فندقُ بُرج الحَمامِ الأحمر
بعد ذلك بعدة ليالٍ، كان آثوس وبورثوس وأراميس ممتطين جيادهم ويسيرون الهُوينَى في طريقهم إلى المُعسكَر من فندقٍ في القرية المجاورة، فإذا بهم يسمعون وقع حوافر خيولٍ قادمة. وكانوا ثلاثتهم مُسلَّحين تسليحًا كاملًا، ولكنهم لا يعرفون ما إذا كان الراكبون القادمون أصدقاء، أو أعداء، فتوقَّفوا عن السير وانضموا معًا في وسط الطريق. وفي تلك اللحظة، أضاء القمر من خلف سحابةٍ فأبصروا فارسَين. وفي اللحظة ذاتها، أبصر القادمان الرفاقَ الثلاثةَ فتوقفا، وبدا أنهما لم يقرِّرا بعدُ ماذا سيفعلان؛ هل يستمران في طريقهما أم يعودان؟
وبالطبع، كان هذا التردد كافيًا لإيقاظ الشكوك في نفوس الفرسان الذين لا يهابون شيئًا، فصاح آثوس على الفور: «من هناك؟» فأجاب أحد الراكبَين: «من أنت؟»
قال آثوس: «ليس هذا ردًّا! من الذي يسير هناك؟ أجيبا، وإلا فسنهجُم عليكما.»
ردَّ صوتٌ بدا أنه معتادٌ مثلَ تلكَ الأمور: «يجب أن تأخذوا حِذْركم، أيها السادة.»
قال آثوس لرفيقَيه: «من الجائز أن يكون هذا ضابطًا ذا رُتبةٍ رفيعة يقوم بالتفتيش ليلًا. ماذا تقترحان أن نفعل؟»
كرَّر الصوتُ الآخر قوله: «من أنتم؟ أجيبوا وإلا فستندمون على عصيانكم!»
قال آثوس وقد تأكَّد من أن لهذا المتكلم حق السؤال أكثرَ منهم: «فرسان الملك.»
«من أية فرقة؟»
«من فرقة السيد دي تريفي.»
«تقدَّموا وأخبروني ماذا تعملون هنا في مثل هذا الوقت؟»
تقدَّم الرفاق الثلاثة إلى الأمام قليلًا وفي بطء، فرأَوا المتكلِّم على بعد بضع خطواتٍ أمام زميله، فأشار آثوس إلى بورثوس وأراميس بأن يتوقَّفا، وسار بجواده، وحدَه، إلى الأمام.
قال آثوس: «عفوًا، يا سيدي! لم نعرف من أنت. لقد كنا نقوم بالحراسة.»
سأله الضابط الذي احتفظ بجزءٍ من وجهه مُغَطًّى بمِعطَفه: «ما اسمك؟»
قال آثوس، وقد ضايقه السؤال: «ولكن من أنت؟ أُحبَّ أن أعرف ما إذا كان لك الحق في أن تسألني أو لا.»
كشف الراكبُ وجهه، وقال: «ما اسمك؟»
صاح آثوس دَهِشًا: «سيدي الكاردينال!»
كرَّر الكاردينال، للمرة الثالثة: «ما اسمك؟»
قال: «آثوس.»
نادى الكاردينال تابعه، وقال له بصوتٍ خفيض: «يجب أن يتبعَني هؤلاء الفرسان الثلاثة. لا أريد أن يُعرَفَ أنني غادرتُ المُعسكَر، فإذا تبعُونا، تأكَّدنا من عدم إبلاغهم أي شخص.»
قال آثوس: «نحن رجال، يا سيدي. خُذْ منا كلمة شرفٍ، ولا تخَف! فإننا نحفظ السر، وأنت تعلم ذلك يقينًا.»
نظر الكاردينال إلى آثوس لحظةً، وقال: «لك أُذُنٌ حادة السمع، يا سيد آثوس! لا أريدكم أن تتبعوني لأنني لا أثقُ بكم، ولكن ربما أحتاج إلى حمايتكُم. وأعتقد أن زميلَيك هما السيدان بورثوس وأراميس، أليس كذلك؟»
أجاب آثوس: «بلى، يا سيدي.»
قال الكاردينال: «أعرفكُم، أيها السادة. ويؤسفُني أنكم لستم من زمرة أصدقائي الخُلَّص، ولكنكم، على الأقل، رجالٌ صناديد ومخلصون. وأنا أضع فيكم ثقتي. اتبعُوني من فضلكم.»
قال آثوس: «خيرًا تفعل، يا سيدي، بأن تطلب منا مرافقتَك؛ فقد رأينا في الطريق كثيرًا من الرجال يُنبئ مظهرهم على أنهم أشرار، وتعارَكْنا مع أربعةٍ منهم في فندق بُرج الحَمام الأحمر.»
صاح الكاردينال: «عِراك! لماذا، أيها السادة؟ تعلمون أنني لا أُحب المشاغبين!»
«لهذا السبب، يا سيدي، لي شرف إخبارك به؛ إذ قد يُشوِّه لك الحقائقَ غيرُنا، فتلومُنا.»
سأل الكاردينال عابسًا: «ماذا إذن كانت نتيجة ذلك العِراك؟»
«جُرِح صديقي أراميس جرحًا بسيطًا في ذراعه، إلا أنه يستطيع الوقوف في ميدان المعركة غدًا، إن اقتضى الأمر.»
قال الكاردينال: «إنكم لم تتعودوا السماح لأحدٍ بأن يصيبكم هكذا. كونوا صرحاء، يا سادة. أعتقد أنكم أخذتُم بثأركم من شخصٍ ما.»
قال آثوس: «نحن يا سيدي؟ لا؛ فلم نستلَّ سيوفنا على الإطلاق، بل لم أفعل سوى أن أمسكتُ بالرجل الآثم وقذفتُ به من الشباك، ويبدو …» ثم صمت قليلًا، واستطرد يقول متردِّدًا: «ويبدو أنه كُسرَت ساقُه نتيجةً لسقوطه.»
قال الكاردينال: «ربَّاه! وماذا فعلت، يا سيد بورثوس؟»
«لمَّا كنتُ أعلم، يا سيدي، أن المبارزة مُحرَّمة، أمسكتُ مقعدًا خشبيًّا وهويتُ به على أحد الأشخاص، وأعتقد أن الضربة كَسرَت كتفه.»
«وماذا فعلتَ، يا سيد أراميس؟»
«كما تعلم، يا سيدي، أنا رجلٌ جِدُّ صبورٍ ومُحبٍّ للعمل وأمقُت العِراك. وحدث أن هاجمَني أحد أولئك الرجال الأشرار، فجرح ذراعي اليسرى، ففقدتُ صبري، واستللتُ سيفي، ووضعتُه أمام جسمي دفاعًا عن نفسي، فانقضَّ عليَّ ذلك الرجل بوحشية، فاخترق السيف جسدَه مباشرةً. ولا أعلم يقينًا ما حدَث له، سوى أنه سقط. ولكني أعتقد أن زميلَيه حملاه بعيدًا.»
«يا لرحمة السماء! لقد أُصيب ثلاثة رجالٍ في العِراك بما يشبه العجز! حقًّا إنكم تؤدون واجبكُم على الوجه الأكمل! وما سببُ ذلك العِراك؟»
قال آثوس: «كانوا مخمورين، يا سيدي، وخِلناهم قد يسبِّبون مضايقةً للسيدة التي قَدمَت إلى الفندق في هذا المساء.»
«ما شكلُ هذه السيدة؟»
أجاب آثوس: «لم نَرَها، يا سيدي.»
قال الكاردينال بحدَّة: «لم تَرَوها! إذن فقد فعلتم خيرًا بالدفاع عن سيدة. وأنا، بالصدفة، في طريقي إلى فندق بُرج الحَمامِ الأحمر، وسأتحقَّق من أقوالكم.»
قال آثوس مزهُوًّا: «سبق أن قلتُ لسيادتك إننا رجال! نحن لا نكذب لكي نحمي أنفسنا.»
قال الكاردينال: «ربَّاه! أنا لا أرتاب في كلامكم لحظةً واحدة، ولكن هل كانت هذه السيدة وحدها؟»
«لا، على ما يبدو أن شخصًا ما قد زارها، ولكنه، رغم الضوضاء، لم يظهر. وعلى ذلك، فمن المؤكَّد أنه جبان.»
قال الكاردينال: «لا تتسرَّع في الحكم! اتبعوني.»
وفي دقائقَ وصلوا إلى فندق بُرج الحَمام الأحمر، وبالقرب من الباب، أمر الكاردينال خادمه والفرسان بالتوقُّف، وتقدَّم بعد ذلك، من بابٍ جانبي، وطرق ثلاث طرقاتٍ بطريقةٍ خاصةٍ، فخرج رجل يرتدي معطفًا فضفاضًا، وتحدث إلى الكاردينال لبضع لحظاتٍ، ثم قفز فوق حصانه الذي كان منتظرًا هناك، وانطلق به.
قال الكاردينال بعد انصراف ذلك الفارس الغريب: «اقتربوا، يا سادة. لقد نطقتم بالصدق، ولن يكون خطئي، إذا كانت نتائج اجتماعنا في هذا المساء في غير صالحكم، في يوم من الأيام.»
ترجَّل الكاردينال وأمر الآخرين بأن يفعلوا مثله، ثم سلَّمَ عنان فرسه لخادمه، وربط الفرسان الثلاثة أعِنَّةَ خيولهم في السياج.
من الجلي أن صاحب الفندق، الذي جاء إلى الباب بنفسه، كان يتوقَّع مجيء ضابط، ولكنه لم يكن يعرف من هو.
سأله الكاردينال: «هل عندكَ حجرةٌ بمدفأةٍ في الدَّور الأرضي، ليبيتَ فيها هؤلاء السادة ويستمتعوا بالدفء؟»
انحنى صاحب الفندق، وقادهم إلى حجرةٍ فسيحة استُبدِل فيها بالموقد الحديدي القديم، مَوقِدٌ آخر كبيرٌ تَضطرِم بداخله نار.
أبدى الكاردينال استحسانه قائلًا: «هذه حجرةٌ رائعة! ادخلوا، يا سادة، وأرجو أن تنتظروا هنا؛ فلن أتأخر عنكم طويلًا.»
دخل الفرسان الثلاثة، على حين صَعِد الكاردينال إلى الطابق العلوي مباشرةً، وكان واضحًا أنه يعرف الطريق جيدًا.
جلس بورثوس وأراميس إلى مائدةٍ بقرب المِدْفأة، وأخذ آثوس يذرع أرض الحجرة جيئةً وذَهابًا، مُفكِّرًا فيمن سيُشرِّفه الكاردينال بمثل هذه الزيارة الخاطفة. وبينما هو يسير هكذا في الحجرة، كان يمرُّ مرارًا بالموقد القديم غير المُستعمَل. وكانت أنبوبةُ المِدخَنة المكسورة تَخترِق السقف وتتصل بمِدْفأةٍ في الحجرة العليا.
وفي كل مرةٍ يمرُّ فيها آثوس بالأنبوبة، يُخيَّل إليه أنه يسمع تمتمة أصوات؛ لذا توقَّف عندها متنصِّتًا. وقد أمتَعه ما سمِعه؛ إذ أشار لصديقَيه بالتزام الصمت والتقدُّم من أنبوبة المِدْخَنة المكسورة.
سمعوا الكاردينال يقول: «اسمعي، يا ميلادي؛ فهذا الأمر بالغ الأهمية.»
فكَّر آثوس فيما سمع، وصاح في نفسه متعجبًا: «ربَّاه! ميلادي!» واقترب بأذنه ووضعَها على الأنبوبة، وبذا أمكنه أن يميز بوضوحٍ كثيرًا من المحادثة.
بعد لحظاتٍ قلائل، أخذ بأيدي صديقَيه وقادَهما إلى الطرف الآخر من الحجرة.
قال بورثوس: «ما الأمر؟ لِمَ لا تُصغي لنهاية الحديث؟»
قال آثوس هامسًا: «صه! لقد سمعتُ كل ما أريد سماعه. وفضلًا عن هذا، يجب أن أنصرف قبل أن ينزل الكاردينال.»
قال بورثوس: «وماذا نقول له إن سأل عنك؟»
قال: «لا تنتظراه حتى يسأل. تكلَّما أولًا. أخبراه بأنني خرجتُ لأفحص المنطقة المحيطة بالفندق؛ إذ لديَّ سبب يجعلني أرتاب في الطريق. وسأُخبر رجلَ الكاردينال بالشيء نفسه وأنا مُغادِر. لا تقلقا عليَّ ولا على ما سأفعلُه.»
رجع بورثوس وأراميس إلى مكانَيهما قُرب المِدْفأة، يستمتعان بدفئها.
خرج آثوس، فحلَّ عِنان جواده وشرَح لتابع الكاردينال سببَ مغادرته قبل زميلَيه. وامتطى صهوةَ فرسه، وانطلق بسيفٍ مسلولٍ في الطريق المؤدية إلى المُعسكَر.