ميلادي تستقبل دارتانيان
برَّ لورد وينتر بوعده، فذهب إلى دارتانيان في الساعة الثامنة ليصحبه ليُقابِل أخته ميلادي.
كان بيت ميلادي بالمدينة، أبهى بيتٍ في الحي، ولم يُدهَش دارتانيان من كونه مُؤثَّثًا بأغلى الأثاث. في ذلك الوقت، كان جُلُّ الإنجليز يغادرون فرنسا من جراء الحرب المُرتقَبة بين الإنجليز والفرنسيين. أما ميلادي، فعلى العكس، إذ أعادت طلاء بيتها. وبدا للعِيان أنه لم يكن ثمَّة ما تخافه ببقائها في باريس. لاحظ دارتانيان هذه الحقيقة، فَدعَّمَت شُكوكَه في أن ثمَّة لغزًا يُحيط بها.
قال اللورد وينتر لشقيقته: «اسمحي لي بأن أُقدِّم لكِ رجلًا صغير السن، كانت حياتي مُعلَّقةً بين يدَيه، ولكنه لم يُسِئ انتهاز الفرصة؛ إذ أبقى على حياتي، رغم أنني أنا الذي بادرتُ بإهانته. والآن، ألا بادرتِ بأن تضيفي شُكرك إلى شُكري؟»
بعد ذلك استدار اللورد وينتر، ليدُقَّ الجرس كي يطلُب شرابًا؛ ومن ثَمَّ، فلم يلاحظ مَسْحة الامتعاض التي مرَّت على وجه أخته. ورغم هذا، حين تكلَّمَت لم يبدُ أي أثَرٍ لذلك الامتعاض، في صوتها الرقيق العذب.
قالت: «يُسعِدني أن أُرحِّب بك، يا سيدي. يبدو لي أنكَ نلتَ حقوقًا أبدية في اعترافي بجميلك.»
بعد ذلك، روى أخوها القصة بالتفصيل.
أصغَت ميلادي بانتباهٍ تام، ولكن اتضح لدارتانيان، أن هذه الحكاية لم تلقَ عندها القبول. ولاحظ كيف كانت تعقِّد منديلها وتشدُّه، كما لاحظ أنها كانت تدُقُّ الأرض بفردةٍ من حذائها الصغير ذي اللونَين الأحمر والفضي، في قلَق، فوق البساط الليِّن.
لم يلاحظ اللورد وينتر شيئًا من هذا؛ إذ كان مشغولًا بإعداد الشراب عند المائدة الصغيرة، وهو يروي قصته.
ملأ اللورد كأسَين، ودعا دارتانيان بإيماءةٍ كي يشاركه الشراب، فاتجه دارتانيان إلى المائدة ليتناول كأسه، مُراعيًا أن يُراقِب ميلادي في مرآةٍ كبيرة على الحائط. وحين اعتقدَت ميلادي أنْ لا أحد يراقبها، بدَت عليها نظرة مقتٍ هائلة، فطَفِقَت تنهَش منديلَها بأسنانها الجميلة.
في تلك اللحظة بالذات، جاءت الخادمة الحسناء بمذكِّرة للورد، وكَلَّمَتْه بضع كلماتٍ بالإنجليزية. فلمَّا قرأ المذكِّرة، استأذن في الانصراف؛ إذ كان مطلوبًا في موعدٍ هام.
وحين التفَت دارتانيان نحو ميلادي، كانت كل آثار الغضب قد اختفت وكأنها بفعل ساحر، وتساءل للحظةٍ ما إذا كانت المرأة قد خدعَتْه أم لا.
بعد انصراف اللورد، غدا الحديث وديًّا، فعلم دارتانيان أن لورد وينتر لم يكن أخا ميلادي، بل هو شقيق زوجها؛ فقد تزوَّجَت أخا اللورد وينتر الأصغر، وهي الآن أرملتُه، بعد أن أنجبَت منه طفلًا واحدًا. كان هذا الابن الوارثَ الوحيد للورد وينتر، شريطة ألا يتزوج هذا اللورد.
أحسَّ دارتانيان، في أثناء الحديث الذي دار بينهما، بأن ميلادي تُخفي شيئًا ما، ولكن ما هو؟ هذا ما لم يستطع فهمه. أضِف إلى ذلك، اقتناعه بأنها من أصلٍ فرنسي وليست إنجليزية. كانت تتكلم الفرنسية بطلاقةٍ ونقاءٍ أزالا كل شك.
في المساء التالي، عاود دارتانيان زيارة ميلادي، فاستقبلَته بحفاوةٍ أكثر. وبدا أنها تخصُّه باهتمامٍ عظيم به وبعمله. رغم ذلك، لم ينسَ دارتانيان أن يُثْني على الكاردينال، وقال إنه كان يتمنى الالتحاق بحرس الكاردينال، لو لم يُقدَّم أولًا للسيد دي تريفي.
غيرت ميلادي مجرى الحديث بعد ذلك بلباقة، وسألَت ببراءةٍ عما إذا كان دارتانيان قد قام بزيارة إنجلترا، في وقتٍ ما.
فكَّر دارتانيان في نفسه قائلًا: «ربَّاه! إنها تعرف زيارتي السرية لإنجلترا، للورد بكنجهام.»
أجاب بصوتٍ بريءٍ براءةَ صوت ميلادي، بأن السيد دي تريفي أرسلَه ذات مرةٍ إلى إنجلترا لشراء خيول، فأحضَر معه أربعة جيادٍ من نوعٍ أصيل.
وإذ أدركَت ميلادي أن دارتانيان يُجيد اللعب بالألفاظ مثلما يُجيد اللعب بالسيف، أدارت دفَّة الحديث إلى موضوعاتٍ أكثر أمنًا.