دارتانيان يستَرِق السمع
رغم نصيحة آثوس، هام دارتانيان بحُب ميلادي، وظل يزورها كل مساءٍ تقريبًا. وما عاد يستأذن في الدخول عليها؛ إذ أصدرَت ميلادي أمرًا بأن يدخل دارتانيان حجرةَ جلوسها الخاصة، فَور مجيئه مباشرة.
لم يدرك دارتانيان أن ميلادي تلعب دورًا، حتى سمعَها مصادفةً وهي تتحدَّث إلى خادمتها الخاصة كيتي، في الحجرة المجاورة لحجرة الجلوس التي كان مُنتظِرًا فيها. لم يكن الباب المُوصِّل بين الحجرتَين مُوصَدًا تمامًا. وهكذا استطاع أن يسمع بوضوحٍ ما كان يدور بينهما من حديث.
قالت ميلادي: «يبدو أن صديقنا الغسقوني سيتأخر الليلة.»
قالت كيتي: «ماذا، يا سيدتي؟ هل يستهتر بصداقتك إلى حَدِّ ألا يكون مواظبًا؟»
«من المحتمل أن يكون عملُه قد منعه المجيء. لا بأس؛ فأنا أعرف ما سأفعلُه معه، يا كيتي.»
«لماذا يا سيدتي؟ وأية لُعبةٍ ستلعبينها؟»
«هذا سؤالٌ حسن! وسوف نرى. ثمَّة شيءٌ ما بيني وبين ذلك الشاب. الذي يجهله أنه كاد يحطِّمني في عينَي الكاردينال بشأنِ موضوعِ ماسات الملكة. لا بد من أن آخذ بثأري!»
«ربَّاه! ظننتُكِ تهيمين بحُبه.»
«أُحبُّه؟ إنني أمقُته! كانت حياة لورد وينتر في يدَي ذلك الغبي، فلم يقتُله. وبسبب عدم قتله، فقدتُ ميراثًا سنويًّا قدْرُه ثلاثمائة ألف جنيه!»
قالت كيتي: «هذا حقيقي. لقد نسيتُ أن ابنك، يا سيدتي، هو الوارث الوحيد لعمه. وحتى يبلغ سن الرشد، ستكونين المتصرِّفة في أية ثروةٍ يرثُها.»
قالت ميلادي بحدَّة: «نعم، وكان لا بد لي من الانتقام منذ أمدٍ بعيد، لو لم يُصِر الكاردينال على أن أستمر في صداقة ذلك الغسقوني البغيض. ولا يُمكنُني أن أفهم السبب.»
ارتجف دارتانيان، وأسرع يهبط السُّلَّم، متسللًا إلى خارج البيت على أطراف أصابع قدمَيه، لكي يُهدِّئ من غضبه. وفي الصباح التالي، هُرِعَ إلى مقابلة آثوس، وأخبَرَه بما سمع.
قال آثوس: «يبدو أن معشوقتك ميلادي امرأةٌ شريرة. ولا شك في أنك تُواجِه عدوةً شقية.»
وبينما هما يتكلَّمان، نظر آثوس بإمعانٍ إلى خاتمٍ من الياقوت الأزرق في إصبع دارتانيان، وقال: «يا له من خاتمٍ جميل، هذا الذي تلبسه! إنه يذكرني بجوهرةٍ عائلية كنتُ أحوزُها فيما مضى. هل قايضتَ به على خاتمك الماسي؟»
«لا. إنه هديةٌ من ميلادي.»
صاح آثوس بانفعال: «ماذا؟ جاءك هذا الخاتم من ميلادي؟»
وفحص آثوس الخاتم، فامتُقِعَ لونه.
ردَّد في نفسه: «مستحيل! لا يمكن! كيف وصل هذا الخاتم إلى حوزة ميلادي؟ ومع ذلك، فمن الصعب أن نتصوَّر إمكان تشابُه جوهرتَين إلى هذا الحد!»
سأله دارتانيان: «ألك سابقُ معرفةٍ بهذا الخاتم؟»
أجاب آثوس: «أظن ذلك، ولكن لا بد أن ثمَّة خطأً ما. أرجوك، يا دارتانيان، إما أن تخلع هذا الخاتم، وإما تدير فَصَّه؛ فهو يذكِّرني بذكرياتٍ قاسية. ولكن انتظر! دعني أفحص الفص؛ فلِلفَص الذي ذكرتُه لك خدشٌ على أحد أوجهه.»
خلع دارتانيان الخاتم وسلَّمه إلى آثوس.
نظر آثوس إليه مليًّا، فبدا عليه الاضطِراب.
قال آثوس وهو يشير إلى الخدش الذي ذكره: «انظر، إنه الخدْشُ نفسه كما أخبرتك. هذه جوهرةٌ عائلية قديمة ورثتُها عن أمي.»
سأله دارتانيان متردِّدًا: «هل بعتَها؟»
أجاب آثوس ببطءٍ وتمعُّن: «لا، أهديتُها لامرأةٍ أحببتُها.»
استعاد دارتانيان الخاتم، ووضعه في جيبه لا في إصبعه.
أمسك آثوس بيد دارتانيان وقال: «أي دارتانيان، تعرف أنني أعتبرك أخًا أصغر لي. اعمل بنصيحتي، وابتعِد عن هذه المرأة. إنني لا أعرفها، ولكنَّ شيئًا ما يوحي إليَّ بأنها لن تَجُرَّ عليك سوى الشر!»
قال دارتانيان: «أنت على حَق. سأكُفُّ عن لقائها، ولكن لا تقلَق؛ فإننا سنغادر باريس بعد أيامٍ قلائل لنشترك في حصار روشيل.»
بعد انصراف دارتانيان، جلس آثوس صامتًا يفكِّر. أقلَقَت أفكارَه ذكرياتُ الماضي، فأخذ يسترجع ويستدعي المشاهد التي كثيرًا ما مرَّت به. وعبثًا حاول أن يكُف عن التفكير ويسلو.
رأى نفسه، مرةً أخرى، الكونت دي لا فير، النبيلَ الفرنسي الشاب. كان الاسم الذي يحملُه أصيلًا ونبيلًا. وكانت له السيطرة على أراضيه، وكانت كلمتُه قانونًا.
وضمَّت هذه الصورةُ فتاةً رقيقةً كالنسمة جميلةً كالملاك، أقبلَت معها نسماتُ الربيع. جاءت مع أخيها الذي حاز منصبًا بمكانٍ ما، في قريةٍ تقع في ممتلكات الكونت. كانت تبدو بريئةً ولطيفة، ويبدو أخوها ورعًا وتقيًّا، حتى إن أحدًا لم يسأل من أين قدما، أو ارتاب لحظةً في أنهما بخلافِ ما كانا يبدُوان عليه.
كثيرًا ما شاهد النبيلُ تلك الفتاة وهو ممتطٍ جوادَه خلال القرية. وكان حُب ذلك الشاب لهذه الفتاة الرقيقة آن، يزيد يومًا بعد يوم.
وتعاقبَت مشاهدُ تلاقيهما، مشهدًا بعد آخر، تحت أشجار الصَّنَوبَر ذات الأريج العبِق، وخلال الممرَّات التي يعطِّرها شذى الأزهار، وبجانب مجرى ماءٍ باردٍ يَخُرُّ خريرًا جميلًا، وعلى الجسر الريفي الذي اعتادا الوقوف عليه، إذا ما أخذَت ظلال المساء تطُول، ثم في ذلك البيت الصيفي تحت ظلال النباتات المتسلِّقة.
ورغم كونها ليست من طبقةٍ نبيلة، ورغم عدم موافقة أُسرته، تزوَّجَها ذلك الكونت الشاب، وجعلها أول كونتيسة لذلك الإقليم.
اضطرب آثوس قلقًا، على حينَ تضاءل المنظر أمامه، وظهرَت في تفاصيل حيوية، تلك الحادثةُ المميتة في ساحة الصيد؛ رأى زوجتَه تسقط عن ظهر جوادها إلى الأرض، وترقُد مغشيًّا عليها في غيبوبةٍ تشبه غيبوبة الموت. ورأى نفسه يرتجف جزعًا وهلعًا، ويفتح فستانها من عَلٍ كي يُمدَّها بمزيدٍ من الهواء، فإذا به يرى على بشرة كتفها الناعمة، واضحةً أمام عيون كل من احتشد حولها، أبصَر العلامة المريعة، علامة العار والشنار، التي طبعَها الجلَّاد العام على جلدِها بمكواته؛ علامة «زهرة الزَّنبَق».
كانت زوجته، كونتيسة دي لا فير، مجرِمة مُدَانة، فأنزل هذا الاكتشاف بكبرياءِ الكونت ضربةً قاصمةً؛ ضربةً لم يُشفَ منها قَط.
في تلك الليلة، غادر الكونت دي لا فير قَصْره، ولم يرجع إليه ألبتَّة.
لم يُثِر احتمالُ كونها قد تكون على قيد الحياة، رغم افتراض موتها، لم يُثِر أي إحساسٍ بالشفقة في قلب آثوس. ولم يخفِّف الزمن، بحالٍ ما، تلك الضربة القاصمة التي تلقَّاها، فرفع كأسَه وشربها حتى الثُّمالة، ومال رأسُه في بطءٍ حتى استقر على ذراعَيه الممتدَّتَين فوق المائدة، واحترقَت الشمعة حتى تلاشت ثم انطفأَت، دون أن يفطن إليها. وهكذا بقي آثوس حتى بدأ نور الفجر البارد يلُوح خلال مِصراعَي النافذة نصف المفتوحة.