رمادي
المشهد لا يختلف كثيرًا في مجمَله، الجالسون على المقاهي لا يزالون في مقاعدهم يُلقون بالنرد، ويستنشقون أحجار النرجيلة، والنساء في شرفاتهن يُتابعن حدث التنظيف اليومي، وشراء خضرواتهن من البائعين الجوَّالين، ولكن كل ذلك يتم الآن بتواطؤٍ خفيٍّ من الصمت، لا ثرثرة أو ضحكات، ولا حتى سخرية أو جدال أو مشاحنات مُتناثرة.
متى أصبح للصمت كل تلك السطوة، فصار كأذرع الأخطبوط، يمتدُّ ليحتل النفوس، فيصبغها بلونٍ رمادي يُشبِه الموت في حِياده؟
ربما بدأ ذلك منذ اختفاء بعض الثرثارين. ذهب الأول، فاعتقد البعض بسفره، أو رحيله المُفاجئ دون وداع. ورغم تصريحات الارتياح لانخفاض حدة الصخب، فحينما تعدَّدت حالات الاختفاء ملأت التساؤلات الأذهان، ولكنها لم تجرؤ على تخطِّي حدود الأدمغة، ثم أصبح للخوف سلطةٌ عُليا، فتوارَت النظرات المُشتبه بها، وزحف الصمت الثقيل بخوائه حتى امتلك الجميع.
صارت تعبيرات الوجه جريمةً، فالتزم الجميع حيادهم التام، وارتدَت الوجوه أقنعةً ثلجية. خلَت الأرصفة من مجالسها الليلية وصخبها النهاري، وخشيت الأمهات على أطفالهن من العقوبات، فبدأن بفرض أطواق حول أعناقهم لمنع عبثهم. وحينما لم يلتزموا بشعائر الصمت، أقَمْن على أفواههم سياجًا.
ضُبِطت امرأة بتهمة الضحك علنًا، فعُوقبت بارتداء وشاح بلاستيكي لشهورٍ عدة. وحينما ضاق البعض وحاوَلوا الهرب، عُوقبوا بالحبس داخل جحور؛ ليتأكَّدوا أن الحياة الرمادية أوسع مما كانوا يتخيَّلون، وقُيِّدت عقولهم بأصفاد؛ لردعهم عن معاوَدة التفكير في الهرب.
تواطأت الطبيعة مع الحكم الرمادي، فتوقَّف تعاقُب الفصول. لم يعُد هناك حرٌّ أو بُرودة، أو رطوبة أو ربيع. خضعت الطبيعة وقدَّمت ولاءاتها للرمادي، وانتشر السعال وأصبح كالزفير والشهيق. سكن الكسل الأجساد، والتزم الجميع الجمود.
في السابق، أدمن الجميع كتابة التقارير. وحينما زادت وطأة الصمت، لم تعُد هناك أسرارٌ تُستباح، فقلَّت التقارير، حتى اختفت ولم يعُد لها معنًى.
لم يعُد هناك أشباح لعلاقاتٍ إنسانيةٍ عاطفية أو حتى حسيَّة، هُجرت بيوت المُتعة، واشتكت النساء، وزمَّمن أفواههن اعتراضًا على فتور رجالهن، حتى لبِسَهن اليأس، فخلعن لباس أنوثتهن، واختفت ألوانهن الزاهية من فوق أحبال غسيلهن.
وفي يوم، استيقظت المدينة على صخبٍ جديد؛ أبواق، ومنشورات توزَّع وتُلصَق على الجدران تؤكِّد إمكانية التغيير. لم يصدِّق أحدٌ تلك الشعارات، واعتبروها اختبارًا للوفاء، فالتزموا الصمت، وقدَّم الكثير قرابين طاعتهم، فطلَوا المنازل بالرمادي، فضاقت المسافات وتآكلت مساحات الفراغ.