مدينة في حراسة موكب الملائكة
فتحت عينيَّ في هزال. تحسَّست سريري فلم أجِدكِ بجانبي كعادتكِ، سألتهم عنكِ، فأنكروا معرفتك، حاولت وصفكِ، فاعتقدوا أنني أهذي من أثر المخدِّر.
لأول مرة نفترق، منذ لقائنا الأول بمباركة جدتي. أتذكَّر سعادتي وجذلي بحديثها عن أوجه التشابه بيننا: العينان السوداوان المتَّسِعتان، والمنفتحتان دائمًا على نظرة الاندهاش؛ أطرافنا التي تشبه البراعم؛ خطواتنا الأولى المُتعثرة؛ وألاعيبنا المبعثَرة؛ وصرخات أمي المُتتابعة حينما تتعثر خطواتها بنا ونحن نختلس أدواتها المطبخية.
أعمارٌ تتابع في جلساتنا؛ حينما أدَّعي أمومتي لكِ أنثر ضفائركِ ثم أجدلها، وحينما تنفلت شعوركِ من بين أناملي الصغيرة أستدعي مساعدة جدتي. أضع لك مساحيق تجميلية بألواني الحبرية، حتى تَبْدي كمهرِّج السيرك، ثم أمنحكِ محاضرة كمحاضرات أمي عن النظافة وأهميتها، وأختمها بجولة تنظيف بالماء والصابون.
أتذكَّر عندما بدأتْ تلك الأصوات في الانطلاق، كنَّا نلعب الغميضة؛ لعبتكِ المفضَّلة. كنتِ تُجيدين الاختباء وراء الستائر؛ تحت الأسرَّة؛ خلف الأبواب. حينها، كرَّرت النداءات، والتزمتِ أنت الصمت، فظننت أنها إحدى ألاعيبك. بحثت عنكِ حتى وجدتكِ تُخفين وجهكِ بين الملاءات، ورائحة الخوف تنبعث منكِ. احتضنتكِ وأخبرتكِ أنها مجرد «ألاعيب نارية». ضممت يديكِ، وإلى شرفتنا تسلَّلنا، جلسنا في حضرة روح جدتي، تداعَبنا بلعبتها المفضَّلة.
كعادتنا، نُتابع الأدخنة المُنطلقة كزفيرٍ ينطلق من عشرات الأفواه، اجتمعت في مدينتنا، تبثُّ أخيلتنا الروح في الدخان المُتصاعد. علَّمتنا جدتي ألَّا نخاف منها، قائلةً إنها ترى فيها موكبًا من الملائكة يحرس مدينتنا. ونتبادل الأدوار تباعًا. مرةً رأيتُ وجه أمي تُرسل إليَّ قُبلة بحجم السماء، ومرةً رأيتِ أنتِ محلًّا للعب، ورفيقات تُشبِه الأميرات في زينتهن على الأرفف، ورأتْ جدتي العذراءَ تدثِّر وليدها بتعويذاتها المباركة. يومها وجدتُ ملامح جدتي مُستنسخةً عشرات المرات على وجوه ملائكتها.
تضيق الغرفة بزُوَّارها، يتفوَّهون بكلمات عن الحرب والدمار، ويستنطقون مشاهد خرِبة وبيوتًا مُتهدمة وعوائل سقطت. أُخفي وجهي بين كفَّيَّ لأبتعد عن عدسات آلات التصوير. لا أُحب أضواءها، تذكِّرني بانتفاضاتك حينما كنت تسمعين أصوات زخَّات الطلقات المُتتابعة ليلًا. ثم إني أتساءل: هل يمكنك التعرف إلى صورتي عند نشرها بالصحف؟
حضر الزوار بدُماهم، وملئوا بها المكان. ظنُّوا أنهم يعوِّضونني عنكِ، ولكنها لم تكن بملامحك التي تسكنها روح جدتي. وحينما عاث في أجسادها الخراب، وبُعثرت أطرافها، فتَّشوا في جسدي عن آثار الهذيان، ظانِّين أنها خيالاتٌ صِبيانية من أثر الصدمة. أسخر منهم وأتساءل: ألا يرَون أنني فقدت بغيابك أطرافًا أخرى وخيالات لا حدود لها؟ وتتبعثر الأسئلة برأسي: تُرى، هل ما زالت مدينتي تحرسها الملائكة؟ وهل ما زالت تحتفظ بوجه جدتي؟