«سندريلا» تهرب
أكره ليالي الصيف؛ فرُطوبتها تعيث في زينتي إفسادًا. أتذكَّر «أيْمان» البائعة وهي تُخبرني بثبات المساحيق، وها هي تذوب كذوبان الثلج، فألعنها ألف مرة.
أفتِّش في حقيبتي عن مرآتي لأسوي زينتي كل بضع دقائق، محاوِلةً إخفاء زكامي بمزيد من الألوان، وأُزيل بمنديلي الورقي عُدوان الشارع على حذائي.
أتعبني الوقوف أكثر من ساعتين، وهذا اللعين المشدود في وقفته على الرصيف المقابل تذكِّرني نظراته بزحف شيخوختي.
أعقد يديَّ أمام صدري مرةً، ومراتٍ خلف ظهري حين أملُّ، وأستمر في السير ذهابًا وإيابًا أمام زبائن هذا الفندق المُتهالك كسِنِي عمري.
على الجهة الأخرى من الطريق، تختال تلك الشابَّة ممشوقةَ القوام، تتبختر في خطواتها برأسها المرفوع زهوًا. تُغْريني نظراتها المُتعالية وتلك المساحيق التي أبرزت مفاتنها بإلقاء حجر فوق رأسها المرتَّب بعناية، فترتطم رغباتي بنظرات رجلنا ببزَّته الكالحة اللون كزِينتي الرخيصة الثمن.
يُلحُّ عليَّ ألمُ هذا الكعب العالي، فألعن وقفتي، وأتمنَّى أن أكون «سندريلا»؛ فأرمي بحذائي العالي وبزِينتي في وجه أمرائي، وأهرب منهم أجمعين قبل حلول منتصف الليل، وأعود، عن طِيب خاطر، خادمةً في منزل أبي، وأدعو لزوجته آلاف المرَّات.
من بعيد، تخترق أوهامي أبواق سيارة صاخبة، ومصابيحها المُتلألئة تدمي عينيَّ. أعرف بخبرتي زبائن السيارات وسقف كفايتهم المرتفع عن إمكاناتي، وبالفعل صدَقت توقُّعاتي حينما مرَّت دقائق تحادَثت فيها الفتاة ورجلها مع أصحاب السيارة، ثم رحلت بهم.
يشقُّني الملل ويهصرني. أشغل عقلي بمُداعبة جامع القُمامة الذي يرميني بنظراته الفضولية، فأُرسل إليه فيضًا من الغمزات الجانبية، فيرتاب من تجاوبي ويُسرع الخُطى مُبتعدًا.
تمرُّ دراجةٌ بخارية، يُطلِق ركابها صفاراتهم المُشاكسة كمُراهقتهم، ونظرات رجلنا تكبِّل رغباتي؛ فالتعليمات تأمرنا بعدم الانصياع لمُداعبات المُراهقين؛ فكلها ضرر ومَضيعة للوقت.
تُداعبني كلماتهم الساخرة، أشعر بها أكثر صدقًا، ترمي عني ثقل الزينة والرطوبة. يُحاولون إغرائي بما يملكون؛ كلمة، وسيجارة رخيصة السعر؛ فيأمرني رجلي بالرفض بحركةٍ عنيفة من رأسه، وحينما ييئسون، يتحلَّقون على جانب الطريق، ويُطلِقون العِنان لنكاتهم وضحكاتهم المجلجِلة.
ألمح آخَر يأتي على بعد أمتار، يتلفَّت يمينًا ويسارًا، وحينما لا يجد غيري تمتعض ملامحه، وحينما يهمُّ بالرحيل يُسارع إليه رجلي، يُفاوضه ويتودَّد له، ويطنُّ في أذنه، ويُرسل إليَّ نظراتٍ تستحثُّني على استعراض إمكاناتي. وحينما أهمُّ بالتبختر، تستوقفني تلك الضحكات المُتناثرة على جانب الطريق، طليقة وحرة، تذكِّرني بضحكتي المسحولة كذبًا وادعاءً. أراهما يحثَّان السير تجاهي، فأخلع هذا الكعب العالي وأسرع إلى الدرَّاجة البخارية التي لا تلبث أن تطير بي. ننطلق تحت نظرات الرجلين اللاعنة، وأستنشق بسعادةٍ أول نسمة في هذه الليلة الرطبة، رغم يقيني من عقابي المنتظَر.