دارتانيان يُطلِق العِنانَ لقدمَيه
في الصباح الباكر لليوم التالي، استعرض لويس الثالث عشر قواته المُخْتارَةَ لمهاجمة ميناء روشيل.
من سنواتٍ خلت كان الأهلون مشاغبين ومصدرًا لقلَق الكاردينال. وبسبب عدم وفاء السكان ودسائسهم ضد أنصار الملكية، جاءت إلى هذه المدينة أعدادٌ ضخمةٌ من المنشقِّين والمغامرين والجنود المُرتزِقة من جميع الجنسيَّات. ووجَد أعداء فرنسا ترحيبًا مُسبَقًا، ومأوًى آمنًا داخل أسوار المدينة. وفضلًا عن هذا، كانت روشيل آخر ميناءٍ مفتوح أمام الإنجليز، الذين اعتبرهم الفرنسيون في ذلك الوقت أعداءَهم الحقيقيين.
ولمساعدة سكان روشيل في مقاومة أي هجومٍ تقوم به القوات الملكية، وعدَهم الإنجليز، أو على الأصح، وعدهم دوق بكنجهام، الذي هو ألدُّ أعداء الكاردينال، بتقديم كل عون. فلَمَّا علم لويس الثالث عشر أن بكنجهام قد أرسل قوةً قوامها تسعون سفينة تحمل عشرينَ ألف رجل، نزلوا على جزيرة رِي أمام حصن روشيل المُحاصَرِ، ما عاد يشُك في كلام الكاردينال، بأن ثمَّة خطرًا حقيقيًّا يحدِّق بمملكة فرنسا. وقرَّر إرسال جيشٍ من الرجال المختارين لإخضاع المتمرِّدين، إلى الأبد، وأن يقود الهجوم بنفسه بمساعدة الكاردينال.
رغم هذا، لم يغادر الملك باريس بالقوة الرئيسية، فاضطر حرسه — أي الفرسان — إلى البقاء معه؛ الأمر الذي استاء منه الأصدقاء الأربعة أشد استياء. وما إن انتهى استعراضُ الملك لقواته، حتى تحرَّكَت القوات، تتقدَّمها فرقة حرس الملك، التي يتبعها دارتانيان، مُيمِّمةً شطر الشاطئ الغربي.
ركب الغسقوني الصغير مَزهُوًّا، مع رفقائه، وهو شارد الفكر تمامًا؛ ومن ثَم لم يلاحِظ ميلادي وهي تمتطي جوادًا جميلًا كستنائي اللون. ووقفَت في موضعٍ يمكنها منه أن ترى الجنود بوضوح، وهم يمرُّون. وكان بقربها رجلان يركبان جوادَين قويَّين أيضًا، فأومأَت لهما برأسها عندما أشار أحدهما إلى دارتانيان. وكان من المؤكَّد أن هذَين الرجلَين لن يَعجِزا عن التعرُّف على دارتانيان مرةً أخرى. ثم أصدَرَت إليهما تعليماتٍ خاصة، بصوتٍ هادئ صادق العزم. وركب الرجلان بعد ذلك، متخذَين نفس الاتجاه الذي تسير فيه القوات.
ووقفَت القوات على مرأًى من روشيل، وأقامت مُعسكَرها انتظارًا لقدوم الملك. وإذ انفصل دارتانيان عن أصدقائه الثلاثة، وجد لديه متسعًا من الوقت للتفكير في هدوء؛ فمنذ مجيئه إلى باريس، اكتسب خبراتٍ كثيرة، فاتخذ أربعة أصدقاءَ أوفياء؛ إذ هو بطبيعة الحال يعتبر السيد دي تريفي صديقًا حميمًا.
بيد أنه عندما شرع يفكِّر في أمر مستقبله، لم يجد سوى الأفكار الكئيبة. وبقَدْر ما يستطيع أن يرى، وهو الشخص غير ذي المكانة، رأى أنه عادَى الكاردينال، وهو الرجل الذي يرتجف أمامه أعظمُ رجالات المملكة؛ فبوسع الكاردينال أن يسحقَه، إلا أنه، ولسببٍ خفي، لم يفعل. أما عدوُّه الآخر؛ ميلادي، فكان خوفُه منها أقلَّ من خوفه الكاردينال. ورغم هذا، أحسَّ بأنها عدوٌّ لا يمكنُ الاستهانة به.
تأمَّل دارتانيان في هذه الأفكار، وهو جالس إلى نفسه، فأخذ يسير وئيدًا في الطريق المُوصلِ من المُعسكَر إلى القرية المجاورة، في جوِّ المساء البارد. وبالقرب من المُعسكَر، جذبَت انتباهَه حركةٌ بسيطة لشيءٍ على جانب الطريق، على مَقربةٍ منه. وتأَّلق هذا الشيء تحت أشعة الشمس، وخُيِّل إليه أنه لمح ماسورةَ بندقية.
وكان دارتانيان يمتاز بسرعة اللماحية والفهم. وكان من الجلي أن البندقية لم تَصِل إلى ذلك المكان وحدَها، ولم يختبئ الشخص الذي يُمسِكها، خلف الأعشاب لقصدٍ طيب. وفي اللحظة نفسها، تقريبًا، أبصَر ماسورةَ بندقيةٍ أخرى تبرُز من وراء صخرةٍ على الجانب الآخر من الطريق.
كان من الجلي أن هذا كَمين.
نظر مرةً أخرى إلى البندقية الأولى، فرآها تُصوَّبُ نحوه ببطء، وبمجرَّد أن شاهدَها ثبتَت لا تتحرك، انبطح على الأرض، وبعد هُنَيهة، أُطلِقَت البندقية، ومرَّت الطلقة من فوق رأسه. وعمل دارتانيان على عدمِ ضياع لحظةٍ واحدة، فهَبَّ منتصبًا على قدمَيه، وقفَز جانبًا. وعلى الفور أُطلِقَت البندقية الثانية، وأصابت الطلقة الأرض التي كان منبطحًا فوقها.
لم يكن دارتانيان ليسعى إلى موتٍ تافه؛ كي يُقال إنه لم يتقهقر خطوةً واحدة، بالإضافة إلى أن الشجاعة هنا ليست جديرةً بالاعتبار؛ لذا فقد أطلَق دارتانيان العِنان لساقَيه متجهًا نحو المُعسكَر، بأسرعِ ما تستطيع قدماه أن تفعل. غير أن الرجل الذي أطلَق أوَّل طلقة، سرعان ما شحن بندقيته مرةً أخرى. وفي هذه المرة، كان تسديدها نحو الهدف أدقَّ من المرة السابقة، فأصابت الطلقة قُبَّعة دارتانيان وأطارَتْها لمسافة عدة خطواتٍ بعيدًا عنه. وإذ لم يكن لديه سوى قبعةٍ واحدة، فقد خاطر بالتوقُّف ليلتقطها ولحُسنِ حظه لم تُطلَق طلقةٌ أخرى.
وصل دارتانيان إلى المُعسكَر ممتقَع اللون، مبهور الأنفاس. وذهب مباشرةً إلى خيمته دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة لأي فرد، بل جلس وحدَه، وأمسك قُبَّعته، وأخذ يفحص بعنايةٍ ذلك الثقب الذي أحدثَتْه الطلقة. لم يكن الثقب بطلقةٍ حربية؛ لذا فلم يكن هذا كَمينًا نصبه العدو. ولم يخطُر بباله أن الكاردينال يلجأ إلى مثل هذا الإجراء الدنيء المشكوك فيه، ليتخلَّص منه أو من أي عدوٍّ آخر.
من الجائز جدًّا، أن تكون ميلادي قد استأجرَت هذَين الوغدَين لتنفيذ انتقامها، في أول فرصةٍ مناسبة. حاوَل أن يتذكَّر ملامحَهما، أو ملابسَهما، ولكنه كان قد انطلق بسرعةٍ فلم يلاحظهما.
أمر دارتانيان، في تلك الليلة، بوضع الحراسة على خيمته، وبقي هو داخلها معتذرًا بأنه مُتعَبٌ للغاية وبحاجةٍ إلى الراحة والهدوء.