ذاكرة نظيفة
المكان ضيِّقٌ بعض الشيء، ولكنه لا يُزعجني. يُضايقني، فقط، هذا الطنين الذي يُشبِه وقْعُه مِبرد طبيب الأسنان. أنشغل بهذا الضوء الذي ينسدل خافتًا مُلتحفًا بألحانٍ باهتة، يدفعني لأرهف سمعي لأتبيَّنها.
تُعيد إليَّ الأصوات أحلامًا ضمُرت، وصورًا باهتة يُعاد تلوينها. ينبت لي جناحان، فأتجوَّل حرةً بين سنواتي الماضية، أتلصَّص بين فصوص عقلي، فتُعيدني إلى ضفائري المجدولة، وبراءة الأعوام العشر.
يأتيني صوت فايزة أحمد «بالسلامة يا حبيبي بالسلامة، بالسلامة تروح وترجع بالسلامة»، وأم كلثوم وهي ترطِّب الصبح بصوتٍ ندي «يا صباح الخير ياللي معانا»، مُتداخلًا مع تلاوة محمد رفعت وقرآن السادسة صباحًا.
يبهت الصوت أمام روائح أمي المُتعددة، فتُخدرني رائحة اللبن الساخن الطازج، قبل أن يُستبدل به اللبن المبستر، وتأفُّف أخي اعتراضًا على هذا الطقس الصباحي، ثم تشجيني رائحة الكي وظهر أمي المُنحني أمام تلال ملابسنا. لم يمنعها الإنهاك من مُناجاة أبي في غربته على صدى صوت أم كلثوم «واحشني وأنت قصاد عيني، وشاغلني وأنت بعيد»، تُقطعه ولولتُها لفراقٍ أبدي لأحبائها على صوت عبد الباسط عبد الصمد، فأُحاول صم أذني بوسادتي لأمنع وصول التلاوة ونحيبها إليَّ.
أُحاول أن أُعيد ترتيب ذاكرتي؛ أن أحمل عصاي السحرية، كهذا الطبيب الذي يُمسِك بمِشرطه ويعبث برأسي. أتذكَّر ماجدة الرومي وهي تتوسل لطبيب حبيبها أن يرفق بالأسماء عندما يدخل قلبه، للأسف لم تُخبرنا؛ هل استمع الأطباء لنداءاتها أم فتنتهم أدواتهم الطبية المعقَّمة جيدًا، فأجادوا تنظيف قلبه من حكايتهما، كما يُجيدون تنظيف وجوههم من التعبيرات والعواطف؟
أنا سأكون أكثر دهاءً، سأكون مثل تلك المعتوهة التي رأيتها يومًا بأحد المسلسلات الأجنبية، تعرَّضَت لحادثٍ شوَّه وجهها، وحينما واتَتها الفرصة لإجراء عملية تجميل اختارت وجها خاليًا من العيوب، تخلَّت عن أنفها المُفلطَح، وجبينها العريض، وجعلت شفتَيها أكثر اكتنازًا كما فرضت آخر صرعات الموضة.
سأُمارس بعض ألعابي السحرية، كالتي مارَستها قديمًا مع جارتي التي تصغرني بأعوامٍ عدة، فجعلتها تصدِّق حكاياتي عن الجن ومحادثة الحيوانات، والقطة التي تصير عفريتًا في المساء. سأجعلهم يُزيحون سطورًا من ذاكرتي، ويُعيدون ترتيب صفحات أخرى، وسأجمع كل وسائل الإعلام وأعلن في «السوشيال ميديا» عن مؤتمرٍ صحافي مهم، سيحملون وهم راحلون رسمًا لمخي يضمُّ ذكريات على مقاس أحلامي وشغبي.
سأُوصيهم بحفظ لحظات سعادتي، ونقلها من فصه الأيمن إلى الأيسر؛ لعلَّه يكفُّ عن عطله، ولتبقى الروائح أطول مدة ممكنة عالقةً بين شعيرات أنفي.
سأتحمَّل في إصداري الجديد غضب أمي وخوفها، ولن أتمرَّد على تكرار نصائحها التي لا تنتهي، لكنني لن أسمح لمُعلمتي بالعبث في مخيِّلتي، ولن أكون رقيبةً على الفصل. سأمحو كل الأسماء التي كتبتها على السبورة، كأول فخ لي في كتابة التقارير، وسأُخبئ ألاعيبهن في رأسي لأعبث بها في أوقات فراغي التي ستلوِّن صفحاتٍ كاملةً بالأبيض.
سأكفُّ عن أسئلتي حول «علي بابا والأربعين حرامي» ومدى شرعية ما قام به، ولن أتضامن بعد اليوم مع الأميرة وانتظارها الطويل والبائس لأميرها، ولن ألتمس العذر للفأر جيري على قاعدة أنه الأضعف؛ فالدهاء لا يعرف وزنًا أو حجمًا.
لن أكون مهذَّبة جدًّا ومؤدَّبة جدًّا وهادئة جدًّا كما كانت مُعلماتي ووالدتي يفخرن بي، سأُعيد تعريف التهذيب وأنقل إلى قاموسه بعض الشغب.
سأتمرَّد على مناهجي الدراسية، ولن أشي بزميلاتي اللواتي اختلسن لحظات في الحمامات يحتسين ممنوعاتهن من أجل لذة رائقة، سأشاركهن تلك المرة في سبيل تدوين لحظات انتشائي، ثم ألصق لعناتها بإحدى بطلاتي، ثم أُعاقبها في نهاية القصة.
سأُعلن الأحكام العرفية على كل الصور الفوتوغرافية، سأضع خلفية صفحتي على «الفيس بوك» مجرد شجرة تُشبِه أشجار عيد الميلاد، وسأترك لعشاقي حرية تعليق أشيائهم الثمينة بين فروعي، وسأحتفظ بها دون فضِّها أو معرفة أسمائهم.
يقطع خُططي أزيزٌ حادٌّ، يعبث بشريط أفكاري، يقدِّم لحنًا ويؤخِّر آخر، ثم يعود فيمحوه بكبسةٍ واحدة بلا مُبالاة. الأزيز يزداد قوةً، وأنا أحاول التمسُّك بألحاني وروائحي، يزداد الصوت الذي يصكُّ أسناني، وينتفض شعر جسدي.
يطغى الطنين كممحاة تُفسِح للأبيض مساحةً شاسعة يتربَّع بها على عرش عقلي، حتى يبتعد اللحن سريعًا حاملًا معه كل الروائح القديمة، وتفشل خططي المشاغبة.
في مؤتمرهم الصحافي، يتباهى أطبائي بشفائي من ورمٍ مخي إضافةً إلى منحي ذاكرةً نظيفة، ومن بعيدٍ يرقُبني حبيب ماجدة الرومي حاملًا قلبًا جديدًا زرعوه خاليًا من الأسماء والأحباب.