ميلادي تستقبل زائرًا غير مُتوقَّع
لم يكَد آثوس يبتعد بحصانه كثيرًا، حتى استدار بعيدًا عن الطريق، وانبرى عائدًا، حتى صار على مَقربةٍ من فندق بُرج الحَمام الأحمر، فترجَّل واختبأ خلف سياجٍ مرتفع من النباتات المتسلِّقة، ليس ببعيدٍ عن الطريق. ولم ينتظر هناك طويلًا حتى أبصَر الكاردينال وجماعتَه يمُرُّون في طريقهم عائدين إلى المُعسكَر، فتركهم يمُرُّون بخيولهم حتى اختفَوا عن ناظرَيه، وامتطى جواده وأسرع عائدًا إلى الفندق.
فتح صاحبُ الفندق الباب، فعرفَه على الفور. وبادره آثوس: «أرسلَني الضابط الذي زار السيدة بالدور العُلوي، برسالةٍ نسي أن يعطيها إياها.»
ردَّ صاحب الفندق: «السيدة لا تزال في حجرتها. اصعَد إليها.»
صَعِد آثوس من فوره، محاذِرًا وهو يسير بخفةٍ قَدْر الإمكان، فأبصر ميلادي من خلال الباب المفتوح تلبَس قُبَّعتَها، فتسلَّل إلى الحجرة، وأقفل الباب خلفه بالمِزْلاج، فالتفتَت ميلادي على صوت المِزْلاج.
وقف آثوس عند الباب متلفِّعًا بمِعطَفه ويُخفي عينَيه بقُبَّعته وذهلَت ميلادي لهذا الشخص الصامت الساكن الذي لا يتحرَّك، كأنه تمثال.
صاحت تسألُه: «من أنت؟ ماذا تُريد؟»
ردَّد آثوس لنفسه قائلًا: «نعم، إنها هي.»
وأطلق مِعطَفه، وخلَع قُبَّعته، وخطا نحوَها قائلًا: «أتعرفينني، يا سيدتي؟»
تقدَّمَت ميلادي خطوةً إلى الأمام، ثم تقهقَرَت إلى الخلف مذعورةً وكأنها أبصرَت أفعى.
تمتمَت تقول وقد امتُقِع لونُها: «الكونت دي لا فير!»
قال آثوس: «نعم، الكونت دي لا فير بشخصه؛ زوجك! فلنقل كما قال الكاردينال منذ لحظةٍ قصيرة: اجلسي ودعينا نتحدَّث.»
جلسَت ميلادي مُرتعِبة، ولم تستطع أن تنبس ببِنتِ شَفة.
قال آثوس: «لم يدُر بخَلَدي قَط أن تُوجد امرأةٌ شرِّيرة مثلك! ها قد اعترضتِ طريقي مرةً أخرى. ظننتُكِ شُنِقْت وتخلَّص العالم منك. لكن يبدو أنني كنتُ مخدوعًا، إلا إذا كنتِ قد عُدتِ إلى الحياة ثانيةً من الجحيم!»
رفعَت ميلادي رأسَها حين سمعَت هذه الألفاظ التي ذكَّرَتها بأحداث الماضي الأليمة.
استطرد آثوس، يقول: «نعم، منحَتك الجحيمُ الحياة من جديد، ومنحَتك ثروةً واسمًا آخر، ولكنها لم تستطع أن تمحُوَ عنك سوادَ رُوحِك، ولا علامةَ العارِ من كتفك.»
هبَّت ميلادي واقفةً فجأة، وعيناها تقدَحان بشَرر الغضَب، غير أن آثوس ظلَّ جالسًا لا يتَحرَّك.
استأنف آثوس كلامه: «ظننتِني متُّ، كما ظننتُكِ أنا كذلك. لقد أخفى اسمُ آثوس الكونت دي لا فير، مثلما أخفى اسم ليدي وينتر اسم آن دي بريي. ألَم يكن كذلك قبل أن نتزوَّج؟»
قالت ميلادي بصوتٍ واهنٍ مضطربٍ: «ماذا جاء بك إليَّ؟ ماذا تريد مني؟»
«أريدُكِ أن تعلمي أنه رغم غيابكِ عن ناظري، فإن حياتكِ كانت ظاهرةً لي ككتابٍ مفتوحٍ أمامي.»
«ماذا تعرف عني؟»
«بوسعي أن أُخبرَكِ بكل شيءٍ اقترفتِه، يومًا بيوم، منذ دخولك في خدمة الكاردينال، حتى هذا المساء.»
ابتسمَت ميلادي ابتسامةً شاحبة، وهي تستعيد بعض الثقة؛ إذ خالَته يبالغ في قوله.
أضاف آثوس بحدَّة: «اسمعي! ليس لديَّ وقتٌ لأسردَ عليك قائمةً بكل جرائمك، أو أصفَ لك حياتَكِ الشريرة. ورغم ذلك، اكتشف دارتانيان سِرَّكِ المخزي. هل تُنكِرين أنك استأجرتِ رجلَين ليتتبَّعاه، وعندما أخطأَتْه قذائفُهما، مرتَين، أرسلتِ له نبيذًا مسمومًا، مع خطابٍ زائف؟ ثُم .. ومنذ بضعِ دقائقَ فقَط، في هذه الحُجرة، ارتبطتِ بعهدٍ مع الكاردينال على أن تقتلي دوق بكنجهام، ونظير هذه الخدمة، سيَسمحُ لك الكاردينال بقتل دارتانيان. وكان من ضمن الكلمات التي استعملتِها: «حياةٌ بحياة، ورجلٌ برجل. أليس كذلك؟»»
صاحت ميلادي، التي غدا وجهُها شاحبًا شحوب الموت: «لا بُدَّ أنك الشيطان نفسه!»
قال آثوس: «ربما، ولكن أصغي تمامًا وبإمعانٍ إلى ما سأقول. يمكنك أن تفعلي ما تشائين فيما يختَص بدوق بكنجهام؛ تغتالينه أو تعملين على اغتياله، هذان سِيَّان بالنسبة لي، ولكنكِ إن لمستِ بطرف إصبعكِ شعرةً واحدةً من رأس دارتانيان، فإني أُقسِم برأس أبي على أن هذه الجريمة ستكون آخر عهدكِ بالحياة!»
بقي آثوس صامتًا لبضع لحظات، وقد ثبَّت عينَيه على ميلادي، وصار وجهه صُلبًا ينمُّ عن عزمٍ ومَضاء. ونهضَ بطيئًا من مَقعدِه وأخرج مسدَّسه من جرابه. وشحَب وجه ميلادي شحوب الموتى، وبدَت كأنها تحوَّلَت إلى تمثالٍ حجري. وحاولَت أن تصرُخ، ولكن تجمَّدَت الأصواتُ في حلقها.
رفع آثوس المسدَّس ببطء، ومدَّ ذراعه، وصوَّبَه نحوها، وهو يتحدَّث بصوتٍ مرعب، تدلُّ لهجته على الحسم وقوة العزيمة، قائلًا: «أعطيني، في الحال، تلك الورقةَ التي وقَّعَها الكاردينال معك، وإلا نسفتُ رأسك!»
كان من الممكن أن ترتاب ميلادي في أي رجلٍ آخر، أما بالنسبة لآثوس، فلا. كانت تعرف أنه رجلُ الكلمة، وقرأَت في وجهه الدالِّ على الإصرار وقوة العزيمة، أنه يُوشِك على أن يطلق النار، فأخرجَت الورقة من جيبها سريعًا، وقدَّمَتها إليه.
٣ من ديسمبر سنة ١٦٢٧
إنه بأمري ولصالح الدولة فعَل حاملُ هذه ما فَعلَه.
غادر آثوس الحجرة دون أن ينظُر خلفه. وفي الخارج كان ثمَّة فارسان، وحصان أرسلَه الكاردينال ليحمل ميلادي إلى الميناء في الانتظار.
يمَّمَ آثوس نحو الفارسَين، وقال: «أيها السيدان، لا تنسَيا أنَّ الأوامر التي لديكما هي مرافقة السيدة فورًا إلى الميناء، وألا تتركاها إلا بعد أن تصعَد على ظَهر السفينة.»
كانت هذه التعليماتُ هي نفسها التي تلقَّاها الفارسان من قبلُ، فحيَّا الرجلان آثوس علامةً على الإذعان.
قفز آثوس على ظهر حصانه، وركض به. وبدلًا من السير في الشارع، اختصر الطريق عَبْر الحقول. وتوقَّف مرتَين وأصغى، ولكنه لم يسمع شيئًا. أما في المرة الثالثة، فسَمع وَقْع حوافر خيولٍ مقبلة فتيقَّن في نفسه أنها خيول الكاردينال وجماعته؛ فتحاشاهم وسبقَهم بحصانه إلى مكانٍ بجوار المُعسكَر قبلَهم بمسافةٍ ما.
وهناك أسرعَ فمسَح العرق المتصبِّب من جسم جواده، واتخذ مكانًا في وسط الطريق، وانتظَر.
عندما اقترب الرُّكْبان، صاح آثوس: «من هناك؟»
قال الكاردينال: «أهذا فارسنا الشجاع؟»
قال بورثوس: «أجل، يا سيدي. إنه هو.»
قال الكاردينال: «أشكُر لك حراسَتَك المتيقظةَ يا سيد آثوس.»
وحين بلغوا مدخل المُعسكَر، حيَّا الكاردينالُ الأصدقاءَ الثلاثة، واستَمرَّ في طريقه مع تابعِه.
حين ابتعد الكاردينال مسافةً كافيةً، صاح آثوس: «بحوزَتي الورقةُ التي وقَّع عليها.»
لم يتفوَّه الأصدقاء الثلاثة بكلمةٍ واحدةٍ بعد ذلك، وهم في طريقهم إلى مقرِّهم، إلا بإعطاء أفراد الحراسة كلمةَ السِّر.