واجهةٌ زجاجية
حينما سمعتُ صوته الجَهوري للمرة الأولى نافذًا بنبرته الحادَّة من نافذة شقتنا التي تقبع بالدور التاسع، أسكَن في قلبي فزعًا، أكَّدَته تلك الملامح الجادَّة، وأوامره الصارمة لأصحاب السيارات، غيرَ عابئ بعلاماتها التجارية الفاخرة أو بمناصب أصحابها.
تملَّكَت جسدي قشعريرةٌ كلما مررت بمقعده القريب من جراج مسكننا، جعلتني أتجنَّب التعامل معه، وترك مهمة الاحتكاك به للسائق الخاص.
زالت تلك الرجفة تدريجيًّا مع حكايات جارتنا التي أكَّدت طِيبته، وأن «عم رشاد»، الصعيدي الذي عرفه الحي وعايَشه سنواتٍ طوالًا كحَّلها بنشاطه، هو رمانة الميزان للشارع، بدونه سيختلُّ ناموسه، وسيُترَك نهبًا لرغبات ساكنيه بحسب مناصبهم وسطوتهم.
تسرد جارتنا، التي عاشت سنواتها العشر الأخيرة بهذا الشارع، أن «عم رشاد» يبدأ عمله منذ السادسة صباحًا صيفًا، وقبلها بقليلٍ خلال فترة المدارس، ينظِّف واجهات السيارات، وينظِّم دخولها وخروجها في شارعنا الذي ضاق بالسيارات المركونة على صفَّيه.
بإشارةٍ واحدة يمنع أو يسمح بمرور الحافلات المدرسية، ويرتِّب أولويات الدخول. يُعطي تنبيهاته للسكان ولسائقي الحافلات، ويحدِّد مدة الانتظار، وهو على المدخل الأمامي للشارع، بالتنسيق مع ابنه المنتظِر لأوامره على المدخل الآخر.
حكايات جارتي شجَّعتني على إلقاء التحية الصباحية عليه للمرة الأولى. استقبلها بابتسامةٍ عريضة، ثم ردَّها بمبادرة منه في اليوم التالي.
حينما ينتهي من مهمته الصباحية ينتظر على مقعده لا يبرحه، وعلى يمينه فوطته المبلَّلة؛ أداته التي لا تُفارقه. يُتابع ببصره هياكل السيارات ووجوهها الزجاجية. يختبر بنظرته المُواربة مدى إتقان عمله، فيسعد بنتيجةٍ برَّاقة.
علاقةٌ خفيَّة تربط «عم رشاد» بالسيارات، وخاصةً بواجهاتها الزجاجية. يراها أكثرَ نقاءً وشفافية من البشر، لا تستطيع أن تُخفي عيوبًا أو خدوشًا أو «نفاقًا». تذكِّره بنقاء صفحة النيل في قريته بالصعيد قبل نزوحه المديني، وبجلوسه طفلًا ومُراهقًا على ضفَّته يُتابع ملامحه، ويسرد له أسراره وأحلامه التي تُشبهه في بساطته.
كان «عم رشاد» كثير الشكوى من المُتسولين الذين يحملون القِطع القماشية بأنواعها كافةً، ويشرعون في تشويه واجهات السيارات، عوضًا عن تنظيفها، أثناء وقوفها الاضطراري في إشارات المرور وساعات الازدحام، فمنع دخولهم شارعنا.
كان ما بينه وبين البشر يُشبِه تلك الواجهة الزجاجية، فمن فوق كرسيه تابَع الوجوه وهي تتغير كما تتغير أبعادها بحسب قربها أو بعدها عن المرايا، كالمسئول الحكومي بوجهه المُنتفخ غرورًا من خلف نظارته الشمسية التي تُلازمه كملامح وجهه؛ والطالبة الجامعية المُمتعضة دائمًا لأتفه الأسباب، مثل حُفر الطين المتخلفة في يومٍ ماطر؛ وهذا الجار الذي تتضاءل ملامحه نفاقًا أثناء تحيَّته للمسئول وانحناءته المبالَغ فيها؛ وبعض الوجوه الأخرى التي لا تستحق سوى غلق الزجاج لمحو صورتها من الذاكرة.
لم يخضع يومًا لتلك الواجهات المزيَّفة، فتجاهل تحية أحد أبناء وزير سابق، حينما تحدَّث إليه بطرف عينه، وبإشاراتٍ مغرورة، فتُركت سيارته طويلًا تبحث عن مأوًى، حتى اضطرَّ إلى الاعتذار، وطلب توفير موقف لها وتنظيفها، بكلماتٍ مُلِحَّة أقربَ للرجاء.
كالزجاج الأصلي، صمد «عم رشاد» طويلًا أمام العواصف الحياتية وألاعيب البشر، وزحفت شيخوخته كما تزحف الخدوش على الواجهات بفعل الزمن. أُصيبت روحه بخيباتٍ عدة: ابنه البكر الذي قُبِض عليه لأنه رفض إهانة أحد الضباط، فحُوكم عسكريًّا بالسجن ثلاث سنوات؛ وزوجته التي مرضت، ثم ماتت وهي على قائمة انتظار العلاج؛ وابنه الأصغر الذي حصل على شهادةٍ متوسطة، وأضاع سنواتٍ طرقًا على أبواب العمل، حتى اضطرَّ للعمل معه أخيرًا.
استحالت الخدوش كسرًا في أحد النهارات، حينما كان يساعد في دفع سيارة معطَّلة، فسقط «عم رشاد»، وأُصيبَ بكسر في إحدى ساقَيه، واحتاج إلى دعامةٍ جديدة.
مكث «عم رشاد» في المستشفى العام، وأُجريت له العملية، ورغم بساطتها لم تظهر آثار التداوي، وأُضيفت إليه قرحة الفراش؛ نتيجةً لإهمالٍ عاث في جسده طيشًا. وببطء، وعلى مدى ٤٥ يومًا، امتدَّت آثار الكسر إلى روح «عم رشاد» وجسده، حتى صارت صدعًا هائلًا لا ينفعه لحامٌ أو دعامات.
كرسي «عم رشاد» أصبح اليوم خاليًا، وفوطته تُواسيه، تستلقي جافَّةً على طرف مسنده، فيما تنتظره السيارات التي أحالت شارعنا إشارة مرور معطَّلة، فيما أقف أنا خلف نافذتي أسترق السمع لعله يصلني صوته الحاد.