إهانة وتَحدٍّ
حين وصل دارتانيان إلى ميونغ، ترجَّل عند باب فندق جولي ميلر. ولاحظ أثناء ترجُّلِه، رجلًا رزين المنظر، يقف عند نافذةٍ نصف مفتوحة بالطابق الأرضي، ويتكلم إلى شخصَين آخرَين خلفه بالحجرة، ويصغيان إليه باحترامٍ غير عادي. وبطبيعة الحال، ظنَّ دارتانيان أنه موضوع الحديث، خاصةً وأن الرجل كان يتطلَّع إليه بين الفَينة والأخرى؛ لذا أصاخ دارتانيان السمع إلى ما يُقال.
والواقع أنه كان مخطئًا بعض الشيء؛ إذ إن الرجل كان يتحدث عن صفات الحِصان، وكثيرًا ما كان الرجلان اللذان يُصغِيان إليه يضحكان بين آونة وأخرى. وإذا كانت نصف ابتسامةٍ تكفي لإثارة طباع ذلك الرجل السريع الغضب، فمن السهل أن نتصور مدى الأثَر الذي نشأ عن ذلك الأمر.
في تلك اللحظة عينها، أبدى الرجلُ ملاحظةً دعابية ساخرة عن الحصان، فقَهقَه الاثنان الآخران بصوتٍ يعلو على صوت ضحِكِهما السابق. غير أنه، هو نفسه، لم يُظْهِر أكثر من ابتسامةٍ بسيطةٍ على وجهه. وهنا أحسَّ دارتانيان، في هذه المرة، أنه قد أُهين. وإذ اقتنَع بهذا، تقدَّم وقد وضع إحدى يدَيه على مَقبِض سيفه، وأسند الأخرى على خاصرته، وصاح قائلًا:
«اسمع، يا سيدي، يا من تُخفي نفسكَ وراء ذلك المِصْراع. أخبرني عما يُضحِكُكَ، فنَضحكَ معًا.»
أدار الرجل عينَيه ببطءٍ، من الحِصان إلى صاحبه، وكأنَّه يحتاج إلى بعض الوقت ليتأكَّد مما إذا كانت هذه الملاحظات مُوجَّهةً إليه. وبعد ذلك، عندما لم يُصبِح لديه شكٌّ في هذه الحقيقة، قطَّب جبينه، وردَّ على دارتانيان بغير اكتراث، قائلًا: «لم أكُن أتحدَّث عنك!»
غضب دارتانيان أكثر من ذي قبل، من هذه السخرية، وقال: «ولكني أتحدَّث إليك.»
نظر إليه الرجل مرةً أخرى، وعلى شفتَيه شبحُ ابتسامةٍ باهتة، وغادر النافذة. ولما غادر الفندق، تقدَّم نحو الحصان، وبينه وبين دارتانيان خطوتان.
واستأنف الرجل المجهول كلامه، قائلًا: «من المؤكَّد، أو من المُرَجَّحِ أنَّ هَذا الحِصانَ كان في شَبابِهِ أُقحُوانةً برِّيةً صفراء!» وَتَوَجَّهَ بكلامه إلى الرجلَين اللذَين كانا لا يزالان عند النافذة، متجاهلًا دارتانيان تمامًا: «إنه لونٌ معروف جيدًا بين الزهور، غير أنه حتى الآن، نادرٌ جدًّا بين الخيول.»
صاح الشاب: «هناك من يضحكون من حصان، ولكنهم لا يتجاسرون على الضحك من صاحبه!»
قال الرجل المجهول: «أنا لا أضحك كثيرًا، يا سيدي، وربما تكون قد لاحظت ذلك، ورغم ذلك، فأنا أضحك عندما يحلو لي أن أضحك.»
صاح دارتانيان: «وأنا، عندما يحلو لي، لن أسمح لأي رجلٍ بأن يضحك!»
واصل الرجل الوقور كلامه في هدوء: «أهو ذاك، يا سيدي؟» واستدار ليدخل الفندق.
«استدِر! استدِر أيها المُهَرِّج، وإلا ضربتُكَ من الخلف!»
قال الآخر وهو يستدير وينظر إلى ذلك الشاب بدهشةٍ وسخرية: «تضربني! لماذا، يا زميلي العزيز؟ لا بد أنك مجنون!» ثم أضاف بصوتٍ خفيض، وكأنه يُحادِث نفسه: «هذه إساءةٌ بالغة!»
ما كاد الرجل ينتهي من قوله هذا، حتى هجم عليه دارتانيان ثائرًا، ولو لم يرتدَّ الرجل إلى الخلف سريعًا، لكانت هذه آخر مرة يمزح فيها. ولمَّا رأى أن ذلك الشابَّ كان جادَّا حقيقةً، استلَّ سيفه ووقَف في موقف استعداد. غير أنه، في هذه اللحظة عينها، خرج الرجلان اللذان كانا في الفندق، ومعهما صاحب الفندق، وانهالوا على دارتانيان ضربًا بالهِراوات. ولمَّا استدار دارتانيان ليُواجه وابِلَ الضرباتِ هذا، أعاد الرجلُ المجهولُ سيفَه إلى غِمدِه بهدوء. وبدلًا من أن يشاركَ في القتالِ بحماس، وقف متفرجًا.
ظلَّ الرجلُ المجهولُ هادئًا غيرَ مُنزعج، وردَّد لنفسه: «اللعنة على هؤلاء الغسقونيين! ضعوه على حِصانِه الأصفر، وأرسلوه إلى حال سبيله.»
صاح دارتانيان بشجاعة: «ليس قبل أن أقتُلَك أيها الجبان!»
ووقف راسخًا أمام مهاجميه الذين ظلُّوا يُمطِرونه بالضربات.
قال الرجل الوقور: «بشَرفي، إن هؤلاء الغسقونيين يتصرَّفون بدون وعي! إذن استمرُّوا فيما تفعلون، ما دام يريد هذا، فإذا ما كَلَّ، فسيصرخُ معلنًا بأنه نال كفايتَه.»
بيد أن الرجل المجهول لم يعرف ذلك الشخص العنيد، الذي كان عليه أن يتعامل معه؛ فلم يكن دارتانيان هو ذلك الرجل الذي يستسلم أو يطلُب الرحمة. وعلى ذلك استمر القتال حتى سقط سيفه مكسورًا بضربة عصًا هائلة، وطرحَتْه ضربةٌ أخرى على رأسه أرضًا مُضرَّجًا بالدم، فاقدًا الوعي.
في تلك اللحظة، أقبل الناس من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ إلى مسرح القتال؛ وإذ خَشِي صاحبُ الفندق العواقب، حمل الرجلَ الجريحَ إلى المطبخ، حيث أمر بغسل جراحه وتضميدها.