نُصُب تذكاري
كنت الشاهدة الأُولى، نطفة في رحم الكون. عِشت مخاضًا طبيعيًّا طويلًا، دواماتٍ مُتتاليةً من الانشقاقات والالتحامات، فراقًا ثم لقاءً يُغْريني بديمومته، حتى يُفاجئني انفصالٌ يبدو لي حتميًّا هو أيضًا. ترتطم بك تساؤلاتٌ عدة: هل كنت ذرةً من جبل، أم قطرةً من أول أمطار عرفها الكون وارتوى بها؟
أُحاول أن أشحذ ذاكرتي البعيدة؛ حينما كان الجميع عَطْشى، وشهدت بداية الارتواء، نقطةً تِلو أخرى، زخاتٍ مُتتالية، حتى تكوَّن الطوفان الأكبر.
تمرُّ اللحظات كأَلْف سنةٍ مما تَعدُّون؛ حيث الكون ينكشف رُوَيدًا رُوَيدًا، يفرك عينيه الناعستين، لأكتشف أنا آخرين يُشبِهونني، ولا يكتفون. وبحركةٍ إعجازية، تجمَّعْنا، ولم يكن الأمر أكثرَ من مجرد كُن فيَكون.
حلَّ الاستقرار أخيرًا، فلم يعُد للزمن قيمة، غرورٌ يأخذني لمساحاتٍ مُتتالية من الأبيض. إحساس بالتفرد المحسود، ولكنه يُلبسك شعورًا غير منطوق بالوحدة؛ حيث تطاولك كل المواسم، ويصبح هدير الأمواج رفيقًا مُخلصًا.
لا حدود، حتى يأتيني الزائر الأول، كالعروس البكر، أبتسم خجلًا، فيفضَّ بكارتي بمَراسم بدائية، فأحمل أول الأسماء، عشقًا وولهًا، وأُعاهده وفاءً، ولكن يأتيني آخرون فلا تُحفَظ حُرمتي، ويكثر الآثمون.
زياراتٌ مُتتابعة تنطق بالضحكات والابتسامات البلهاء واختراق للوحدة يبدو، للوهلة الأولى، محبَّبًا، ثم ما يلبث أن يظهر وجهه الشرير، حينما يطول التدخل، وتُنتهَك الخصوصية بتشويهٍ متعمَّد للروح تحت مسمَّيات زائفة للعشق.
ويزداد الكون من حولي رثاءً، وتتوالى الأنفاس، ثم تتقطع وتختنق بفعل «الأسود»، ويزداد الاحتكاك، وتتآكل مساحات «الأبيض»، ويحتل «الأصفر» بغروره وصخبه، ثم تختلط الألوان بعنفوانها.
يرتفع المدى جنونًا، وجلبة تحتلُّك، وترتطم حوافُّك باليابس. وعلى المدى، تحتل الصورةَ الناقلاتُ العملاقة، وأطنان الأسمنت، وسبائك الحديد. يُستبدَل بهديرك صخبُ الرافعات، والشاحنات، وناطحات تأكل روحك، حتى تصبح بالنهاية مجرد «نصب تذكاري» على بطاقات المُعايدة.