نداء إلكتروني
المكان يعجُّ بالبشر من كل الأطياف كلوحةِ فُسَيفساء، ويُنافس أكثر الأمكنة ارتفاعًا في معدَّل كثافتها السكانية. أتململ في جلستي مُمتعضًا، أهشُّ عني أفكاري الشريرة التي تُحاول تلطيف أجواء الاختناق التي لا تُناسب أجواء مارس الربيعية.
ككلِّ تلك الآلات التي تقتحمنا فتُحيلنا أجزاءً مُعطِبة بجانبها، صِرنا في تلك القاعة الصغيرة مجرد «عيون وآذان» ترضخ لهذا النداء الإلكتروني، وتتلفَّت بلهفة وغيرة لصاحب الرقم المحظوظ.
بمجرد دخول رقم إضافي للقاعة، وكطقسٍ نعتاده للتعارف ولقتل الوقت، نبدأ في تبادل النظرات، وكأنه يُحصي المُنتظرين. تلتقط عيناه الرقم الوامض على الشاشة الإلكترونية، فتأتيه «الضربة القاضية» ﻟ «فارق النقاط»، ثم يجرُّ قدميه لينضمَّ إلى كومة الأرقام على مقاعد الانتظار.
يرتفع معدَّل التأفُّفات، والاعتراضات المكتومة مع اتساع الهوَّة بين حجم الأرقام المُتململة، وحركة الأرقام المُضاءة البطيئة كسلحفاة. يُغْريني الوقت، فيُطلُّ هذا الفُضولي من رأسي، يحتكُّ بأسرار الهواتف النقَّالة المفتوحة على مصاريعها، ويقتات على ما يصله من أحاديث جانبية وثرثراتٍ أثيرية يقتل بها الجميع مللهم.
ترصد عيني الأحذية، وقامات أصحابها المُتباينة، ما بين الأحذية الرياضية ذات العلامات التِّجارية المشهورة، والأخرى «المضروبة» المقلَّدة، والجامعي بحذائه «البانص» مُتحررًا من جوربيه، حسب آخر نداءات الموضة، وذات الحذاء الأحمر الناري بكعبه الحاد كطباعها البادية في تأفُّفها وعبارات اعتراضها المُتكررة، وتلك المتخفِّفة من أحمالها فاكتفت بالصندل. أتذكَّر مقولةً قرأتها في مجلة للموضة: «الحذاء علامة لفك رموز الشخصية.»
أتعوَّذ من شيطاني، وأحاول تهدئته ببعثرة محتويات هاتفي النقَّال، فتقطع محاولاتي تلك الثرثارةُ بجانبي التي لم تفطن لأني غير معنيَّة بمشكلات مُديرها في العمل، وراتبه، وحوافزه التي ترويها هاتفيًّا، فيما يتحوَّل مقعدي تحت وطأة اهتزاز ساقَيها إلى أرجوحةٍ تُصيبني بدُوار.
يختال أحد الأرقام، يدخل مُتكئًا على استمارة إيداع، ومفاتيح فضية لسيارته الألمانية، تتعثر به تلك السيدة الريفية التي تُعاود النظر في ورقتها والرقم المُضاء على الشاشة. «باقي رقمين»؛ هكذا تُمنِّي نفسها بفرج الحال، فلا تنتبه لخَطْوه المُتباهي.
تعتذر بتمتمة، وتُعاود جرَّ طفلها الباكي، تُسِرُّ له بمكافأته بقطعة حلوى إذا ما كفَّ عن صراخه وهرجه.
بلهفة، تُحادث الموظف البنكي المتشبِّث بسطوته. يُخيِّب رجاءها بلا مُبالاة، ويُبلغها من خلف حاجزه الزجاجي أن حوالة زوجها المسافر لم تصِل. ورغم توسُّلاتها لمراجعة بياناته، يُخرسها النداء الإلكتروني بدعوة الرقم التالي. تتراجع وأطراف أصابعها تتحامل على الحاجز الزجاجي، وكأنها تشكو إليه حظها.
أسأم الوجوه، فأُداعب أصابعي حينًا، ويتراقص جسدي على وقع ألحان سماعتَي أذنيَّ حينًا آخر، وحينما أنتبه لفضول جاري المُسِن بلحيته الصغيرة ونظراته المستنكرة، أُطلِق بلا مُبالاةٍ سراحَ عينيَّ للحائط الرمادي الذي يُشبِه ملامح الموظفين الباردة.
ترتطم نظراتي بإعلاناتٍ مُتشددة لغسل المخ والجيوب، «كيف تسترد ٢٠٪ من مشترَياتك؟» الأمر يتوقف على مدى استنزافك. و«كن من الفائزين الستة أسبوعيًّا»، وشاشات أسعار العملات التي تذكِّرك بانهيارات دولتك العتيقة.
تتقلَّص هوَّة الأرقام تدريجيًّا، بعد هروب/نجاة عدد من العملاء. يزداد توتُّري وتملمُلي مع تتابع الدقَّات الإلكترونية الرتيبة المفتِّتة للأعصاب كانتظارها. فجأةً، يموت الصوت الإلكتروني، وتتوقف الرنَّات، وتُعتِم الشاشات، وبهدوءٍ يعلن الموظف انقطاع التيَّار الكهربائي في البنك.