عصيرُ أنجو
تعاقبَت الأيام، ولم يصل الملِك بعدُ، كما كان مُتوقَّعًا، ويبدو أنه أصيب بوعكةٍ بسيطة، أدت إلى هذا التأخير.
استمر دارتانيان في عمله هانئ البال، كما هي الحال عندما ينجو إنسان من خطرٍ محدق، غير أن كل ما كان يُقلِقه هو عدم ورود أخبارٍ عن أصدقائه الثلاثة.
السيد دارتانيان
«تشرَّفتُ بدعوة السادة آثوس وبورثوس وأراميس إلى منزلي لتناوُل الشراب، وقد أُعجِب هؤلاء كثيرًا بعصير أنجو، حتى إنهم طلبوا مني أن أُرسلَ لك اثنتَي عشرةَ زجاجةً منه، ففَعلْت.
وتفضَّل، يا سيدي، بقبول عظيم الاحترام.»
صاح دارتانيان قائلًا: «هذا رائع! لقد فكَّروا فيَّ أثناء مسرَّاتهم، مثلما فكَّرتُ فيهم أثناء متاعبي، إلا أنني لن أشرب نَخبهم وحدي.»
أسرع دارتانيان، من فَوره، يبحث عن اثنَين بذاتهما من رجال الحرس، كان على صلةٍ جِدٍّ طيبةٍ بهما. كان أحدهما في نوبتِه هذه الليلة، والآخر نوبتُه في الليلة التالية، فاتفقوا على أن يتناولوا العشاء معًا في الليلة التالية لنوبة الثاني، ويشربوا نَخب أصدقائهم الغائبين.
عهد دارتانيان بزجاجات العصير الاثنتَي عشرة، إلى خادمه بلانشيه، وأصدَر إليه التعليمات بإعداد عَشاءٍ خاص.
ابتهج بلانشيه، وبدأ يعمل بنفسٍ راضية، على ثقةٍ بأن سيده لا بُدَّ سيُعطيه كأسًا من العصير. وكان يُساعِده في هذا العمل الجندي الزائف، الذي كان، في ذلك الوقت، في خدمة دارتانيان. كما حصل على مساعدة فورو خادمِ أحد الضيفَين.
وحان وقت العَشاء، فاتخذ الأصدقاءُ الثلاثةُ أماكنهم، وَصُفَّت الأطباق على المائدة، وقام بلانشيه بالخدمة، وفتح فورو زجاجات العصير، وصبَّ الجندي بريزمون العصير في الكئوس. ورَجَّ فورو أول زجاجةٍ عند فتحها، فإذا بالعصير عَكِر. وسمح دارتانيان للجندي أن يشرب منه، ثم يملأ الكئوس من زجاجاتٍ أخرى.
تناول الضيفان حساءهما، وكانا موشكَين على أن يرفعا كأسَيهِما ليشربا نخب مضيفِهما، فإذا بهم يسمعون صوت انطلاق المدافع، فخشيَ الثلاثة أن يكون قد حدَث هجومٌ مفاجئ، فاستلُّوا سيوفهم وخرجوا إلى مواقعهم.
وما كادوا يغادرون الحجرة، حتى سمعوا الهتافات: «يحيا الملك. يحيا الكاردينال.» إذن فقد أُطلقَت المدافع تحيةً لقدوم الملك.
أخيرًا وصل الملك، مع فرسانه وعشرة آلاف رجل. وإذ كان دارتانيان على رأس ضيوفه، فسرعان ما أبصَره أصدقاؤه الثلاثة. وانتهى بسرعةٍ حفل الاستقبال، واجتمع شمل الأصدقاء الأربعة مُجدَّدًا.
صاح دارتانيان مبتهجًا وهو يقدِّم أصدقاءه إلى الحارسَين: «ما كنتم لتصلوا في فرصةٍ أفضل من هذه. يمكنكم الآن أن تشتركوا معنا في احتساء عصيركم.»
قال آثوس دهشًا: «عصيرنا!»
«نعم، العصير الذي أرسلتُموه إليَّ.»
«العصير الذي أرسلناه إليك؟»
«طبعًا، عصير أنجو الذي تُغرَمون به كثيرًا.»
قال آثوس وهو ينظر إلى أراميس بخجل: «هل أرسلتَ عصيرًا، يا أراميس؟»
«لا!»
استطرد آثوس يقول: «ولا أنت، يا بورثوس؟»
«لم يحدُث!»
قال دارتانيان: «حيث إنكم لم ترسلوه، فمن المؤكد أن جود قد أرسله باسمكم.»
قال بورثوس: «مهما يكن مصدَره، فهيا نحتسيه.»
قال آثوس بإصرار: «لا، لن نشرب بغباءٍ عصيرًا لا نعرف مصدره.»
قال دارتانيان: «ألم تطلبوا من جودو أن يرسل لي بعض العصير؟»
«نعم، لم نطلب. ولماذا تظُننا طلبنا منه ذلك؟»
أطلَعهم دارتانيان على المذكِّرة وهو يقول: «ها هو الخطاب الذي جاء مع العصير.»
قال آثوس بصوتٍ مضطرب: «لا يمكن أن يكون هذا الخطاب منه. أضِف إلى ذلك، أننا لم نتناول العَشاء معه منذ عدة شهور. إذن، فهذا الخطاب زائف!»
صمت الأربعة، وكلٌّ منهم يجول بخاطره ما يراه من أفكار. وكان دارتانيان هو أوَّل من خرج عن صمته، فصاح قائلًا: «ميلادي! أيمكن أن تكون هذه مؤامرةً أخرى على حياتي؟» قال هذا، وانطلق فجأةً إلى حجرة المائدة، يتبعه أصدقاؤه الثلاثة والضَّيفان.
كان أول من وقع عليه نظر دارتانيان حين دخل الحجرة، بريزمون وهو يتدحرج على الأرض في ألمٍ مُمِض، على حين يُحاوِل كلٌّ من بلانشيه وفورو إسعافه، وهما شاحبا اللون يرتجفان، ولكن من الواضح أن ذلك الرجل كان يُحتضَر.
تأوَّه بريزمون حين وقع بصره على دارتانيان، وقال: «رباه! بعد أن تظاهرتَ بالعفو عني، ها أنت ذا تقتلُني بالسم!»
قال دارتانيان: «ماذا تقول، أيها الخسيس؟»
قال: «أعطيتَني العصير، وطلبتَ مني أن أشربه. أردتَ أن تأخذ بثأرك!»
قال دارتانيان: «أُقسِم بشَرفي أنني لم أكن أعرف أن العصير مسموم!»
غير أنه لم تكن ثمَّة فائدة من أن يزيد على قوله هذا؛ إذ مات ذلك الرجل من فَورِه.
استدار دارتانيان نحو ضيفَيه، وقال: «أرجوكما ألا تتفوَّها بشيءٍ مما حدث. قد تكون لأناسٍ ذوي سلطانٍ عظيم يدٌ في هذا الأمر، ومن الأسلم لكما ألا تكون لكما صلةٌ به.»
وعد الحارسان بألا يذكُرا هذا الأمر لأي إنسان، ثُم لمَّا رأيا رغبة الأصدقاء الأربعة في الانفراد معًا، استأذنا وانصرفا.
قال آثوس: «فلنترك هذه الحجرة، ونأكل في مكانٍ آخر؛ فليس من المُستحَب وجود الموتى عند تناول الطعام!»
قال دارتانيان وهو مغادر: «أي بلانشيه، أتركُ جثَّة هذا الرجل في عُهدتِك. استدعِ أحدًا وادفِنْه. إنه في الحقيقة اقترف جريمة، ولكنه ندم عليها.»
وجلس الأربعة في حجرةٍ بالطابق العلوي، وتناولوا طعامًا شهيًّا قدَّمه لهم صاحب الفندق، وشربوا الماء الذي أحضَره لهم آثوس بنفسه، من البئر التي خلف الفندق.
وبينما يتناولون وجبتهم البسيطة، روى دارتانيان لأصدقائه الثلاثة، ما حدَث في المحاولتَين السابقتَين، من إطلاق النار عليه.