إعجاب دارتانيان بطُرق استخدام السيف فوق السُّلَّم، وإعجابه بحِمَالة سيفٍ
كان فرسانُ الملك جماعةً من الرجال البواسل المستهترين غير المهذَّبين تمامًا، وعلى استعدادٍ لمواجهة أي شخص، فيما عدا رئيسهم السيد دي تريفي. كانوا يُشاهَدونَ في كل مكانٍ يضحكون ويتكلمون بأصواتٍ صاخبة، ويفتلون شواربهم، ويَصِلُّونَ بسيوفهم. وفوق كل شيء، كان يحلو لهم أكثر من أي شيءٍ آخر أن يتحرَّشوا بحرس الكاردينال، حين يلتقونهم بمحض الصدفة. ولم يهتم أولئك الرجال بالقانون في قليل أو كثير، وكانوا دائمًا في قتالٍ ونزال؛ يُقْتَلونَ أحيانًا، ولكنهم في أغلب الأحيان يَقْتُلونَ. وكانوا على يقينٍ من عدم بقائهم في السجن؛ إذ إن هناك السيد دي تريفي الذي يعمل على إطلاق سَراحِهم في الحال.
كان هؤلاء الرجال يقدِّسون السيد دي تريفي، ويمدحونه مديحًا يكاد يصل إلى عنان السماء. ورغم كونهم لا يهابون أحدًا، فإنهم كانوا يُطيعون أي أمرٍ يتفوَّه به السيد دي تريفي، وعلى استعدادٍ تامٍّ للتضحية بالنفس والنفيس لغسل أقل إهانةٍ تلحق به أو بالفرسان تحت إمرته. وكان مقر السيد دي تريفي في باريس يشبه مُعسكَرًا مُسَلَّحًا في جميع الأوقات. كان به على الدوام خمسون أو ستون فارسًا مجتمعين في الفناء وفي الممرات. وكانوا يتناوبون الحراسة فيما بينهم أثناء فترة راحتهم في القَصر؛ ليُظْهِروا قُواهم في استعراضٍ عظيم قَدْر الإمكان. يسيرون في كبرياء وخيلاء، مُدجَّجين بالسلاح، ومستعدِّين لأي شيء.
لمَّا قدَّم دارتانيان نفسه، كان المجلس مُهَيَّأً بعظَمةٍ غير عادية، كأنَّ شخصيةً عظيمة ستزور السيد دي تريفي، فلما اجتاز دارتانيان المدخل الضخم ذا الأبواب الكبيرة المُغَطَّاةِ بالمسامير المُربَّعة الرءوس، وجد نفسَه وسط عددٍ من السيَّافين، يمزحون ويتشاجرون بمرحٍ، كل واحدٍ مع الآخر، وهم لا يُفسِحون الطريق لأي شخصٍ إلا إذا كان ضابطًا أو نبيلًا أو سيدة.
تقدم الشاب وسط هذه الضوضاء والفوضى الواضحة، وقلبُه يخفق. وكلما اجتاز جماعةً تنفَّس الصُّعداء. ولكن لم يسَعْه إلا أن يلاحظ أنهم كانوا يرمقونه بمتعة، فأحَسَّ دارتانيان المَزْهُوُّ، لأول مرة في حياته، بشيءٍ من القلق. وعندما بلغ أوَّل السُّلَّم الرَّحْب الضخم زاد قلقه. كان ثمَّة أربعةُ فرسانٍ يتسلَّون بألعاب السيوف، وعشرة فرسان، أو اثنا عشر فارسًا، كانوا عند بداية السلم، ليأخذوا دَورَهم. وقف أحد هؤلاء الأربعة عند درجة سلمٍ عُليا مُشهِرًا سيفه، ليمنع أو ليُحاوِل منع الثلاثة الآخرين من الصعود، فانقَضَّ عليه الثلاثة الآخرون بسيوفهم المُشرَعَة، إلا أن الفارس الواقف على درجة السُّلم العُليا، أبعد عنه خصومه الثلاثة، بمهارةٍ فائقة.
ويبدو أن القاعدة عندهم تنص على أنه إذا أُصِيبَ رجلٌ، خطا جانبًا، وحل محلَّه آخر. وخلال خمس دقائق، جُرِحَ ثلاثة فرسان جروحًا بسيطة، أحدُهم في يده، وآخرُ في ذقَنه، وثالثٌ في أذنه، بواسطة الفارس المدافع عن السُّلم، على حين ظل هو نفسه دون أن يمسَّه أذى. لم يسبق لدارتانيان أن شاهَد مثل هذه المهارة، ولا مثل هذه الجُرأة.
وأخيرًا لاحظُوه، فجاءه رسول وسأله عما يريد، فذكر اسمه باحتشام، والتمس مقابلةً قصيرة مع السيد دي تريفي، فوعده الرسولُ بتوصيل هذه الرسالة إلى القائد، وعند ذاك، غدا دارتانيان حُرًّا في أن يتطلَّع إلى ما حوله. وكان في وسط هذه الجماعة البالغة النشاط والحيوية، فارسٌ يبدو عليه الغرور، فارع الطول، يرتدي ثيابه بطريقةٍ تختلف عن طُرق الآخرين؛ لجذب الانتباه العام. لم يلبَس هذا الفارس الزي الرسمي الذي يرتديه الآخرون، وإنما كان يلبَس صِدارًا أزرق بلون السماء، باهتًا وباليًا بعض الشيء، وفوقه حِمالةُ سيفٍ رائعة المنظر، مُطرَّزةٌ بخيوطٍ ذهبية تتألَّق كما يتألَّق الماء تحت أشعة الشمس، ويتدلَّى من كتفَيه العريضتَين مِعطفٌ طويل من القطيفة القرمزية اللون، مفتوحٌ من الأمام ليُبيِّن الحِمالة التي يتدلَّى منها أضخمُ سيفٍ رآه دارتانيان في حياته.
ويبدو أن هذا الفارس انفصل حديثًا من حرس القصر. وكان يعاني من نزلة برد، ويسعُل من آنٍ لآخر ليُبرهِنَ على إصابته بالبرد. وأخبر مَن حولَه بأنه ارتدى المِعطَف ليدرأ هذا البردَ عنه. وبينما هو يتكلَّم هكذا بلهجة ازدراء، ويَفتِل شاربَه في خُيلاء، أبدى الجميع إعجابهم بحِمالة سيفه المُزخرَفة في إفراط، كما أُعجبَ بها دارتانيان أكثر من غيره.
قال المدعو بورثوس: «أقسم بشرفي أنني اشتريتُها بنفسي، بكل ما كان في كيس نقودي!»
عَقَّبَ أحد الفرسان متهكمًا: «ربما؛ فقد اشتريتُ أنا كيس النقود هذا بنفس الطريقة، بكل النقود التي وضعها شخصٌ آخر في كيس نقودي القديم!»
وعلى ما يبدو فإن هذا التصديق قد أزال جميع الشكوك عن أصل حِمَالة السيف الفاخرة. ورغم أن الفرسان لم يزالوا يُعجَبون بها، فقد انتقل الحديث إلى موضوعاتٍ أخرى.
بعد ذلك بوقتٍ قصير، خرج رسول من مكتب السيد دي تريفي، وصاح قائلًا: «السيد دي تريفي ينتظر السيد دارتانيان.»
عند هذا الإعلان، الذي في أثنائه بَقِي باب المكتب مفتوحًا، وقف الجميع صامتين. وفي وسط هذا السكون، عبَر ذلك الرجل البَهْو بطُوله، ودخل مكتب قائد الفرسان.