جمهورية المبروك
بصوتٍ جَهْوري، تفاجأت به حارتنا في عصر يوم شتوي. كلماته همهماتٌ يُطلِقها لسانه الأعرج، كأنه يحدِّث نفسه أو أشباحًا لا يراها غيره. أزعجَنا صوته الأجَش، فلاحَقناه بلعناتنا.
اعتدنا حضوره في الوقت ذاته يوميًّا. نُطلِق التعويذات بمجرد ظهوره، وحتى رحيل آخر تردُّد لصدى صوته بالشوارع المجاوِرة. بظهوره تتوارى الحوامل خشيةً على أجِنَّتهن، فيما تتبعه شياطين الشوارع؛ يقلِّدونه حينًا، ويُطلِقون قذائفهم الرملية حينًا آخر.
تعدَّدت معاركه التي كانت لها جماهيرها من صِبية الشارع وسيدات الحارة اللواتي يتلهَّفن لحكاياتٍ يشْغَلن بها ثرثراتهن الصباحية عبر الشرفات.
في هذا اليوم كانت المعركة أكبر، وأشعلتها الشائعات، وزادتها سخونةً، عندما تعثَّر به «عم بدوي»، صاحب أحد المحلات، فأطلق العنان لسبابه، ووصف قدومه بالشؤم.
وفي الليل، كان صراخ «عم بدوي» يستبيح السكون ساعاتٍ عدة، حتى سكت صوته تمامًا. احتار الأطباء في تشخيص مرضه، فقالوا إنه التهابٌ حادٌّ بالحنجرة، ثم استدركوا: بل في الأحبال الصوتية.
وحينما رفض الألم الخضوع لتوسُّلات المضادَّات الحيوية، الْتَمس الأمل في الأعشاب الطبية؛ وهو ما أسعد عطَّاري المنطقة الذين تفنَّنوا في إبداع الخلطات والوصفات، لكن ذلك لم يُجدِ في نهاية الأمر.
وفي صلاة جمعة، تحدَّث إمام المسجد عن عقوبة الظالمين، وردَّد المثل الشعبي: «يا بخت من بات مظلومًا، ولم يبت ظالمًا.» وحذَّر المُصلين من أن «دعوة المظلوم لا حجاب بينها وبين الخالق».
يومها، وفي فترة العصاري، حين يحلو لعم بدوي، بعد تناول الغداء، الاستلقاء على سريره وتناول شايه الذي استبدل به منذ مرضه كوبًا من الأعشاب التي جلبتها زوجته من أسوان، فاتَحته امرأته بما في نفسها من شكوك.
على استحياء، لمَّحت له بأن مرضه ربما يكون تكفيرًا عن ذنب، أو إشارةً ربانية. وحينما استجابت نظراته لشكوكها، ذكَّرته صراحةً بمعركته مع الرجل المجذوب، ورده على سبابه الذي لم يتجاوز الهمهمات التي كانت، حسب تفسيرها، دعوةً في ساعة «مُفترجة»، ثم طلبت منه بصراحةٍ تطييبَ خاطر المجذوب.
أمام إلحاح المرض وحديث أم العيال، و«وقْف الحال» الذي أصاب البيت، خضع «عم بدوي»، وعند أول بشارة لقدوم المجذوب فُوجئ أهالي الحارة بلقاءٍ حارٍّ، وأحضان وقُبلات، ثم دعوة الرجل «البرَكة» إلى الغداء.
لم يُتم عم بدوي ليلته الثالثة على الصُّلح إلا وقد تعافى صوته، وعادت إليه شخطته التي كادت ترجُّ البيت والدكان، وأطلقت زوجته زغاريد في وضح النهار، وكأنها أرادت بها محو صراخ الليل وألمه.
أغلظ «عم بدوي» الأيْمان ببرَكة «شيخنا المبروك»، وذبح شاة على حسِّ «برَكته».
ومن حينها تبدَّلت الحال؛ ففي ساعة مرور الرجل «المبروك» يترجَّل الرجال، ويتوقَّف البيع والشراء، وتُتابع النساء من شرفاتهن الموكب المبروك.
بعد أسابيع، دعا «عم بدوي» كبار الحارة إلى اجتماعٍ عاجل في دكانه بعد صلاة العشاء التي أصبح مُواظبًا عليها، بل وأجبر صِبيته على إغلاق دكانه لحين إقامتها.
افتتح «بدوي» حديثه بمقدمةٍ طويلة عن عمل الخير، ووجوب الثبات عليه، وأهمية إدخال البرَكة للحارة ولأهلها جميعًا، ثم أطلق اقتراحه باستضافة «المبروك» بشكلٍ دائم، وأن يُقام له مجلس في أحد أركان الحارة.
في البداية تَلعثم الحضور، واعتبروا ارتباطه بالرجل «المبروك» مبالَغًا، لكن «عم بدوي» أسكتهم بتذكيرهم بمرضه ثم شفائه، بعد حيرة الأطباء، بعد الصلح على مسمعٍ ومَرأى من الجميع، مُختتمًا حديثه بتحذير من ويلات رفضهم.
كانت موافَقةً بدت في أول الأمر على استحياء، ثم تحوَّلت إلى حماسة تجلَّت في اجتماعاتٍ تالية للحديث عن المكان المناسب، وتأثيثه، وتوزيع المهمَّات في دورياتٍ استمرَّت ليلًا ونهارًا.
الوحيد الذي سخِر من مجهوداتهم كان «كبير عائلة المُتعلمين»، «الأستاذ مصلح»، الموظف المُحال على المعاش، الذي حصل على لقبه لأنه الوحيد الذي حرص على تعليم أبنائه الثلاثة حتى وصلوا إلى الجامعة، وتخرَّج الكبير فيها.
لم يقتنع «الأستاذ مصلح» بحُجَجهم وحماستهم، فاحتجب عن اجتماعاتهم، ونفر من تصديق كرامات «المبروك»، فانزوى في ركنه المعروف من المقهى، وانفضَّ الجمعُ من حوله، وتحوَّلت علاقته بأهل الحارة إلى مشاحَناتٍ مكبوتة، يُثيرها أصحاب المحلات، حين مروره، بتعمُّد الدعاء للمبروك بصوتٍ مرتفع.
أثناء جلوسه بالمقهى ذات صباح، وبعدما استقرَّ مُقام «المبروك»، تجرَّأ «مصلح» وقرأ خبرًا من جريدته عن القبض على نصَّابٍ مُشعوذ. استحال الخبر مشاحَنةً كبيرة، وبما أن «الأستاذ مصلح» «صاحب ملك» في الحارة، فقد انتهى الأمر بقرارٍ جماعي من أهل الحارة بطرد بائع الجرائد الذي اعتبروه مُشاركًا في إشعال «الفتنة» بالحارة، وحُظِر بيع الصحف نهائيًّا.
تبدَّلت حال الحارة؛ بدءًا من اسمها الذي حمل من «البرَكة» نصيبًا. ولم يكن «المبروك» يردُّ سائلًا، ولكن إجاباته كانت دائمًا همهمات وأشباه كلمات، يفسِّرها كلٌّ حسب فقهه الخاص، فصارت الحارة مَبكًى للتائهين الباحثين عن خلاص من مأساتهم، ورشد لتِيههم.
لم يعد للحارة شاغلٌ سوى «المبروك» وكراماته التي لا نعلم يقينًا صِدقها من كذبها، وصارت حكاياته حاضرةً في السهرات، مِثل فك نحس ابنة «أم محمود»، ذات الخمسة والعشرين ربيعًا، التي توسَّلت إلى «المبروك» أن يمرَّ بعتبة بيتها، لعل «ابن الحلال» يأتي ويطرُق بابها، وهو ما حصل بعد أيام. تلك البرَكة جرَّأت صبيَّ المقهى المُشاغب على اقتراح أن يرشَّ من ماء استحمام المبروك على عتبات أبواب الحارة للتبرك، وهو ما نفَّذه الجميع.
تحوَّلت الحارة إلى بياضٍ تام، بلون الجلابيب التي اتَّسع نطاق مُرتديها، حتى حجب الرؤية. بياض لم يعُد يحتمله «الأستاذ مصلح» وأسرته، وهو الذي اعتاد اختلاف الألوان والأشكال، فحزم أمتعته، بينما تظاهر رجال الحارة ونساؤها بأنهم لم يلحظوه، فرحل دون سلام أو وداع، ومع آخر شعاع لمصابيح سيارة الأجرة التي ركبها، تنهَّد الجميع وردَّدوا: «استراح وأراح.»
صارت الحارة وكأنها تدور في حلقة دروشة لا تنتهي إلا بدُوار وشعور بالغثيان. كم استمر الأمر؟ وكم بقي «المبروك» بينهم؟ لا نعلم. الحكايات تؤكد وجوده سنواتٍ طِوالًا، حتى جاءه يومًا بعض المُتوسمين حلولًا لخيباتهم، وحينما همُّوا بالدخول وجدوه جالسًا مُتقوسًا، حاملًا رأسه بين ركبتيه، فبقوا على بسطته ساعاتٍ طوالًا. وحينما قلقوا لاستمراره على وضعه، اقترحوا اقتحام خلوته.
وبعد مداولات على من يتولَّى إيقاظه، تطوَّع صبيُّ المقهى بهزِّه، فسقط على الفور بين قدميه. خرج الصبي لاهثًا ينعيه لقومه، فركبهم الغم والحزن. وحينما أفاقوا على حقيقة الخبر انشغلوا ثانيةً بدفنه، وتساءلوا: هل يُغسِّلونه أم يدفنونه على حاله؟ وكيف يخلعون ثيابه ويكشفون عورته؟ وهل هم أهل لذلك؟ ثم دثَّروه بعباءته، وأهالوا عليه التراب حينما بدأت رائحة الموت تخيِّم على المكان.
عاشوا حِدادًا طويلًا، لم يُفارقوا فيه عتبته، ظلُّوا يردِّدون حكاياته وكراماته؛ ربما خشيةَ النسيان، أو فقدان ما كان يُميزهم. وبعد تفكير، وحينما فشلوا في استيعاب فراقه، أقاموا عند قبره مقامًا ظلَّ الناس يحجُّون إليه، وتطوَّع صبي المقهى بحراسته.
وبعد أسابيع، استيقظت الحارة على صوتٍ جَهوري يُشبِه صوت «المبروك»، وحديث يُشبِه كلماته المُتقاطعة. ظنُّوا، وهم يتخبَّطون في الظلام في طريقهم إلى مقامه، أن معجزةً أخرى انشقَّ عنها قبر «المبروك». دخلوا، فلاحظوه في عباءته يدور في حلقاتٍ مُتتالية، ووجهه للسماء يُطلِق همهماته، وحينما بدأت عيونهم تستبين الوجه، رأوا صبي المقهى الذي أخبرهم أن «مسًّا» من المبروك قد جاءه ومنحه عباءته وبرَكته. ورغم المفاجأة، انفرجت أسارير الرجال لعودة «المبروك» إلى حارتهم.