون من الأرض أجاب بأن ذلك خارج سلطة البشر بما في ذلك الرسول وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (١٧: ٩٢).

هذه التصورات الخاطئة للدين تمتلئ بها أجهزة الإعلام والبرامج الدينية وخطب الجمعة وكتب التربية والمؤلفات الدينية القديمة والحديثة، وتهدف كلها إلى فصل الدين عن الحياة؛ فخطبة الجمعة تتحدَّث عن الصحابة والخلفاء والتابعين، وتعود ذاكرة المصلين إلى الوراء، منتزَعين خارج زمانهم ومكانهم، يعوِّضون عن مآسي حاضرهم بأمجاد الماضي. كما يمتلئ خطاب الجمعة بالحديث عن الجنة والنار والنعيم والعذاب، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والملائكة والشياطين، وعذاب القبر ونعيمه. وما يشغل بال المصلين الفقر والعمل والسكن والخدمات العامة وكأن دقائق المسجد ما هي إلا راحة من عناء الساعات خارجه. ويتكرر نفس الشيء في البرامج الدينية في أجهزة الإعلام وأحاديث التفسير والروح والإيمان وكأن الدين بلا واقع، والإنسان بلا بدن. وهو ما يتعلمه الطلبة أيضًا في كتب التربية الدينية في المدارس. فإذ ما كبروا ثاروا على ما تعلَّموه ولجئوا إلى المذاهب السياسية المرتبطة بالحياة وبواقع الناس. وازدهر هذا النوع من التأليف، واتسعت قاعدة قُرائه سواء من التراث القديم أو من التأليف المعاصر، عالم الجن والملائكة، عذاب القبر، ومعجزات الأنبياء.

هذه التصورات للدين هي في الحقيقة ابتسار للدين وتضييق لمجاله، وإبعاده عن الحياة وواقع الناس، ويصبح عالمًا مغلقًا على ذاته، غاية في ذاته وليس وسيلةً لغاية أخرى مثل إسعاد البشر. الدين هنا غريب عن الحياة ومغترب عنها، يدفع بالمتدين إلى خارج العالم المادي المعاش، ويصبح أداةً لنسيان الهم، والعزاء والسلوى للضنك والكرب، مجرد راحة من تعب، وهدنة في حرب، ونوم بعد يقظة. يقبله العاجزون الذين لا يجدون له بديلًا، ويرفضه القادرون إلى ما هو أكثر التصاقًا بالحياة، المذاهب السياسة والتيارات الفكرية والمدارس الفنية.

إنما الدين في الحقيقة هو نظام حياة للفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء. هو تصور كامل للحياة ينبثق منه نظام للمجتمع متفق مع نظام الكون. الدين وسيلة وليس غايةً في ذاته، طريق لإسعاد البشر لا لتبرير الشقاء، مفجِّر لإبداعات البشر من خلال الاجتهاد والتعبير الحر، والقدرة على الجهر بالحق وليس أداة كبت وخوف وقهر وحرمان، دافع على التقدم ومخطط للمستقبل وليس راجعًا إلى الوراء حنينًا إلى الماضي؛ فالجنة في المستقبل وليست في الماضي، والعصر الذهبي قادم ولم يتولَّ بعد.

إن المتأمل في الحديث المشهور «بُني الإسلام على خمس» ليجد في هذه الأركان الخمسة ارتباط الدين بالحياة؛ فالشهادة، الركن الأول، من فِعل شاهد أي رأى وسمع ثم شهد أي تكلم وعبَّر ولم يكتم الشهادة وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (٢: ٢٨٣). فالمسلم هو الذي يشاهد ويشهد وقد يقع شهيدًا من جراء مشاهدته وشهادته. الشهادة على العصر أول ركن في الإيمان. وتعني الشهادة الإعلان عن مدى تطابق المثال مع الواقع، نظام الوحي مع نظام المجتمع كما تفعل المعارضة السياسية من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين، وقول الحق في مواجهة إمام جائر. الشهادة تمنع من الخوف والكتمان، والكذب والنفاق، والمهادنة والتبرير، وجعل الحق باطلًا والباطل حقًّا.

وتعني «لا إله إلا الله» تحرير الوجدان الإنساني من كل رهبة أو خوف أو طمع أو غرور، تحريره من كل آلهة العصر المزيفة؛ المال، والشهرة، والجاه، والسلطان حتى يصبح الوجدان قابلًا للإله الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع. ويبدأ فعل الشهادة بالنفي أولًا «لا إله» ثم بالإيجاب ثانيًا «إلا الله». ودون فعل النفي لا يتطهر الوجدان من أهواء البشر.

وتعني «محمد رسول الله» الإعلان عن نهاية النبوة، وأن الإسلام خاتم الرسالات، وأن الإنسان أصبح مستقلًّا عقلًا وإرادة، يميِّز بين الحَسَن والقبيح بالعقل، ويختار الحَسَن دون القبيح بإرادته الحرة. الإنسان خليفة الله في الأرض، والعلماء ورثة الأنبياء. والإنسان قادر بنفسه على السير في العالم والكدح فيه وتعمير الأرض وتشييد البنيان واستعمار الكون هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (١١: ٦١). الشهادة إذن ليست مجرد قول أو إعلان باللسان، بل هي توجه نحو النفس والعالم بالإعلان عن الحق والعدل ضد الباطل والظلم. الشهادة موجهة نحو الحياة وليست خارجةً عنها، وظيفتها وضع الإنسان في العالم وليس إخراجه منه.

وتهدف الأركان الأربعة الأخرى إلى نفس الشيء؛ حق الجماعة على الفرد، ومسئولية الفرد عن الجماعة كما هو الحال في الصلاة والصيام والزكاة والحج. الصلاة تذكرة يومية لبُعد الحق والعدل في الحياة اليومية لرعاية العمل وحسن الأداء، والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء، والصيام إحساس بجوع الفقراء وحاجة المحتاجين، والحج يجمع الأمة في مكان واحد وزمان واحد لإعلان البراءة، حالة الأمة بين الأعداء والأصدقاء، والتشاور بين الأقوام، وتقوية الشوكة في عالم تسوده التجمعات ولا بقاء فيه للكِيانات الصغيرة؛ هي الأداة السياسية العامة لتحقيق الصالح العام.

وكما يذكر الناس عادةً أركان الإسلام الخمسة يذكر الفقهاء فيما بينهم مقاصد الشريعة الضرورية الخمسة؛ الحفاظ على الحياة (النفس)، والعقل، والدين، والعِرض (النسل)، والثروة (المال). وكلها أركان الحياة الاجتماعية وضروراتها والتي يمكن أن تكون إعلانًا عالميًّا لحقوق الإنسان؛ فالحياة قيمة، صفة من صفات الله، حياة النفس والزرع والثروة الحيوانية. والقصاص حياة لأنه حفاظ عليها من المعتدي عليها وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ (٢: ١٧٩)، والرسول يدعو إلى الحياة لا إلى الموت.

والعقل أول مظهر للحياة؛ فهو أداة العلم، وهو أيضًا صفة من صفات الله مع القدرة كمظهرين للحياة، والعقل أساس التكليف وشرط المسئولية. ويتجه العقل نحو كل شيء بالتحليل والنقد، والمواجهة والحوار، دون تسليم وطاعة، وهو أول ما خلق الله «أول ما خلق الله خلق العقل.» ليس العقل قاصرًا حتى يكون قصوره ذريعةً للتوجه إلى الإيمان وإكماله بالدين لأن العقل هو البرهان، وما لا دليل عليه يجب نفيه؛ فلا شيء يخفى على الناس، ويتجاوز الفهم، ويخرج عن نطاق العقل.

ويعني الدين، المقصد الثالث، الحقيقة، المعيار العام الشامل الذي لا يختلف عليه البشر مثل العدل والحرية والأخوة بين البشر؛ فالكل لآدم وآدم من تراب، حماية للروح الإنساني من الوقوع في النسبية والشك واللاأدرية حتى العدمية، وهو ما يحدث حاليًّا في الوعي الغربي. هناك حقيقة كلية تجمع البشر بالرغم من اختلاف التفسيرات وتعدد الاجتهادات.

والعِرض ليس فقط عِرض الأفراد حمايةً لحقوقهم بمعنى الحفاظ على طهارة الأنساب، بل يعني أيضًا عِرض الشعوب وكرامة الأمم وكل ما يُنال من قيم الشرف؛ فالأرض عِرض في المثل الشعبي، وكرامة الأمة عِرض سياسي، وحصار شعب ينال من عِرضه وكرامته، وتشويه صور ثقافة ينال من عِرضها في التاريخ.

ولا يعني المال، المال الخاص بل الثروة العامة، ثروات الأمم دون استغلال أو احتكار، وتوجيهها للصالح العام. ولا يعني المال السائل أي النقود، بل الثروات المنظورة وغير المنظورة، على سطح الأرض وفي باطن الأرض، الزراعة والتعدين، المنقول وغير المنقول.

لا عذر إذن لمن يترك الدين لأنه بعيد عن الحياة ويلجأ إلى المذاهب السياسية لأن بها إجابات عن الأسئلة التي يطرحها. إنما العيب فيمن استحوذ على الدين وأبعده عن الحياة طلبًا للرئاسة والسيطرة. والعيب أيضًا على من استسهل وترَكَ الدين في يد أعدائه، وذهب إلى دين آخر بديل لا يدري هل هو من صُنع الأصدقاء أو من صُنع الأعداء.

(٤) المظاهر والحدود٤

انشغل العلماء في العصر الحديث بالدفاع عن الإسلام ضد منتقديه من المستشرقين؛ فقد رد الأفغاني على رينان في اتهامه الإسلام بأنه ضد العلم والتقدم، كما ردَّ محمد عبده على هانوتو في حكمه على الإسلام بأنه ضد العلم والمدنية على عكس النصرانية في «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية»، وردَّ مصطفى عبد الرازق على كارادي فو وغيره من المستشرقين بأن الفلسفة الإسلامية مجرد شرح للفلسفة اليونانية في «التمهيد لتاريخ الفلسفة في الإسلام» مُبيِّنًا الإبداع الفكري الإسلامي في علم الأصول؛ أصول الدين وأصول الفقه.

ومنذ الحركات الإسلامية المعاصرة التي فرضت نفسها على الساحة الفكرية والسياسية انبرى المثقفون لبيان أن الإسلام مضمون وليس شكلًا، جوهر وليس عَرَضًا، مقاصد وليس حدودًا، تحقيق لمصالح الناس وليس ردعًا وعقابًا. ودافع الإسلام المستنير عن جوهر الإسلام وروحه وأنه دين العقل والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتقدم. استطاع أن ينشئ حضارةً امتدَّت عبر أربعة عشر قرنًا، وأن يرث حضارات الأمم السابقة، اليونان والرومان غربًا، وفارس والهند شرقًا، وأن يكمل الديانات السابقة ويُتمها؛ اليهودية والنصرانية، وأن يجعل العرب معلِّمين للإنسانية، مبدعين للعلم والثقافة، وأن تكون الحضارة الإسلامية وراء النهضة الأوروبية الحديثة وأحد أسباب نشأتها.

وقد نشأت حركات التحرر الوطني الحديثة في مصر والمغرب العربي والسودان واليمن والحجاز خاصةً من ثنايا الحركة الإصلاحية الإسلامية الحديثة؛ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول في مصر. فالحزب الوطني الذي أسَّسه مصطفى كامل ومحمد فريد من تعاليم الأفغاني، وبرنامجه من صياغة محمد عبده، وسعد زغلول قائد ثورة ١٩١٩م ومفجرها تلميذه. والحركة الاستقلالية في المغرب تدين لعلال الفاسي أستاذ الشريعة بالقرويين، ومحمد الخامس رمز المقاومة ضد الاستعمار يجمع بين الزعامتين الدينية والسياسية. ونشأت الحركة الوطنية الجزائرية من ثنايا جمعية علماء الجزائر. ودَور علماء الزيتونة في تونس معروف في مناهضة الاستعمار الفرنسي، وعمر المختار في ليبيا شيخ يستأنف نضال السنوسية ضد الاستعمار الإيطالي، والحركة المهدية في السودان، حركة دينية وسياسية في آنٍ واحد. واستمر الأمر كذلك حتى المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وفي فلسطين وفي جنوب أفريقيا.

واتُّهمت الحركة الإسلامية المعاصرة هذه المرة بالعنف والمظهرية والتعصب والتشدد ورفض الحياة العصرية والمعاداة للغرب، وبالعقائدية وتكفير المخالفين من الإسلاميين وتخوين العلمانيين. وجاء الاتهام من الخارج ومن الداخل على حد سواء. وانبرى المثقفون، إسلاميون وعلمانيون للدفاع عن شرعية المقاومة الإسلامية، ونضال الاتجاه الإسلامي، وأنه جزء من تكوين الشارع السياسي العربي، وأحد اختيارات المستقبل القريب أو البعيد.

ولكن يصعب أحيانًا الدفاع المستمر خاصةً في بعض الجوانب التي يصعب الدفاع عنها بالفعل مثل الاقتتال في أفغانستان بين فرقاء النضال وزعماء الحروب الذين نجحوا في توحيد الصفوف، ومقاتلة السوفيت بعد تدخُّلهم في أفغانستان واحتلالهم لأراضيه. وظهر أبطال المقاومة يُلهِبون خيال أجيال جديدة من المناضلين مثل شاه مسعود. وبعد قضاء قياصرة روسيا على الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا وابتلاعها كليةً منذ ثورة ١٩١٧م داخل الاتحاد السوفيتي عاد للجمهوريات استقلالها بعد تفتُّت الاتحاد، وانهزم الروس في أفغانستان على أيدي المجاهدين. وحدث نفس الشيء في الشيشان عندما أعلنت استقلالها، وقاومت التدخل الروسي حتى أجبرت قواته على الانسحاب. وفي مندناو جنوب الفلبين وبعد حرب استقلال على مدى ربع قرن حصل المسلمون على استقلالهم الذاتي في الجنوب؛ فالانتصارات متوالية والنضال الوطني مشروع باسم الإسلام وحقوق الشعوب في الاستقلال.

ثم يُجهض المسلمون نصرهم بأيديهم؛ فبعد نجاحهم في مقاومة العدو الخارجي والانتصار عليه تبدأ الهزيمة في الداخل بالاقتتال بين الإخوة الفرقاء وكأن الإسلام لم يحرِّم سفك الدماء، وقتل الأخ لأخيه، والقاتل والمقتول في النار. ويستمر الاقتتال سنوات وسنوات، وتتطاير الرقاب، وتُقذف الصواريخ، وتُهَد المدن، ويموت النساء والأطفال والشيوخ، ويُستشهد المجاهدون بلا سبب أو قضية إلا من فتنة كما حدث في حروب الفتنة الأولى. والاقتتال وارد في الثورات بين فرقاء النضال والتصفيات الجسدية شائعة أثناء الثورة الفرنسة والثورة الروسية، ولكن حقن الدماء واجب شرعي عند المسلمين؛ فدماء المسلم وماله وعرضه حرام على أخيه المسلم. وقد اعتزل الحسن الفتنة حتى لا يكب الزيت على النار، واعتزل كثير من أوائل الصحابة الحروب بين علي ومعاوية حقنًا للدماء.

والشيء الذي لا يمكن الدفاع عنه هو فهم الإسلام باعتباره مجرد مظاهر خارجية؛ إطالة اللحى، ولبس العمائم أو تطبيق الحدود وكأن الإسلام أتى للردع والعقاب، وكأن الرسول قد أرسل جابيًا لا هاديًا. بل كثيرًا ما يُستَعمل هذان الجانبان في الإسلام كوسيلة لإضفاء الشرعية على الحكم الظالم تمسُّحًا بالإسلام وطلبًا لشرعيته. حدث ذلك في السودان أيام النميري عندما قطع أيدي السجناء الفقراء في سجن أم درمان أمام أجهزة الإعلام الغربية تطبيقًا لحكم الشريعة، وكأن هذه الشريعة نفسها لم تجعل لهذا الفقير حقًّا في بيت المال ولم تمنع الحاكم من نهبه وتهريبه خارج البلاد. وتكرَّر نفس الشيء في باكستان أيام ضياء الحق عندما أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية باسم الانقلاب العسكري لإضفاء الشرعية على الحكم وكأن الشريعة الإسلامية هي فقط قانون العقوبات وليست ديمقراطية الحكم وعدالة التوزيع وحرية الرأي واستقلال الشعوب.

وتكرَّر الأمر في أفغانستان بعد استيلاء حركة العمائم «الطاليبان» على الحكم وبعد انتصار المقاومة الشيشانية؛ كان أول ما فعله الشيشان تطبيق الحدود وكأن إعادة بناء المدن المخربة، وإيواء المسلمين اللاجئين وإعادة بناء الدولة وهياكلها ليس من الإسلام. وتتناقل أجهزة الإعلام الغربية مناظر الجلد والرجم وقطع الأيدي لتقضي على صورة المقاومة الإسلامية وتسلبها انتصارها على الروس ولتؤكد على الصورة النمطية للإسلام السائدة فيها، وأنه مساوٍ للعنف والقسوة والتخلف وانتهاك حقوق الإنسان. وكان أول ما فعلته حركة العمائم البيضاء هو المناداة والإعلان بتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية. وكانت أولى قراراتها إطالة اللحى، وتحريم النساء من الخروج من المنازل تطبيقًا للسنة والقرآن. فتُسرع أمريكا بالتأييد إذ يسهل استيعاب هذا الإسلام المظهري الذي لا يعادي الاستعمار ولا يرفض الرأسمالية حتى لو أتت من تجارة المخدرات كما هو الحال في بعض أنظمة الحكم في أمريكا الجنوبية. أليس إعادة بناء الدولة، وإطعام الفقراء، وإيواء اللاجئين، وإعادة بناء المنازل، وإصلاح المرافق العامة من مياه وكهرباء ومواصلات، وإعادة فتح المدارس، وتشغيل المصانع، وزراعة الأرض من واجبات الدولة الإسلامية؟ أليست المصالحة الوطنية وإنهاء القتال واجبًا شرعيًّا؟

إن الصحوة الإسلامية المعاصرة إن كانت أيضًا موضع تساؤل حول بعض المظاهر إلا أنها تقاوم في جنوب لبنان وفي فلسطين؛ فالمقاومة تشفع لها المظهرية، ووحدتها وعدم الاقتتال بينها، ورفع الأخ السلاح في وجه أخيه تجعلها قادرةً على الدفاع عن نفسها ضد المظهرية والأشكال الخارجية، وتناضل ضد عدو جعل من هذه الظواهر أحد معالم هُويته؛ فالإيجاب في هذه الحالة أكثر من السلب، والمنفعة أكثر من الضرر.

ويظل السؤال قائمًا: لماذا ينجح المسلمون في مقاومة العدو في الخارج والانتصار عليه ويكونون أقل نجاحًا في الداخل عندما يتحوَّلون من الثورة إلى الدولة، وعندما ينتقلون من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر طبقًا للحديث المشهور؟ هل هذا هو قانون الثورات كلها أو معظمها؟ نجح نابليون في نشر أفكار الثورة الفرنسية في الخارج وتوسيع نطاقها ولكنه كان أقل نجاحًا في الداخل؛ فقد حوَّل الثورة إلى إمبراطورية، وحركة الجماهير إلى مصالح شخصية. كما نجح عبد الناصر في تحرير العالم العربي ضد الاحتلال الأجنبي وفي مقاومة الصهيونية، وبلورة القومية العربية وإرساء قواعد عدم الانحياز ولكنه كان أقل نجاحًا في الداخل بالنسبة لقضايا الحريات العامة وديمقراطية الحكم والحوار مع القوى الوطنية السابقة على الثورة.

وقد تكون هناك أسباب أعمق بالنسبة للشيشان وأفغانستان الآن وقبل ذلك بالنسبة لباكستان والسودان وربما إيران. هناك المحافظة التاريخية المستمرة في الوعي الثقافي منذ أكثر من ألف عام، منذ قضى الغزالي على العلوم العقلية، وكفَّر التعددية، وجعل الأشعرية العقيدة الرسمية والشافعية المذهب الرسمي، وقوَّى الدولة وسلطانها على حساب الشعب وحقِّه في المراجعة والنقد. أعطى السلطان القوة وطالب الشعب بالطاعة. واستمرَّت هذه المحافظة الدينية وتحوَّلت إلى أشكال ورسوم إبَّان الحكم العثماني، وبالتالي أصبحت هي الرافد المكوِّن لثقافة العلماء والجماهير. ولم تستطع الحركة الإصلاحية منذ القرن الماضي إيجاد ميزان التعادل في الوعي الثقافي بين محافظة القدماء وتحرُّر المحدثين بعد تعثُّرها وكبوتها من الأفغاني إلى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية، ومن محمد عبده إلى رشيد رضا بسبب القضاء على الخلافة وثورة أتاتورك في تركيا، ومن رشيد رضا إلى حسن البنا بسبب اغتياله، ومن حسن البنا إلى سيد قطب بعد اندلاع ثورة ١٩٥٢م والصراع بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤م.

وقد تُوظَّف هذه المظاهر الخارجية كنوع من الإعلام السياسي بعد أن تمَّ تهميش الحركات الإسلامية واستبعادها من الحياة السياسية؛ فأصبحت المظاهر نوعًا من إثبات الوجود، كما أنها الطريق السهل المرئي للإعلان عن الهُوية الإسلامية والتمايز مع الآخرين؛ فالبرنامج الاجتماعي السياسي ربما ما زال غير واضح، ويتطلَّب الجهد والوقت والتخصص والقراءة والتعليم وهو ما لا يُتيحه النضال السياسي، وربما هو الإحساس بالفرقة الناجية التي لا تقبل الحوار مع الخصوم، مع الفرق الهالكة.

إن مخاطر المظاهر والحدود على الأمد الطويل وجعلها هي كل الإسلام بل والإسلام كله هو نشأة تيار علماني مناهض يُغلِّب المضمون على الشكل، والمصالح العامة على العقوبات سواء من العلمانيين أو الإسلاميين المستنيرين؛ إذ تتعطَّل مصالح الناس لحساب الشكل، ولا تُشبع الحاجات الأساسية لهم لحساب الردع والعقوبات. فيتغيَّر المجتمع، ويتجه نحو المضمون ضد الشكل، ويعادي الناسُ الإسلام بسبب فرق المسلمين.

إن الأشكال والمظاهر إنما كانت في البداية من أجل التمايز بين المسلمين وغيرهم مثل اليهود والنصارى الذين كانوا يُطيلون الشوارب ويُقصِّرون اللحى، والحدود في الإسلام تأتي في النهاية وليس في البداية، بعد تحقيق مقاصد الشريعة ومصالح الناس، وحق كل مسلم في بيت المال في الغذاء والكساء والتعليم والعلاج والعمل والانتقال والإسكان. الإسلام كل لا يتجزأ، لا يؤخذ جزء منه ويُترك الجزء الآخر. حمى الله الشيشان وأفغانستان والسودان وباكستان وإيران، نماذج الحكم الإسلامي في أجهزة الإعلام الغربية وأمام جماهير المسلمين.

(٥) الحقوق والواجبات٥

التوازن بين الحقوق والواجبات هو أساس كل حضارة. الحق في مقابل الواجب، والواجب في مقابل الحق. الحق أخذ، والواجب عطاء، ولا أخذ بلا عطاء، ولا عطاء بلا أخذ.

هذا التوازن هو مقياس المدنية أيضًا، تسعى إليه كل حضارة، ويناضل من أجله كل شعب؛ فهو ليس معطًى سلفًا بل نتيجة لجهد البشر وسعيهم، ووعيهم، وإحساسهم بالقدرة على الدفاع عن الحقوق قدرَ التزامهم بالواجبات.

هذا التوازن بين الحقوق والواجبات هو موضوع علم الحقوق في كليات الحقوق كما هو الحال في الثقافة العربية المعاصرة التي وحَّدت بين القانون والحق، ربما تحت تأثير الثقافة الفرنسية منذ ترجمة الشرطة La Charte التي وضعها نابليون بونابرت؛ فكلمة Droit بالفرنسية تفيد المعنيين: الحق وفي نفس الوقت أصبحت عنوانًا لعلم الحقوق أو كلية الحقوق. وكذلك الحال في اللغة الألمانية التي تعني فيها كلمة Recht نفس المعنيين؛ الحق ودراسة القانون. أما اللغة الإنجليزية فتعطي لكل معنًى كلمة؛ الحق Right ودراسته في كلية القانون Law.

ارتبط الحق إذن بالقانون وارتبط القانون بالحق أكثر من ارتباطه بالواجبات؛ فالحقوق في حاجة إلى دفاع، والواجبات إلزام خلقي فردي. الحق ينتزعه الإنسان من المجتمع، والواجب يلتزم به الإنسان من تلقاء نفسه؛ لذلك أُنشئت كليات الحقوق للدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن في حين أن الواجبات جزء من علم الأخلاق.

لذلك نشأت مدرسة الحق الطبيعي من أجل تأسيس القانون عليه؛ فالحق في الطبيعة البشرية، حق الحياة والبقاء والمعرفة والحرية في القول والعمل والاعتقاد والحركة؛ فالحق مغروز في طبيعة البشر، وليس منحةً أو منةً من أحد. والواجب التزام أخلاقي ينبع أيضًا من طبيعة الفرد وليس مفروضًا عليه من الله، الواجبات الدينية مثل الحدود والكفارات، أو من الحاكم، الواجبات السياسية مثل الطاعة والالتزام بالقانون. التوازن بين الحقوق والواجبات إذن من البديهيات الإنسانية، ينبع من الفطرة، ولا يختلف عليه العقلاء. ومع ذلك، قد يكون البديهي عقلًا غير واقع عملًا، وقد لا يكون اتفاق العقلاء هو ما تتفق عليه الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية عند كل الشعوب.

ومع ذلك، فقد قيل عن الحضارة الإسلامية إنها عرفت الواجبات ولم تعرف الحقوق، وإن الحضارة الغربية ربما عرفت الحقوق ولم تعرف الواجبات. وبالرغم مما في كل تعميم من جَور إلا أن الأفكار الشائعة المتداولة في الثقافة العامة قد يكون لها أبلغ الأثر في توجيه الرأي العام من الأحكام العلمية الدقيقة.

والحقيقة أن هذا حكم ظالم؛ فلا توجد حضارة إلا وعرفت الحقوق والواجبات، ولكن القضية هي إيجاد التوازن بينهما. وهذا التوازن لا يحدث تلقائيًّا بل يقع في سباق تاريخي وبجهد بشري. أحيانًا تكون الحقوق موجودةً بالقوة والواجبات موجودةً بالفعل كما هو الحال في الحضارة الإسلامية، وأحيانًا تكون الحقوق موجودةً بالفعل والواجبات موجودةً بالقوة كما هو الحال في الحضارة الغربية. ويستعمل أنصار الحكم الأول أن الحضارة الإسلامية عرفت الواجبات دون الحقوق بحجة أن الله هو صاحب الحق وأن الإنسان هو خلقه وأداته لتنفيذ الواجب، وقد وضح ذلك من عنوان كتاب محمد بن عبد الوهاب الشهير «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد». كما تستعمل بعض الحجج المعاصرة من طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ثقافتنا وممارساتنا السياسية، أن الحاكم له حقوق أكثر مما عليه من واجبات، في حين أن المحكوم عليه واجبات أكثر مما له من حقوق؛ فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم مثل العلاقة بين الله والإنسان في التوازن بين الحقوق والواجبات.

كما يبرز في السلوك اليومي حق المواطن على غيره أكثر مما يبرز واجبه نحوه، يأخذ المواطن حقه من غيره وربما أكثر منه ولا يقوم بواجباته نحوه كرد فعل على سلب حقوقه وتكبيله بالواجبات على المستويين الديني والسياسي، فتنازَعَ الأفراد في الحقوق مع بعضهم البعض وتركوا الواجبات تجاه بعضهم البعض.

ووجه الظلم في هذا التحليل هو الاعتماد على الثقافة المدوَّنة والمستقرة، ثقافة الأغلبية أو ثقافة السلطة السياسية دون الأخذ في الاعتبار ثقافة الأقلية، ثقافة المعارضة السياسية مثل المعتزلة القدماء ونضال المفكرين المحدثين ورفع شعار مثل «الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة».

فقد صاغ المعتزلة القدماء الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف؛ فالإنسان أولى بالخلق من عدمه وأولى بالتكليف من عدمه وإلا أصبح كالحيوان الأعجم أو الجماد غير الناطق، وصاغوا أيضًا الحقوق في قانون الاستحقاق بناءً على الآية الكريمة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٩٩: ٧)، وهو قانون ينظِّم هذا التوازن بين الحقوق والواجبات، لا حق بلا واجب، ولا واجب بلا حق. وهذا هو العدل الذي يعبِّر عن جوهر التوحيد؛ لذلك سُموا «أهل التوحيد والعدل».

كما صاغ الأصوليون في مقاصد الشريعة الكلية حقوق الإنسان، وهي الضروريات الخمس التي من أجلها وُضعت الشريعة ابتداءً، وهي مقاصد الشارع ذاتها وموجودة في الطبيعة الإنسانية وفي واقع الناس وحياتهم؛ فهي حقوق طبيعية أتت الشريعة لتأكيدها؛ فالشريعة بهذا المعنى شريعة وضعية.

  • أولًا: الدفاع عن الحياة والبقاء ضد الموت والاستئصال والذبح والتدمير. فحق الحياة حق طبيعي، وتتمثل الحياة في حياة النفس البشرية وحياة النبات والحيوان، فلا يجوز تدمير الزرع أو حرق الأشجار أو تعذيب الحيوان، ولا يجوز الاغتيال والتعذيب في السجون وإزهاق الأرواح. الحياة قيمة مطلقة تجب حمايتها من الأمراض والأوبئة والمجاعات والجفاف والحروب الأهلية والنزاعات الطائفية. ومن شارف على الموت، وكانت في يده فسيلة فليغرسها قبل أن يموت حتى تكون آخر لحظة في حياته قبل الموت استمرارًا للحياة في الأرض وبين الناس.
  • ثانيًا: الدفاع عن العقل؛ فالحياة هي الحياة العاقلة، والعقل هو أساس التكليف؛ لذلك لا تكليف للصبي أو المجنون. والعقل هو الفهم والعلم والمعرفة؛ لذلك حق العلم حق طبيعي، والجهل ضد حق العلم؛ لذلك لزمت مجانية التعليم؛ فالعلم حق طبيعي، لا فرق فيه بين الأغنياء والفقراء. ويشمل حق العلم حق الحصول على المعلومات، «أعوذ بالله من علم لا ينفع.» وكل الواجبات تنبع من هذا الحق مثل تحريم شرب الخمر لأنه يؤدي إلى السكر، والسكر ذهاب بالعقل؛ فالحق هو أساس الواجب ومصدره.
  • ثالثًا: الدفاع عن الحقيقة الموضوعية العامة الثابتة التي سماها القدماء الدين؛ أي الحقائق الإنسانية العامة مثل عدم العدوان، والمساواة بين البشر، وحرية العبادة. فالحق يجمع بين البشر وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (٢٣: ٧١)، حماية للحق من النسبية والشك والعدمية والمعيار المزدوج وسياسة القوة. وهو ما سماه القدماء الدين.
  • رابعًا: الدفاع عن العِرض والكرامة والأرض؛ فالعِرض في الثقافة الشعبية هو الأرض أيضًا؛ فالحياة ليست فقط قيمةً في حد ذاتها أو حياةً عاقلة قادرة على الدفاع عن الحق، بل هي الحياة الكريمة، وتشمل الكرامة الأفراد والمجتمعات والأوطان، بل وكرامة التاريخ، حماية له من التشويش والتشويه المقصود.
  • خامسًا: الدفاع عن الثروة والموارد الطبيعية ضد الاستغلال والاحتكار والنهب والتبذير والفقد والضياع والتدمير، وهو ما سماه القدماء المال بلغة المجتمع التجاري الأول؛ فالثروات الطبيعية في الأرض إنما هي قوام الحياة سخَّرها الله للبشر للانتفاع بها واستثمارها.

وفي القرآن الكريم لم يُذكر لفظ واجب إلا مرةً واحدة في صيغة فعلية للحيوان فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا (٢٢: ٣٦) في حين ذُكر لفظ الحق ٢٨٧ مرة، منها وصف الله بأنه هو الحق ٢٢٧ مرة، ويعني الحق الوجوب والضرورة. إذ يحق التدمير والعقاب على من تخلى عن واجباته، وكلمة الله حق بمعنى أنها واجبة وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ (١٠: ٣٣)، والحق قانون طبيعي للكون ومظاهر الطبيعة وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٨٤ / ٢ / ٥).

ومن اللفظ أتى قانون الاستحقاق عند المعتزلة، ومن اللفظ أتت الحاقة؛ أي القيامة. والغالب هو استعمال الحق كصفة لله، ذاتًا وصفاتٍ وأفعالًا؛ فالحق ينزل من الله، والإنسان يحافظ عليه ولا يلبسه بالباطل ولا يكتمه أو يشك فيه ويبيِّنه للناس، يؤمن ولا يكفر به، يحافظ عليه ولا يضيِّعه؛ فالتمسك بالحق جوهر الإيمان، ولا يدافع عنه السفيه أو العنيف؛ بل يحافظ عليه العاقل القوي، وعلى الحق تقوم السموات والأرض ويقوم العدل بين الناس دون خلو أو تقصير، وهو الذي يبقى في الأرض وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (١٧: ٨١)، وللناس حقوق في الأموال والزروع وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ (٦: ١٤١)، وللقربى والمساكين وأبناء السبيل حقوق وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ (١٧: ٢٦). والحق أحق أن يُتبع، ولا يقال على الله إلا الحق حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ (٧: ١٠٥).

فكيف بعد هذا كله يقال إن الحضارة الإسلامية عرفت الواجبات في شكل الحدود والكفارات وتطبيق الشريعة والحاكمية والإيمان ولم تعرف الحقوق؟ الواجبات في الإسلام مستنبَطة من الحقوق، والحقوق هي أساس الواجبات، ولا حرج في الدين، ولا ضرر ولا ضرار، وتُدرأ الحدود بالشبهات، ولا تكليف بما لا يُطاق.

أما ما يقال عن الحضارة الغربية بأنها أعطت الحقوق، ووازنت بين الحقوق والواجبات فإنه أقرب إلى الدعاية منه إلى الحقيقة. ويكشف عن إعجاب بالغرب وانبهار به أكثر مما يحلِّل وينقد، يُبيِّن ويكشف. صحيح أنه في الغرب، أثناء الثورة الفرنسية وبعد الحرب العالمية الأوروبية الثانية صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن، وأصبح وثيقةً للبشر جميعًا. وازدهرت الكتابات عند فلاسفة الغرب عن فلسفة الحق، وأصول الحق، ومبادئ الحق، والحق الطبيعي، والحق المدني، والحق الاجتماعي، والحق السياسي. ومع ذلك فهي حقوق فردية؛ فقد نشأ مفهوم الفرد في الغرب ضد الجماعة والسلطة والكنيسة والدولة. صحيح أن للإنسان حق التفكير والتعبير والإيمان والحركة من حيث النظر، ولكنه الإنسان المتفوق الأوروبي الأبيض، وليس الإنسان من حيث هو إنسان. أما الإنسان الأسود أو الأحمر أو الأصفر فمن حق الأبيض استعباده والسيطرة عليه واستغلاله، ومن واجبه تحضيره وتمدنه والوصاية عليه.

لذلك أصبحت حقوق الإنسان في الغرب نسبيةً متغيرة، وأصبح «العالمي» يعني المحلي؛ أي الغربي. وظهرت ازدواجية المعيار داخل الغرب وخارجه، الحرية في الداخل والقهر في الخارج، الديمقراطية في الداخل والتسلط في الخارج، المساواة والعدالة الاجتماعية في الداخل والاستغلال والنهب في الخارج.

وظهرت ازدواجية المعيار في الخارج بين عدة مناطق؛ فالمناطق التي للغرب فيها مصالح، معيار الاستغلال فيها وارد، والمناطق التي ليس للغرب فيها مصالح مثل فلسطين تُترك نهبًا للصهيونية ولأطماعها، ومثل البوسنة والهرسك تُترك للصرب تذبيحًا وتقتيلًا.

وما دامت الحقوق مرتبطةً بالعرق والمركزية الأوروبية فقد يخرج شعب أوروبي يدَّعي أنه مركز المركز، وجنس الأجناس، وعرق الأعراق، كما حدث أيام النازية عندما أصبحت ألمانيا فوق جميع الأجناس، الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين. وأصبحت كلمة العالمي تُخفي أبشع أنواع المحلية والعرقية.

ضاع التوازن بين الحقوق والواجبات في الغرب، حقوق الأنا الغربي ولا واجبات تجاه الغير، وواجبات الغير ولا حقوق لهم تجاه الأنا الغربي، حقوق المركز تجاه المحيط دون واجبات عليه، وواجبات المحيط تجاه المركز ولا حقوق لهم.

إسرائيلي واحد محتل مغتصب يُقتل يساوي آلاف الفلسطينيين في السجون والمعتقلات وتحت القنابل، نساءً وأطفالًا وشيوخًا. أمريكي واحد يُصاب في الصومال يساوي آلاف الأفارقة الجياع العراة المصابين بالجوع والجفاف. أنجلو أمريكي بروتستانتي أبيض في أمريكا يساوي آلافًا من الأمريكيين الأفارقة أو الإسبان، صربي واحد يساوي عشرات المسلمين في البوسنة والهرسك؛ لذلك جرَّب الغرب القنبلة الذرية في الشرق؛ في اليابان، في هيروشيما ونجازاكي وليس في ألمانيا أو إيطاليا.

لقد أضاف العالم الثالث والعالم العربي في قلبه يومئذٍ في الستينيات؛ ناصر، ونهرو، وتيتو، وشوين لاي، ونكروما، وسكوتوري، وبن بللا «الإعلان العالمي عن حقوق الشعوب» في الجزائر لإكمال «الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان» بالرغم من محليته ومعاييره المزدوجة، حق الشعوب في التحرر من الاستعمار والاستقلال الذاتي، وحق تقرير المصير لاسترداد الحقوق من الغير. فهل يستمر العرب في استرداد حقوقهم الضائعة في الخارج والداخل لإعادة التوازن في حياتهم المعاصرة وفي ثقافتهم بين الحقوق والواجبات؟

(٦) التوحيد والعدل٦

لا يوجد لفظان محببان في الوجدان العربي قدرَ لفظَي التوحيد والعدل. ولا يختلف على ذلك السلفيون والعلمانيون، وإن اختلفت الدلالات؛ فالتوحيد عند السلفي عقيدته الأولى وعند القومي كذلك، والعدل يجمع بين الجميع. وترن في أذن الجميع الآية المدوَنة على مداخل المحاكم الوطنية وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨). كما يستعملها المواطنون في الدفاع عن حقوقهم وردِّ المظالم كمعيار للسلوك الاجتماعي. وهنا لا يوجد فرق بين التراث الديني والتراث الشعبي، بين الوحي والفطرة، بين ما يأتي من الله وما ينبع من الناس. وقد انتبه إلى ذلك محمد عبده تلميذ الأفغاني، رائد الحركة الإصلاحية عندما خرج عن نطاق الأشعرية التقليدية التي جعلها الغزالي منذ القرن الخامس العقيدة الرسمية للدولة، وأصبح أشعريًّا في التوحيد، معتزليًّا في العدل، يقول بأن الصفات زائدة على الذات في التوحيد، وبالحس والقبح العقليين وبخلق الأفعال في العدل. وارتبط هذا التحول بتأسيس الحزب الوطني الذي كتب محمد عبده برنامجه والذي قاد نضاله مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول حتى اندلاع ثورة ١٩١٩م تحقيقًا ربما لجانبي العدل: العقل والحرية، والتحول من حرية الفعل الفردي إلى حرية الوطن واستقلاله.

وسار على أثره ما يسمَّون الآن عند البعض بالمعتزلة الجدد، الجيل الثالث أو الرابع من الإصلاحيين وأحيانًا بالسلفيين الجدد، وهم أصحاب الإسلام المستنير الذين يودون إعادة بناء التراث بحيث يكون حاملًا لمتطلَّبات الواقع وآمال العصر من حرية وتقدُّم ووحدة وعدالة اجتماعية وتنمية ودفاع عن الهُوية، وهم الذين يُحكِّمون العقل، ويرفضون أية وصايا عليه، ويمارسون النقد والتحليل، ويساهمون في صُنع التقدم مع غيرهم من فُرَقاء الوطن مع إيمان بالتعددية الفكرية وإمكانية العمل الوطني المشترك.

ونظرًا لارتباط التوحيد بالعدل، والعدل بالتوحيد عند قدماء المعتزلة سُموا «أهل التوحيد والعدل»، توحيد الذات والصفات الذي ينعكس في توحيد الشخصية الإنسانية بين القول والعمل والفكر والوجدان؛ أي بين الداخل والخارج، والعدل الذي يتجلَّى في حرية الإنسان واستقلال إرادته وأيضًا في حرية الفكر واستقلال العقل وقدرته على الوصول إلى الحقيقة بالبرهان. وقد استمرَّ ذلك حتى محنة المعتزلة في عصر المأمون، فانزوى الفكر الاعتزالي وساد الفكر الأشعري الذي كان في بدايته معتزليًّا ثم انحرف عنهم في موضوع الصلاح والإصلاح، وهو القانون الذي وضعه المعتزلة لفهم ما يحدث في الكون وما يقع فيه من خير أو شر يصيب الناس.

ارتبط التوحيد بالعدل منذ بداية الفكر الإسلامي بصرف النظر عن أولوية النشأة لأحدهما على الآخر؛ التوحيد أولًا ثم العدل ثانيًا كما يقتضي بذلك المنطق وأولوية النظر على العمل، أو العدل أولًا ثم التوحيد ثانيًا كما يبدو ذلك من مسار الأحداث؛ فقد بدأ النقاش أولًا حول الإيمان والعمل والإمامة؛ أي في الموضوعات العملية المتصلة بالعدل قبل أن يتحول إلى نقاش الأسس النظرية لها في التوحيد.

وكان من أكبر النتائج لهذا الارتباط بين التوحيد والعدل هو ظهور مفهوم القانون، سواء قانون العدل الإلهي أو قانون الاستحقاق الإنساني أو قانون العلم الطبيعي؛ فالله عادل لا يظلم الناس شيئًا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ (٦: ١١٥). يعدل في وعده ووعيده. ذاته صفاتُه، وعلمه إرادته، وحكمته أمره إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى (١٦: ٩٠). وكذلك الرسول أُمر بأن يعدل بين الناس وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ (٤٢: ١٥).

والإيمان بالله يتطلب الإيمان بعدله في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء، وهو الذي يحفظ الإنسان من الميل إلى الهوى فيظلم الناس فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا. وينطبق ذلك على الفرد والجماعة، والأمة التي تؤمن بالله يتجلى إيمانها في العدل وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (٧: ١٥٩). والعدل هو الدليل الأول على التقوى اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (٥: ٨).

وأصبح العدل عنوانًا للحكم على الناس في الآخرة طِبقًا لقانون الاستحقاق، ثواب المحسن وعقاب المسيء طبقًا للآية الكريمة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٩٩: ٧-٨)، وهو قانون عام وشامل لا يعرف الاستثناء. والعالم كله يتوق إلى عدل في الأرض، فإن لم يتحقق فعدل في السماء.

وكما يوجد العدل بين الإنسان والله في الاستحقاق، يوجد بين الناس في العلاقات الاجتماعية، في الزواج بواحدة حتى يتحقق العدل، وكتابة المواثيق والعهود والعقود ضرورية حتى يتحقق العدل ولا يظلم طرف طرفًا. والقصاص عدل، إراقة دماء في مقابل إراقة دماء. والشهادة شهادة عدول، والصلح بين الناس بالعدل حتى لا يطغى طرف على آخر.

ويتجلَّى العدل أيضًا في القانون الطبيعي، وهو تجلي حكمة الله في الكون. كل شيء فيه يسير وفقًا لقانون دون تفاوت أو فتور. والإنسان موكول لكشف هذه القوانين والسيطرة عليها وتسخيرها لإعمار الأرض وإقامة العمران؛ إذ لا يستطيع أن يعيش الإنسان في عالم لا يسوده قانون المحلية وإلا توقفت الحياة وضاعت المصالح، وتسلطت القوى القاهرة، كل منها يود أن يحل محل القانون، وكما لاحظ ابن رشد دفاعًا عن السببية.

كما يتجلى هذا الارتباط بين التوحيد والعدل في حرية الأفعال وأن الإنسان صاحب أفعال ومسئول عنها ومحاسَب عليها دون أن يتحجَّج بالقَدَر أو يتكل عليه؛ فكل إنسان مُيسَّر لِمَا خُلق له؛ بل إن الإنسان يثبت بعد الله بحريته؛ فالحرية هي مناط تفرُّده. فإذا كان ديكارت في الفكر الغربي قد أثبت وجود الإنسان من خلال الفكر «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، فإن التراث الإسلامي أثبت وجود الإنسان من خلال الحرية «أنا حر فأنا إذن موجود». فحرية الإنسان دليل على وجوده، ومن يفقد حريته يَعدَم وجوده.

ويتجلَّى أيضًا في استقلال العقل وقدرته على الوصول إلى الحق بالبرهان؛ فالعقل لا وصي عليه. فكما اكتمل الدين اكتمل العقل، وكما اكتملت النبوة كمل الإنسان؛ لذلك جعل القدماء النظر شرط التكليف وأول الواجبات، وما لا دليل عليه يجب نفيه. ويكرِّر القرآن باستمرار أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟، ويستطيع العقل أن يصل إلى ما وصل إليه الوحي، بالفطرة والطبيعة، وكما صوَّر ابن سينا في قصة «حي بن يقظان». والناس محجوجون يوم القيامة بالعقل.

ثم حدث فك الارتباط بين التوحيد والعدل في العقائد المتأخرة وحياتنا المعاصرة في العصر التركي العثماني؛ ظهر التوحيد واختفى العدل، وأصبح التوحيد مكتفيًا بذاته دون عدل؛ فالله هو المستغني عمن سواه وما يفتقر كل شيء إليه. وهو تعريف يقوم على الاستغناء والحاجة، استغناء طرف عن طرف، وحاجة طرف إلى طرف؛ مما قد ينتهي إلى بعض أشكال التبعية كما هو الحال الآن في المجتمعات الإسلامية في السياسات الداخلية والخارجية.

وقد أدَّى هذا الفصل بين التوحيد والعدل إلى انزواء التوحيد في قلوب الصوفية، وجعله «إفراد الحدوث من القِدَم»، مجرد إحساس داخلي لا ينعكس في عالم يسوده العدل أو القانون. فنشأ إسلام الزوايا والطرق الصوفية وفي صرخات «أَحَد، أحد»، دون ربطها بالظلم الاجتماعي والسياسي والثورة عليه كما فعلت من قبلُ صرخات بلال بن رباح.

كما أدَّى إلى انحسار فعالية التوحيد الذي يدل من مجرد الصياغة اللفظية على اسم الفعل: وحَّد، يوحِّد توحيدًا؛ أي على الفاعلية والنشاط؛ فانزوت الجماهير كما انزوى الصوفية، ووقع الناس في اللامبالاة، وسادهم الفتور الذي حاول الكواكبي التخلُّص منه في «أم القرى» بعد التعرُّف على أسبابه.

وخشي الفقهاء واختبئوا وراء الفتاوى الشكلية في الأحوال الشخصية وأمور العبادات، وتركوا التصدي للحياة العامة وقيادة الأمة مكتفين بإمامة المصلين داخل المساجد، مما جعل محمد إقبال ينشد:

يا إمامًا لركعة ما تدري
في الورى ما إمامة الأقوام

وهُرع آخرون إلى البلاط يبرِّرون سياسات السلاطين حتى ولو كانت ظُلمًا على الناس، وعِبئًا على الفقراء، وإجحافًا بأصحاب الحاجات، وعقابًا للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، المحتسبين لوجه الله، والمدافعين عن مصالح الناس.

والآن: هل يمكن إعادة الربط بين التوحيد والعدل كما كان الحال عند المعتزلة القدماء وكما حاول المعتزلة الجدد؟ هل يمكن إعادة الفاعلية والنشاط إلى التوحيد، توحيد الذات الإنسانية والشخصية الإسلامية والمواطن العربي، بحيث يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول، يفكِّر فيما يشعر به، ويشعر بما يفكِّر فيه؟

هل يمكن توحيد المجتمع كله ابتداءً من الأسرة بحيث يغيب منها تسلُّط فرد وبحيث تذوب فيه الفوارق بين الطبقات؟ هل يمكن توحيد الأمة كلها دون تنافر في المآرب والمشارب، وتوحيد الإنسانية كلها دون سيد ومسود، غني وفقير، مركز ومحيط؟

وهل يمكن إعادة صياغة العدل من جديد بحيث يضم بالإضافة إلى حرية الأفعال واستقلال العقل العدل الاجتماعي والعدل القانوني، المساواة في توزيع الدخول، والمساواة أمام القانون؟

إن العدل هو ما يتوق إليه العربي الآن قدرَ ما ترسَّخ التوحيد في وجدانه. وهو لفظ قرآني ورد ثمانيةً وعشرين مرةً في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة منها العدل في خلق الجسم في تناسُب وتناغم، والعدل كأمر إلهي للناس وكأمر للرسول وكأمر للقضاة، وهو تعبير عن الإيمان والتقوى لارتباطه بالتوحيد، وهو عدل في الدنيا وعدل في الآخرة، وعدل الآخرة مرتبط بعدل الدنيا ومشروط به، وهو عدل يتحقق بين الفرد ونفسه، وبينه وبين أسرته، وبينه وبين مجتمعه، وبينه وبين أمته. لا يقوم على الهوى أو القرابة أو الوساطة، محاباةً لطرف أو معاداةً لطرف آخر، وهو عدل بين الشهود والعهود والعقود. ولا يستوي العدل والظلم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ (١٦: ٧٦).

إن الخطورة الآن بالرغم من ارتباط التوحيد بالعدل عند القدماء والمحدثين هو فك هذا الارتباط في وجداننا القومي فينزوي التوحيد، فيثور العدل خارجه وبدونه ضد الظلم كما يحدث حاليًّا في الاتجاهات العلمانية التي تُبقي على التوحيد كإيمان شخصي، وعقيدة دينية، وتثور ضد الظلم من أجل تحقيق العدل باسم الحرية أو القومية أو الاشتراكية أو الإنسانية.

وأحيانًا يثور التوحيد دون العدل، وفي هذه الحالة يكون التوحيد مجرد رعاية للمظاهر وحرصًا على الشعائر وتمسكًا بالعبادات كما هو الحال في معظم الاتجاهات الإسلامية المعاصرة. يثور التوحيد لتحقيق الحاكمية، حاكمية الله، دون أن يكون لها مدلول واضح على العدل في حياة الأفراد والمجتمعات.

فإذا ما ثار العدل دون التوحيد فإن التوحيد يثور دون العدل، وتنقسم الأمة إلى فريقين: علمانيين وسلفيين، تقدُّميين ورجعيين، حدثيين وتراثيين، ويُصبح أهل العدل في جانب وأهل التوحيد في جانب بالرغم من ربط القدماء بين التوحيد والعدل كما فعل المعتزلة في أصلَي التوحيد والعدل، أول أصلين من أصولهم الخمسة.

وتكون الخطورة أعظم وكما حدث أحيانًا في الفكر الغربي عندما يثور الظلم لتحقيق العدل ضد التوحيد وكأن الإنسان لا يستطيع الجمع بينهما، لا يستطيع أن يكون موحِّدًا وعادلًا. والعدل دون أن يتأسَّس على التوحيد قد يتغيَّر ويتبدَّل طِبقًا لمصالح الأفراد وجماعات الضغط ومصالح الطبقات ومركزية القوميات وروح العصور ومراحل التاريخ. فيصبح عدلًا نسبيًّا، عدلًا للبعض وظلمًا للبعض الآخر. فيحدث رد فعل على ذلك ويثور التوحيد ضد العدل دِفاعًا عن الإيمان بالله الواحد كقيمة أولًا وكأصل من أصول الدين قائم بذاته؛ فيقبل الناس الظلم وهم مؤمنون بالتوحيد ويستسلمون للقهر باسم القسمة والنصيب والحظ في العقائد الشعبية والرضا والتوكل والاستسلام للمقادير في مقامات الصوفية. ويعم الحزن، وينتشر النواح، ويكثر العزاء؛ فالحظ عاثر، والحبيب هاجر، والله قادر على كل شيء.

(٧) الدين في الأمثال العامية المصرية٧

كان الدين في بداية الحياة الإنسانية تعبيرًا عن الحياة وأداةً للبقاء، فإذا ما شعر الإنسان الأول بالخطورة على حياته وهو في قيظ الصحراء أو مع وحوش الغابة فإنه يحاول اتقاء هذه المخاطر بالحماية البدنية؛ بناء الكهوف والظلال بالأشجار وتشييد الخيام وإقامة المنازل وتأسيس العمران. فإذا ما استمرَّ الخطر على نحوٍ أعظم يُزلزل الأرض ويفرقها بالفيضان ممَّا تعجز إرادة الإنسان عن صده وتلافيه، فإنه يلجأ إلى العقل للبحث عن آلة أعظم؛ فالعقل الإنساني أقوى من القوة العضلية وأكثر تحايلًا منها على قوانين الطبيعة ومظاهرها الغاضبة ووحوشها الكاسرة.

هنا ينشأ الدين كأداة لحماية الإنسان من المخاطر عن طريق التأثير في القوى الطبيعية بالسحر أحيانًا وبإرضاء الآلهة أحيانًا أخرى؛ فقد كان الإنسان البدائي يعتبر كل ما هو أقوى منه إلهًا، وكان من معاني الإله الأولى العظيمُ والكبير والعالي والرفيع، وهي التي تحوَّلت بعد ذلك في مراحل الدين الأخيرة إلى صفات الله.

فإذا ما استطاع الإنسان أن يفهم قوانين الطبيعة ويُسيطر عليها فإنه يتحوَّل من الدين إلى العلم، ومن الإيمان إلى العقل، ومن السحر إلى الفعل، ويتقدَّم العلم شيئًا فشيئًا عن طريق التجريب حتى يُصبح الإنسان سيدًا للطبيعة عالِمًا بقوانينها مطمئنًّا على حياته، محافظًا على بقائه.

ثم ينقلب العلم أحيانًا إلى أداة تدميرية إذا ما عادت العداوة الوحشية الأولى بين بني الإنسان واختلفوا على المصالح، ونافسوا بعضهم بعضًا بناءً على الأثَرة والأنانية وهما من أهواء البشر؛ فينقلب العلم من أداة لخدمة الإنسان إلى وسيلة للتدمير، خدمة الأنا وتدمير الآخر. ولمَّا كان العلم مشاعًا أيضًا عند الآخر فإنه يستخدمه أيضًا لتدمير الآخر؛ فيتم تدمير المدنية باسم المحافظة على الذات، ويتحوَّل السلب إلى إيجاب، والخير إلى شر. وبدل أن تكون الذرة من أجل السِّلم والعلاج فإنها تصبح أداةً للتدمير بصُنع القنابل وإلقائها على مدن بأكملها كما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية.

وهنا يتحوَّل الدين من الخارج إلى الداخل، ومن الطبيعة إلى النفس، ومن العلم إلى الأخلاق. ويصبح تقوى في القلوب، وطهارةً في النفوس، وصفاءً للروح تحمي الإنسان من الأهواء، والبشرية من التدمير. وتَنمِي في الإنسان بواعثُ الخير والتقوى والصلاح وخدمة الناس.

ولكن أحيانًا يتقوقع الدين، ويعود إلى مرحلته الأولى، شعائر وطقوس خارجية، مظاهر وأشكال كهنوتية، عزلة في معابد، ومهنة لرجال. ويفقد وظيفته الأولى في المحافظة على الحياة، والمساعدة على البقاء، وينعزل عن الحياة، يصبح للدين ميدان خاص هو المعبد أو الكنيسة أو المسجد أو المؤسسة الدينية أو الحياة الأخروية وليس الطريق والمصنع والحقل والمدرسة والجامعة والمستشفى والساحة الرياضية والسوق والعلاقات بين الناس. ينكمش في العبادات ويبتعد عن المعاملات، يتحول إلى كهنوت، أحبار وقسيسين ورهبان، مشايخ وأئمة.

وهنا تظهر الأمثال العامية التي تُمثل حكمة الشعوب الخالدة للتصدي لهذا الانحراف بالدين بعيدًا عن الحياة كي تعيده إليها منبثِقًا منها ومحافظًا عليها مثل: «اللي يلزم للبيت يحرم على الجامع.» فالحياة أولًا والدين ثانيًا، الخدمات العامة أولًا والعبادة ثانيًا. فالدين للحياة، إشباع الحاجات الأساسية من طعام وشراب وكساء وسكن وصحة وتعليم؛ كل ذلك جوهر الدين. ثم يأتي بعد ذلك الشكر والاعتراف بالفضل في العبادة.

وقد تُخصص الأمثال العامية الخدمات بالمصير؛ أي بما يحمي جسد الإنسان من الأرض مثل «حصيرة البيت تحرم على الجامع»؛ فالمنزل أولى بالحصير، ويمكن للإنسان أن يصلي في العراء ولكنه لا يستطيع أن ينام في العراء، يمكن له أن يصلي على الرمل والحصى دقائق معدودة، ولكنه لا يستطيع أن ينام على الأرض العارية كل ليلة؛ لذلك لزمه الحصير.

وأحيانًا تتخصَّص الحاجة بالزيت «الزيت إن عازه البيت حرام على الجامع.» والزيت هنا رمز النور والإضاءة والوقود والطاقة؛ فإنارة المنازل أولى من إنارة المساجد، وتوفير الطاقة في البيوت للإعاشة خير من توفيرها في المساجد أوقات الصلوات وحدها.

ليس من المعقول إذَن أن تُبنى الجوامع بالرخام والمرمر والأنوار الساطعة وَسْط المناطق العشوائية والكهوف والمجاري الطافحة ونقص المياه وظُلمة الليل. إن تحقيق الخدمات العامة الأساسية أَولى من عزل الدين عن الحياة في مسجد، حتى ولو كان تحفةً جمالية، هِبةً من غني أو قبرًا لولي أو مزارًا للصالحين.

وقد تتخصَّص الحاجة بالخبز مثل: «كل لقمة في بطن جائع أخير من بناية جامع.» فالإشباع من الجوع حاجة أساسية تسبق الصرف على بناء المساجد والتبرع له؛ فحياة البشر أولى من أحجار وشعائر تقام، وإطعام الجائع خير من بناء مسجد له؛ فلا مسجد لجائع.

وقد تتخصص الحاجة بالحسنة؛ فالصدقات للناس تسبق التبرعات للمساجد «الحسنة ما تجوزشي إلا بعد كفو البيت.» الحسنة للناس أولًا، للأحياء قبل الأموات؛ إطعام جائع أو إشفاء مريض أو تعليم أمي أو إيواء شريد أو إلباس عارٍ أفضل من التبرع لبناء مسجد. والمحافظة على الحياة أحد مقاصد الشريعة بل مقصدها الأول؛ إذ كيف تجوز العبادة والموت يهدِّد العباد؟

وفي نفس الوقت تتوجه الأمثال العامية لنقد رجال الدين الذين يُبعدون الدين عن الحياة، ويُحيلونه تجارة وكسبًا وربحًا ومصلحة شخصية. فمن مصلحة رجال الدين تحويله إلى حرفة وصنعة يؤجرون عليها؛ التكسب بالقرآن، وبإصدار الفتاوى، وبالتعليم الديني في أجهزة الإعلام وفي المناصب العليا في المؤسسات الدينية وفي حمل الألقاب ولبس العمائم حتى قال محمد عبده:

إن هو إلا دين أردتُ صلاحه
أخاف أن تقضي عليه العمائم

لذلك في الأمثال العامية: «ما كل من لف العمامة يزيِّنها.» وليس كل رأس تحت عمامة يحمل علمًا. وما أكثر رجال الدين المتكسِّبين بالدين، أصحاب المناصب ودعاة الرياسة، فقهاء كل عصر دون علم أو تقوى أو صلاح. فالزينة للعقل بالعلم وليس بالعمامة على الرأس، ولبس المسوح والزي الديني لا يعني أي فضل أو ميزة على باقي الناس في العلم أو الإيمان أو العمل الصالح، بل يعكس بداية فصل الدين عن الحياة، والتمييز بين رجل الدين ورجل الدنيا. ثم يتحول هذا الفصل، ثم ذلك التمييز إلى تقابل، بل إلى تضاد مصطنع بين الدين والحياة، بين الدنيا والآخرة.

وتنقد الأمثال العامية جهل رجال الدين كما يبدو ذلك أحيانًا عند بعض خطباء المساجد الذين تمتلئ خطبهم بالخرافة والجهل والبعد عن الحياة، وربما يكون المصلون المشتغلون بالحياة الدنيوية، ويخافون الله في القلب، ويتقون الله في سلوكهم أفضل علمًا وإيمانًا من أئمة الضلال؛ لذلك قيل: «هاتوا من المزابل حطوا على المنابر.» ويتضح ذلك في القرى والريف عندما يعم الجهل الإمام والمصلين على حد سواء؛ فيتحوَّل الدين في الثقافة الشعبية إلى مجموعة من الخزعبلات تضر بالحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية أكثر ممَّا تنفع.

وقد يتحول رجل الدين ليس فقط إلى مغترب عن الحياة بل إلى إمام ضال لا يبغي الحق ولا يقول الصدق، بل يبغي مصلحته الشخصية أو منفعة فئة أو طائفة يعمل لها، ويتكلم لحسابها؛ لذلك قيل «ضلالي وعامل إمام والله حرام.» فالناس بطبيعتهم يعرفون الحلال والحرام بناءً على الفطرة والبراءة الأصلية؛ فالحلال ما ينفع الناس، والحرام ما يضر الناس، ويسخرون من الذي يأكل الحرام ولا يفرق بينه وبين الحلال «حلال كلنا حرام كلنا.» ويعلمون أن الوقف الديني إنما غايته خدمة الناس؛ فالدين للحياة، وكل زيادة فيه هي زيادة في الخدمات العامة «الزيادة في الوقف حلال.» الحلال هو الأساس والحرام هو الفرع، الحلال هو القاعدة والحرام هو الاستثناء، وما دام الإنسان يقظ في الحياة، على وعي بمصالحه فلن يقع في المحرمات؛ فالحرام لا يأتي إلا في حالة الغفلة «الرزق السايب يعلم الناس الحرام.»

وتنقد الأمثال العامية أصحاب الفتاوى الذين يُغيِّرون فتاويهم طِبقًا لمصالحهم الشخصية أو لإرادات الحكام. إن أراد الحاكم مقاومة الصهيونية وتحرير الأرض بالقوة؛ فما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة أفتى رجال الدين وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (٨: ٦٠)، وأخرجوا من القرآن أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ (٢٢: ٤٠)، وإذا أراد الحاكم الصلح مع إسرائيل أفتى نفس الرجال وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (٨: ٦١)، واستدعوا صلح الحديبية.

وإذا تبوَّل كلب على حائط أمر صاحب الفتوى بهدمها وبنائها سبع مرات، وإذا ما ذُكِّر بأنه حائطه غيَّر فتواه بتطهيرها بقليل من الماء «قالوا للقاضي يا سيدنا الحيطة شخَّ عليها كلب، قال: تنهدم سبع مرات وتنبني سبع. قالوا دي اللي بينا وبينك، قال القليل من الماء يطهرها.» فالمصلحة الشخصية أساس الفتوى وليس المصلحة العامة.

وتنقد الأمثال العامية تضارب الفتاوى وتعدُّدها واختلافها طِبقًا للمشايخ وأصحاب الفتاوى طِبقًا لإرادات الحكام وأهواء الأفراد. حتى لم يعد هناك اتفاق على شيء، وأصبح كل شيء فيه قولان؛ لذلك قيل «كل شيخ وله طريقة.» الحياة تُوحِّد الناس والفتاوى تفرقهم.

فإذا ما غاب الشيخ ولم يعد له لزوم وابتعد عن الدنيا وانعزل عن الحياة تنتهي سُلطته وشرعية وجوده: «الشيخ البعيد مقطوع ندره.» فإذا انعزل الدين عن الحياة تركت الحياة الدين لقانونها الخاص، قانون الفطرة التي فُطر الناس عليها، والفطرة لا تتبدل بأهواء البشر واختراعات الناس.

هذه المعاني التي تؤكِّد عليها الأمثال العامية هي نفس المعاني التي يؤكِّد عليها القرآن الكريم؛ فالحياة صفة لله ومن ثم فهي قيمة مطلقة، وهي قيمة للأرض عندما تحيا بعد موتها إذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وهي قيمة في العلاقات الإنسانية، ومنها اشتُق لفظ التحية وفعل «يحيى».

فالتحية إحياء لأواصر الترابط الاجتماعي، ومنها اشتُق لفظ الحياء والاستحياء، ويحيا الإنسان عن بيِّنة عالِمًا بسبب وجوده ولديه الدليل والبرهان. وحياة الإنسان في الأرض، منها نشأ وإليها يعود. والحياة والموت دورتان بينهما البعث؛ فالموت يتحول إلى حياة بالبعث، وفي القصاص حياة، ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ (٣٥: ٢٢)، وللإنسان في النهاية حياة الخلد إيجابًا أم سلبًا جزاءً على الأعمال، وقد اشتُق اسم آدم من الأرض، وحواء من الحياة.

كما نشأ الدين من الحياة فإلى الحياة يعود، ويبقى ما بينهما مجرد ضعف في الإيمان عندما يتحوَّل الدين إلى أشكال ورسوم ومظاهر خارجية وكهنوت وطقوس كما هو الحال في مفهوم الدين عند الأنثروبولوجيين الذين يُكثرون من دراسة ديانات الشعوب «البدائية» حتى طغت هذه الدراسات على الأديان التوحيدية التي تقوم على التصورات مثل التوحيد. وإذا ما تمَّت دراسته فإنه يُدرَس في أضعف حالاته عن طريق الممارسات الشعبية والعادات والأعراف، السحر والشعوذة وزيارة قبور الأولياء والبَركة والأُحجية والطلسمات والمشايخ والقديسين والأعياد والأزياء والسبح والسجاجيد والذقون والعمم والقفاطين وحلوى رمضان.

لذلك ثار الأنبياء في كل العصور على هذه الممارسات من أجل الدعوة من جديد إلى الدين الحي في القلوب. كما ثار أنبياء على كهنة بني إسرائيل وتبعيتهم للدولة وتزيينهم الديني لصالح الحكام. وكما ثار السيد المسيح على تحويل بني إسرائيل المعبد إلى سوق للبيع والشراء، وطرد الباعة وطهَّر المعبد، وكما ثار الرسول أيضًا على دين قريش والأنصاب والأزلام وحول الدين إلى سلوك في الحياة اليومية للأفراد والجماعات.

كذلك قامت كل الدعوات الإصلاحية في كل دين على التحول من الخارج إلى الداخل، ومن الشكل إلى المضمون، ومن الكهنوت إلى حرية الفرد ومسئوليته. كما تجلَّى ذلك أيضًا عند الصوفية الذين ثاروا على الفقهاء ووضعوا «التأويل» في مقابل «التنزيل»، وأفعال القلوب في مقابل الجوارح. وكذلك فعل الفلاسفة في جعل الحكمة ضالة المؤمن وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (٢: ٢٦٩). وكلاهما، الصوفية والفلاسفة، فرَّقوا بين إيمان الخاصة وإيمان العامة؛ الأول بالقلب والعقل، والثاني بالشعائر والطقوس.

إنها تجربة كل دين في حركاته الإصلاحية على مر العصور؛ بوذا في الهند ثائرًا على الوثنية الهندوكية، وكونفوشيوس في الصين رافضًا نقد الآلهة في الدين الصيني القديم، ومارتن لوثر في المسيحية ثائرًا على الكنيسة والتوسط بين الإنسان والله. فالدين للحياة، وإلا فالموت للدين والحياة على حد سواء.

١  البيان ١٨ / ١١ / ١٩٩٦م.
٢  البيان ٢٩ / ٧ / ١٩٩٦م.
٣  البيان ١٥ / ٧ / ١٩٩٦م
٤  البيان ٧ / ١٠ / ١٩٩٦م.
٥  البيان ١١ / ١١ / ١٩٩٦م.
٦  البيان ٣٠ / ٩ / ١٩٩٦م.
٧  البيان ٢٧ / ١ / ١٩٩٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥