مهمَّةٌ خطِرة تأتي بنتائجَ غير عادية
بعد ذلك بأيامٍ قلائل، قام دوق دورليان، الذي يقود القوات الفرنسية أمام روشيل في غياب الملك، ويقوم بالتفتيش على المُعسكَر، وأَقرَّ كل شيءٍ رآه، وأثنى بخيرٍ بنوعٍ خاص على السيد ديسار رئيس الحرس الملكي.
اتجه دوق دورليان نحو الجنود، ورفع عَقيرتَه قائلًا: «أريد ثلاثة أو أربعةَ متطوعين مع قائدٍ قدير، للاضطِلاع بمهمةٍ خطرة.»
قال السيد ديسار، وهو يشير إلى دارتانيان: «ها هو ذا الرجل الذي يقودُهم، يا سيدي.»
تقدم دارتانيان إلى الأمام، وشَهَر سيفَه قائلًا: «هل من أربعة رجالٍ يُخاطِرون بحياتهم معي؟»
تقدَّم إلى الأمام اثنان من الحرس، وتبعَهما مباشرةً جنديان، فوافق دارتانيان على هؤلاء الأربعة، الذين أبدَوا رغبتهم بدون تردُّد.
كانت حامية روشيل قد شنَّت هَجمةً في أثناء الليل، واستعادت القلعة التي استولَت عليها القوات الملكية قبل ذلك ببضعة أيام.
كانت مهمَّة دارتانيان فحصَ تلك القلعة عن قُرب، ومعرفةَ كيفية حراسة العدو لها.
خرج دارتانيان مع رفاقه الأربعة، الحارسان على جانبَيه، يتبعهما الجنديان، فساروا مُتَخفِّين داخل خندَق، حتى صاروا على مسافة مئة مترٍ من القلعة، فتوقَّفوا لكي يتنصَّتوا وينظُروا ما فوقَ جانب الخندَق الذي يحميهم، فاكتشف دارتانيان أن الجنديَّين ليسا خلفه، فصرخ في نفسه قائلًا: «يا لهما من جبناء! ربما نكَصا على أعقابهما.»
واستداروا حول زاوية على مَقربةٍ منهم، فوجدوا أنفسهم على مسافة خمسين مترًا من هدفهم، ولكنهم لم يَرَوا أحدًا. وبدَت القلعة مهجورة، غير أنهم قبل أن يُقرِّروا ما إذا كانوا يستمرُّون في تقدُّمهم أو يمكُثون ويُراقِبون، مرت اثنتا عشرة قذيفةً تَصفِر إلى جانب الثلاثة.
وعَرفوا من هذا كل ما أرادوا معرفته؛ فالقلعة مُحصَّنة، فتقهقروا إلى الخلف في الحال.
وحين انعطفوا عند زاوية الخندَق، سقط أحدُ أفراد الحرس صريعًا؛ إذ أصابَتْه قذيفةٌ في صدره، على حين كان الآخر سليمًا مُعافًى، ولم يُصَبْ بسوء، فاستأنف سَيرَه عائدًا إلى المُعسكَر بأقصى ما أُوتي من سرعة.
وإذ انكبَّ دارتانيان على الحارس المُصابِ لإسعافه، انطلقَت قذيفتان أخريان، أصابت إحداهما رأس المُصاب، وأصابت الأخرى جانبَ الخندَق، بجوار دارتانيان.
كان من الواضح — بناءً على اتجاه القذيفتَين — أنهما لا يمكن أن تأتيا من القلعة. وفي لمح البصر، تذكر دارتانيان الجنديَّين اللذين حاولا الاعتداء على حياته في مساء اليوم السابق؛ فاعتزَم في هذه المرة أن يكتشِفَ أمر هذَين الرجلَين، فوقع فوقَ جسمِ الحارس الصريع، وكأنه قد أُصيب هو نفسه.
ولم يمض وقتٌ طويل حتى ظهر رأسان حول زاوية جانب الخندَق، وكانا رأسَي الجنديَّين. لم يخطئ دارتانيان في حَدْسه؛ إذ انتهز الرجلان فرصة الخروج مع دارتانيان؛ آملين في أنهما إن قتلاه بدا أن العدو هو الذي قتلَه، وإذا جُرِح، اتُّهِما فيما بعدُ؛ ولذا تقدَّما نحوه ليتأكَّدا مما حدث له، ولكن، لسوء حظِّهما، خدعَتْهما حيلة دارتانيان؛ إذ لم يُعيدا شحن بندقيتَيهما. وكان دارتانيان قد احتاط ألا يترك سيفه، فلما صارا على مقربة بضع خطواتٍ منه، هبَّ واقفًا على قدمَيه.
وأدرك القاتلان على الفور، أنه من العبث أن يفرَّا إلى المُعسكَر دون أن ينالا منه، فإن أخفقا في ذلك انضمَّا إلى قوات العدو.
وهوى أحدهما ببندقيته على دارتانيان، إلا أن هذا تحاشى الضربة الهائلة بأن قفز جانبًا بسرعة البرق، تاركًا بعمله هذا ممرًّا للجندي الآخر، الذي اندفع هاربًا في اتجاه القلعة، فأطلق حراس القلعة النار ظانِّين إياه جنديًّا ملكيًّا، فسقط وقد خُلعَت كتفُه.
في الوقت ذاته، هجم دارتانيان على الجندي الآخر، فلم يستغرق القتال معه سوى بضعِ لحظات، خرَّ بعدها الجندي بضربةِ سيفٍ في فخذه.
صاح الجندي مُسترحِمًا حين سلَّطَ دارتانيان طرف سيفه على رقبته، قائلًا: «لا تقتلني! اصفح عني! سامحني، وسأعترف لك بكل شيء.»
قال دارتانيان: «لماذا؟ هل سِرُّك عظيم الأهمية بحيث يمنعني قتلَك؟»
«أجل، إن كنت تعتقد أن الحياة تساوي شيئًا لشابٍّ شجاع ووسيم مِثلِك.»
صاح دارتانيان: «يا لك من وغدٍ! تكلَّم في الحال! من الذي استأجرك لقتلي؟»
«لا أعرف من هي، سوى أنها تُدْعى ميلادي.»
«إن كنتَ لا تعرفها، فكيف تعرف اسمها؟»
«خاطبها صديقي بهذا الاسم، وهو الذي اتفَق معها. والواقع أن في جيبه خطابًا منها.»
«كيف اشتركتَ في هذا العمل؟»
«اقترح عليَّ زميلي أن أنضَم إليه، فوافقْت.»
«ماذا كنتَ ستربح بعملك هذا؟»
قال دارتانيان ضاحكًا: «إذن فهي تعتقد أنني أُساوي شيئًا! مائة لويس إغراءٌ قويٌّ لخسيسَين من أمثالكما. رغم هذا، سأُبقي على حياتك، بشرطٍ واحد.»
سألَه الجندي بقلَق: «ما هو؟»
«أن تذهب وتُحضِر الخطاب الذي تدَّعي أنه في جَيبِ زميلك.»
صاح: «لا، لا! ليس هذا سوى طريقةٍ أخرى لقتلي! سيُطلِق جنود القلعة النار عليَّ، أنا أيضًا.»
«هيا! فكر في الأمر. اذهب وأحضِر الخطاب، وإلا دفعتُ سيفي في جسَدك.»
صاح الرجل جاثيًا: «اعفُ عنِّي، يا سيدي! أشفِق عليَّ!»
صاح دارتانيان وهو يهجُم على الرجل بوحشية: «لا بُدَّ لي من ذلك الخطاب.»
صاح الرجل مذعورًا من أن تكون هذه آخر لحظةٍ في عمره: «سأذهب، سأذهب.»
زحَف الرجل الجريح نحو زميله وهو يَرتعِد فرقًا من الموت، فلما أبصر دارتانيان الرعبَ يُطلُّ من عينَي ذلك الرجل، والدمَ الذي ينزفُ منه، أشفَق عليه.
قال دارتانيان وهو ينظر إليه شَزْرًا: «قف، سأُريك الفرق بين الشجاع والجبان. ابقَ حيث أنت، وسأحمل عنك عبء هذه المخاطرة.»
أخذ دارتانيان يراقب بحذرٍ حركة الحراس، متخذًا من الحفر والصخور ساترًا له، حتى وصل في أمانٍ إلى حيث يرقد الجندي الثاني.
كان على دارتانيان أن يعمل أحد شيئَين: إما أن يفتِّش الرجل حيث هو، وإما أن يحمله ويعود به، متخذًا إياه درعًا، ثم يفتِّشه في الخندَق.
وبدون تردُّد، قرر دارتانيان الخطة الثانية. وبعد أن رفع الرجل على كتفَيه، بلحظة، أطلق الحراس النار.
شعر دارتانيان بثلاث طلقات، على الأقل، تصيب الرجل، وبذا أنقذ حياته من كان سيُفقِده إياها.
عاد دارتانيان إلى الخندق سليمًا، فأنزل الجثة، وفتَّش في جيوبها.
لا تترك ذلك الرجل؛ إذ لو تركته، فأنتَ تعرفُ أن يدي تمتد إلى مسافةٍ بعيدة، وأنكَ ستدفَع الثمنَ غاليًا نظير المائة لويس، التي أخذتَها مني.
لم يكن بالخطاب توقيع، إلا أنه لم يكن ثمَّة شكٌ في أن المُرسِل هو ميلادي. طوى دارتانيان هذا الخطاب ووضعَه بعنايةٍ في جَيْبه، إذ هو دليلٌ ماديٌّ قويٌّ لإدانتها.
استدار دارتانيان نحو الرجل الجريح، ومدَّ إليه يده قائلًا: «هيا، لا يمكنني أن أدعَكَ هنا بحالتِك هذه. اتكئ على ذراعي، وهيا بنا نعُد إلى المُعسكَر.»
جثا الرجل على ركبتَيه، وانحنى ليُقبِّل قدمَي دارتانيان، مُتوسِّلًا إليه: «أشفِق عليَّ! إنك ستعود بي إلى المُعسكَر ليشنقوني! دعني أمُت هنا! رحماك بي!»
قال دارتانيان غاضبًا من فَرْط جُبن الرجل: «انهض؛ فقد حصَلتَ على وعدي. للمرة الثانية، سأُبقي على حياتك.»
وصل الحارس الآخر إلى المُعسكَر بسلام، وأعلن عن موت الأربعة الآخرين من فريقه؛ ولذا فقد دهش مَنْ بالمُعسكَر دهشةً بالغة، وابتهجوا عندما شاهدوا دارتانيان يعود سليمًا مُعافًى.
حكى دارتانيان أنهم هاجموا العدو فيما بعدُ للحصول على مزيدٍ من المعلومات، وأن العدو تمكَّن من قتلِ اثنَين، وجَرحِ الجندي الذي عاد معه.
أثنى الجيش كلُّه على دارتانيان ثناءً عظيمًا، ولم يكن ثمَّة حديثٌ طَوال ذلك اليوم إلا في هذا الموضوع. وحتى دوق دورليان، امتدَحه بحرارةٍ بعد أن سمع تقريره.
والآن، وقد قُتِل أحد أعداء دارتانيان، وصار كل همِّ عَدوِّه الآخر هو أن يكون في خدمة دارتانيان، أحسَّ هذا الأخير براحة بالٍ عظيمة.
وقد أثبتَت راحةُ البال هذه، أن دارتانيان أساء الحكم على ميلادي.