الفصل التاسع

رﻣﻀﺎﻧﻴﺎت

(١) رمضان في الكتاب والسنة١(١)

ذُكر لفظ «رمضان» في القرآن الكريم مرةً واحدة في آية شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢: ١٨٥).

ولفظ «رمضان» يعني اشتقاقًا الحر، من فعل رَمَضَ أي اشتد الحر، ولمَّا نُقلت أسماء الشهور من اللغة القديمة سمَّوها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر رَمَضَ الحر. فإذا ما وافق الشهر الحر كان ثوابه أعظم، ونظرًا لدورة السنة الهجرية فإنه ينتقل من الصيف إلى الشتاء رجوعًا إلى الوراء، وتظل النية الأولى صادقة.

وفي هذا الحر الشديد القيظ، والقدرة على السيطرة على حاجات البدن إعلانًا لاستقلال الإرادة وسمو الروح والإحساس بالمحرومين والفقراء والجائعين والعطشى، ينزل الوحي بعد أن تهيَّأت النفس له. استعداد البدن مقدمة لاستعداد الروح، وتهيؤ الروح مقدمة لنزول الوحي.

هذا القرآن بينات من الهدى والفرقان، يُبيِّن الخير ويُميِّزه عن الشر حتى يهتدي الإنسان في عمله، ويُفرِّق بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ، نظرًا وعملًا. مهمة القرآن البيان ورفع الخلط ومساعدة البصيرة بعيدًا عن أهواء البشر ونسبيتها.

والصوم مشتقٌّ من فعل «صام» ويعني الإمساك عن الطعام أو الاعتدال كما يقال «صام النهار» أي قام قائم الظهيرة، و«صامت الريح» أي توقفت عن الحركة. والصوم هو الصمت أيضًا في آية إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا (١٩: ٢٦). فالصوم استقامة، ورفع القامة وسمو الهامة، وليس الهزال أو الضعف أو الاستعياء.

ولمَّا كان الصوم وسيلةً لاستقامة الإنسان بدنًا وروحًا؛ فالمرض أو السفر مانعان يؤجِّلان الصوم إلى وقت آخر؛ فالإسلام يُسر وليس عسرًا، وليس في هذا الدين حرج، ولا يجوز تكليف ما لا يُطاق.

والصوم شهر بكماله وتمامه، تمييزًا لشهور العام في أوقات متميزة مثل تميز أوقات الصلوات في النهار، يتطلب التكبير والشكر على الهدى. فشكر المنعم عند المعتزلة من الواجبات العقلية.

هذه هي المعاني المتضمَّنة في الآية الوحيدة التي ذُكر فيها لفظ «رمضان» في القرآن الكريم.

بينما ذُكر لفظ «رمضان» في القرآن الكريم مرةً واحدة ذُكر لفظ الصوم ومشتقاته أربع عشرة مرةً بستة معانٍ مختلفة تدور كلها حول وظيفة الصوم، وهي معانٍ متكاملة تربط الصوم بالتاريخ وبالله وبالآخرين.

أولًا: الصوم سُنة عن الأمم السابقة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (٢: ١٨٣) تواصلًا مع الديانات السابقة؛ فالإسلام لم يَبدَع سُنَّةً جديدة بل أقر سُنَّةً كانت موجودةً في الشرائع السابقة، في اليهودية والمسيحية. فجوهر العبادة واحد وإن اختلفت أشكالها. والإسلام آخر شريعة تُكمل الشرائع السابقة بعد تأكيدها.

ثانيًا: الصوم شهرًا في العام من أجل التمييز بين الشهور دون صوم الدهر كله أو إفطار العمر كله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (٢: ١٨٤)، كما تتميَّز أوقات الصلوات أثناء النهار عن باقي ساعاته، وهو تأكيد على الإحساس بالزمن وبأن الأوقات للأفعال. كما أنه صوم منذ الشروق حتى الغروب وهو إحساس آخر بالزمن، زمن النهار المتميز عن زمن الليل.

ثالثًا: الصوم صمت، وهو أحد مظاهر العبادة ضد اللغو والمجادلة كما فعلت مريم ابنة عمران فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (١٩: ٢٦)، ومظهر من مظاهر التقوى الباطنية، والثقة بالنفس، واتهام الزور، وبراءة الإيمان.

رابعًا: لا فرق في أداء الصوم بين الرجال والنساء وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ (٣٣: ٣٥). كما لا فرق بينهم في الإسلام، والقنوت، والإيمان، والصدق، والصبر، والخشوع، والصدقة، وحفظ الفروج، وذكر الله. يتساوى الرجال والنساء في التكليف، والتكليف واجب، والمساواة في الواجبات تقتضي المساواةَ في الحقوق.

خامسًا: لا يمنع الصيام من معاشرة النساء بعد الإفطار أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ (٢: ١٨٧) دون المساجد، وطيلة الليل تخفيفًا عن الأمة، واعترافًا بحاجة الرجال إلى النساء وحاجة النساء إلى الرجال. كان الصوم قبل ذلك أثناء النهار. وحين يفطر الصائم يحق له الطعام ومعاشرة النساء، فإذا غفلت عيناه ونام يصبح صائمًا إلى اليوم التالي. ولم يستطع عمر بن الخطاب بعد أن غفا ثم استيقظ أثناء الليل أن يمنع نفسه من معاشرة زوجه، فنزلت آية التخفيفعَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ (٢٠: ١٨٧). والإسلام دين اليسر وليس دين العسر، لا رهبانية فيه ولا نسك، لا صوم الدهر كله ولا قيام الليل كله، ولا العزوف عن النساء.

والمعنى السادس للصوم في القرآن الكريم هو وظيفته في التكفير عن الذنوب وتطهير النفس؛ فالذنب ضعف في الإرادة والصوم تقوية لها، والإثم تهاون في الروح والصوم إعلاء لها. ويذكر القرآن ذنوبًا سبعة.

  • (١)
    الإفطار في رمضان دون سبب أو عذر، سفر أو مرض فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (٢: ٨٤)، ولكن إطعام المسكين له الأولوية على الصوم؛ أي التكفير الفعلي عن الذنب بإطعام المسكين، وهو الهدف من الصوم. فإن لم يشعر الفاطر بآلام الجوع فإن عليه إطعام الجائع.
  • (٢)
    إذا كان الحاج غير قادر على حلق الرأس أو مريضًا لا يستطيع أن ينتظر الهدي أن يبلغ محله فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (٢: ١٩٦)؛ فالصيام هنا يأتي قبل الصدقة والنسك، شعيرةً بشعيرة.
  • (٣)
    فإن لم يجد الحاج الهَدي ولم يستطع الضحية فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد العودة؛ أي عشرة أيام كاملة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (٢: ١٩٦). والصيام هنا أكثر لأن الحاج لم يستطع الضحية، تعميقًا للإحساس بالآخرين إن لم تتم مساعدتهم بالفعل.
  • (٤)
    القتل الخطأ كفارته صيام شهرين متتابعين توبةً إلى الله إن لم يجد رقبةً يحررها أو دفع دية إلى أهل القتيل فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ (٤: ٩٢). والأولوية لتحرير الرقبة لأن العبودية تساوي القتل، وتحرير الرقبة إحياء للقتيل، ثم دفع الدية لأهل القتيل طِبقًا لعادة العرب وتعويضًا بالمال عن المفقود. ويأتي الصيام في الدرجة الثالثة كنوع من أضعف الإيمان لتطهير القلب، والإعلان عن براءة النفس، والسيطرة على الإرادة التي أخطأت وإن كان خطؤها عن غير عمد.
  • (٥)
    الحنث بالإيمان كفارته صيام ثلاثة أيام إن لم يستطع الحانث إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ (٥: ٨٩). الصيام يأتي هنا في المرتبة الثالثة بعد تحرير الرقبة والإطعام والكسوة.
  • (٦)
    الظهار وهجرة الزوج في الفراش فكفارته أولًا تحرير الرقبة فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا (٤: ٥٨). فتحرير الرقبة يعادل إشباع الزوج.

الصيد في الأشهر الحرم كفارته الصوم دون تحديد بعدد الأيام أو الشهور أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ (٥: ٩٥). إن لم يستطع أن يسوق مثل ما قتل هدْيًا إلى الكعبة أو إطعام المساكين؛ فالصوم هو الذي يغسل الذنوب.

(٢) رمضان في السنة النبوية٢

ويستمر الحديث النبوي في نفس المعاني القرآنية لصوم رمضان: عبادة، ومغفرة، وتكفيرًا للذنوب، واعتكافًا في العشر الأواخر، وليلة القدر ونزول القرآن، والثواب في الجنة، وحسن الأخلاق، والسيطرة على الانفعالات أثناء الصيام، والإحساس بالوقت، واختيار صوم عاشوراء، وعدم المشقة على الناس جمعًا بين الصوم والإفطار، وأداء الصوم عن الآخرين خاصةً الوالدين.

فصوم رمضان طريق إلى المغفرة: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه.» فالصيام لوجه الله وليس رياءً للناس أو طلبًا لحظوة في أعين المؤمنين، طالبًا الثقة بهم لمنصب أعلى أو لرياسة دنيوية، وليس تجويعًا للنفس بالنهار ثم إشباعًا للبدن في آخره، وكأن الزهد في الدنيا أعقبه شبق فيها، حرمان بالنهار وإشباع بالليل. وتزيد معدلات الاستهلاك في العالم الإسلامي من الأطعمة والأشربة، السكر والزيت والدقيق واللحوم والخضراوات والفواكه، والطاقة في رمضان باسم الزهد والإحساس بالفقراء. ويزداد اللهو بالليل، وتجنِّد أجهزة الإعلام أنفسها قبل رمضان بأشهر من أجل إعداد التمثيليات والمسلسلات والبرامج الدينية والابتهالات والأفلام والحفلات الخاصة، لا فرق بين دين ودنيا.

إن الصيام لا يكون إلا لله وحده: «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.» الصيام إذن دليل صدق وعلامة إخلاص؛ لا طلبًا لرزق في الدنيا بل احتسابًا لوجه الله، علاقة بين العبد والرب؛ لذلك كان جزاء الصائم الجنة، فيها باب لا يدخل منه إلا الصائمون: «إن في الجنة بابًا يقال له الريَّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم. يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِق فلم يدخل منه أحد.» الصيام إذن عبادة خاصة تتجه إلى الله مباشرةً بالرغم ممَّا فيها من كمال للنفس، وسيطرة على الإرادة، وإحساس بالآخرين. «إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة.» فالصيام توبة غير معلَنة، ومناسبة للمغفرة، وطريق إلى السعادة الأبدية.

فكيف إذن تكثر الذنوب في رمضان، والسحور في الفنادق الضخمة على أحواض السباحة ونفحات الرقص الشرقي؟ تتحول سعادة الروح في كثير من الأحيان إلى انفلات البدن، وتأخذ الأرض زُخرفها وتتزيَّن وكأن الدنيا هي الباقية. صيام بالنهار جوعًا وعطشًا، وإفطار بالليل لهوًا ولعبًا باسم رمضان، الشهر الكريم!

ومن مظاهر العبادة في رمضان الاعتكاف في العشر الأواخر منه؛ فرمضان شهر في العام؛ تركيزًا للوقت، وإذكاءً لعلاقة الإنسان بالله من أجل تقوية علاقة الإنسان بالعالم وبالناس. والعشر الأواخر منه قمة الزمن في رمضان، نوع من العزلة الروحية مرةً في العام بعيدًا عن هموم الدنيا بما في ذلك النساء وآل البيت.

وقد كان الاعتكاف سنةً جاهلية قبل الإسلام استمرت بعده وأقرها الرسول تواصلًا مع الماضي؛ فقد سأل عمر النبي أنه كان قد نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلةً في المسجد الحرام فأجابه الرسول: «أوفِ بنذرك.» فالوفاء بالنذر عبادة وقيمة إسلامية.

وقته العشر الأواخر من رمضان في الثلث الأخير من شهر الصوم حين يبلغ الصوم الذروة وقبل وداع الشهر الكريم. الاعتكاف راحة من مجموع العلاقات الاجتماعية، الأهل والأقارب والأصدقاء، رجالًا ونساء؛ من أجل تقوية الذات وحتى لا تضيع في تشابك العلاقات الشخصية والاجتماعية وتضعف أمام الآخرين: «من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر.»

وفيه تتجلَّى الروح، وتكون أقدر على الرؤية الصادقة نظرًا لشفافية النفس وقدرتها على قراءة المستقبل وارتياد المجهول: «من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه؛ فإني رأيت هذه الليلة، ورأيتني أسجد في ماء وطين.» فالبدن لا يستطيع إدراك إلا الحاضر من خلال الحواس، في حين أن الروح تستطيع استدعاء الذكريات واستشراف المستقبل ما دامت قادرةً على العمق الداخلي، والتحول من الخارج إلى الداخل حتى يتم التحول من الداخل إلى أعلى، تنعكف على الذات فتسمو إلى الآفاق.

ولمَّا اعتكف الرسول وأذن لعائشة بالاعتكاف بعد طلبها وأقامت خباءً تعتكف فيه ثم قلَّدتها باقي زوجات الرسول؛ حفصة وزينب، تساءل عن الدافع لذلك: «ما حملهن على هذا؟! آلبر؟ انزعوها فلا أراها.» واعتكف في العشر الأواخر من شوال حتى تكون العزلة كاملةً ويكون الاعتكاف تامًّا. وعندما زارته زوجه صفية في اعتكافه خشي الرسول ممَّا قد يدور في قلوب الناس: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا.» متوجِّهًا إلى رجلين من الأنصار مرَّا على باب المسجد. فالاعتكاف اكتشاف مطلق لعالم الذات وغوص فيها دون شبهة أو إغراء.

إذا كان شهر رمضان هو قمة زمان السنة، شهرًا من اثني عشر شهرًا، وكان الاعتكاف في العشر الأواخر منه قمة زمان هذا الشهر، فإن ليلة القدر هي قمة قمتي الزمان، وقت مركز للغاية، ليلة واحدة في العام يقوى فيها الاتصال بين العبد والرب، الاتصال الفكري والروحي. أُنزل فيها القرآن، بداية الاتصال بين السماء والأرض، في وعي الرسول وإبلاغه للناس.

وهي ليلة المغفرة إذا ما كان قيامها احتسابًا لوجه الله وليس طلبًا لغُنم أو سؤالًا لرزق أو استجداءً لأحد مطالب الدنيا: «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.» هي ليلة الصفاء وعودة النفس إلى براءتها الأولى بعيدًا عن هموم الدنيا وأهواء البشر، والمساومات على الحق وحب المغانم وزيادة الأرزاق.

ووقتها محدد وغير محدد، محدد بالعشر الأواخر من رمضان، وغير محدد لأنها غير معينة اليوم؛ حتى يظل جهد الإنسان قائمًا في بُحبُوحة من الزمان، وحرية من الفعل ودون ارتباط ضروري بين المنتظِر والمنتظَر، بين السؤال والجواب، أشبه بالتراخي في الوقت في الصلاة، لا هو على الفور ولا هو قضاء: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان.» ومع ذلك فإنه يمكن تحديد وقت غير محدود أيضًا؛ فهي ليلة وتر، في التاسعة أو السابعة أو الخامسة في العشر الأواخر: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان؛ ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى.» والوتر إشارة إلى التوحيد، وحدانية الله. وبالوتر كان القسم وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٨٩: ٣). وهو عدد غير قابل للقسمة مثل صفة الواحد: «فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر.»

ولا يكون الانتظار بالساعة واليوم المحددَين فذلك انشغال للقلب، وخروج على الاعتكاف. وليس انتظارًا لشيء هابط من السماء يحمل الذهب والفضة والأرزاق؛ فتلك هموم الدنيا التي أبعدها الاعتكاف. ولا يكون الانتظار على الأسطح أو من الشرفات والنوافذ بالنظر خلف كل كوكب وحول كل نجم. إذا لمع شاهد الناسُ جبريل، وإذا برق رأى الناسُ ملائكة السماء. إنما الانتظار داخلي، مع التركيز على النفس ومزيد من الإخلاص والتجرد حتى تنفتح طاقة السماء في القلب.

إذا كانت الغاية من الصوم تطهير النفس وتخليصها من الذنوب يكون الصوم صدقةً عليها وتكفيرًا عن الذنوب: «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، تُكفِّرها الصلاة، والصيام صدقة.» الصيام إذن إصلاح للنفس واتقاء من الفتنة، فتنة الأهل، وحب النساء والأولاد أكثر من حب الحق، والسعي وراء المال غاية في ذاته من أجل جمعه طلبًا للثراء وليس للإنفاق على النفس والسعي في مصالح الناس، وفتنة الجار والصديق وجماعات الهوى التي تجعل الإنسان يؤثر تقليد الآخرين والتنازل لهم عن متطلبات الوعي الفردي.

وإذا ما خرق الصائم صومه نظرًا للضعف البشري، وواقع امرأته أثناء النهار فعليه عتق رقبة، فإن لم يستطع أن يُخلِّص نفسه من إسار البدن وأسر الروح فعليه أن يُخلِّص عبدًا من إسار الرق؛ فخلاص الآخر يأتي تعويضًا عن الضعف في خلاص الأنا. فإن لم يستطع تحرير العبيد مباشرةً فإنه يصوم شهرين متتابعين تقويةً لإرادته بعد أن ضعفت؛ ومِرانًا لنفسه على السيطرة على أهواء البشر وانفعالات النهار. ومن لم يستطع الصبر على صوم نهار فإنه يكون في حاجة إلى مزيد من التدريب على السيطرة على النفس، فإن لم يستطع وكان فقيرًا لا يملك تحرير رقبة أو ضعيفًا لا يقوى على صوم شهرين متتابعين فعليه إطعام الفقراء. وإذا لم يشعر بأن إحدى غايات الصوم هي الإحساس بالجوع فعليه أن يُنمي هذا الإحساس بإطعام المساكين، ستين مسكينًا في يوم واحد، أو مسكينًا كل يوم على مدى ستين يومًا. فإن لم يستطع وكان فقيرًا مسكينًا يستحق أن يُطعَم، وأن يُتصدق عليه فإنه يُعطى صدقةً للتصدق بها على الفقراء والمساكين مساعدةً من الآخرين له، ومساعدةً منه للآخرين. فإن تصدَّق بها على نفسه فلا يوجد من هو أفقر منه عرف أن الإسلام به رحيم، وأنه كان به كريمًا؛ ممَّا قد يولِّد في نفسه الإحساس بالذنب ومقابلة السماحة بالسماحة، ومكافأة الكرم بالكرم، فتطهر النفس، وتقوى الإرادة، وتعظم المقاومة.

ليس الصوم جوعًا أو عطشًا بل هو إمساك عن الأهواء، وسيطرة على الانفعالات، وتوجيه للحاجات. الصيام مسرة وفرح وابتهاج؛ فلا فُحش في القول، ولا غضب على أحد؛ فالسيطرة على النفس علم، والتصدي للآخرين جهل. والصيام مبادلة الإساءة بالحسنة، والعدوان بالعفو. وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأنه يترك طعامه وشرابه من أجل طاعة الله، والله يجزي الحسنة بعشر أمثالها. هذه المعاني كلها هي التي حواها حديث الرسول: «الصيام جُنة، فلا يرفُث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها.»

وتزيد رواية أخرى: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه.» فالصيام فرح وبهجة وسرور وليس غمًّا وكربًا وهمًّا. يفرح الصائم بعدها بالإفطار؛ أي بالحصول على نتيجة السيطرة على الأهواء والانفعالات، والمرور في الامتحان بعد الاجتهاد والمثابرة، كما يفرح في الامتحان النهائي بعد لقاء الله وأداء الواجب وحسن التكليف.

الصيام وسيلة للسيطرة على حاجات البدن؛ الطعام والشراب والنكاح. الصوم بديل عن الزواج للذين لا يجدون نكاحًا وكإشباع بديل للروح: «من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.» الوضع الأمثل هو الزواج، وهو الإشباع الطبيعي. فإن صعب ذلك نظرًا لِما يقتضيه من مصاريف تأسيس المنزل وإعداد البيت يكون الصيام بديلًا مؤقتًا عنه؛ تهذيبًا للنفس وتشذيبًا للبدن. الطبيعة قبل الصنعة، والإشباع قبل السمو.

والصيام أيضًا هو صيام عن الرذائل، عن قول الزور والعمل به: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.» الصوم صدق مع النفس عن طريق التحكم في حاجات البدن، وفي نفس الوقت صيام عن الرذائل عن طريق التحكم في أهواء النفس والكذب على الحق وشهادة الزور. الصوم إذن مدرسة في الصدق، الصدق مع النفس، والصدق مع الآخرين بعد الصدق مع الله. النفس تعود إلى نفسها، وتنظر في داخلها، وتُقوِّي عالمها، وتعكف على ذاتها فتكتشف التعالي فيها والمفارقة داخلها، التعالي نحو الله، والمفارقة في العالم نحو الآخرين.

ويظهر في السنة النبوية بوضوح موضوع التوقيت، معرفة بداية شهر رمضان وآخره، اتصالًا مباشرًا بالطبيعة، ورؤيةً مباشرة للهلال: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له.» ليس الأمر إذن مجرد حساب فلكي يتم قبل الشهر أو بعده بعام أو بعامين أو بعشرات السنين. إنما يتعلق الأمر بالفرح بمظاهر الطبيعة وبدوراتها نظرًا لِمَا في القرآن من توجُّه للتأمل في الكون والاعتبار بالشمس والقمر والكواكب والنجوم. فإن لم تتم رؤية الهلال هنا يأتي التقدير، ولكن بعد الاتصال الحي المباشر بالطبيعة.

ثم يأتي بعد ذلك تحديد الشهر وعدد أيامه، وتعده السُّنَّة بالليالي وليس بالأيام، تسعًا وعشرين ليلة. فإن غُمَّ القمر ولم يتضح الهلال فإكمال العدة إلى ثلاثين يومًا: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين.» فإذا كان الشهر العربي تسعة وعشرين يومًا فإن شهرين لا ينقصان ويكملان ثلاثين يومًا؛ شهر رمضان وشهر ذي الحجة: «شهران لا ينقصان، شهرا عيد؛ رمضان وذو الحجة.» فمن صام قبل ذلك وكان ينوي الصيام يومًا أو يومين قبل رمضان فله ما أراد: «لا يتقدَّمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم.» فالبداية بشهر الصوم في أول يوم فيه فرح، فرح البداية والجدة والانتقال من حال إلى حال. والفرح بالنهاية في خاتمة الثلاثين، فرح النهاية والانتقال أيضًا من حال الصيام إلى حال الفطر. ومن هنا أتت أهمية التركيز على البداية والنهاية، أول يوم وآخر يوم، يوم الغرس ويوم الحصاد.

وكان الرسول يعد أيام الشهر باليد تأكيدًا على الجانب الحسي في الوقت وعدد الأيام: «الشهر هكذا وهكذا» دونما حاجة إلى حساب فلكي: «إنا أمة أميَّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا.» الوعي بالزمان بداية ونهاية ليس مشروطًا بتعلم القراءة والكتابة. هو إحساس داخلي عند الأمي الذي يعتمد على إحساسه الطبيعي وعلى ذاكرته وحواسه.

كما يُركِّز الحديث النبوي على أول الليل ساعة الإفطار وعلى آخره ساعة بدء الصيام: «إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم.» وفي رواية أخرى: «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم.» والتعجيل بالإفطار سُنة؛ فالفرح لا يؤجل.

ولا يجوز الصيام يوم الجمعة فهو يوم عيد، يوم لقاء الناس في صلاة الجمعة والتحادث إليهم والتحاب معهم والزيارات والتحيات المتبادلة: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده.» الصيام اعتكاف، والصلاة مشاركة، والجمعة عيد المسلمين.

والصوم واجب وفرض، وهو صوم رمضان، وهو أيضًا سُنة ونفل، مثل صوم عاشوراء وصوم السفر. وهكذا الحال في باقي الواجبات؛ مثل الصلاة، فرض وسنة. فلمَّا سُئل الرسول عمَّا فُرض على المسلم من صلاة وصيام أجاب: «الصلوات الخمس إلا أن تطوَّع شيئًا» … «شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا.» والصوم الاختياري التطوعي يدل على أن الصيام ليس فقط واجبًا أو فرضًا، بل هو أيضًا التزام ذاتي، واختيار حر، ونداء باطني للذات؛ فالتنزيل يقابله التأويل، ولا تنزيل بلا تأويل، ولا تأويل بلا تنزيل.

ومثال ذلك صوم عاشوراء؛ فقد كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر الرسول بصيامه حتى نزل فرض صيام رمضان، وترك الرسول صوم عاشوراء على الخيار: «من شاء فليصمه، ومن شاء أفطر.» وفي رواية أخرى: «يوم عاشوراء إن شاء صام.»

ولا يقتصر الأمر في الصوم الاختياري على حرية الاختيار بل أيضًا يفيد التواصل مع الديانات السابقة، اليهودية مثلًا؛ فقد كانت اليهود في شبه الجزيرة العربية تصوم يوم عاشوراء. ولمَّا قدم النبي إلى المدينة سأل عن السبب بعد أن رأى اليهود يصومون هذا اليوم فقيل له إنه يوم صالح عندهم؛ يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فرعون، فصامه موسى شكرًا لله. فقال الرسول: «فأنا أحق بموسى منكم.» كانت اليهود تعتبر يوم عاشوراء عيدًا، والمسلمون أحق به منهم: «فصوموه أنتم.» فالإسلام يرث شعائر اليهودية، والرسول خاتم الأنبياء. وقد صامه الرسول، وخيَّر المسلمين الصيام فيه: «هذا يوم عاشوراء، ولم يُكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر.»

وصيام المسافر أيضًا على الخيار؛ إن شاء أفطر رخصة، وإن شاء صام عزيمة. فلما سأل أحد الصحابة وكان كثير الصيام: هل يصوم في السفر؟ قال الرسول: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر.» ولما كان الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه فلم يحبذ الرسول في رواية أخرى الصوم في السفر قائلًا: «ليس من البر الصوم في السفر.» ومع ذلك يظل على الخيار اختبارًا لقدرة الإنسان دون أن يكلف نفسه ما لا يطاق خاصةً وأن البعض يأخذ السفر ذريعةً في الإفطار، والبعض الآخر يصوم في السفر، فلم يعد السفر بالطائرات اليوم به مشقة السفر في الصحراء.

والطعام والشراب نسيانًا في رمضان ليس من المفطرات؛ فالأعمال بالنيات والطعام والشراب نسيانًا عن غير عمد لا يُذهِب الصيام عن نية وقصد: «إذا نسي أحدكم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه.» أما الجماع نسيانًا فهو افتراض غير واقعي؛ نظرًا لما يتطلبه الجماع من وقت يتذكَّر فيه الإنسان أنه صائم.

والجنابة عن جماع أو احتلام أثناء الليل وقبل طلوع الفجر لا تُبطل الصيام بعد طلوع الفجر؛ فقد أخبرت عائشة وأم سلمة أن الرسول كان يدركه الفجر وهو جُنُب من أهله، ثم يغتسل ويصوم كما يروي البخاري. أما قُبلة الصائم فتروي عائشة أن الرسول كان يُقبِّل بعض أزواجه وهو صائم. وقد رُوي نفس الشيء عن أم سلمة أنها كانت والرسول يغتسلان من إناء واحد، وكان يُقبِّلها وهو صائم كما يروي البخاري أيضًا.

واستعمال السواك لا يُفْطِر؛ إذ يُذْكر عن النبي أنه استاك وهو صائم؛ فالسواك كما تقول عائشة مَطهَرة للفم، مرضاة للرب.

والمضمضة لا تُفطر حتى في الوضوء بالرغم من طعم الماء في الريق الجاف. المهم النية، الوضوء للصلاة أم المضمضة لإدخال بعض الماء في الريق؟ والحقيقة أن المفطرات هي ما يدخل في الجوف أو ما يخرج منه عمدًا وقصدًا؛ فالنية شرط العبادة، ولا توجد أقوال في ذلك من الرسول بل كلها أفعال أو إقرارات. والسُّنة القولية أقوى في الحكم من الفعل والإقرار. فالحجامة أي فصد الدم، والقيء لا يفطران؛ فالمفطر ما يدخل في الفم لا ما يخرج منه، وهو أصح الأقوال.

أما بالنسبة إلى النساء فإن الحائض تترك الصوم والصلاة، ولكنها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة. ويتساءل أصحاب الرأي عن علة التفريق بين الصوم والصلاة في القضاء، ويرد أهل الأثر أن كثيرًا من الآثار لا تأتي بالضرورة وفقًا للرأي. ومع ذلك، فإن الصوم أندر من الصلاة؛ لذلك يجوز فيه القضاء، والصلاة أكثر شيوعًا من الصيام لذلك لا قضاء فيها. كما أن كثرة النوافل في الصلاة قد تكون قضاءً غير مباشر عن فوات صلاة الحائض، وكل ذلك اجتهادات في التعليل، وقد يكون في قضاء صلاة أسبوع الحيض مشقة على الحائض فيما لا ذنب لها فيه.

ليس الصيام عذابًا للنفس بل ترويض لها، ليس غايةً في ذاته بل وسيلة لتقوية الإرادة، وشحذ الهمة، والسيطرة على الانفعالات وأهواء البشر، ويتجلَّى ذلك في تعجيل الفطور، وأخذ السحور، وعدم مواصلة الصيام ليلًا ونهارًا، تكفي ثلاثة أيام في الشهر، أو صوم داود نصف الدهر؛ إفطار يوم وصيام يوم.

فالصيام فضيلة يعقبه فرح الإفطار، ومكافأة الإرادة خير من تعذيبها، وتراكم فضيلة فوق فضيلة؛ فضيلة الصلاة بعد فضيلة الصوم بلا انقطاع: «لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر.»

والسحور أيضًا فضيلة، واستعداد للصيام التالي: «تسحَّروا فإن في السحور بركة.» وقيام الليل ليس فقط للعبادة والتهجد وذكر الله، بل أيضًا للطعام والشراب استعدادًا لممارسة عملية ضبط الإرادة وترويض النفس في اليوم التالي.

وتتجلى واقعية الإسلام في تحريم مواصلة الليل بالنهار صيامًا دون إفطار، وإن أقصى وقت للمواصلة هو السحر: «لا تواصلوا، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر.» وإذا كان الرسول قد واصل فإن ذلك حكم خاص به نظرًا للعلاقة الخاصة بينه وبين الله؛ فالوحي طعام وشراب روحيان: «لست كأحد منكم؛ إني أُطعَم وأُسقى.» وفي رواية أخرى: «إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعم يُطعمني وساق يسقيني.» وتزيد رواية ثالثة: «فاكلَفوا من العمل ما تطيقون.»

وهناك حق الزوج في المعاشرة وحق الضيف في إكرامه مما يمنع مواصلة الليل بالنهار؛ فحين بلغ الرسول أن عبد الله بن عمرو بن العاص يصوم النهار ويقوم الليل قال: «فلا تفعل. صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزَوْرِكَ عليك حقًّا. وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله.» ومهما بلغ الإنسان من قوة وقدرة على الصيام فوق ثلاثة أيام في الشهر فإن أقصى ما يستطيع صومه صوم داود، صوم يوم وإفطار يوم: «فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه.» وهو يعادل صوم ضعف الدهر، فإن استطاع القادر أن يصوم يومًا ويفطر يومين، فلا صوم أكثر من صوم النبي داود.

ونظرًا لأن الصوم إحساس بالآخرين، وتعاطف مع الفقراء والمحتاجين، وإحساس جماعي بترابط الأمة فإنه يجوز قضاء الصوم بين الأولياء كما قال الرسول: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه.» وكما يكون الميراث بين الأقرباء يكون الصيام بينهم أيضًا؛ أخذًا بأخذ، وعطاءً بعطاء؛ لذلك يجوز قضاء الصوم عن الأم المتوفاة بصوم ابنها قياسًا على الدَّيْن. عليه الوفاء بالدَّيْن، ودين الله أحق بالقضاء: «فدين الله أحق أن يُقضى.» وما يجوز من الابن للأم يجوز من الأخت للأخت ومن البنت للأم. وواضح هنا أن الولاية من الابن والابنة للأم بيانًا لدور الأم في الولادة والتربية وضرورة قضاء دَيْنها عليها من الأبناء والبنات.

صحيح أن المسئولية فردية، وأن الجزاء طبقًا للأعمال، ولكن في هذه الحالة يتواصل عمل الأحياء في عمل الأموات نظرًا للقرابة ولصلة الرحم، مثل الترحم على أموات المسلمين والدعوة لهم بالمغفرة وحسن العاقبة.

كانت هذه أهم موضوعات الصيام في السُّنة النبوية: عبادة ومغفرة، وجزاؤه الجنة وفتح أبواب السماء لدعاء الصائم، ويرتبط بالاعتكاف. في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر؛ ليلة نزول القرآن. كما ارتبط الصيام بتكفير الذنوب والتعويض عن الكبائر تطهيرًا للنفس، والإمساك الشامل عن الرذائل والسيطرة على النفس وضبط الأهواء وحسن الأخلاق، وهو وسيلة لمعرفة الأوقات والإحساس بالزمان في الشهر واليوم والليل وساعة الإفطار والسحور. وهو واجب ونفل، تكليف واختيار. لا يشق على النفس في حالة النسيان، وليس تكليفًا بما لا يطاق بدليل تعجيل الفطور وتفضيل السحور، وعدم مواصلة الليل بالنهار أو صوم الدهر كله، وأخيرًا الصوم فضل على من لا فضل له أو مَنْ نقصه الفضل بين الأحياء.

الصوم إذن ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب بل هو تكوين نفسي وذهني، وبناء اجتماعي، وعلاقة بالعالم، وصلة بالله. هو جزء من كل، وعبادة ومعاملة، يكشف عن جوهر الإسلام الذي تمثَّل الديانات السابقة وأكملها وطهَّرها مما علق بها من صورية وشكلية.

(٣) رمضان في الفقه الإسلامي٣

وصوم رمضان يبدو في كتب الفقه العديدة منذ القرن الثالث الهجري حتى الآن، كتب فيه الفقهاء من المذاهب الأربعة، ولمَّا كانت المدرسة السلفية لابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أهم المدارس التي جمعت بين القديم والجديد، بين الأصول والفروع، بين التمسُّك بالسنة وفي نفس الوقت القيام بالنقد الاجتماعي للممارسات الخاطئة، كانت بداية الإصلاح الديني الذي ينتسب إليه محمد بن عبد الوهاب والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعلال الفاسي وحسن البنا وغيرهم على مدى سبعة قرون.

فإذا أخذنا «زاد المعاد» لابن القيم نموذجًا تظهر عدة موضوعات في صوم رمضان أصلها في الكتاب والسنة وفروعها في التفسير والتعليل والنقد الاجتماعي لممارسات العصر مثل: فوائد الصوم الطبية البدنية بالإضافة إلى الخلقية الروحية، والحكمة من التدرج فيه وفرضه بعد الصلاة، وتحريم الوصل وصل الليل بالنهار، وصوم الدهر، وترك البعض منه على التخيير حتى يأتي باختيار الإنسان الحر، وهو المندوب، وكراهية التشدد في العبادات كلها، وأنواع المفطرات والأيام المستحبة والمكروهة في صيام التطوع.

فالمقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وامتحان قوة الإرادة، وتزكية الروح من أجل إعادة التوازن في حياة الإنسان بين مطالب البدن ومتطلَّبات الروح. وفي نفس الوقت المقصود منه الإحساس والتذكرة بحال «الأكباد الجائعة من المساكين». والصيام مفيد طبيًّا وبدنيًّا وفزيولوجيًّا عن طريق تضييق مجاري الطعام والشراب وحبس قوى الأعضاء، وتسكين كل عضو وتهدئته؛ فللصوم تأثير في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحمايتها من التخليط الجالب للمواد الفاسدة مثل الراحة الواجبة للبدن كله أو للآلة التي تعمل طول الوقت، أو للعامل الذي يقضي ساعات طويلةً في العمل.

وهي نفس الحكمة من صوم المعتكف؛ فالصوم شرط الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان بالتخلي عن فضول الطعام وما لا يحتاجه الجسم في فترة الراحة حتى لا يصاب بالتخمة. وفضول الطعام مثل فضول الكلام وفضول الجنس حتى تطهر الروح وتعكف على ذاتها بعد أن تتحرَّر من قيود البدن وثقل الجسم الذي يشدها إلى الأرض فتخلد إليه. الصوم إذن نافع للبدن قبل أن يكون صالحًا للروح، ويهدف إلى صحة البدن قبل أن يبغي صلاح النفس؛ لذلك ربط الفلاسفة بين أحوال البدن وأحوال النفس، وربطوا بين خفة البدن وشفافية الروح، وثقل البدن وانغلاق النفس. الصوم طريق للتحرر المزدوج للبدن والروح على حد سواء.

والتدرج نهج الإسلام في فرض أي حكم على الناس، حتى تتعود الناس عليه ولا تنفر منه؛ فالإنسان ابن العادة، يحتاج إلى وقت وصبر كي يترك العادة السابقة، ويتمثل العادات الجديدة. تلك كانت طريقة الإسلام في تحريم الخمر تدريجيًّا، وفي تحرير المرأة تدريجيًّا، وفي تحريم العبودية تدريجيًّا.

فقد فُرض الصوم في وسط الإسلام، لا في أوله ولا في آخره، في السنة الثانية بعد الهجرة. وقد صام الرسول تسع رمضانات بعدها، بعد أن تعوَّدت النفوس على الشهادتين، ومارست الصلاة؛ فالتوحيد لا يتأجل لأنه إعلان الشهادة، ورفض عبودية الروح وتكبُّر الأمراء والأشراف واتخاذهم أربابًا من دون الله، تحرير الوجدان الإنساني من الخوف من البشر، وإعلان مساواتهم جميعًا أمام إله واحد، وأن الرسول خاتم الأنبياء، وأن الإسلام خاتم الرسالات. وبالتالي تكتمل غاية الوحي، إعلان استقلال العقل والإرادة؛ فالعقل قادر على التمييز بين الخطأ والصواب، والإرادة قادرة على اختيار الصواب دون الخطأ.

ثم بدأ فرض الصوم على ثلاث درجات؛ الأولى: على وجه التخيير بينه وبين إطعام مسكين كل يوم؛ فالحكمة من الصوم الإحساس بجوع الآخرين، وأن الناس سواسية في إشباع الحاجات الأساسية، وأن على الإنسان أن يعطي من فضله مَنْ لا فضل له. الصوم أساس التراحم الاجتماعي، وتحقيق العدل بين الناس طواعيةً واختيارًا، وعلى مستوى الأخلاق قبل أن تُحقِّقه الشريعة على مستوى القانون. ومن أوجه التخيير الرخص لعذر أو مشقة؛ أي أن يكون إطعام المسكين رخصةً فقط للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يستطيعا الصوم، وأُعطيت نفس الرخصة للمريض والمسافر وقضاء الصوم بعد ذلك في حالة الصحة والاستقرار، كما أُعطيت للحامل والمرضع حماية للجنين في بطن الأم وللرضيع بين يديها مع القضاء بعد فترة الحمل وفترة الرضاعة، فلا يجوز تكليفٌ بما لا يُطاق، وقد رُفع من الإسلام الحرج، واعترف بضرورات الحياة وبواقع المجتمع والناس.

والثانية: فرض الصيام على كل فرد حتى إذا نام قبل أن يَطعَم حَرُم عليه الطعام والشراب حتى الليلة التالية، ولكن البعض اختان نفسه مثل عمر عندما عاشر زوجه بعد أن غفا وكأن القرآن أراد أن يأخذ الناسَ باللين أولًا، ثم بالشدة ثانيًا.

والثالثة: الصيام أثناء النهار والإفطار ومعاشرة الأزواج أثناء الليل سواء غفا الصائم أم لم يغفُ، وهو الصيام المقرَّر حتى آخر الزمان، وهو الوسط بين اللين والشدة، تجريبًا على الواقع، وقياسًا على قدرة الناس على التحمل. فأحكام الشرع أحكام وضعية — كما يقول الشاطبي — تقوم على مصالح الناس.

صوم رمضان فرض، والصوم في غير رمضان سُنَّة على التخيير أو صيام تطوع؛ فالصوم ليس واجبًا تكرهه النفس وتقبله عن غير رضًا، بل هو طلب للنفس من تلقاء نفسها، ودعوة له منها بحرية وعن طبيعة.

فقد كان الرسول يصوم حتى ليقال إنه لا يفطر، ويفطر حتى ليقال إنه لا يصوم. يجمع بين الصوم والإفطار. ولم يستكمل صيامًا غير شهر رمضان، وكان شهر شعبان أكثر الأشهر صيامًا فيه، ولم يكن يمضي شهر لا يصوم فيه بضعة أيام، وقيل ثلاثة. كان يصوم الأيام البيض، وستة أيام من شوال، وفي بعض الروايات كان يصوم كل اثنين وخميس من كل أسبوع، وثلاثة أيام في أول كل شهر. واختلفت الروايات على صوم التاسع والعاشر من ذي الحجة، ولكنه كان لا يصوم في رجب، وكان لا يسرد الصوم شهورًا متتابعة كما يغفل بعض الغالية والمتطرفين في العبادة، والمزايدين على أنفسهم وعلى الله وعلى الناس.

وتختلف الروايات حول صوم عاشوراء؛ فقد كانت قريش تصومه في الجاهلية تعظيمًا لصاحب الكعبة. ولمَّا قَدِم الرسول المدينة وجد اليهود يصومونه، وهو يوم نجاة موسى وغرق فرعون فقال: «نحن أحق بموسى منكم.» فصامه، وأمر بصيامه، وذلك قبل فرض صوم رمضان، وبعد أن فُرض صوم رمضان ترك الرسول صوم عاشوراء على التخيير، من شاء صامه ومن شاء تركه: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر.» فالإسلام وريث الشرائع السابقة، شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، أكملها وأعاد صياغتها بما يتفق مع خاتم الرسالات ورُقي البشر.

ومع ذلك فقد حرص الرسول على التمايز، تمايز المسلمين عن صوم اليهود والنصارى، فنوى في العام المقبل أن يصوم التاسع: «إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع.» ثم تُوفي الرسول قبل أن يحول الحول. كانت نية الرسول التمايز عن اليهود: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود وصوموا يومًا قبله ويومًا بعده.» فالاتصال مع عادات العرب قبل الإسلام مثل الصوم، صوم عاشوراء، وبعض مناسك الحج، ربط للإسلام بتاريخه. وفي نفس الوقت التمايز بينه وبين الشرائع السابقة ضروري لإثبات الجدة والنقلة الجديدة. وتلك عبقرية الإسلام في جدل التواصل والانقطاع، الارتباط بالقديم والبداية بالجديد.

وكما أن الصوم إمساك فإن الإفطار عيد؛ لذلك، وكما هو معروف، للصائم فرحتان: فرحة حين الإفطار، وفرحة حين لقاء الله.

لذلك لا يجوز الصيام أيام الأعياد: يوم الجمعة، وأيام العيدين، ويوم عرفة. فالجمعة لقاء مع الجماعة، وفرحة اللقاء والتحاب تقتضي التزاور والضيافة والطعام المشترك.

وكذلك إفطار يوم عرفة؛ فقد نهى الرسول عن الصوم فيه؛ فالإفطار في عرفة يجعل المفطر أقوى على الدعاء، وأنه يوم سفر، والإفطار فيه رخصة، وأنه يقع يوم جمعة، يوم عيد المسلمين. فاجتمع في عرفة عيدان؛ عيد الجمعة وعيد الوقفة. يجتمع الناس فيه من كل حدب وصوب، والطعام المشترك أحد مظاهر التحاب والتراحم والألفة، ويوم عرفة مثل يوم النحر، وأيام مِنًى، أعياد للمسلمين، وفرحة لهم فيها.

ويُروى أيضًا كراهية الصوم يومَي السبت والأحد تمايزًا للمسلمين عن أعياد النصارى واليهود: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لِحاءَ عنب أو عود شجرة فليمضغه.» بالرغم من الخلاف بين الرواة حول الحديث.

بل إن تحديد شهر الصوم الهدف منه هو الصوم بالقدر المضبوط، لا يوم قبله ولا يوم بعده، الصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته؛ فإن غُم الهلال فالتقدير أو الحساب؛ فالحساب الفلكي استثناء من المشاهدة الطبيعية، إعادة توظيف النظر إلى الكواكب والنجوم بدلًا من عبادتها عند الصابئة، معرفة المواقيت بها في الإسلام، وهو طريق إبراهيم الذي استدلَّ به على وجود الله انتقالًا من الكواكب إلى القمر إلى الشمس إلى القوة وراء الشمس. وقد آثر البعض احتياط صوم يوم قبله، فصوم يوم في شعبان خير من إفطار يوم في رمضان.

وإذا كان الإفطار يوم السفر على التخيير فإنه مستحب يوم لقاء العدو مما يستلزم الشدة والقوة، وكان الرسول يأمر المسلمين بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليقووا على قتاله كما يذكر ابن القيم في «زاد المعاد» وبناءً على آية وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (الأنفال: ٦٠). والإفطار قوة في ملاقاة العدو درءًا للجوع والعطش: «إنكم قد دنوتم من عدوكم فأفطروا أقوى لكم» رخصة، «إنكم مُصَبِّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا» عزيمة. والأمر على الخيار بين الرخصة والعزيمة، والله يحب أن تُؤتى رخصه كما تُؤتى عزائمه.

وبالرغم من أن الصيام فريضة على كل مسلم ومسلمة، وركن ركين من أركان الإسلام إلا أنه محدد بوقت وبقدرة وأهلية، يجمع بين التشدد واللين، بين العزيمة والرخصة، بين القوة والضعف، دون مزايدة في الإيمان والإتيان بأركان الإسلام، صيام الدهر كله. صحيح أن شهر رمضان هو أكثر الشهور عبادة؛ ففيه نزل القرآن، وفيه اعتكف الرسول في العشر الأواخر منه، وفيه تكثر الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والذكر والاعتكاف والنوافل.

ومع ذلك فقد نهى الرسول عن الوصال؛ وصال الليل بالنهار، ولما سأله الصحابة أنه يواصل، أجاب بأن هذا حكم خاص به وليس لعامة المسلمين؛ فقد كرمه الله بالوحي، واختاره للنبوة؛ فهو عبد شاكر. وقد اختلف المفسرون في حديث له روايات عدة أشهرها: «إني لست كهيئتكم، إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني.» هل هما الطعام والشراب المألوفان أم الطعام والشراب الروحيان؟ والمعنى الثاني الروحي أقرب لأنه يتفق مع خصائص شهر الصوم، كما يتفق مع السياق في التقابل بين الخاص والعام، بين شراب الرسول وطعامه الروحيَّين وشراب الناس وطعامهم المألوفَين.

وعلى أكثر تقدير، يكون الوصال من السَّحر إلى السَّحر: «لا تواصلوا فأيُّكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحر.» وهذا ما يستطيعه الناس دون حرج أو تكليف ما لا يطاق. ومع ذلك فالاستطاعة هي الحد الفاصل بين المندوب والمكروه، وأن الأوامر لا تُؤتى إلا على قدر الاستطاعة «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.»

ومما يبرهن على كراهية الوصال التوصية بالتعجل في الإفطار على عكس اليهود والنصارى الذين كانوا يؤخرونه زيادةً في النفل: «لا تزال أمتي على الفطرة، ولا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر.» وفي رواية أخرى: «لا يزال الدين ظاهرًا ما عجَّل الناس الفطر، إن اليهود والنصارى يؤخرون.»

والأولى تحريم وصال الدهر كله؛ فهذا خارج عن نطاق البشر لقول الرسول: «من صام الدهر لا صام ولا أفطر.» لم يمسك ولم يفرح، لم يعش كما يعيش البشر. وماذا عن الأيام التي يُحرَّم فيها الصوم؟ والنية الصادقة في صوم الدهر يمكن أن تتحقَّق بصوم رمضان وستة أيام من شوال: «من صام رمضان وأتبعه ستة أيام من شوال فكأنما صام الدهر.» ومن صام ثلاثة أيام من كل شهر كأنما صام الدهر، وهو تشبيه يُحقِّق للإنسان حُسن النية ويحفظ عليه حياته واعتداله.

ولما كان الصوم عزيمةً كانت له رخصة للمريض والمسافر؛ تيسيرًا على الناس وليس عسرًا عليهم. ويُترك تقدير خطورة المرض ومشقة السفر لحسن النية وصدق العزم.

فعذر المريض تناول الدواء أو أخذ المحاليل أو ضرورة الغذاء المستمر في حالة الضعف العام، يشعر المريض بذلك أو يتبع نصائح الطبيب، والحفاظ على الحياة أحد مقاصد الشريعة وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

وعذر المسافر مشقة السفر، وتُقدَّر بطول المسافة والوقت والعناء. وهناك فرق بين مشقة السفر في الماضي وراحة السفر اليوم؛ فقد كان السفر في الماضي عبر الصحراء وفوق النوق والحيوان مما يتطلب ساعات طوالًا وجهدًا ومشقة. أما اليوم فالسفر في العربات والقطارات المكيفة والطائرات المجهزة. فتقدير المسافة بثلاثة أميال تقدير القدماء وليست تقدير المعاصرين؛ فالطائرة تقطع آلاف الأميال في ساعات قليلة. وقد كان بعض الصحابة يُفطرون بمجرد مغادرة البيوت في السفر، وكان البعض الآخر يُفطر في ركوب سفينة من الفسطاط إلى الإسكندرية، والأمر متروك لتقدير المعاصرين.

أما المفطرات في رمضان فهي الطعام والشراب والحجامة والقيء والجماع أثناء الصوم، ويتوجب الغُسل بعد الجماع، وكان الرسول يلحقه الفجر ثم يغتسل بعده. ووقع الخلاف في قُبْلة الصائم بين الإنكار والإثبات، والبعض شبَّهها بالمضمضة أثناء الوضوء، أما من فَعَل ذلك ناسيًا فلا حرج عليه. ويُروى أن الرسول اكتحل وهو صائم.

وإذا كان الصيام هو تربيةً للنفس وتقوية للإرادة وتصفية للروح، فالأولى البُعد عمَّا يُقلِّل ذلك حتى ولو كان في الشرع قولان. وعادةً ما يكون في المذاهب الفقهية تياران؛ تيار متشدد يأخذ بالأحوط، ويبعد عن الشبهات، ويترك المكروه. وتيار آخر ليِّن، يرفع الحرج، ويرى يسر الدين. والأمر متروك لحكم الفرد وصدق نيته، وقوة عزيمته، واستقلال إرادته.

لذلك كان السؤال: هل ممارسات الصوم في العادات الشعبية والحياة اليومية متفقة أو مختلفة مع الصيام في القرآن والسنة والفقه والشريعة؟ ما مدى الالتزام بمعايير الصوم كما حدَّدتها الشريعة؟ وما مدى انصياع الصوم للممارسات العملية والعادات الشعبية التي قد تتفق أو تختلف مع الصوم الشرعي؟ وما هو الصوم الغالب على الناس: الصوم الشرعي أم الصوم الشعبي؟ وهل يمكن التمييز بين الاثنين بعد أن استقر الإسلام في التاريخ أربعة عشر قرنًا؟

(٤) رمضان في الممارسات الاجتماعية٤

في موسوعات الفقه القديم يظهر النقد الاجتماعي للعادات والممارسات الشعبية في عصور تدوينها؛ فالفقه ليس فقط وضع الأحكام الفقهية الشرعية، بل أيضًا وصف تطبيقاتها. وقد ظهر ذلك خاصةً عند ابن تيمية وابن القيم والمدرسة السلفية بوجه عام؛ فالفقه وكافة العلوم النقلية مثل التفسير أصبح حاملًا للنقد الاجتماعي بغية الإصلاح والتخلص من العادات المضادة للشرع.

ومن الطبيعي أن يكون الواقع الاجتماعي الواجهة الأخرى للفقه الشرعي؛ نظرًا لأن الشريعة الإسلامية أتت في واقع معين، وفي بيئة معينة. قبلت ما يتفق منها مع الشرع للارتباط بالواقع والتاريخ مثل بعض مناسك الحج، وهو ما سُمِّي بأسباب النزول. وتطوَّرت بتطور الواقع، وتكيَّفت طِبقًا لقدراته، وهو ما يُسمى بالناسخ والمنسوخ. وفي المغرب العربي سُمِّي هذا الفقه فقه النوازل؛ أي ما يحل بالمسلمين من واقع وممارسات وعادات اجتماعية.

ومن الواضح أن أول عادة اجتماعية في ممارسات الصوم خاصةً في الوطن العربي بصرف النظر عن التمييز بين مواطن غناه وفقره هو ما يسود هذا الشهر من وفرة وزيادة في الاستهلاك لدرجة الإسراف، وما يقع فيه من بَذَخ لدرجة التخمة. إنه عيد للغني كي يظهر غناه، وعيد للفقير أن يُظهر أنه يساوي الغني في أكل اللحوم والتمتع بمأكولات رمضان، حلوياته ومكسراته.

وفي الأقطار العربية التي ما زالت غير مكتفية بغذائها، وما زالت تعتمد في أكثر من ثلاثة أرباع ما تَطعَمه على الخارج، تزداد نسبة استيراد الدقيق والسكر والسمن والزيت والكماليات، وترهق الخزانة العامة، بل وتستدين من الأغنياء كما استدانت من شركات توظيف الأموال سابقًا لمدِّها بالسيولة المالية لتوفير احتياجات رمضان.

وهنا يطغى الواقع الاجتماعي على الحكمة من الصوم، وهو الإمساك، والزهد، والشعور بجوع الفقير، وتقوية الإرادة. يصبح رمضان شهر الإشباع المطلق، يشعر فيه الفقير بمتعة الأغنياء أكثر ممَّا يشعر فيه الغني ببؤس الفقراء. فباسم رمضان تتم ممارسات مضادة لحكمة الصوم التي تهدف إلى الترفُّع على العالم وليس الانغماس فيه!

ومن أهم مظاهر الممارسات الاجتماعية للصوم والتي تناقض قيم الإسلام الأخرى هو ما يعتري الصائمين من كسل وإهمال في العمل والإقلال من ساعاته بحجة الصيام، فأصبح شهر الصوم في كثير من الأحيان شهر إقلال في العمل وقلة في الإنتاج.

يبدأ العمل في المصالح الحكومية متأخرًا ساعةً أو ساعتين بحجة السهر والسحور والنوم المتأخر واستحالة الاستيقاظ المبكر، وينتهي العمل مبكرًا ساعةً أو ساعتين بحجة ضرورة العودة المبكرة إلى المنزل استعدادًا للإفطار أو النوم بعد الظهر تعويضًا عن سهر الليل في العبادة والسحور والسمر والزيارات. وفي هذه السويعات القليلة في العمل بعد خصم أولها وآخرها يكون الموظف أو العامل بين اليقظة والنوم، متراخيًا، لا يسمع ولا يفكر، لا يعي ولا ينجز بدعوى صيام رمضان. ويحدث نفس الشيء في المدارس والجامعات والمصانع والمحلات التجارية وكل مظاهر النشاط الاقتصادي. ويكثر التغيب بدعوى رمضان.

ونظرًا لاعتبار البعض أن ضياع شهر من العمل الوطني في العام يعادل ضياع ٨٫٣٪ من الناتج القومي؛ أي ما يقارب العشر أجاز الإفطار في رمضان معتمدًا على قول الرسول ليلة منازلة العدو: «إنكم قد دنوتم من عدوكم فأفطروا أقوى لكم.» وكذلك قوله: «إنكم مُصبِّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا.» كما يروي ابن القيم في «زاد المعاد» (ص١٦١).

وفي نفس الوقت دارت غزوة بدر في رمضان، ولم يتكاسل المسلمون في الحرب، وانتصروا على العدو، وغفر الله لشهداء بدر.

وضعف البدن تعوِّضه قوة الروح، بل إن الطعام والشراب في حالة الجهاد قد يُضعف ولا يُقوِّي، والمعدة الخاوية أقدر على النزال من المعدة الممتلئة، وفرق بين عطش الصحراء وماء المدن، بين الصيف القائظ في شبه الجزيرة العربية وبين الجو المعتدل خارجها، بين مبارزة السيوف اعتمادًا على القوة العضلية والحرب الإلكترونية التي تعتمد على العقل أكثر مما تعتمد على العضل. العزيمة في رمضان من حيث القدرة على العمل وزيادة الإنتاج أفضل من الرخصة فيه.

ومن مظاهر الممارسات الاجتماعية في رمضان: ازدحام الطرقات، ومخالفة قواعد المرور، وأخذ الطريق من الآخرين بحجة ضرورة الوصول قبل موعد الإفطار؛ فالصائم دقيق في موعد الإفطار، ومتراخٍ في موعد الوصول إلى العمل ومغادرته، بعد الوقت وقبله.

وبدلًا من الإحساس بالآخرين، والتعاطف معهم، وهي الحكمة من الصوم، تظهر الأنانية، أنا وحدي ويذهب الآخرون إلى الجحيم؛ فالطريق له وحده، والعالم له وحده، والآخر عدو له يريد أن يسبقه ويصل إلى المنزل قبله. وتبلغ الذروة قبل الإفطار وليس ساعة الوصول إلى العمل؛ بل قد تؤدِّي السرعة الجنونية قبل مدفع الإفطار إلى أن يفقد الصائم حياته كلها في حادثة الطريق أفضل من أن يصل بضع دقائق متأخرًا إلى منزله بعد موعد الإفطار.

بل قد يبلغ الأمر إلى سد الطريق على الآخرين وعلى نفسه بمنطق «عليَّ وعلى أعدائي يا رب»، وكأن الانتقال من المنزل إلى العمل أو من العمل إلى المنزل حرب سجال بين أعداء. وينسى الجميع حكمة الصيام؛ حياة الجماعة مقدمة على حياة الأفراد.

وتتعطَّل مصالح الناس، ويُصِر السائقون على التوقف عن العمل قُبيل الإفطار وبعده استعدادًا للطعام؛ فهم بشر مثل الآخرين، تاركين الناس في الطرقات، النساء والأطفال، كل يود الذهاب إلى منزله. ويضيع مفهوم العمل العام، والخدمة العامة، والسعي لقضاء الحاجات.

ويعم التساهل، ويشيع التسيُّب، ويكثر خرق القوانين بدعوى الصيام. فأصبح الصوم ذريعةً لمخالفة القانون وعدم الحساب، وهو ضد الحكمة من الصوم؛ السيطرة على الإرادة، والطاعة لله، ومحاسبة النفس، والتضامن مع الجماعة.

تكاد تتوقف الحياة وتتعطل المصالح في رمضان، وفوضى الطريق ما هي إلا رمز ودلالة على ما يحدث في كل القطاعات، ولا أحد يستطيع الاعتراض أو النصح أو الدفاع عن حق أو المطالبة بأداء واجب وإلا كان ضد الدين، لا يؤمن بالصيام ويعيب على الصائمين صومهم!

وبالرغم من أن الصيام إمساك عن الطعام وإمساك عن الأهواء إلا أنه في الممارسات الاجتماعية للصوم يحنَق الصائم، ويغضب، ويصيح، ويُعلي صوته، ولا يتحمل نقاشًا أو خلافًا في الرأي، ولا يقبل نصيحة، ولا يرضى بمشورة. لا يسمع ولا يبصر ولكنه يتكلم طول الوقت، يتجنَّبه الناس لأنه صائم، ويسترضونه، ويستعطفونه، ويتقون شره لأنه صائم.

أصبح الصوم في الممارسات الاجتماعية يعادل سرعة الغضب، لا يتحمل الصائم أحدًا، ولا يتحمله أحد، والحجة أنه صائم فهو معذور، تكفيه بلوى الصيام، ولا يتحمل أن تزداد عليه بلاوي الزمان. وأصبح حنقًا مستمرًّا، وكأن الروح قد صعدت إلى الحلق. لا يتحمل الصائم قضاء طلب أو أداء مصلحة أو قَبول توجيه أو الاستفسار عن شيء. وكيف يستطيع ذلك بمعدة خاوية، وحلق جاف، وأنف محرم عليها شم الدخان؟

ويصل الأمر ببعض الصائمين إلى حد السب والقذف والتراشق بأبشع الألفاظ في شهر الصيام. وأصبح المسلم للمسلم عدوًّا لا أخًا، غريمًا لا صديقًا، أجنبيًّا لا مواطنًا. وكثيرًا ما تُسمع أصوات المتشاجرين في الطرقات وفي المركبات العامة وفي المصالح العامة وفي دُور الحكومة.

بل قد يصل الأمر إلى حد التشابك بالأيدي، وإسالة الدماء بل والقتل بحجة الإثارة وعدم القدرة على السيطرة على الانفعالات بين الصائمين. والهدف من الصوم هو السيطرة على الانفعالات، وتقوية الإرادة، والعلو بالنفس، والسمو بالروح، والتجاوز عن الصغائر، والترفع عن المهاترات. أصبح الصوم معادلًا لقلة النوم، واضطراب أساليب الحياة، وعدم انتظام إيقاع النهار، والخروج على المألوف. وتحول الشهر الكريم إلى الشهر الأليم، وشهر التسامح إلى شهر الحنق والغضب. يمكن الصبر على الجوع والعطش حتى في أشهر القيظ ولكن لا يمكن كظم الغيظ، والعفو عن الناس باسم الصيام، وضيق نفس الصائم كأن روحه تتصاعد إلى السماء وفي صدره حرج من هذا الفرض الذي عكَّر عليه المزاج، وسلب منه الطمأنينة!

وتكثر مظاهر الإسلام الشعائري في رمضان، ويتحوَّل شهر التقوى الباطنية وسمو الروح إلى شهر مظاهر خارجية وطقوس باسم العبادة، وأن أفضل عبادة في شهر رمضان.

تمتلئ المساجد بعد صلاة العشاء لصلاة التراويح وختم القرآن في ثلاثين يومًا بعد أن كانت تُغلَق في المساء، وتُزان بالضوء وبالمصابيح مثل المعالم السياحية. وتقام السنن مع الفروض، وتُعطى الزكاة، زكاة الفطر دون غيرها من أنواع الزكاة مثل زكاة المال، وتكثر الدروس الدينية في المساجد بعد العصر، ومن المغرب إلى العشاء وبعد الفجر، وتتعدد في أجهزة الإعلام، وتكثر البرامج الدينية في الصحف، وتُلغى صفحات الثقافة لإفساح المجال لصفحات الفكر الديني وكأن الدين بديل عن الثقافة وليس مصدرها.

وتكثر المظاهر الخارجية مثل لبس الجلباب الأبيض والطاقية البيضاء. وقد تُطال اللحى، ويُمسك بالسبح، وتكثر الابتهالات، ويُقرأ القرآن في المركبات العامة وسط صراخ الأطفال والشيوخ وفي أماكن العمل وبدلًا عنه.

وأكثر ما تكون الشحاذة في رمضان، أكثر ربحًا للشحاذ، وأعظم أجرًا للكريم. وتزدهر تجارة المصاحف والكتب الدينية، ويُطلق البخور في كل الأوقات وليس فقط قبل صلاة الجمعة.

وتكثر التحيات الدينية في لقاء الناس، وذكر الله على الألسنة. وتنتظر الناس في الشرفات وعلى الأسطح ليلة القدر في العشر الأواخر منه، وتكثر الشائعات حول رؤية جبريل هابطًا من السماء في ليلة السابع والعشرين من رمضان كي يستجيب لدعاء الصائمين.

ويُحرص على الصلاة في رمضان، والذهاب إلى المساجد كي تؤدى الصلوات جماعةً وحاضرة؛ فمن لا صلاة له لا صيام له، فأصبحت الصلاة ملحقًا للصيام وليست ركنًا مستقلًّا قبل الصيام ومعه وبعده. ويصبح الإسلام دينًا طقوسيًّا شعائريًّا أقرب إلى اليهودية والبوذية والديانات الشعبية، وتضيع التقوى الباطنية، ويعز القلب السليم.

وبالرغم من أن رمضان شهر الهدوء والتدبر والتأمل والاعتكاف إلا أنه في الممارسات الشعبية والعادات الاجتماعية أصبح شهر الضجيج والأصوات العالية ومكبرات الصوت ليس فقط في أوقات الأذان بل أيضًا قبلها لقراءة القرآن، وبعدها للوعظ والإرشاد، وقبل الفجر للمدائح النبوية والتراويح أيضًا في مكبرات الصوت، الصلاة في الداخل وسماع القرآن في الخارج.

وتتكاثر مكبرات الصوت وتتجاور، وكلها تعمل في نفس الوقت بأعلى صوت للأذان وقراءة القرآن والتواشيح والمدائح، فلا يكاد يسمع أحد أيًّا منها. ولا يكاد أحد يتدبر معاني القرآن وهو الغاية من التلاوة والسماع، وكأن الأمر منافسة في علو الصوت، وإظهار الإيمان، ودعاية للمساجد حتى يملأها المصلون. وتضيع من الصوم حكمته ووقاره وتذهب طمأنينة الإيمان. زحام في الطرقات، وزحام في الأصوات.

وقد يوجد مريض يود النوم أو طالب يود الاستذكار أو شيخ عجوز مصاب بالأرق، أو مؤمن يعبد الله في خشوع. ويا ليت الصوت يكون جميلًا يطرب الآذان؛ هو مجرد صراخ لا يبعث على تقوى ولا يدعو إلى إيمان. ويحدث ذلك في كل أوقات النهار، وفي منتصف الليل، فيضج الجميع، مسلمين وأهل كتاب.

ولا يستطيع أحد الاعتراض وإلا كان ضد الدين، لا يصوم رمضان، ولا يريد سماع الأذان أو القرآن، ويحقد على الإسلام والمسلمين، يُضمر الكفر ويظهر الإيمان!

وإذا كان الغرض من الصيام هو الإحساس بالآخرين وآلام الجائعين، فالأولى الإحساس بآلام المرضى والحرص على راحتهم؛ فالإيمان في القلب وليس على اللسان، والتقوى في أعمال القلوب وليست في أعمال الجوارح. وقد حرص الصوفية على ذلك قائلين: «من اعتنى بظاهره فإن باطنه خراب.»

إن العمل في صمت خير من الصراخ في الهواء، والسعي لقضاء حاجات الناس خير من الدعاية والإعلان.

(٥) رمضان والعادات الشعبية٥

وتزدهر في رمضان الممارسات الاجتماعية لكثير من العادات الشعبية التي قد تختلف من بلد إسلامي إلى بلد آخر. ويخلط الناس بينها وبين متطلبات الصوم وشهر رمضان. البعض منها له أصل في الدين ثم تحوَّل إلى عادة شعبية، والبعض الآخر مجرد عادة شعبية سنَّها الحكام لأغراض سياسية، أو نشأت كما تنشأ الخرافات والبدع في المجتمع.

فإذا أخذنا بعض العادات الشعبية في رمضان في مصر مثلًا فقد تحول الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان في المساجد إلى حياة دنيوية صرفة؛ يُحضر المعتكفون القدور والأواني والمراجل والمواقد والأغطية والأوسدة إلى المساجد والحجرات الملحَقة بها، وتتحوَّل المساجد إلى منازل للسُّكنى بها نفس الخدمات. ونظرًا لأن النظافة والحرص عليها ليست عادةً متبعة فتتحوَّل المساجد إلى دُور شعبية للسكنى وهي غير مؤهَّلة لذلك من حيث شروط الصحة العامة. ويكثر السمر والحديث بين الصلوات، وقبلها وبعدها، ويتحوَّل الاعتكاف إلى حياة اجتماعية كاملة، ويتحوَّل الهدوء إلى صَخَب، والصمت إلى ثرثرة، وبدلًا من أن ينعزل المعتكِف عن الدنيا في المسجد يُحضرها معه فيه.

وينتظر المعتكف ليلة القدر، وكيف يراها وهو مشغول بأمور الدنيا داخل المسجد؟! وهل يراها بالعين في السماء، والمساجد بالدور الأرضي وليست فوق الأسطح؟ وهل يراها بالعين المجردة أم بنور القلب؟ ويتحدث البعض ليلة السابع والعشرين من رمضان عن طاقة النور التي انفتحت في السماء، وعن جبريل هابطًا منها ليحمل دعوات المؤمنين في الشهر الكريم، والبعض يصف حجمه وطول أجنحته وريشها وألوانها والأصوات المصاحبة لقدومه، إلى آخر ما هو معروف في الخيال الشعبي وعند الرواة في الأرياف، وعند المنشدين الشعبيين في الأزقة والحارات.

وقد ارتبط رمضان في ذهن العامة والتجار بالفوانيس الملوَّنة التي يحملها الصغار، ويضعها الكبار على أبواب المنازل، ويعلِّقها التجار في الشوارع وعلى أبواب المحلات دعايةً وإعلانًا للدين والدنيا على حد سواء. ويتبارى التجار في حجمها، فكلما ازداد الحجم عم الخير، وزادت التقوى.

كما ارتبط بأنواع خاصة من الحلوى «الكنافة» و«القطايف» والمشروبات مثل «قمر الدين». وكلها عادات نشأت في مصر الفاطمية التي تحوَّل فيها الدين إلى ممارسات شعبية حتى يبتعد الناس عن السياسة ومواجهة الحكام الجدد القادمين من المغرب العربي، فيتحد الطقس الديني بالطقس الشعبي ويصبح جزءًا من الممارسات اليومية التي تحث على الطاعة والولاء.

وتزدهر الليالي في رمضان، ويكثر السهر بعد التراويح وحتى صلاة الفجر، وتأخذ الأرض زخرفها وتتزين. نوم بالنهار في العمل وفي المنزل، وسهر بالليل أمام أجهزة الإعلام وفي الطرقات.

أصبح رمضان شهر التسلية في الممارسات الشعبية؛ فمنذ مدفع الإفطار وبعده تبدأ المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، وأشهرها فوازير رمضان برقصاتها وأغنياتها ومقدماتها الموسيقية وتصميمها من أشهر النجوم الغنائية نساءً ورجالًا، وتصبح أحاديث العام من حيث حلاوتها عن العام الماضي زيادةً أو أقل. بل ويحفظها الأطفال ويقلِّدون حركاتها، وتصبح تجارةً من حيث تكاليفها وربحها بعد بيعها وشرائها. وبعدها وطوال الليل تتخلَّل الأغاني المسلسلات الدينية والتاريخية، فيجتمع الدين والدنيا ويرضى الناس، ساعة للقلب، وساعة للرب.

وتمتلئ المسارح بالمتفرجين، والسينما بالمشاهدين، والمقاهي بالرواد والشوارع بالمارة. ويشتد الزحام حتى تلتصق الأجساد بالأجساد، لا فرق بين المكسب في شهر رمضان والربح في شهور الصيف على الشواطئ، رزق عميم ودخل وفير. وتقام الخيم في الميادين والساحات الشعبية، وتُهيأ الزرابي والوسائد والجلسات العربية، والبخور والنارجيلة والأغاني القديمة، ولا ضير من بعض الرقص الشعبي.

وفي الفنادق الكبرى يُعلَن عن الإفطار والسحور على حمام السباحة وعلى نغمات الرقص الشرقي ومع عروض الفِرق الأجنبية، الروسية خاصة، بمئات الدراهم رسمًا للدخول، وبآلاف الدنانير ثمنًا لأطباق الطعام. ويخرج الصائمون وقد امتلأت البطون وتمتعت العيون.

أصبح شهر الصيام في الممارسات الشعبية شهر المتعة والفرح، ووقت البهجة والأنس؛ تفريجًا للهم، ودفعًا للأحزان، ونسيانًا للهموم. ويتم تجنيد وزارات الإعلام والثقافة والتموين والداخلية استعدادًا لشهر رمضان. هكذا كانت الأعياد الدينية في الوثنية القديمة التي يختلط فيها الدين بالمجون، والرقص في المعابد بالرقص في الشوارع، جمعًا بين الدين والدنيا.

وفي الممارسات الشعبية تزداد الشعائر الدينية كمًّا؛ فالصلاة في رمضان مكمِّل للصوم، ومن لا صلاة له لا صوم له. ويُفضَّل الصلاة في المساجد جماعةً لإكمال الإحساس بالجماعة جوعًا وتضامنًا. وتبلغ الذروة في صلاة التراويح وختم القرآن على مدى ثلاثين يومًا. ويتنافس المصلون في الجَلَد والتحمل في الصلاة وقوفًا لا قعودًا، وعند البعض يصبح ذلك كله مدعاةً للتظاهر والتفاخر بين المؤمنين، أيهم زاد وأيهم نقص.

وتمتد موائد الرحمن طولًا وعرضًا أمام المحلات الكبرى، في ظاهرها إطعام الفقراء وفي حقيقتها دعاية للمحل التجاري، فاسم المتجر يجاور اسم الرحمن. وتحسن السمعة، وتغيب الرقابة على الأسعار. ويعوِّض صاحب المتجر ما ينفقه على موائد الرحمن في زيادة مبيعاته بعد ذلك وزيادة ربحه، وزيادة التقوى طريق إلى زيادة الربح.

ويتزاحم المعتمرون لأداء العمرة في شهر رمضان بالبواخر والطائرات، وينضم النشالون، فما أسهل النشل في العمرة حيث تتجه القلوب إلى الله وتخف الرقابة على الجيوب والأمتعة! ويعوِّض النشال مصاريف الرحلة ويعيش عدة أشهر بما اكتسب من جيوب الآخرين. ويذهب التجار للشراء من الأسواق، ما خف حمله وغلا ثمنه، بما في ذلك الذهب الرخيص والملابس الخفيفة أو الساعات. ويعود لبيع تجارته بعد التهرب من الجمارك. ويُعوِّض تكاليف الرحلة ويزيد عليها مُدَّخرات تكفيه حتى الحج في عيد الأضحى المبارك.

وعلى هذا النحو يصبح الدين غطاء وتسترًا على مغانم الدنيا؛ فباسم الآخرة يتم التوجه إلى الدنيا، وباسم رمضان وتحت عباءته تتم ممارسة أبشع أنواع الجشع مما يضاد حكمة الصوم؛ الزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة.

ويكثر النشالون والشحاذون في رمضان؛ فالزكاة، زكاة الفطر، كرهًا أو طوعًا. ويصبح رمضان شهر الرزق، حلال كان أو حرامًا. من يتصدق في الدنيا لبناء مسجد يَبْنِ له الله قصرًا في الجنة. ويكثر وقوف الشحاذين على أبواب المساجد وبعد صلاة العيد، والنساء يحملن أطفالهن، ومُدَّخرات المتسوِّلين تزداد يومًا بعد يوم. ومَنْ من الصائمين بعد انقضاء شهر الصوم وهو خارج بعد صلاة العيد، وفي عيد إفطاره لا يتصدَّق ولا يعطي زكاة الفطر؟

وبمجرد انقضاء رمضان، ينفضُّ المولد، وينتهي المهرجان وكأن الدين له موسم، والتقوى لها وقت، والعبادة في شهر دون شهر. تقل البرامج الدينية في أجهزة الإعلام، وتنتهي صفحات رمضان من الصحف، ويقل ارتياد المصلين للمساجد؛ فالصلاة في المنازل مقبولة عند الله مثل الصلاة جماعةً في المساجد، خاصةً وأن المصلين قد أكثروا منها في شهر الصيام، صلاةً واعتكافًا. ويُرفع الحجاب الذي أُسدِل في شهر رمضان وكأن الحجاب فريضة موقوتة بشهر الصيام، وتُعاد العطور إلى الملابس، والزينات إلى الوجوه والرءوس؛ فقد انتهى شهر الصيام، وتمَّت المغفرة. ويُعاد إلى الشراب بعد انقطاع شهر الصوم في المحلات العامة وفي الفنادق وعلى متن الطائرات وفي جلسات الأصدقاء. وينتهي شهر الفوازير والابتهالات، والمسلسلات والتواشيح، والسحور في الفنادق الكبرى، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل رمضان وبعد رمضان.

تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي؛ فلا زحام في الطرقات، ولا صياح في المركبات العامة، ولا تكاسل عن أداء الأعمال، ولا اضطراب في مواعيد العمل، ولا سَهَر الليل ونوم النهار. ويعود الاستهلاك إلى مُعَدَّله الطبيعي في السكر والدقيق والزيت واللحوم. وتختفي المكسرات وحلوى رمضان للعام القادم، ويأخذ الدين مجراه الطبيعي دون زيادة أو نقصان، ودون مغالاة أو تطرف.

يعود الفقير إلى فقره، والغني إلى غناه بعد زكاة الفطر والصدقات، ويعود الجائع إلى جوعه، ويستمر الشبعان في تخمته، وينسى الصائمون وكأن شيئًا لم يكن بالأمس؛ فتيار الحياة الجارف قادر على طي كل شيء. ويتلاشى رمضان من ذكريات الأمس القريب، وتعود الهموم، وتعاود الأزمات دون غطاء ديني أو أمل في الخلاص القريب.

وينزوي الدين في ركنه الحصين في الشعائر والطقوس، ويئن الناس تحت وطأة الضنك دون أن يقبل التدين التحدي، ويواجه أزمات الحياة. فإذا ما ضاق الناس ذرعًا، خاصةً الشباب، بهذا التفاوت بين الدين والدنيا، انقلبوا إلى الدين كلية، وانضموا إلى الحركات الإسلامية السرية ينتظرون الإشارة للظهور فوق الأرض فتملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا. في رمضان الزيادة في المظاهر وبعد رمضان اللجوء إلى الباطن، ويغيب عن الأذهان إسلام التوسط والاعتدال، إسلام الدين والدنيا، الإسلام الطبيعي الفطري دون زيادة أو نقصان.

بعد عرض رمضان في الكتاب أولًا، ثم في السُّنة ثانيًا، ثم في الفقه ثالثًا، ثم في الممارسات الاجتماعية رابعًا، والعادات الشعبية التي قد تبتعد أحيانًا عن الأصول الأولى خامسًا، ينتهي رمضان بفرحة العيد؛ فللصائم فرحتان، كما هو معروف في الحديث؛ فرحة بالإفطار وفرحة بلقاء الله؛ فقد حقَّق الصائم غايته، وانتهى إلى مراده، وفي تحقيق الغاية فرح بالاكتمال، وسعادة بالتحقق.

ويتم التزاور في العيد، ويتم التصالح، ويهش الوجه في الوجه ويبش، وتعلو الابتسامة في الوجوه، ويعم الخير في النفوس، ويتبادل الناس الهدايا، وتتبارى النساء في ذوق كعك بعضهن البعض، أيه ألذ وأطعم، وأزيد في السمن والسكر، وأفخر في الدقيق، وأغنى بالمكسرات. ويتزاور الأقرباء، وتُوصل الأرحام؛ ففي خلال العام تكثر المشاغل، وتزدحم الأوقات.

ويتذكر الناس الأموات والأحياء؛ فتُزار المقابر، وتُقرأ الفاتحة على الأموات والصدقة على أرواحهم، وقراءة القرآن على المقابر؛ فلا خير في حي لا يتذكر الأموات، والموت مصير الأحياء. وقد يغالي البعض فيُقدِّم ذكرى الأموات على التواصل مع الأحياء في أول أيام العيد، ولا ينتظر الفرح أولًا، ويسارع بالحزن. وزيارة القبور مكروهة في هذا اليوم.

ويزدان الأطفال والصبية بجديد اللباس، وزاهي الألوان. يعبِّرون عن براءتهم الأصلية، يلهون ويلعبون، ويصيحون ويرقصون. أما الكبار فيتنزَّهون في الحدائق ويفرحون بالطبيعة، ويسيرون في المتنزَّهات العامة، ويركبون الماء، ويُسافرون خارج المدن بعد التكبير في العراء، ويغتسلون بالحياة، ويجدِّدون أنفسهم بعد أن اغتسلوا بالصيام وطهَّروا النفوس.

العيد إعلان عن النهاية والبداية؛ نهاية شهر رمضان، وبداية الحياة بعد رمضان، وانتظار له في العام القادم. فالحياة دورات، تبدأ لتنتهي، وتنتهي لتبدأ من جديد، وبعد العيد يتحول رمضان إلى ذكرى طيبة تُختَزن مع باقي الذكريات حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

يقل الزواج في رمضان ويكثر ابتداءً من أول أيام العيد، وتتوالى الأعراس تباعًا بعد رمضان، وتعود الحياة إلى ما كانت عليه، لا فرق بين دين ودنيا في رمضان القادم، ويبرز الاثنان. وكل عام وأنتم بخير.

١  البيان ٢١–٢٣ / ١ / ١٩٩٦م.
٢  البيان ٢٤ / ١ / ١٩٩٦م، ١-٢ / ٢ / ١٩٩٦م.
٣  البيان ٣–٩ / ٢ / ١٩٩٦م.
٤  البيان ١٠–١٤ / ٢ / ١٩٩٦م.
٥  البيان ١٥–١٩ / ٢ / ١٩٩٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥