في بيته
خلاصة رأي الإمام في المرأة أنها «شر كلها … وشر ما فيها أنه لا بد منها».
كان يرى لها فضائل خاصة تليق بها غير الفضائل التي تليق بالرجال وتحمد منه … «فخيار خصال النساء شرار خصال الرجال … الزهو، والجبن، والبخل … فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيء يعرض لها» …
لا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر — أي: الحجر — أو الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده …
وقد كانت ميوله نحو المرأة قوية، كما يظهر من غير حادث واحد … ومن ذاك صبية السبي التي استولى عليها وبنى بها لساعتها، وجعلها قسمة من الخمس قبل تقسيمه … فرأى بعض أصحابه في ذلك ما شكوه إلى النبي — عليه السلام — من أجله، وربما كان هذا سبب تحذيره منها في الغزوات خيفةً على الجيش من شواغلها، فكان يقول لسراياه وجيوشه إذا شيعها: «اعزبوا عن النساء ما استطعتم.» ويوصي في أمثال هذه المواطن باجتنابها …
إلا أنه كان يرى على ما يظهر أن امرأة تغني عن سائر النساء، فلم يعرف له هوى لامرأة خاصة من نسائه غير الهوى الذي اختص به السيدة فاطمة — رضي الله عنها — كرامةً لمنزلتها عنده ومنزلتها عند أبيها، وهو غير الهوى الذي تبعثه المرأة بمغريات جنسها.
كان جالسًا في أصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة، فرماها القوم بأبصارهم … فقال — رضي الله عنه: «إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هياجها … فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه قليلًا مس أهله، فإنما هي امرأة كامرأة.»
وعلى الجملة، يمكن أن يقال: إن آراء الإمام في المرأة هي خلاصة الحكمة القديمة كلها في شأن النساء …
فهن شر لا بد منه باتفاق آراء الأقدمين، سواء منهم حكماء الهند واليونان أو الحكماء الذين نظروا إلى المرأة بعين الدين من أبناء بني إسرائيل وآباء الكنيسة المسيحية وأئمة الإسلام.
لأنهم كانوا جميعًا يمزجونها بالشهوات التي تثيرها عامدة أو غير عامدة، ويلقون عليها تبعة الشرور التي تنجم عنها بمكيدتها أو على الرغم منها، ولم تتغير هذه النظرة بعض التغير إلا في الأزمنة الحديثة، التي نظرت في استقلال التبعات على أساس «الحرية الشخصية» … فحاسبت المرأة بما تجنيه، وأوشكت أن تبالغ في تبرئتها من جناياتها.
فمن السهو عن الحقيقة، أن تتخذ آراء الأقدمين في المرأة دليلًا على نصيبهم من الغبطة أو السكينة في حياتهم البيتية … لأننا خلقاء أن نحسبهم جميعًا من الأشقياء المعذبين في بيوتهم، وهو ما تأباه البداهة وتأباه أنباء التاريخ عن كثير من الأزواج والزوجات النابهات.
وليس من اللازم في حياة الإمام خاصةً، أن يستمد آراءه في المرأة من حياته البيتية … فقد كانت تجاربه في الحياة العامة مددًا لا ينفد لهذه الآراء التي شاعت بين الأقدمين، حتى أوشكت ألا تحتاج إلى تجربة مكررة، وشاءت المقادير أن تنقضي حياة الإمام عليٍّ وللمرأة يد في القضاء عليها، فكانت حياته الغالية مهرًا لقطام التي قال فيها ابن أبي مياس المرادي:
والذي يجزم به مؤرخ الإمام أن حياته البيتية خلت من شكاة لم يألفها الأزواج في زمانه، وأنها كانت على أحسن ما وصفت به الحياة الزوجية بين أمثاله …
عاش مع فاطمة — رضي الله عنها — لا يقرن بها زوجة أخرى … حتى ماتت بعد موت النبي — عليه السلام — بستة أشهر … وهي رعاية لها ورعاية لمقام أبيها لا شك فيها، فقد كان النبي — عليه السلام — كما جاء في الأثر يغار لبناته غيرة شديدة، وروي عنه أنه قال وهو على المنبر مرة: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد عليُّ بن أبي طالب أن يطلق ابنتي، وينكح ابنتهم … فإنها بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.»
وربما كان من وفائه لها غضبه لغضبها، فأحجم عن مبايعة أبي بكر إلى ما بعد وفاتها على بعض الروايات، وهجره كما هجرته مدة حياتها، وقد ولدت له أشهر أبنائه وبناته: الحسن والحسين، ومحسن وأم كلثوم، وزينب، وماتت ولم تبلغ الثلاثين.
وتزوج بعدها تسع نساء رزق منهن أبناء وبنات يختلف في عدهم المؤرخون، ويؤخذ من إحصائهم في «الرياض النضرة» للمحب الطبري أنه — رضي الله عنه — وافر الحظ من الذرية، بقي منهم بعده كثيرون.
وكان على ما يفهم من خلائقه — ومن سيرته وأخباره — أبًا سمحًا يستريح الأبناء إلى عطفه، ويجترئون على مساجلته الرأي في أخطر ما ينوبه من الأحداث الجسام.
لما توجه طلحة والزبير نحو العراق، ومعهما السيدة عائشة — رضي الله عنها — جاءه ابنه الحسن بعد صلاة الصبح فقال له: «قد أمرتك فعصيتني، فتقتل غدًا بمعصية لا ناصر لك فيها.» فسأله: «وما الذي أمرتني فعصيتك؟» قال: «أمرتك يوم أحيط بعثمان — رضي الله عنه — أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل كل مصر … فإنهم لن يقطعوا أمرًا دونك فأبيت … ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحا … فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في هذا كله …!»
فلم يأنف أن يساجله الرأي ليقنعه، وجعل يقول له: «أي بني! … أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير: فإن ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام … وأما قولك: اجلس في بيتك فكيف لي بما قد لزمني؟ … ومن تريدني؟ … أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب … ليست هنا حتى يحل عرقوباها ثم تخرج … وإذا لم أنظر فيما لزمني من الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ … فكف عنك أي بني.»
وهذه معاملة «أخوة» تستغرب في الأجيال الماضية، التي كانت للأبوة فيها على البنين سيادة تقرب من سيادة المولى على الرقيق، ولا ينقضها أنه لطم الحسن يومًا لأنه ظن به تقصيرًا في الدفاع عن عثمان … فتلك سورة الغضب في موقف من أندر المواقف التي لا يقاس عليها في سائر الأحوال …
وكان — رضي الله عنه — يزهيه أن يحيط به أبناؤه في محافل الروع، ومشاهد الزخرف … فيخرج إليها وهم حافون به عن يمينه وشماله، ومنهم من يحمل اللواء بين يديه، وذلك زهو الشجاع الفخور بأشباله الشجعان …
واشتهر بالعطف على صغارهم، كما اشتهر بمودة كبارهم … فكان أحب شيء إليه أن يداعبهم أو يرى من يداعبونهم، وكانت له طفلة ذكية ولدتها له زوجة من بني كلب يخرج بها إلى المسجد، ويسره أن يسألها أصحابه: من أخوالك؟ … فتجيب: «وه … وه» محاكاة لعواء الكلاب …
وكان يقول: «إن للوالد على الولد حقًّا، وإن للولد على الوالد حقًّا … فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله — سبحانه، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويعلمه القرآن» …
ومن إحسان التسمية، أنه همَّ بتسمية ابنه حربًا؛ لأنه يرشحه للجهاد وهو أشرف صناعاته، لولا أن رسول الله سماه الحسن، وهو أحسن … فجرى على هذا الاختيار في تسمية أخويه الحسين والمحسن، وأتم حق أبنائه في إحسان أسمائهم، فاختار لهم أسماء النبي وأسلافه من الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان.
أما معيشته في بيته بين زوجاته وأبنائه، فمعيشة الزهد والكفاف … وأوجز ما يقال فيها: إنه كان يتفق له أن يطحن لنفسه، وأن يأكل الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته، وأن يلبس الرداء الذي يرعد فيه، وإن أحدًا من رعاياه لم يمت عن نصيب أقل من النصيب الذي مات عنه وهو خليفة المسلمين … وكان الخليفة يوم كانت الخلافة تناقض ملك الدنيا … فكان بيته نقيض القصر الذي تعرض الدنيا المملوكة بين أركانه وزواياه …