سياسته
تسري في صفحات التاريخ أحكام مرتجلة يتلقفها فم من فم، ويتوارثها جيل عن جيل، ويتخذها السامعون قضية مسلَّمة، مفروغًا من بحثها والاستدلال عليها، وهي في الواقع لم تعرض قط على البحث والاستدلال، ولم تجاوز أن تكون شبهة وافقت ظواهر الأحوال، ثم صقلتها الألسنة فعز عليها بعد صقلها أن تردها إلى الهجر والإهمال …
كل أولئك من لغو الشعوب … وللشعوب بداهة تقصر دونها بداهة الغواصين من الأفراد، ولكنها إذا لغت فشوطها في اللغو أوسع من شوط الفرد بأمد بعيد …
من تلك الأحكام المرتجلة قولهم: إن علي بن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة!
وقد شاع هذا الرأي في عصر عليٍّ بين أصحابه، كما شاع بين أعدائه، وعزز القول به أنه خالف الدهاة من العرب فيما أشاروا به عليه، وأنه لم ينجح بعد هذه المخالفة في معظم مساعيه، فكان من الطبيعي أن يقال: إنه مني بالفشل؛ لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة، وأنه هو لم يكن من أصحاب الخدع الناجحة في الحرب أو السياسة …
وقد يكون كذلك أو لا يكون، فسنرى بعد البحث في آرائه وآراء المشيرين عليه أي هذين القولين أدنى إلى الصواب …
ولكن هل خطر لأحد من ناقديه — في عصره أو بعد عصره — أن يسأل نفسه: أكان في وسع عليٍّ أن يصنع غير ما صنع؟ …
وهل خطر لأحد منهم أن يسأل بعد ذلك: هبه استطاع أن يصنع غير ما صنع فما هي العاقبة؟ … وهل من المحقق أنه كان يفضي بصنيعه إلى عاقبة أسلم من العاقبة التي صار إليها؟ …
لم نعرف أحدًا من ناقديه، خطر له أن يسأل عن هذا أو ذاك … مع أن السؤال عن هذا وذاك هو السبيل الوحيد إلى تحقيق الصواب والخطأ في رأيه ورأي مخالفيه، سواء كانوا من الدهاة أو غير الدهاة …
والذي يبدو لنا نحن من تقدير العواقب على وجوهها المختلفة أن العمل بغير الرأي، الذي سيق إليه لم يكن مضمون النجاح ولا كان مأمون الخطر، بل ربما كان الأمل في نجاحه أضعف والخطر من اتِّبَاعه أعظم لو أنه وضع في موضع العمل والإنجاز، وخرج من حيز النصح والمشورة.
وهذه هي المسائل التي خالفه فيها الدهاة، أو خالفه فيها نقدة التاريخ الذين نظروا إليها من الشاطئ، ولم ينظروا إليها نظرة الربان في غمرة العواصف والأمواج …
•••
- (١)
عزل معاوية.
- (٢)
معاملة طلحة والزبير.
- (٣)
عزل قيس بن سعد من ولاية مصر.
- (٤)
تسليم قتلة عثمان.
- (٥)
قبول التحكيم.
- (٦)
قبول الخلافة.
وهي كلها على الأقل قابلة للخلاف والاحتجاج من كلا الطرفين … فإن لم يكن خلاف وكان جزم قاطع … فهو على ما نعتقد أقرب إلى رأي عليٍّ، وأبعد من آراء مخالفيه وناقديه …
قيل في مسألة معاوية: إن عليًّا — رضي الله عنه — خالف فيها رأي المغيرة وابن عباس وزياد بن حنظلة التميمي، وهم جميعًا من المشهورين بالحنكة وحسن التدبير …
جاءه المغيرة بن شعبة بعد مبايعته، فقال له: «إن لك حق الطاعة والنصيحة، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإن الضياع اليوم تضيع به ما في غد، أقرر معاوية على عمله، وأقرر العمال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت.»
فأبى وقال: «لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية في أمري.»
قال المغيرة: «فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع له ولك حجة في إثباته … إذ كان عمر قد ولاه الشام» …
فقال علي: «لا والله … لا أستعمل معاوية يومين.»
•••
ثم خرج المغيرة ودخل عليه ابن عباس فقال له، لما علم برأي المغيرة: «إنه نصحك» …
قال علي: «ولم نصحني؟»
قال: «لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق …»
ثم مضت الأيام، وشاع بين أهل المدينة أن معاوية منتقض على الإمام … فبعثوا بزياد بن حنظلة التميمي يعلم ما عنده من أمر هذا الانتقاض، وكان زياد من جلسائه.
فقال له الإمام: «تيسر.»
قال زياد: «لأي شيء؟»
قال: «تغزو الشام.»
فقال زياد: «الأناة والرفق أمثل، واستشهد بقول الشاعر:
فتمثل علي:
فخرج زياد إلى الناس وهم يسألونه: «ما وراءك؟» فأجابهم: «هو السيف يا قوم!»
•••
تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة، وذلك ما عمل به الإمام وارتضاه … فأيهما على خطأ وأيهما على صواب؟ …
سبيل العلم بذلك أن نعلم أولًا: هل كان الإمام مستطيعًا أن يقر معاوية في عمله بالشام؟ …
وأن نعلم بعد هذا: هل كان إقراره أدنى إلى السلامة والوفاق لو أنه استطيع؟ …
وعندنا أن الإمام لم يكن مستطيعًا أن يقر معاوية في عمله لسببين: أولهما أنه أشار على عثمان بعزله أكثر من مرة، وكان إقراره وإقرار أمثاله من الولاة المستغلين أهم المآخذ على حكومة عثمان في رأي عليٍّ، وذوي الصلاح والاستقامة بين الصحابة، وكثيرًا ما اعتذر عثمان من إقرار معاوية بأنه من ولاة عمر بن الخطاب … فكان عليٌّ لا يقبل هذا العذر ولا يزال يقول له: «إنه كان أخوف لعمر بن الخطاب من غلامه «يرفأ» … ولكنه بعد موت عمر لا يخاف.»
فإذا أقره وقد ولي الخلافة، فكيف يقع هذا الإقرار عند أشياعه؟ ألا يقولون: إنه طالب حكم لا يعنيه إذا وصل إلى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس؟
وإذا هو أعرض عن رأيه الأول، فهل في وسعه أن يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال، والخروج من حكم عثمان إلى حكم جديد؟ …
إن هؤلاء الثائرين أشفقوا من نية الصلح مع طلحة والزبير في وقعة الجمل، فبدءوا بالهجوم قبل أن يؤمروا به … بل هجموا على أهل البصرة وهم مأمورون بالهدنة والأناة، فكيف تراهم يهدءون ويطيعون إذا علموا أن الولايات باقية على حالها، وأن الاستغلال الذي شكوا منه وسخطوا عليه لا تبديل فيه؟ …
وندع هذا ونزعم أن إقرار معاوية بحيلة من الحيل مستطاع … فهل هو على هذا الزعم أسلم وأدنى إلى الوفاق؟
كلا … على الأرجح، بل على الرجحان الذي هو في حكم التحقيق … لأن معاوية لم يعمل في الشام عمل وال يظل واليًا طول حياته، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه، ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها، ويدعمها له ولأبنائه من بعده … فجمع الأقطاب من حوله، واشترى الأنصار بكل ثمن في يديه، وأحاط نفسه بالقوة والثروة، واستعد للبقاء الطويل، واغتنام الفرصة في حينها … فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بثأره؟
وإنما كان مقتل عثمان فرصة لا يضيعها، وإلا ضاع منه الملك وتعرض يومًا من الأيام لضياع الولاية، وما كان مثل معاوية بالذي يفوته الخطر من عزله بعد استقرار الأمور، ولو على احتمال بعيد … فماذا تراه صانعًا إذا هو عزل بعد عام من مبايعته لعليٍّ وتبرئته إياه من دم عثمان؟
إنما كان مقتل عثمان فرصة لغرض لا يقبل الإرجاء …
وإذا كان هذا موقف عليٍّ ومعاوية عند مقتل عثمان، فماذا كان عليٌّ مستفيدًا من إقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب أنصاره …
لقد كان معاوية أحرى أن يستفيد بهذا من علي؛ لأنه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية عمله في الولاية، وكان يغنم به أن يفسد الأمر على عليٍّ بين أنصاره، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة الإمام …
وأصدق ما يقال بعد عرض الموقف على هذا الوجه من ناحيتيه: أن صواب الإمام في مسألة معاوية كان أرجح من صواب مخالفيه … فإن لم نؤمن بهذا على التقدير والترجيح، فأقل ما يقال: إن الصواب عنده وعندهم سواء …
والتقدير في مسألة طلحة والزبير أيسر من التقدير في مسألة معاوية وولاية عثمان على الأمصار: لأن الرأي الذي عمل به الإمام معروف، والآراء التي تخالفه لا تعدو واحدًا من ثلاثة: كلها أغمض عاقبة، وأقل سلامة، وأضعف ضمانًا من رأيه الذي ارتضاه …
فالرأي الأول أن يوليهما العراق واليمن أو البصرة والكوفة، وكان عبد الله بن عباس على هذا الرأي، فأنكره الإمام؛ لأن «العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع ويضربان الضعيف بالبلاء، ويقويان على القوي بالسلطان …» ثم ينقلبان عليه أقوى مما كانا بغير ولاية، وقد استفادا من إقامة الإمام لهما في الولاية تزكية يلزمانه بها الحجة، ويثيران بها أنصاره عليه.
•••
والرأي الثاني أن يوقع بينهما ليفترقا ولا يتفقا على عمل، وهو لا ينجح في الوقيعة بينهما إلا بإعطاء أحدهما وحرمان الآخر … فمن أعطاه لا يضمن انقلابه مع الغرة السانحة، ومن حرمه لا يأمن أن يهرب إلى الأثرة كما هرب غيره، فيذهب إلى الشام ليساوم معاوية، أو يبقى في المدينة على ضغينة مستورة …
على أنهما لم يكونا قط متفقين حتى في مسيرهما من مكة إلى البصرة، فوقع الخلاف في عسكرهما على من يصلي بالناس، ولولا سعي السيدة عائشة بالتوفيق بين المختلفين لافترقا من الطريق خصمين متنافسين …
ولم تطل المحنة بهما متفقين أو مختلفين، فانهزما بعد أيام قليلة، وخرج الإمام من حربهما أقوى وأمنع مما كان قبل هذه الفتنة، ولو بقيا على السلم المدخول لما انتفع بهما بعض انتفاعه بهذه الهزيمة العاجلة، والرأي الثالث أن يعتقلهما أسيرين، ولا يبيح لهما الخروج من المدينة إلى مكة حين سألاه الإذن بالمسير إليها، ثم خرجا منها إلى البصرة ليشنا الغارة عليه …
والواقع أن الإمام قد استراب بما نوياه حين سألاه الإذن بالسفر إلى مكة … فقال لهما: «ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة!»
ولكنه لم يحبسهما؛ لأن حبسهما لن يغنيه عن حبس غيرهما من المشكوك فيهم، وقد تركه عبد الله بن عمر ولم يستأذنه في السفر، وتسلل إلى الشام أناس من مكة ومن المدينة، ولا عائق لهم أن يتسللوا حيث شاءوا، ولو أنه حبسهم جميعًا لما تسنى له ذلك بغير سلطان قاهر، وهو في ابتداء حكمه لما يظفر بشيء من ذلك السلطان، وأغلب الظن أن سواد الناس كانوا يعطفون عليهم، وينقمون حبسهم قبل أن تثبت له البينة بوزرهم، وما أكثر المتحرجين في عسكر الإمام من حبس الأبرياء بغير برهان؟ … لقد كان هؤلاء خلقاء أن ينصروهم عليه، وقد كانوا ينصرونه عليهم، وخير له مع طلحة والزبير وأمثالهما أن يعلنوا عصيانهم، فيغلبهم من أن يكتموه فيغلبوه ويشككوا بعض أنصاره في عدله وحسن مجاملته لهم.
•••
وعلى هذا كله، حاسنوه ولم يصارحوه بعداء … لم يكن الجيش الذي خرج من مكة إلى البصرة بيائس من الخروج إليها، إذا لم يصحبه طلحة والزبير، فقد كان «العثمانية» في مكة حزبًا موفور العدد والمال … فهي مسألة تلتبس فيها الطرائق، ولا يسعنا أن نجزم بطريقة منها أسلم ولا أضمن عاقبة من الطريقة التي سلكها الإمام، وخرج منها غالبًا على الحجاز والعراق، وما كان وشيكًا أن يغلب عليهما لو بقي معه طلحة والزبير على فرض من جميع الفروض التي قدمناها.
أما عزل قيس بن سعد من ولاية مصر، فهي غلطة من غلطات الإمام يقل الخلاف فيها …
لأن قيس بن سعد كان أقدر أصحابه على ولاية مصر وحمايتها، وكان كفؤًا لمعاوية وعمرو بن العاص في الدهاء والمداورة؛ فعزله الإمام لأنه شك فيه … وشك فيه لأن معاوية أشاع مدحه بين أهل الشام، وزعم أنه من حزبه والمؤتمرين في السر بأمره.
وكان أصحاب عليٍّ يحرضونه على عزله، وهو يستمهلهم ويراجع رأيه فيه حتى اجتمعت الشبهات لديه … فعزله وهو غير واثق من التهمة، ولكنه كذلك غير واثق من البراءة.
وشبهاته مع ذلك لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة، فإن قيس بن سعد لم يدخل مصر إلا بعد أن مر بجماعة من حزب معاوية، فأجازوه ولم يحاربوه وهو في سبعة نفر لا يحمونه من بطشهم، فحسبوه حين أجازوه من العثمانية الهاربين إلى مصر من دولة عليٍّ في الحجاز …
ولما بايع المصريون عليًّا على يديه، بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون، وقالوا له: «أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر.» فأمهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الإسكندرية.
•••
ثم أغراه معاوية بمناصرته والخروج على الإمام، فكتب إليه كلامًا لا إلى الرفض ولا إلى القبول، ويصح لمن سمع بهذا الكلام أن يحسبه مراوغًا لمعاوية، أو يحسبه مترقبًا لساعة الفصل بين الخصمين … إذ كان ختام كتابه إليه: «… أما متابعتك فانظر فيها، وليس هذا مما يسرع إليه وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه، حتى نرى وترى.»
ثم اشتد في وعيده حين أنذره معاوية فقال: «أما قولك أني مالئ عليك مصر خيلًا ورجلًا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك إنك لذو جد والسلام.»
وأراد الإمام أن يستيقن من الخصومة بين قيس ومعاوية، فأمر قيسًا أن يحارب المتخلفين عن البيعة … فلم يفعل وكتب إليه: «… متى قاتلنا ساعدوا عليك عدوك، وهم الآن معتزلون والرأي تركهم.»
فتعاظم شك الإمام وأصحابه، وكثر المشيرون عليه بعزل قيس واستقدامه إلى المدينة … فعزله واستقدمه، وتبين بعد ذلك أنه أشار بالرأي الصواب، وأن ترك المتخلفين عن البيعة في عزلتهم خير من التعجيل بحربهم؛ لأنهم هزموا محمد بن أبي بكر والي مصر الجديد، وجرءوا عليه من كان يصانعه ويواليه …
غلطة لا ريب فيها …
وإن كان جائزًا مع هذا ألا يهزموا قيسًا، لو كان حاربهم، كما هزموا خلفه الذي لا يعدله في الحزم والخبرة.
ولكننا نبالغ على كل حال، إذا علقنا بها الجرائر التي أصابت الإمام من بعدها، وزعمنا أنه تقاعد عن إصلاحها في حينها، كما تصلح الغلطات التي يساق إليها الساسة … فإنما هي غلطة من تلكم الغلطات التي تضير والحوادث مولية … وقلما تضير أو تعز على الإصلاح والحوادث مؤاتية، وقد عرف الإمام خطأه فقال لصحبه: «إن مصر لا يصلح لها إلا أحد رجلين هذا الذي عزلناه والأشتر.» وأنفذ الأشتر إلى مصر ليعيدها إلى طاعته فمات في الطريق.
•••
والأقوال في موت الأشتر هذه الميتة الباغتة كثيرة، منها أنه مات غيلةً وأن معاوية أغرى به من دس له السم في عسل … شربه وهو على حدود مصر فقضى نحبه، وروي أن معاوية قال حين بلغه موته: «إن لله جنودًا من العسل.»
فإن صحت الرواية، واعتقد من اعتقد أنها من دلائل السياسة القوية عند معاوية … فمما لا شك فيه أن موت الأشتر لم يكن من دلائل السياسة الضعيفة عند الإمام، وأنه لا لوم على سياسته في اغتياله، إن كان فيه سبب ثناء على سياسة الغيلة عند من يحمدونها.
ومن عجائب هذه القصة أن معاوية ندم على تقريب قيس من جوار عليٍّ، وقال: «لو أمددته بمائة ألف كانوا أهون عليَّ من قيس.» لأنه قد ينفعه وهو قريب منه بالمشورة عليه في عامة أموره، ولا ينحصر نفعه له في سياسة مصر وحدها …
ولكن الذي حذره معاوية لم يكن، والذي حذره عليٌّ كان …
وإذا ولت الحوادث، فقد ينفع الخطأ وقد يضير الصواب …
ثم تأتي مسألة القصاص من قتلة عثمان التي كانت أطول المسائل جدلًا بين الإمام وخصومه، فإذا هي أقصرها جدلًا من براءة المقصد من الهوى وخلوص الرغبة في الحقيقة …
فقد طالبوه بالقود ولم يبايعوه، مع أن القود لا يكون إلا من ولي الأمر المعترف له بإقامة الحدود.
وطالبوه به ولم يعرفوا من القتلة، ومن هو الذي يؤخذ بدم عثمان من القبائل أو الأفراد …
وأعنتوه بهذا الطلب؛ لأنهم علموا أنه لا يستطاع قبل أن تثوب السكينة إلى عاصمة الدولة، وأعفوا أنفسهم منه — وهم ولاة الدم كما يقولون — يوم قبضوا على عنان الحكم وثابت السكينة إلى جميع الأمصار.
•••
وقد تحدث الإمام مرة في أمر القود من قتلة عثمان، فإذا بجيش يبلغ عشرة آلاف يشرعون الرماح، ويجهرون بأنهم «كلهم قتلة عثمان»، فمن شاء القود فليأخذه منهم أجمعين.
وكان الإمام يقول لمن طلبوا منه إقامة الحدود: «إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم، وهم بينكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟ …»
ومن قوله لهم: «… إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، وإن الناس من هذا الأمر الذي تطلبون على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى تهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا.»
ولو أن المطالبين بدم عثمان التمسوا أقرب الطرق إلى الثأر له، والقصاص من العادين عليه، لقد كان هذا أقرب إلى ما أرادوا، يؤيدون ولي الأمر حتى يقوى على إقامة الحدود، ثم يحاسبونه بحكم الشريعة حساب إنصاف.
إلا أنهم طلبوا ما لا يجاب، وما لم يكن من حقهم أن يطلبوه، وليس بينهم أعف ولا أتقى من السيدة عائشة — رضي الله عنها. وقد روي عنها أنها قالت لما أخبرت ببيعة عليٍّ وهي خارجة من مكة: «ليت هذه انطبقت على هذه إن تمَّ الأمر لعليٍّ.» تشير إلى السماء والأرض … ثم عادت إلى مكة وهي تقول: «قتل والله عثمان مظلومًا، والله لأطلبن بدمه» …
فقيل لها: «ولم؟ … والله إن أول من أثار الناس عليه لأنت … ولقد كنت تقولين: اقتلوا «نعثلًا» فقد كفر.»
فقالت: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي اليوم خير من قولي الأول.»
وناهيك بالسيدة عائشة في فضلها ومكانتها وتقواها، فقل ما شئت في المطالبين غيرها بهذا المطلب الذي لا يجاب.
والرضا، أو الإرضاء، مستحيل حين يكون الطلب من هذا القبيل.
•••
أما الذين لاموه لقبوله التحكيم، فيخيل إلينا من عجلتهم إلى اللوم أنهم كانوا أول من يلومه، ويفرط في لومه لو أنه رفض التحكيم وأصر على رفضه؛ لأنه لم يقبل التحكيم وله مندوحة عنه …
ولكنه قبله بعد إحجام جنوده عن الحرب، ووشك القتال في عسكرهم خلافًا بين من يقبلونه ويرتضونه.
وقبله بعد أن حجز الحفاظ والقراء نيفًا وثمانين فزعة للقتال لشكهم في وجوبه، وذهاب بعضهم إلى تحريمه.
وبعد أن توعدوه بقتلة كقتلة عثمان، وأحاطوا به يلحون عليه في استدعاء الأشتر النخعي، الذي كان يلاحق أعداءه مستحصدًا في ساحة الحرب على أمل في النصر القريب …
والمؤرخون الذين صوبوا رأيه في التحكيم وخطئوه في قبول أبي موسى الأشعري، على علمه بضعفه وتردده، ينسون أن أبا موسى كان مفروضًا عليه، كما فرض عليه التحكيم في لحظة واحدة … وينسون ما هو أهم من ذلك، وهو أن العاقبة متشابهة سواء ناب عنه أبو موسى الأشعري، أو ناب عنه الأشتر أو عبد الله بن عباس … فإن عمرو بن العاص لم يكن ليخلع معاوية ويقر عليًّا في الخلافة، وقصارى ما هنالك أن الحكمين سيفترقان على تأييد كل منهما لصاحبه ورجعة الأمور إلى مثل ما رجعت إليه، وإن توهم بعضهم أن الأشتر أو ابن عباس كان قديرًا على تحويل ابن العاص عن رأيه، والجنوح به إلى حزب الإمام، بعد مساومته التي ساومها في حزب معاوية … فليس ذلك على التحقيق بمقنع معاوية أن يستكين ويستسلم، وحوله المؤيدون والمترقبون للمطامع واللبانات يعزُّ عليهم إخفاقهم كما يعزُّ عليه إخفاقه.
•••
وما أسهل المخرج الشرعي الذي يلوذ به معاوية، فيقبله منه أصحابه ويتابعونه على نقض حكم الحكمين المتفقين! … لقد كان النبي — عليه السلام — يقول عن عمار بن ياسر: أنه «تقتله الفئة الباغية» فلما قتله جند معاوية، وخيفت الفتنة بينهم أن تلزمهم سبة البغي بشهادة الحديث الشريف — قال قائل منهم: إنما قتله من جاء به إلى الحرب … فشاع بينهم هذا التفسير العجيب، وقبلوه جميعًا غير مستثنى منهم رجل واحد … أفلا يقبلون تفسيرًا مثله إذا تحول ابن العاص، وأفتى الحكمان بخلع معاوية ومبايعة الإمام؟
فليس في أيدي المؤرخين الناقدين إذن حل أصوب من الحل الذي أذعن له الإمام على كره منه، سواء أذعن له وهو عالم بخطئه أو أذعن له وهو يسوي بينه وبين غيره في عقباه.
ويبقى اعتزال الخلافة من البداية، وهو خطة ترد على الخاطر حيال هذه المعضلات التي واجهها الإمام، ولم يكن عسيرًا عليه أن يتوقعها بعد مقتل عثمان، وشيوع الفتنة والشقاق بين الأمصار كلها … وشيوعهما قبل ذلك بين جنده الذي يعول عليه.
ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل … وكل ما هنالك من أسباب ترجيحها أنها أسلم للإمام وآمن لسربه وأهدأ لباله، وهو أمر مشكوك فيه … على ما في طلب السلامة بين هذه الزعازع من أثرة، قلَّما يرتضيها الشجاع الباسل أو الحكيم العامل …
فمن السخف أن يخطر على البال أن رجلًا كعليِّ بن أبي طالب، يترك وادعًا في سربه بين هذه الزعازع التي تحيط بالدولة الإسلامية في عصره …
إن تركه الثوار وأعفوه من الحكم، لم يتركه أصحاب السلطان ولم يعفوه من الدسيسة والإيذاء؛ لاعتقادهم أنه باب من أبواب الخطر الدائم، وأنه ما عاش فهو علم منصوب يفيء إليه كل ساخط وكل مصلح وكل مخالف على الدين أو على الدنيا. وقد قيل: إن ابنه الحسن مات مسمومًا في عهد معاوية خوفًا من لياذ الناس به ورجعتهم إليه. وقيل مثل ذلك عن عبد الله بن خالد بن الوليد … وما أعظم البون في المكانة والحساب بينهما وبين الإمام عند أصحاب المخاوف وأصحاب الآمال.
•••
ولعلنا نقارب هذه الحقيقة من ناحية أخرى، إذا رجعنا إلى أقوال أبطال الميدان نفسه في علل النصر والهزيمة، وفيما يقال عن مزية كل منهم على خصمه أو مزية خصمه عليه.
فعليٌّ يسمع ما يقال عن شجاعته ورجحان معاوية عليه في الدهاء، فيقول: «… والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس …»
أو يقول: «ولكنه لا رأي لمن لا يطاع.»
ويعلل ما أصابه في بيعته بما أجمله لأتباعه حين قال لهم: «… لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدًا … إني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم.»
ومعاوية يذكر الخصال التي أعين بها على عليٍّ، فيقول: «إنه كان رجلًا لا يكتم سرًّا وكنت كتومًا لسرِّي، وكان يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة وكنت أبادر إلى ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافًا، وكنت أحب إلى قريش منه، فنلت ما شئت …»
وعمرو بن العاص يقول عن عدة النجاح في طلب الخلافة: «إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان، يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر.»
وهذه هي أسباب النصر والهزيمة على حقيقتها، إلا أنها تظل ناقصة ما لم نقرنها بحقيقة أخرى، وهي أن هزيمة معاوية كانت مرجحة — بل مؤكدة — لو أنه وضع في موضع عليٍّ، وابتلي بالأسباب التي ابتلي بها.
فالبلاء كله إنما كان في خبث الأجناد وشدة خلافهم؛ ولهذا كان سر عليٍّ يعرف وسر معاوية يكتم … لأن معاوية يطاع ونيته في صدره، وعليًّا لا يطاع إلا إذا سئل عن نيته وما يحل منها أو يحرم في رأي أتباعه، وكذلك كانت تفاجئه الحوادث؛ لأنه كان يروي فيها ما يروي، ولا ينفذ من رويته إلا الذي ينساق إليه هو وأتباعه آخر المطاف بحكم الضرورة الحازبة، وقد بطل الجدل وبطل من قبله التدبير …
•••
ولو أن معاوية كتب عليه أن يحارب جندًا مطيعًا بجند عصاه، لما طمع في حظ أوفق من حظ عليٍّ في ذلك الصراع المتفاوت بين الخصمين … ولو استعان بكل ما أعين به من رشوة الأنصار وكيد الخصوم، بل لعله كان يخفق حيث أفلح قرنه على قدر ما بينهما من فارق في الشجاعة والسابقة الدينية، وكذلك قال الإمام: «إن لبني أمية مرودًا يجرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثم كادتهم الضباع لغلبتهم.»
على أننا نود أن نقف عند الحد المأمون في تعليل النصر والهزيمة، ولا نعدوه إلى ما وراءه … فليس من قصدنا أن نصف عليًّا بقوة الدهاء وسعة الحيلة، ولكننا قصدنا أن نبرئه من عجز الرأي وضعف التدبير؛ لأن أسباب الهزيمة موفورة بغير هذا السبب الذي لا دليل عليه …
فقوام الفصل بين الطرفين، أنه لا دليل لدينا من الحوادث على عجز رأي ولا قوة دهاء … ولو كانت قوة الدهاء صفة غالبة فيه لظهرت على صورة من الصور، وإن قامت الحوادث عائقًا بينها وبين النجاح … فإن الدهاء لا يخفيه أن تكون المعضلة التي يعالجها محتومة الفشل مقرونة بالخذلان …
ومما لا شك فيه، أن عليًّا أشار بالرأي في مواقف كثيرة فأصاب المشورة، وأنه وصف أناسًا فدل على خبرة بالرجال وما يغلب عليهم من الطباع والخصال، وأنه أخذ بالحزم في توقع الحوادث واستطلاع الأمور، ولكنه لزم الكفاية في ذلك، ولم يتجاوزها إلى الأمد الذي يسلكه بين الدهاة الموسومين بفرط الدهاء …
•••
فمن مشوراته الصائبة، أنه نهى عمر — رضي الله عنه — أن يخرج لحرب الروم والفرس بنفسه، فقال له: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كائنة دون أقصى بلادهم … ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلًا مجربًا … فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءًا للناس ومثابةً للمسلمين.»
ومن وصفه للرجال وأساليب تناولهم، قوله لابن عباس وقد أرسله إلى طلحة والزبير: «لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تلفه كالثور عاقصًا — أي: لاويًا — قرنه يركب الصعب ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكةً فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق … فما عدا مما بدا؟»
ومن حزمه أنه كان يبث عيونه وجواسيسه في الشرق والغرب ليطلعوه على أخبار أعوانه وأعدائه، وأنه كان إذا وجبت الحرب بادر بالخروج، ولم يأته التردد والإبطاء بعد ذلك إلا من خلاف جنده.
ومن معرفته للجماهير أنه وصفهم أوجز وصف حين قال: إنهم أتباع كل ناعق، وإنهم «هم الذين إذا اجتمعوا ضرُّوا وإذا تفرقوا نفعوا» … لأنهم إذا تفرقوا رجع أصحاب المهن إلى مهنهم فانتفع بهم الناس …
فهذا قسط من الرأي الصائب، كاف لمهمة الحكم لو تصدى به الإمام للخلافة … والعصر عصر خلافة، وليس بعصر دولة دنيوية مضطربة في دور تأسيسها وتلفيق أجزائها.
بل هو قسط كاف لمهمة الحكم في الدولة الدنيوية، لو تولاها بعد استقرارها والفراغ من مكائد تأسيسها … كما جاء عمر بن عبد العزيز في صلاحه وتقواه بعد الملوك الأولين من بني أمية …
ولكنه قسط من الرأي لا يسلك صاحبه بين أساطين الدهاة، الذين يكيدون بالرأي وبالعمل النافذ على السواء …
•••
ونعود بعد هذا، فنقول: إنه لم يخسر كثيرًا بما فاته من الدهاء … ولم يكن ليربح كثيرًا لو استوفى منه أوفى نصيب؛ لأنه لا بد من ملك أو خلافة …
ولن يكون ملكًا بأدوات خليفة، ولا خليفة بأدوات ملك، ولن تبلغ به الحيلة أن يحارب رجلًا يريد العصر والعصر يريده؛ لأنه عصر ملك تهيأت له الدواعي الاجتماعية، وتهيأ له الرجل بخلائقه ونياته ومعاونة أمثاله …
ولم يكن معاوية زاهدًا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه.
فلما جاء عصر الملك، طلب الملك والملك يطلبه …
وقديمًا قال أبوه للعباس عم النبي، وقد رأى جيش المسلمين في فتح مكة: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا.»
فهو الملك، أو هو جاه الدنيا، الذي تطلع إليه من نشأته الأولى في بيته … وانتظر ثم انتظر حتى لاقاه على قدر، فوضع في موضعه وقام به الموضع كما قام به، ونجحا معًا التوافق والرفاء …
وحين وجب أن يقع الفصل بين الملك والخلافة، وجب أن يكون عليٌّ على رأس فريق الخلافة.
وحين وجب أن يقع الفصل بين أصحاب المنافع الراغبين في دوام المنفعة، وبين أصحاب المبادئ والظلامات الراغبين في التبديل والإصلاح، وجب أن يكون عليٌّ على رأس هذا الفريق دون ذلك الفريق.
وحين وجب هذا وذاك وجوبًا لا حيلة فيه للمتحول، ولا اختيار فيه للمختار، وجب أن تصير خلافة عليٍّ إلى ما صارت إليه، كائنًا ما كان خطره من الدهاء والخدعة، وكائنًا ما كان طريقه الذي ارتضاه هو أو أشار به المشيرون عليه.
•••
وقد يحسن بالمؤرخ بعد الموازنة بين عدة الخلافة وعدة الملك في صراع عليٍّ ومعاوية، أن يذكر عدة أخرى لم تظهر في هذا الصراع، وقد ظهرت في مآزق شتى من أحرج مآزق التاريخ، واعتمد عليها أبطاله الكبار كثيرًا في تأسيس الدول وقمع الثورات، فاختصروا الطريق وأراحوا أنفسهم من عناء طويل، ونريد بها عدة البطش العاجل والمباغتة الحاسمة، كلما تأشبت العقد وتعسرت الحيلة، ووجب الخلاص السريع …
فقد علمنا مثلًا أن الأشعث بن قيس كان يعترض الإمام في كل خطوة من خطوات النصر، ويثقل عليه باللجاجة والعنت في مواقف مكربة تضيق بها الصدور …
ولم يكن الأشعث بن قيس بالوحيد في هذا الباب، بل كان له شركاء من الخوارج وغير الخوارج، يظهرون بالعنت في غير موضعه، ويذهبون به وراء حده، وربما بلغوا من الضرر في معسكر الإمام فوق مبلغ الأشعث بن قيس، على عظم الفارق بين سلطانهم وسلطانه.
ألا يخطر على البال هنا، أن ضربة من الضربات القاضية كانت تنجع في هذا العنت المكرب، حيث لا تنجع العقوبة الشرعية أو الأحابيل السياسية؟ …
ماذا لو أن الإمام جرد سيفه بين أولئك المشاغبين، وأطاح برأس الأشعث بن قيس قبل أن يفيق أحد إلى نفسه، ثم ولى على الفور من يقوم مقامه في رئاسة قوم، ويكفل لهم الطاعة بينهم لأمره؟ … أكان بعيدًا أن تفعل الرهبة فعلها، فيسكن المشاغب، ويهاب المتطاول، ويجتمع المتفرق، ويقل الخلاف بعد ذلك على الإمام وعلى الرؤساء عامةً؟
لم يكن ذلك ببعيد …
لكنه كذلك لم يكن بالمحقق، ولا بالمأمون …
فهي مجازفة ذات حدين، تصيب بأحدهما وقد تصيب بهما معًا … وقد يكون الحد الذي تصيب به هو الحد الذي من قبل الضارب دون الحد الذي من قبل المضروب …
وكل ما تفيدنا إياه هذه الملاحظة العابرة على التحقيق، أن الإمام — رضي الله عنه — لم يكن من أصحاب هذه الملكة، التي اتصف بها بعض أبطال القلاقل في أيام الفصل بين عهدين متدابرين، فكانت له ضربة الشجاع، ولم تكن له ضربة المغامر أو المقامر …
ولم يضرب بالسيف قط، كأنه يقذف بالقداح إما إلى الكسب وإما إلى الخسارة … وإنما كان يضرب به ضرب الجندي الذي يلتمس الغلب بقوته وقوة إيمانه، ولا يلتمسه من جولات السهام وفلتات الغيب …
على أننا — وقد سجلنا هذه الملاحظة — نفرض أنه — رضي الله عنه — كان من أصحاب تلك الملكة، التي عرف بها بعض المغامرين في أوقات الفصل بين العهود …
ونفرض أنه عمد إليها، فنفعته في عسكره وطوعت له الجند وأراحته من شغب الخارجين عليه، والمتشعبين بالآراء والفتاوى من يمينه وشماله، فماذا عسى أن يغيِّر هذا كله من طبيعة الموقف الذي أجملناه؟ وكيف يكون المخرج بين سياسة الملك، كما يطلبها العصر، وسياسة الخلافة كما تطلبها البقية الباقية من آداب الفترة النبوية؟
أيسوس الإمام دولته ملكًا دنيويًّا أم يسوسها خليفة نبوة؟
أيفرق الأموال على رءوس القوم وقادة الجند وطلاب الترف، أم يلزمهم عيشة النسك والشظف والجهاد؟
وكتب لعليٍّ بعد ذلك أن يتلقى الدولة الإسلامية بين هذين العسكرين، فلا في مقدوره أن يجمعهما إلى عسكر واحد، ولا في مقدوره أن يختار منهما عسكر الملك، ولا أن يختار عسكر الخلافة الدينية، فتظل على يديه خلافة دينية بعد أوانها …
وما لم يكن في مقدوره لم يكن في مقدور غيره، وإنه لإنصاف قليل أن نعرف له هذه المعاذير الصادقة، وهو الذي باء وحده بتلك النقائض والأعباء …
•••
وقد نقدت سياسة عليٍّ لفوات الخلافة منه قبل البيعة، كما نقدت سياسته لفوات الخلافة منه بعد البيعة، وأحصى عليه بعض المؤرخين أنه تأخر نيفًا وعشرين سنة … فلم يخلف النبي، ولم يخلف أبا بكر، ولم يخلف عمر … كأنه كان مستطيعًا أن يخلف أحدًا منهم بعمل من جهده وسعي من تدبيره، فأعياه السعي والتدبير …
ومقطع الفصل في هذا أن نرجع إلى العوائق التي حالت بينه وبين الخلافة قبل وصولها إليه؛ لنعلم منها العائق الذي كان في أيدي الحوادث والعائق الذي كان في يديه، أو كانت له قدرة معقولة عليه.
فمما لا شك فيه أن الإمام أنكر إجحافًا أصابه في تخطيه بالبيعة إلى غيره بعد وفاة ابن عمه — صلوات الله عليه، وأنه كان يرى أن قرابته من النبي مزية ترشحه للخلافة بعده؛ لأنها فرع من النبوة على اعتقاده، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة، كما قال …
ومما لا شك فيه، أن شعوره هذا طبيعي في النفس الإنسانية كيفما كان حظها من الزهد والقناعة؛ لأن تخطيه — مع هذه المزية التي ترشحه للبيعة — يشبه أن يكون قدحًا في مزاياه الأخرى، من علم وشجاعة وسابقة جهاد وعفة عن المطامع، أو يشبه أن يكون كراهة له وممالأة على الغض من قدره، ولم يزل من غرائز النفوس أن يسوءها القدح فيها، والحط من مزاياها ومواجهتها بالنفرة والكراهة …
وإذا حرمهم وتألبوا عليه مع خصمه، أفهو الغالب إذن بمطالب العصر ومقتضياته ودواعيه أم هم الغالبون؟
وإذا أعطاهم ليبذخوا بذخ الملك الدنيوي وهو وحده بينهم الناسك المجتهد على سنَّة النبوة، أفيستقيم له هذا الدور العجيب، وهو في جوهره متناقض لا يستقيم؟ …
فالسياسة التي اتبعها الإمام هي السياسة التي كانت مقيضة له مفتوحة بين يديه، وهي السياسة التي لم يكن له محيد عنها، ولم يكن له أمل في النجاح إن حاد عنها إلى غيرها … سواءٌ عليه اتفق جنده بضربة من الضربات القاضية، أم لم يتفقوا على دأبهم الذي رأيناه؛ وسواء لان لطلاب الدولة الدنيوية أم صمد على سنَّة النبوة والخلافة النبوية.
•••
ومهما يكن من حكم الناقدين في سياسة الإمام، فمن الجور الشديد أن يطالب بدفع شيء لا سبيل إلى دفعه، وأن يحاسب على مصير الخلافة، وهي منتهية لا محالة إلى ما انتهت إليه …
ومن الجور الشديد أن يلقى عليه اللوم لأنه باء بشهادة الخلافة، ولا بد لها من شهيد …
وقد تجمعت له أعباء النقائض والمفارقات التي نشأت من قبله، ولم يكد يسلم منها خليفة من الخلفاء بعد النبي صلوات الله عليه …
أحس بها الصديق، فمات وهو ينحي على الصحابة، ويحذرهم بوادر الترف الذي استناموا إليه …
وأحس بها الفاروق وأثقلت كاهله، وهو الكاهل الضليع بأفدح الأعباء … فضاق ذرعًا بالحياة، وطفق يقول في سنة وفاته: «اللهم كبرت سني وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط … اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك.»
وأحس بها عثمان، فما فارق الدنيا حتى ترك الخلافة والملك عسكرين متناجزين، لا يرجع أحدهما إلا بالغلبة على نده وضده …
إلا أن الخلافة الإسلامية، مسألة عالمية لا توزن بميزان واحد، ولا يؤتم فيها برأي واحد ولا بحق واحد، وقد يضحى في سبيلها بالعظيم والعظماء، إذا تعارضت الحقوق وتشعبت الآراء …
ويشاء القدر أن تكون المزية الأولى في ميزان عليٍّ هي العائق الأول في سائر الموازين، ومنها ميزان النبي صلوات الله عليه …
فقد كان — عليه السلام — يأبى أن يثير العصبيات في قريش، وفي القبائل العربية عامةً؛ لعلمه بخطر هذه العصبية على الدعوة الجديدة، وكراهته أن يصور الإسلام للعرب كأنه سيادة هاشمية تتوارثها عصبة هاشم دون العصب من سائر العرب والمسلمين. وقد رضي في سبيل هذا المقصد الحكيم، أن يجعل بيت أبي سفيان صنوًا للكعبة في أمان اللاجئين إليه، وأصهر إلى أبي سفيان وندب ابنه معاوية للكتابة له بين النخبة المختارة من كاتبيه، وربما حسن لديه أن تئول الخلافة إلى عليٍّ بعده إذا شاء المسلمون ذلك، ولكن على أن تكون خلافته اختيارًا مرضيًّا كاختيار غيره من أنصاره وأصحابه، ويستوي منهم القريب والبعيد.
•••
ولم تكن الحكمة النبوية هي وحدها التي تأبى إثارة العصبيات، وتصوير الإسلام للعرب وللناس عامةً في صورة السيادة الهاشمية، بل كانت الدعوة كلها في صميم أصولها تأبى هذا الذي أبته الحكمة النبوية، وتجتنبه غاية ما في وسعها اجتنابه … لأن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، تشمل الأمم كافة من عرب إلى عجم، ومن مشرق إلى مغرب، وتقوم في أساسها على المساواة بين الناس ورد المفاضلة بينهم إلى الأعمال والأخلاق دون الأحساب والأعراق، فليس من المعقول أن تسود العالم كله أسرة هاشمية، ولا من المعقول أن يبنى الأساس على المساواة، وأن يقام الحكم على هذا التفضيل …
وإن أحق الناس أن يفطن إلى هذه الحكمة لهم أولئك الغلاة، الذين زعموا أن وراثة الخلافة في بني هاشم حكم من أحكام الله، وضرورة من ضرورات الدين …
فلو أنها كانت حكمًا من أحكام الله، لكان أعجب شيء أن يموت النبي — عليه السلام — وليس له عقب من الذكور، وأن يختم القرآن وليس فيه نص صريح على خلافة أحد من آل البيت …
ولو أنها كانت ضرورة من ضرورات الدين، أو ضرورات القضاء، لنفذت في الدنيا كما ينفذ القضاء المبرم، وحبطت كل خلافة تنازعها كما تحبط كل بدعة تناقض السنن الكونية.
فلا النصوص الصريحة، ولا دلالة الحوادث على الإرادة الإلهية، مما يؤيد أقوال الغلاة عن ترجيح الخلافة بالقرابة، أو حصر الخلافة في الأسرة الهاشمية …
وهذا هو العائق الأول الذي حال بين عليٍّ وبين الخلافة ولا قدرة له عليه، وقد لحظه العرب ولحظته قريش خاصةً، وذكره الفاروق حين قال: «إن قريشًا اختارت لنفسها فأبت أن تجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة» …
•••
ويرى بعض المؤرخين، أن قريشًا كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة لعلة أخرى تقترن بهذه العصبية التي أوقعت التنافس بين بيوتها وبين بني هاشم، فقد بطش الإمام بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم عتبة بن ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه في يوم بدر … عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه الترات بعد دخولهم في الإسلام، وزادهم حقدًا أنهم لا يملكون الثأر منه لقتلاهم من الكفار، وكانت حاله بعد تلك المدة كما قال ابن أبي الحديد: «… كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه، من إظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب، حتى الأخلاف من قريش والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله.»
وقد علم الإمام هذا من قريش، عندما يئس من مودتها وابتلي بالصريح والدخيل من كيدها، فقال: «… ما لي ولقريش؟ … أما والله لقد قتلتهم كافرين ولأقتلنهم مفتونين … والله لأبقرنَّ الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته … فقل لقريش، فلتضج ضجيجها.»
•••
ولو أن قريشًا وادعته في سرها وجهرها، ووقفت بينه وبين منافسيه على الخلافة لا تصده عنها ولا تدفعهم إليها، لقد كانت تلك عقبة أي عقبة …
فأما وهي تحاربه بعصبيتها وتحاربه بذحولها، فتلك هي العقبة التي لا يذللها إلا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي — صلوات الله عليه، ولم يكن حزب قط أقوى يومئذ من قريش في أرجاء الدولة الإسلامية بأسرها …
ولقد سبق الإمام إلى الخلافة ثلاثة من شيوخ الصحابة هم: أبو بكر وعمر وعثمان …
فإذا نظرنا إلى عائق العصبية الذي قدمناه، فلا نرى شيئًا أقرب إلى طبائع الأمور من سبق هؤلاء الثلاثة بأعيانهم إلى ولاية الخلافة بعد النبي — عليه السلام؛ لأنهم أقرب الناس أن يختارهم المسلمون بعد خروج العصبية الهاشمية من مجال الترجيح والترشيح …
فليس أقرب إلى طبائع الأمور في بلاد عربية إسلامية من اتجاه الأنظار إلى مشيخة الإسلام في السن والوجاهة والسابقة الدينية، لاختيار الخليفة من بينها على السنَّة التي لم تتغير قط في تواريخ العرب الأقدمين، ولم يغيرها الإسلام بحكم العادة ولا بحكم الدين.
ولم يكن الإمام عند وفاة النبي من مشيخة الصحابة، التي تئول إليها الرئاسة بداهةً بين ذوي الأسنان، ممن مارسوا الشورى والزعامة في حياته — عليه السلام … لأنه كان يومئذ فتًى يجاوز الثلاثين بقليل، وكان أبو بكر وعمر وعثمان قد لبثوا في جوار النبي بضع عشرة سنة قبل ظهور عليٍّ في الحياة العامة، وهم يشيرون على النبي، ويخدمون الدين ويجمعون الأنصار ويدان لهم بالتوقير والولاء …
والعائق الذي قام بين عليٍّ وبين الخلافة هو في طريق هؤلاء الثلاثة السابقين تمهيد وتقريب …
ونعني به عائق العصبية الهاشمية …
لأن قريشًا لا تنفس على بني تيم، ولا بني عدي، ولا بني أمية، في رئاسة عثمان خاصةً … كما تنفس على بني هاشم، إذ تجتمع لهم النبوة والخلافة …
•••
والإمام نفسه لم يفته أن يدرك هذا بثاقب نظره، حين قال وقد تجاوزته الخلافة للمرة الثالثة بعد موت الفاروق: «إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: «إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا … وما كانت في غيرها من قريش تداولتموها بينكم.» وإذا اجتمع هذا العائق إلى عائق السن والتوقير للمشيخة المقدمة، فهما مبعدان للإمام عن الخلافة بمقدار ما يقربان سواه …»
نعم إن فارق السن قد تقارب بعد موت الفاروق، وبلغ الإمام الخامسة والأربعين، وسبقت له في المشورة سوابق مأثورات … فأصبح الفارق بينه وبين من يكبرونه مزية تعين على العمل والجهد، وتنفي مظنة الضعف والتواكل، ولكن الذي كسبه بهذه المزية خسره بازدياد المطامع الدنيوية ويأس الرؤساء من الوفر والنعمة على يديه، واعتقاد الطامعين أنهم أقرب إلى بعض الأمل في لين عثمان، وتقدم سنِّه منهم إلى أمل من الآمال في شدة الإمام وعسر حسابه …
وبقيت الجفوة بينه وبين قريش على حالها، لم يكفكف منها تقادم العهد كما قال ابن أبي الحديد …
وعلى هذه الجفوة في القبيلة كلها، دخلت في الأمر دخلة البواعث الشخصية التي لا يسلم منها عمل من أعمال بني الإنسان في زمن من الأزمان … فقد اجتمع رهط الشورى الذين ندبهم الفاروق لاختيار الخليفة من بعده، فتقدم بينهم عبد الرحمن بن عوف، فخلع نفسه من الأمر كله ليتاح له أن يستشير الناس باسمهم، ويعلن البيعة على عهدتهم، وقيل: إنه أنس مع الزبير وسعد بن أبي وقاص ميلًا موقوتًا إلى عليٍّ وانحرافًا موقوتًا عن عثمان، فسارع إلى المنبر وبايع عثمان وجاراه الحاضرون مخافة الفتنة والشقاق …
وكان عبد الرحمن بن عوف صهرًا لعثمان؛ لأنه زوج أخته لأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
•••
ويقضي الحق أن يقال في هذا المقام: إن بيعة عثمان قد تمت باتفاق بين المسلمين لم ينقضه خلاف معدود، فليست كلمة عبد الرحمن بن عوف هي التي خذلت عليًّا وقدمت عثمان عليه، إذ لو كانت هناك مغالبة شديدة بين حزبين متكافئين لما استقامت البيعة لعثمان بكلمة من عبد الرحمن بن عوف … وهو واحد من خمسة أو ستة إذا أشركنا معهم عبد الله بن عمر بن الخطاب …
ثم بويع الإمام بعد مقتل عثمان، فهل تحولت قريش عن جفوتها، أو نظرت إلى السياسة الهاشمية نظرة غير نظرتها؟ كلا …
بل جاءت البيعة في المدينة، يوم خفت فيها صوت قريش، وهبطت سمعة حكامها، ويوم أصبحت البيعة ثورة على قريش، تنكر عليها الأثرة بالملك والأثرة بالغنائم والأمصار … ويوم انقسم المجتمع الإسلامي قسميه، اللذين التبسا وتداخلا حينًا حتى فصلتهما الحوادث فصلها الحاسم في خلافة عثمان: قسم يريد الرجعة إلى الخلافة والآداب النبوية، وقسم يريد المضي في الملك والدولة الدنيوية …
فأي القسمين، كان قسم عليٍّ كائنًا ما كان سعيه واجتهاده؟ … وأية سياسة كانت تعينه على مشكلة الخلافة منذ بدايتها بعد وفاة النبي إلى ختامها الفاجع بعد مقتل عثمان؟
كل سياسة له لم تكن لتحيد به عن الخاتمة المحتومة أقل محيد.
وكل ما كان من تدبير الحوادث أو من تدبيره، فهو على هذا الملتقى الذي يتلاحق عنده الإسراع والإبطاء …
وعلى هذا ينبغي أن نرجع إلى علة غير سياسة عليٍّ لتعليل العوائق، التي قامت دون مبايعته بالخلافة قبل الصديق والفاروق وعثمان …
فهو غير مسئول عن نظرة العصبية التي نظرت بها قريش إلى السيادة الهاشمية.
وهو غير مسئول عن سنِّه التي تأخرت به عن مشيخة الصحابة من ذوي السابقة في الجهاد والزعامة، والأصالة بين ذوي الأسنان والأخطار …
وهو غير مسئول عن الصفة العالمية، التي جعلت تأسيس الإسلام على أسرة واحدة في العالم كله أمرًا ملحوظًا بالتوجس والإحجام منذ اللحظة الأولى …
نعم قد يسأل الإمام عن علاقته بالناس وقدرته على تألفهم بالآمال والمجاملات؛ ليأنسوا إليه ويرفعوا حجاب الجفوة بينهم وبينه، ويؤثروه على غيره بالخلافة؛ أملًا في بره واطمئنانًا إلى حفاوته ووده.
وقد يرد على بعض الخواطر، أن سياسة الدولة الدنيوية أو سياسة الإرضاء بالمنافع والوعود، كانت أجدى عليه من آداب الخلافة الدينية وأخلق بتمكينه أولًا وآخرًا بين قريش وقبائل العرب عامةً …
فهذا في رأيهم مأخذ يرجع إلى شخصه وأعماله، ويسأل عنه كما يسأل الإنسان عن عمله وتصريف إرادته وفكره، ولا يجوز أن نرجع به إلى حكم الحوادث القاهرة، وسلطان المصادفات التي لا قبل له بتبديلها.
ولكن الواقع أن هذه السياسة — سياسة المنافع الدنيوية — لم تكن لتجديه شيئًا بعد وفاة النبي، ولا بعد مقتل عثمان …
فبعد النبي — عليه السلام — لم تكن ذخائر الفتوح قد استفاضت في الأيدي، وأنشأت في المجتمع الإسلامي طبقة مسموعة الصوت تحرص عليها وتستزيدها …
فالذي يناضل في سبيل الحكم بسلاح هذه المنافع، إنما كان يناضل بسلاح غير موجود … بل كان يناضل سلاحًا ماضيًا ينهزم أمامه لا محالة، وهو سلاح الحماسة الدينية التي غلبت في ضرباتها الأولى كل سلاح.
أما بعد مقتل عثمان، فأبعد الأمور عن التخيل أن يغلب عليٌّ معاوية في سوق المنافع الدنيوية؛ لأن معاوية قد أهب لها أهبته قبل عشرين سنة، وجمع لها أنصاره وكنز لها كنوزه في بلاد وادعة بين جند مطيع.
ولو توافرت لعليٍّ مادة هذه السياسة، لما توافر له أعوانها والمساعدون عليها … فليس أقل نفعًا في هذا المضمار من أعوانه الذين ثاروا على سياسة المنافع، وباءوا من أجلها بدم خليفة، واجتمعوا على التمرد قاصدين أو غير قاصدين … فلا يديرون أنفسهم إلى نهج كنهج معاوية ولو أرادوه.
وأغلب الظن أن عليًّا كان يخسر بهذه السياسة أولئك الذين أحبوه، ولا يربح بها أولئك الذين أبغضوه …
فقد حببته آداب الخلافة إلى كل طبقة تكره استغلال الحكم، ولا مطمع لها فيه … فكل بلاد خلت من عصبة المرشحين للحكم، فقد كانت من حزبه وشيعته بغير استثناء، فكان من حزبه شعب اليمن ومصر وفارس والعراق، ونشأت في اليمن — وقد عهد حكمه قديمًا — تلك الطائفة السبئية، التي غلت في حبه حتى ارتفعت به إلى مرتبة التقديس، وانتثرت في مصر وفارس بذور تلك الشيعة الفاطمية والإمامية، التي ظلت كامنة في تربتها حتى أخرجت شطأها بعد أجيال؛ وشذت الشام لأنها كانت في يد معاوية، وشذت أطراف من العراق أول الأمر؛ لأنها كانت في يد طلحة والزبير، ولم يشذ عن هذه القاعدة بلد من البلدان الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها … فلولا أن سواد الناس لا يعملون بغير عصبة من القادة، وأن العصب من القادة كانوا كلما وجدوا في بقعة من البقاع وجد معهم النفع والاستغلال، لقد كانت محبة أولئك السواد أنفع له من عصب معاوية أجمعين …
فأغلب الظن — كما أسلفنا — أن عليًّا كان يخسر هؤلاء باتِّباعه سياسة الدولة الدنيوية، ولا يكسب العصب التي ناصبته العداء، وأيقنت أنه حائل بينها وبين ما طمحت إليه من الصولة والثراء …
وهذا على تقدير المقدرين أن عليًّا يؤاخذ لاجتنابه هذه السياسة، وأنه لو اتبعها لكانت أجدى عليه …
وليست هي أجدى عليه لو اتبعها، ولا هو على اجتنابها بملوم …
وتفضي بنا هذه التقديرات جميعًا إلى نتيجة واضحة نلخصها في كلمات وجيزة، ونعتقد أنها أعدل الأقوال في وصف تلك السياسة، التي كثرت فيها مطارح النقد والدفاع …
فسياسة عليٍّ لم تورطه في غلطات كان يسهل عليه اجتنابها باتباع سياسة أخرى …
وهي كذلك لم تبلغه مآرب مستعصية، كان يعز عليه بلوغها في موضعه الذي وضع فيه، وعلى مجراه الذي جرى عليه …
فليست هي علة فشل منتزع، ولا علة نجاح منتزع، أو هي لا تستدعي الفشل من حيث لم يخلق، ولا تستدعي النجاح من حيث لم يسلس له قياد …
ورأينا في سياسته فهمًا وعلمًا، ولكننا لم نر فيها الحيلة العملية التي هي إلى الغريزة أقرب منها إلى الذكاء …
فكان نعم الخليفة، لو صادف أوان الخلافة …
وكان نعم الملك لو جاء بعد توطيد الملك، واستغنائه عن المساومة والإسفاف …
ولكنه لم يأت في أوان خلافة، ولا في أوان ملك موطد، فحمل أعباء النقيضين، وأخفق حيث ينبغي أن يخفق أو حيث يعييه أن ينجح … وتلك آية الشهيد …