ميلادي
بعد ذلك بنحو شهرَين، تصادَف أن كان دارتانيان يسير متباطئًا في أحد شوارع باريس، فإذا بسيدةٍ تجذب انتباهه، وهي تهبط درجاتِ سُلَّمِ منزل. لم تكن صغيرةَ السن وبارعةَ الجمال فحَسْب، بل كان من الواضح أنها سيدةٌ من طبقةٍ راقية؛ إذ كانت تسير خلفها خادمتان. وبينما هي تستدير لتُصدِر أمرًا لإحداهما، قفَز قلبُ دارتانيان؛ إذ عُرِف أنها سيدة ميونغ، السيدة التي خاطبها الرجل ذو الندَب بقوله: «ميلادي.»
لِحُسن حظ دارتانيان أن تلك السيدة لم تتعرَّف عليه؛ ومن ثَمَّ فقد أمكنه أن يقتفي أثَرها دون أن يُنتَبه إليه. ركِبَت عربتَها عند قارعة الطريق تمامًا، وسمعها تأمُر سائقها بأن يسير في الطريق المؤدِّي إلى سان جيرمان، وهي ضاحيةٌ جميلة خارج باريس.
لم يكن اهتمام دارتانيان الشديد بميلادي؛ بسبب جمالها الفاتن، الذي جذَبه يقينًا، وإنما لأنه تأكَّد من أنها إحدى جواسيس الكاردينال، وتاق إلى اكتشاف اللغز المحيط بها. أضِف إلى ذلك، أنها تحدَّثَت إلى عدُوه، الرجل ذي الندَب؛ وبناءً عليه، فلا بد أنها تعرفه. فإذا ما تتبَّعَها، فقد تقوده إلى ذلك الرجل، وبطريقةٍ ما، أو بغيرها، يمكنه أن يكتشف شيئًا عنه.
وإذ كان من العبث أن يَتبَع العربة على قدمَيه، فقد أسرع إلى إسطبل خيول الحرس، وانتقى حِصانًا. وسرعان ما كان في طريقه هو أيضًا، إلى سان جيرمان.
لم يَستغرِق بحثُه عن آثار العَربة طويلًا؛ إذ رآها تجُرُّها الخيول في شارعٍ جانبي هادئ، ويسير إلى جانبها رجلٌ فخم الملبس، على صهوة جواده.
شُغِل الرجل مع ميلادي في حديثٍ هام، فاقترب دارتانيان من الجانب الآخر للعَربة، دون أن يلحظه أحدٌ سوى خادمة تلك السيدة الحسناء، الجالسة قُبالةَ سيدتها.
كانا يتكلَّمان بالإنجليزية، وهي لغةٌ لا يُتقِنها دارتانيان كثيرًا، ولكنه استطاع أن يدرك أن السيدة الإنجليزية النبيلة المرأى، كانت في قمة سَوْرتها. وفجأةً تَوقفَت عن الكلام، وضَربَت الرجل بمِروَحتها، بقوةٍ جعلَت المِروَحة تتناثَر في الهواء قِطعًا صغيرة.
ضحك الرجل، على حين جلَسَت ميلادي، تَلْوي منديلها بعنف وتمزِّقه في ثورةٍ عارمة.
بدا لدارتانيان، أن هذه اللحظة مناسبة، لكي يتدخل؛ فخلع قُبَّعتَه وانحنى للسيدة قائلًا: «هل تسمحين لي، يا سيدتي، بأن أقدِّم لك خدماتي؟ يبدو لي أن هذا السيد يُضايقُك. ما عليكِ سوى أن تأمري، يا سيدتي، فأُعاقبَه على سوء خُلقه!»
حين سمعَت ميلادي هذه الكلمات، استدارت بدهشة، ونظرَت إلى هذا الشاب، ثم أجابت في هدوءٍ بالفرنسية: «لا شك، يا سيدي، في أنني أضعُ نفسي في حمايتك، لو لم يكن الشخص الذي أتعارَكُ معه، هو أخي!»
قال دارتانيان: «ربَّاه! آمل في أن تصفحي عني، يا سيدتي؛ إذ لم أكن أعرف هذا.»
سأل الرجل وهو ينحني نحو نافذة العربة، قائلًا: «ماذا يريد هذا الغبي؟ ولِمَ لا يذهب وشأنه؟»
صاحَ دارتانيان، وهو ينحني أيضًا، ويُجيب من جانبه خلال نافذة العربة: «الغبي هو أنت! وأنا لن أذهب لأنه يسُرني أن أقف هنا.»
عند ذلك تحدَّث الراكبُ مع أخته ببضع كلماتٍ بالإنجليزية.
فقال دارتانيان: «تحدَّثتُ إليك بالفرنسية، فلِمَ لا تردُّ عليَّ باللغة نفسها؟ قد تكونُ شقيقَ هذه السيدة، ولكن لحُسنِ الحظ أنكَ لستَ شقيقي!»
من المؤكَّد أن يظن الإنسانُ أن ميلادي ستَجبُن، مثل عموم النساء، فتُحاوِل إيقافَ ذلك العِراك. ولكنها، على العكس، جلسَت في مقعدها بالعربة، وأمَرَت سائقَها في هدوء، بأن يعود أدراجَه إلى باريس.
من الجليِّ أن خادمة هذه السيدة الجميلة قد تأثَّرَت بمظهر دارتانيان الحسن؛ إذ ظلَّت عيناها مشدودتَين إليه، وبدا على وجهها القلَق، حين سارت العربة تاركةً الرجلَين، يواجه كلٌّ منهما الآخر.
قام شقيقُ ميلادي بحركة، وكأنه سيَتبعُ العربة، إلا أن دارتانيان استوقفه قائلًا: «يبدو لي، يا سيدي، أنك أغبى مني؛ إذ سرعانَ ما نسيتَ أن ثمَّة عِراكًا بسيطًا بيننا يجبُ تسويتُه!»
قال الرجل الإنجليزي: «أترغب في نزال رجلٍ أعزَل؟ يمكنك أن ترى بوضوحٍ أنْ ليس معي سيف.»
«عسى أن يكون لديك سيفٌ في البيت، فإن لم يكن، فمعي اثنان، أُعيرُكَ واحدًا منهما.»
قال الرجل الإنجليزي: «هذا ليس ضروريًّا. أنا مُزوَّدٌ بأمثال هذه اللُّعَب!»
قال دارتانيان: «حسنٌ جدًّا، يا سيدي، هات أطولَ سيفٍ عندك، وتعالَ أرِنيه هذا المساء.»
«أين؟»
«خلف قصر لوكسمبورغ. هناك ساحةٌ هائلة للألعاب، بجانب القصر. وهناك سأُلقِّنك كيف تلعب!»
«عظيمٌ! سأكونُ بانتظارك.»
«في أي وقتٍ؟»
«في الساعة السادسة. ولتصطَحِب معك — بهذه المناسبة — صديقًا أو اثنَين.»
«لديَّ ثلاثة، سيكون مدعاةً لسرورهم أن ينضَموا إلى هذه اللعبة معي.»
«ثلاثة؟ هذا رائع! فعدَد أصدقائي كذلك ثلاثة. بهذه المناسبة خبِّرني من تكون؟»
«أنا السيد دارتانيان، رجلٌ غسقوني، أعملُ في حرس الملك. ومن أنت؟»
«أنا اللورد وينتر، بارون شفيلد.»
قال دارتانيان: «حسنٌ جدًّا. إذن، فموعدنا الساعة السادسة هذا المساء.» وأدار حِصانَه، وانطلَق عائدًا به إلى باريس.
وكالمعتاد في مثل هذه الحالات، ذهب دارتانيان مباشرةً إلى منزلِ آثوس، وحكى له كلَّ ما حدث.
انطلق الاثنان من فَورِهما، إلى بورثوس وأراميس، فلمَّا قدما أخبراهما بالموعد المُتَّفَقِ عليه في المساء خلف قصر لوكسمبورغ.
استَلَّ بورثوس حُسامَه، ولوَّحَ به في الهواء مزهُوَّا بما سيفعله بخصمه.
ذهب أراميس إلى حجرةٍ أخرى، في هدوء، ليُكمِل قصيدةً كان ينظمها، وطلب منهم ألا يُزعِجوه إلى أن يحينَ وقتُ المبارزة.
أشار آثوس إلى خادمه جريمو ليُحضِر له زجاجةً أخرى من العصير.
شغل دارتانيان نفسه بالتفكير في تفاصيل خطَّة — سوف نقرأ المزيد عنها فيما بعدُ — تُهيِّئ له مغامرةً مقبولة، كما يُستَنتجُ من الابتسامات التي تبدو في وجهه بين آونةٍ وأخرى.