سر ميلادي
رغم ما عَرفَه دارتانيان عن ميلادي، فإنه أحسَّ في قرارة نفسه أنه خرقٌ للأدب ودماثة الخلق، إن هو غادر باريس، دون أن يودِّعها؛ ومن ثَم، فقد زارها بعد مرور ليلتَين، ليُخبِرها برحيله المبكِّر مع فرقته إلى الساحل الغربي لفرنسا، للمشاركة في حصار روشيل. وعلى أية حال، لم تعرف ميلادي أنه سمِع مصادفةً كلامها مع خادمتها. وزيادةً على ذلك، لم يرغَب في إثارة شكوكها، إن هو قطَع، فجأة، زياراته لها، التي كثُرَت في الأيام الأخيرة.
لم يمكث دارتانيان لدى ميلادي طويلًا، وإنما نهض واستأذن في الانصراف، حينما عَنَّ له أن ينصرف. وكانت ميلادي رقيقةً كعادتها، وتطوَّعَت مبتسمةً بأن تصحبَه حتى الباب، غير أنها وهي تنهض لتفعل ذلك، اشتبك طرَفُ فستانها بكعبِ فردة حذائها اليسرى، فجُذبَ الفستانُ بشدةٍ عند كتفها، فلم يقاوم الفستان الحريري الرقيق هذه الجذبة القوية، فتمزَّق عند الكتِف.
وإذ رأى دارتانيان ارتباك ميلادي، تقدَّم بطبيعة الحال، ليُساعِد في تخليص الفستان، فإذا على إحدى كتفَيها — وقد كشفها الفستان الممزَّق — يظهر شيءٌ مذهل، فلم يسَعْه إلا أن يقف ويُحملِق دهشًا؛ فعلى جلد كتفِها الأبيض، نُقِشَت علامة زهرة الزَّنبَق، التي تدُل على الإدانة، طبعَتْها مكواة الجلَّاد العام.
استدارت ميلادي، وفي لمح البصر، أدركَت أن دارتانيان اكتشَف سِرَّها الرهيب؛ ذلك السر الذي أخفَته، حتى عن خادمتها.
صاحت ميلادي قائلة، وما عادت امرأة، بل قطَّة متوحِّشة: «يا لك من وغد! لقد عرفتَ سِري، سأقتلُك!»
وهُرعَت إلى دولابٍ صغير وسط الحجرة، وفتحَت درجًا بيدَين مرتجفتَين، وأخرجَت خنجرًا صغيرًا ذا مقبضٍ ذهبي، واستدارت فألقت بنفسها على دارتانيان.
رغم شجاعة دارتانيان، ارتجف لمرآها المتغيِّر ونظرتها الوحشية، وعينَيها اللتَين تقدحان بالشَّرر، ووجنتَيها الشاحبتَين، وشفتَيها الداميتَين بين أسنانها، فقفز إلى الخلف، وكأنه يتحاشى قفزة أفعَى سامةٍ تهجُم عليه، واستَلَّ سيفه.
لم تهتمَّ ميلادي بالسيف، ولا بالفستان المُمزَّق، ولا بعدم الاحتشام لكتفها العارية، بل انقضَّت على دارتانيان بخنجرها في ضراوة. ولم تتقَهقَر إلى الخلف إلا عندما شَعرَت بسن السيف الحادَّة فوق رقبتها. وحتى ذلك لم يفُتَّ في عضُدها، فحاولَت في ثورتها العمياء، أن تُمسِك السيف بيدها العارية لتنقَضَّ على غريمها، ولكنه خلَّصَ السيف، واحتفظ به مُسَلَّطًا، إما على رقبتها وإما على عينَيها.
وإذ استمرَّت توجِّه إليه الضربات، دون جدوى، صرخَت تصُبُّ اللعنات في صوتٍ مريع، يُرعِب أي رجلٍ عادي.
كان كل هذا أشبه بمبارزة. وسرعان ما تمالك دارتانيان نفسَه، فأجبر ميلادي على التراجُع إلى خلف الحجرة ببطء، على حين سار هو في طريقه إلى الباب. كان كل هدفِهِ أن يهرب، فتحسس خلفه بيده اليسرى، وأمسك بمقبض الباب فأدارَهُ، وركل الباب بعَقِبِ قدمه، فانفتح. وبقفزةٍ واحدة، صار خارج الحجرة، وأغلق الباب خلفه بسُرعة البرق، وأدار المفتاح في القفل.
أغمَد دارتانيان سيفه، وأسرعَ يهبط السُّلم. ووقف لحظةً في مدخل الباب الخارجي، ليلتقطَ أنفاسه ويمسحَ العرق المتصبِّب من جبينه. وعندئذٍ أمكنه أن يسمع صرخاتِ ميلادي، وصوت الخِنجَر وهي تطعن به الباب المُقفَل، طعناتٍ عمياء.
غادر دارتانيان البيت بعد ذلك، وانصرف بسرعةٍ متجهًا شطر بيت آثوس.
دهش آثوس لهذه الزيارة المتأخرة من دارتانيان، الذي كان شاحب الوجه مهمومًا، فأمسك آثوس بيدَيه، وسأله: «ما الخطب؟ هل مات الملك؟ هل قتلتَ الكاردينال؟ هيا، هيا، أخبرني!»
قال دارتانيان: «استعدَّ لصدمة، يا آثوس!»
قال آثوس، بعد أن قدَّم إليه كرسيًّا: «ما الخبر؟»
تردَّد دارتانيان لحظة، ثم همَسَ بقوله: «ميلادي مطبوعةٌ على كتفها علامةُ زهرة الزنبق.»
صاح آثوس بدهشةٍ: «ماذا؟»
قال دارتانيان: «أأنت على يقينٍ مما أخبرتَني به ذات مرةٍ من أن تلك المرأة؛ تلك المرأةَ ذات العلامة، زوجتَك، قضت نَحْبها حقيقة؟»
تنهَّدَ آثوس عميقًا، وأسقط رأسه بين يدَيه، وشرد فكره لبضعِ لحظات.
ولمَّا رفع رأسه، لاحظ دارتانيان أن كل أَمارات الحزن والأسى، قد حلَّ محلها نظرةٌ قوية باردة.
قال دارتانيان: «إنها امرأة في حوالي السابعة والعشرين من عمرها، ولكنها تبدو أصغر من ذلك.»
قال آثوس: «أليست جميلة؟»
«بلى، هي جميلةٌ للغاية!»
«وذات عينَين زرقاوَين نجلاوَين، وأهدابٍ طويلة وحاجبَين داكنَين؟»
«نعم.»
«طويلة القامة وبضَّة القوام؟»
«نعم.»
«وزهرة الزَّنبَق صغيرة، وردية اللون، وتبدو وكأن جُهْدًا قد بُذِلَ لإزالتها؟»
«نعم.»
قال وكأن فكرةً مفاجئة قد طرأَت بباله: «ولكنك قُلتَ إنها إنجليزية.»
قال دارتانيان: «ينادونها ميلادي، ورغم ذلك فمن الجائز جدًّا أن تكون فرنسية؛ فهي تتكلَّم الفرنسية بطلاقة. ومع كلٍّ، فليس اللورد وينتر إلا شقيقَ زوجها.»
«إنها هي؛ زوجتي. وكنت أظُنُّها ماتت. سأزورها.»
«حذارِ يا آثوس! إنها قادرةٌ على أن تفعل أي شيء. أرأيتَها ثائرة، في وقتٍ من الأوقات؟»
قال آثوس: «لا.»
قال دارتانيان: «إنها وشَقةٌ برِّية، أو نَمِرة!» ثم روى كل ما حدث.
واستطرد يقول: «أُقسِم بشرفي، لو عَرَفَت أنك لا تزال حيًّا، فلن تساوي حياتُك عندها شيئًا. ولحسن الحظ أننا سنُغادِر باريس بعد غد.»
ردَّ آثوس قائلًا: «أتظُن أن الحياة تعني الكثيرَ بالنسبة لي؟»
«يُحيط بها لغزٌ جديد. من المؤكد أنها إحدى جواسيس الكاردينال.»
قال آثوس: «في هذه الحالة عليك بمزيدٍ من الحذَر؛ إذ لم ينسَ الكاردينال موضوعَ ماسات الملكة. وإن خرجْت، فلا تخرُجْ وحدك. وعندما تأكل فخُذ كل الاحتياطات. لا تثِق بأي شيءٍ، حتى ولو كان ظلك!»
قال دارتانيان: «لحسن الحظ، ليست هذه الاحتياطات ضرورية؛ إذ سنكون غدًا في طريقنا للانضمام إلى القوات، قُرب روشيل. وهناك، كما أرجو، لن يكون غير الرجال لنخافهم.»
قال آثوس: «ورغم ذلك، دعني أصحبك إلى بيتك.»
عندما خرجا، بعد ذلك بساعةٍ، أمر آثوس خادمه جريمو بأن يُحضِر بندقيته، ويتبعَهُما على بُعد خطواتٍ منهما.