الطائر الملعون
وقفنا جميعًا، حشودًا مجتمعة بالآلاف، في هذا اللقاء الأسبوعي، الرءوس تتعلق بالسماء، وبهذا الواقف فوق تلته يخطب فينا. في حديثه سكينة، وعلى وجهه أمارات القداسة. أجواءٌ إيمانيةٌ خالصة. نرتفع بأيادينا لأعلى، وكأننا نطرق للسماء بابًا. دعوات وصلوات تُتلى وسط تأمين جماعي.
مضت الدقائق تُطهر ما عَلِق بأبداننا ونفوسنا طوال الأسبوع من خطايا. نشعر بكلماته تتناثر فوق رءوسنا كالتِّبر، فيزداد المشهد بريقًا.
لا حاجة لبكاء أو نحيب؛ فكلها مظاهر دنيوية تسقط في هذا الطقس الإيماني بامتياز. لم تعُد الأقدام تتحمل صلابة الأرض، وكأن مراسم التوبة خفَّفت من أثقال النفوس والأبدان، فصارت الأرض تحتنا كبساطٍ مُخمَلي يمحو حدود الأرض بالسماء. وهو في ردائه الأبيض كرسولٍ من السماء جاء ليمنحنا برَكته.
بعد انتهاء الخطبة يسأله المؤمنون، بحماسة، أمارةً لقبول التوبة. يُجيبهم بابتسامةٍ صافية، فتُحمَل إليه حمامةٌ بيضاء. يهمس لها مانحًا برَكته، ويُطلِق سراحها. تتعلق النفوس بجناحَيها، فيختلط بياضها الثلجي ببياض السماء، فتزيد الجموع حماسةً.
يقطع المشهد، يظهر فجأةً كنقطةٍ سوداء، ثم تقترب، وكلما اقتربت تزداد ضخامةً. يتَّجه حيثما الحمامة، وكأنه أراد بسواده حرماننا من اكتمال طقس توبتنا. نُتابع المشهد مشدوهين. تتعلق قلوبنا بالحمامة، أمارة قَبول توبتنا، فتطلب قلوبنا العون لها.
يزيد الاضطراب بين الصفوف، ويبدأ المؤمنون صلاةً أخرى لمساعدة ذات البياض الثلجي. تُغلَق العيون رافضةً ألا تُقبَل توبتها، فيما تقلُّ المسافة بين الجسدين الطائرين، حتى يحط عليها بمِنقاره الضخم، فيختلط الأبيض بالأسود، ويرتفعان معًا، وتبتلعهما السُّحب.
لحظاتٌ ثقيلة مرَّت، حاولنا البحث عن تفسيرٍ وسط غمزات المُتشككين. وحينما فشلنا، انفضَّ الجمع منكِّسي الرءوس، وركب الجميعَ صمتٌ يشوبه الفزع والإنكار. وحينما حاول الأطفال إعادة رواية ما حدث، نَهَرهم آباؤهم، وأمروهم بالصمت؛ رغبةً في محوه من ذاكرتهم.
حول أجهزة التلفاز، كان هناك اجتماعٌ آخر لمن غاب عن الحدث لقلة إيمانه، أو لانشغاله. حان وقت إعادة بث الحدث الإيماني. يُتابع الجميع المشهد: الأيادي المُرتفعة للسماء، والوجه الساكن بقداسته؛ الحمامة المحمولة، والهمس، وإطلاق السراح. ولكن الحمامة طارت في هذه المرة عاليًا، تودِّعها الجموع بكلماتٍ مقدَّسة، واختفت حيث أراد الجميع لها، واختلط بياضها بالسُّحب دونما تعكير لصفو قبول التوبة.
اختفى النورس الأسود في إشارات البث وسط تساؤلات المؤمنين: هل كان حقيقيًّا أم اختلقته أرواحهم الشريرة؟ وفي الأعوام التالية استُخدم طائرٌ إلكتروني لضمان ألا يتكرر ظهور هذا الطائر اللعين.