صندوق لا يتسع للأحلام
تمتدُّ اليدان النحيفتان، تتهامسان عبر السورَين المتباعدين، لحدِّ العناق حتى ينتبها للحظة الفراق على صوت أمهما تدعوهما إلى الذهاب.
هو يُطلِق رُوحه تُسابقه على الدَّرج في هبوطه، لم تُزعجه كسوره المُتعددة، أو روائح الرطوبة ودورات المياه وعفن المخلَّفات، ولم يُشاكس تلك القطة مع صغارها كعادته، بل كان كريمًا معها، فانسحب على أطراف أصابع قدميه، مانحًا لها نصف وجبته المدرسية.
يحمل عنها حقيبتها المُهترئة، ورغم ثقل الحقيبتين يُحاول ألا يحني ظهره أمامها. يعقدان كفَّيهما ويحملان بينهما قلبَيهما. قبل خطوات من مدرستها يودِّعها، ثم يمنحها نصف وجبته الآخر. تتعانق الأنامل الصغيرة لتَبْني أحلامًا ليست بذات شروخ كبُيوت الحارة الكبيرة.
في طريق العودة، يعرفان مقصدهما جيدًا، على جانب الطريق؛ حيث يقف هو بسحنته الطيبة، يحثُّ التلاميذ على سماع حكاياته، يبتسم للعشاق الصغار، مُتعجلًا لهم بنهايةٍ وردية كنهايات قصصه.
الجسدان النحيفان يلتصقان، ويسألهما الرجل المُسِن ماذا يُحبان أن يُشاهدا. تُجيب لأعين قبل الألسنة، كالعادة: «الشاطر حسن وست الحسن.»
تُطل الأميرة بجدائلها الذهبية، تُراقبها وهي تتبختر في زهوها وسط خُدَّامها. الأميرة ما زالت حزينة، والملك يُطلِق مُنادِيَه في المدينة يبحث عمن يُفلِح في إضحاك ابنته، أو تطبيبها، بحسب رغبة الراوي، وفي كل مرة تُساعد العرَّابة الطيبة الشاطر الفقير، فيهنأ بالأميرة وبحسنها وبمملكتها.
لم يسأما من تَكرار القصة رغم حفظهما لأحداثها، ورغم ازدياد خشونة صوت الراوي؛ بسبب كهولته، وسُعاله المُتعدد لمُكوثه الطويل بالطرقات، وانحناءة ظهره، وذاكرته التي أسقطت تفاصيل عدة.
تطوِّق يداه كفَّها بلا كلام، يتمنَّى أميرته، فتتعثَّر قدماه في أوحال الحارة وضِيقها، كما تتعثَّر أحلامه وأفكاره.
يكبر الحبيبان، ويصبح للشاطر صندوقٌ آخر مثبَّت على عربة «نصف نقل»، زيَّنها بإطارين: أحدهما لشهادته الجامعية، والآخر لصورته مُحتفيًا باستلام مشروعه الخاص من رئيس الحي.
صندوقه، أيضًا، مُمتلئ بالحكايات، مثل يوميَّاته مع شرطة البلدية، وإنكار رجالاتها أوراقه الثبوتية إلا حينما يُضيف إليها ورقةً بنكيةً من فئة العشرين؛ وفصاله مع زبائنه الذي لا ينتهي، مهما كانت العلامة التِّجارية لسياراتهم؛ وسطوة «فُتوَّات» العصر الحديث، وإتاواتهم التي لا تنتهي، سواء أكان حصاده اليومي يقبَل القسمة على مسئولياته وعليهم أم لا.
في نهاية يومه ينتظر أميرته. تأتيه وهي تجرُّ قدمَيها، وقد تنازلت عن دور «ست الحسن»، واكتفت ﺑ «سندريلا»، بعدما خدعتها عرَّابتها، ولم تعُد تعويذاتها السحرية تصلح لتعديل هِندامها أو تأديةِ مهامِّها اليومية عنها. تأتيه بعد انتهاء جولتها على المنازل، بعد تلطُّمها في صناديق مُتعددة؛ بدءًا من أتوبيسات النقل العام، وانتهاءً بصندوقٍ خشبي قابع فوق سطح المنزل، يُقال عنه بيتها.
تبتلعهما الحارة بضِيقها وتلصُّص الجدران والعيون، وعبر سورَيهما نصف المُتهدمين يُتابعان سراب أحلامهما، وأنفاسهما المُتقطعة، وزحف الشَّيب إلى روحيهما. لم تعُد الدنيا باتساع صندوق الحكايات، ولم يعُد هو «الشاطر حسن»، ولم تعُد هي «ست الحسن».
تختفي أميرته أيامًا، فيسأل عن السر. يعرف من أمها التي واسَته أنه لم يعُد في العمر سنوات لتُهدَر. يُتابعها في حُليِّها وفُستانها المنفوش تُزَفُّ لأميرٍ آخر، ربما لم يكن هو بالنهاية سوى قضمة التفَّاحة السامَّة التي أصابت الأميرة بغيبوبةٍ طويلة حتى أيقظها الأمير المختار.
يعلم حينها أنه لم يكن محظوظًا ﮐ «الشاطر حسن»؛ فالأميرة ما عادت يكفيها دعابة لإضحاكها، ولم يعُد هناك عرَّابة لتنصحه بمكان دوائها، وأن والدها بنى أسوارًا حول مملكتها لمنع اختلاطها بالعامة.
بعد ليالٍ من غلق صندوقه، تابَعه المارَّة وهو يوزِّع بضائعه على المُتسولين، ويحمل على ظهره صندوقًا آخر، وسط دهشة المُتطفلين واتهامات بالجنون. وبالقرب من بوَّابة المدرسة القديمة جلس، ونادى على العشاق الصغار: «صندوق الدنيا»؛ «الشاطر حسن وست الحسن»؛ «علاء الدين والمصباح السحري»؛ «سندريلا»؛ «الأميرة النائمة».