الفصل الأول
بعد بضعةِ أشهرٍ من عيد ميلادي الحادي والعشرين، جاءني اتصال من شخصٍ غريب ليُبلغني الخبر. كنتُ أعيش في ذلك الوقت في نيويورك في شارع رقم ٩٤ بين الجادتين الثانية والأولى، وهو جزءٌ من ذلك الحد المتغيِّر الذي لا يحمل اسمًا بين شرق هارلم وباقي مانهاتن. كان شكل المجمَّع السكني غيرَ جذَّاب ويخلو من الأشجار والنباتات، تصطفُّ على جانبَيه مبانٍ سكنية طلاؤها أسود وبلا مصاعد تلقي بظلالٍ كئيبة معظمَ أوقات اليوم. كانت الشقة صغيرة وأرضيتها مائلة ودرجة حرارتها غير مستقرة ولها جرس كهربائي أسفل المبنى لا يعمل، ومن ثَم كان على أيِّ زائرٍ أن يتصل قبل مجيئه من هاتفٍ عمومي في محطة البنزين في زاوية الشارع، حيث كان يُوجَد كلبٌ أسود من نوع دوبرمان في حجم الذئب يقطع المكان جَيئةً وذهابًا طَوال الليل في دورة حراسة يقِظة، يقبض بأنيابه على زجاجةِ جعَة فارغة.
لم أكن أهتمُّ بذلك كثيرًا؛ فلم أكن أستقبل الكثيرَ من الزوار. في تلك الأيام كنت ضيقَ الصدر، مشغولًا بالعمل وخططٍ لم تُنفَّذ، وأميل إلى اعتبار الأشخاصِ الآخرين مصدرًا لتشتيت الانتباه لا ضرورةَ له، وليس ذلك لأني لا أُقدِّر الرُّفقة؛ فقد كنت أستمتِع بتبادل الدعابات باللغة الإسبانية مع جيراني الذين كان أغلبهم من بورتوريكو، وفي طريق عودتي من المحاضرات كنت عادةً أتوقَّف لأتحدث مع الصبيةِ الذين كانوا يقضون وقتهم عند مدخل المبنى طوال فترة الصيف يتحدثون عن فريق نيكس لكرة السلة أو الطلقات النارية التي سمعوها الليلة السابقة. وعندما يكون الطقس جيدًا يمكن أن أجلس أنا ورفيقي في الشقة على سلَّم الحريق ندخِّن السجائر ونتأمَّل الغسق وهو يُغرِق المدينةَ في الظلام، أو نشاهد البِيض من المناطق السكنية الأفضل بالقرب منَّا يسيرون بكلابهم أسفلَ العمارة التي نقطن فيها ويتركون الحيوانات تتبرَّز على حافةِ رصيف الشارع، كان رفيقي يصرخ فيهم بغضب مؤثِّر: «تخلصوا من هذا البراز أيها الأوغاد!» وكنا نسخَر من وجهَي السيد الأبيض والحيوان وهما يتجهَّمان دون إبداء أية نية للاعتذار وينزلان على رُكبتَيهما للقيام بفَعْلتهما.
كنت أستمتع بتلك اللحظات، ولكن لوهلةٍ قصيرة. فإذا بدأ الحديث يخرج عن مساره أو يعبُر الحدود التي تفضي إلى الشعور بالألفة والحميمية، كنت سريعًا ما أجد سببًا للانصراف. فقد أصبحتُ أشعر براحةٍ شديدة في عزلتي، فهي آمَن مكانٍ عرفته.
أتذكَّر رجلًا عجوزًا كان يعيش في الشقة المجاورة يُشاركني نزعتي. كان ضامرَ الجسد منحنيَ الظهر يعيش وحدَه، يرتدي في المناسبات القليلة التي يترك فيها شقته معطفًا أسودَ ثقيلًا وقبَّعةً قبيحة الشكل. وبين الفينة والفينة كنت ألتقي به مصادفةً وهو عائد من المتجر، وكنت أعرض عليه أن أحمل عنه البِقالة في رحلة الصعود الطويلة على سلالم العمارة، فكان ينظر إليَّ ويهزُّ كتفَيه ونبدأ الصعود، وكنا نتوقَّف على كلِّ بسطةٍ كي يلتقط أنفاسه. وعندما نصل في النهاية إلى شقته أضع الحقائبَ بحرصٍ على الأرض ويُومئ لي شكرًا قبل أن يجرَّ قدمَيه إلى داخل شقته ويغلق مزلاج الباب. لم يدُر بيننا أيُّ حديثٍ قط، ولم يقُل لي قطُّ كلمة شكرٍ على صنيعي.
كان صمت الرجل العجوز يُثير إعجابي فكنتُ أراه قريبًا مني روحيًّا. وفيما بعدُ وجدَه رفيقي في الشقة ملقًى على بسطة سلُّم الطابق الثالث وعيناه مفتوحتان عن آخرهما وأطرافه متيبِّسة ومُتكوِّرة كطفلٍ صغير. تجمَّع الناس حوله، وحرَّكت بعض النساء أيديهن بعلامة الصليب على أجسادهن وتهامس الأطفال الصغار فيما بينهم بانفعال. وفي النهاية وصل المسعفون ليأخذوا الجثة، ودخلت الشرطة إلى شقة العجوز. كانت الشقة مرتَّبة وخاوية تقريبًا إلا من مقعدٍ ومكتب وصورة باهتة — أعلى الحافة البارزة للمِدفأة — لسيدةٍ لها حاجبان كثَّان وابتسامة رقيقة. فتح أحدهم الثلاجة ووجد ما يقرب من ١٠٠٠ دولار في عملاتٍ صغيرة مغلَّفة داخل أوراق جرائد قديمة وموضوعة بحرصٍ خلف برطمانات المايونيز والمخلَّل.
أثَّرت فيَّ العزلة التي عبَّر عنها المشهد، ولوهلةٍ قصيرة تمنيتُ لو أنني قد عرفتُ اسم العجوز. ثم ندمتُ على الفور على هذه الأمنية وما صاحبها من حُزن. وشعرتُ كما لو أن تفاهمًا قد نشأ بيننا، كما لو أن العجوز كان يهمس في تلك الشقة الخاوية تاريخًا لم يروِه أحد، يخبرني بأشياءَ لا أُحبُّ أن أسمعها.
بعد ذلك بشهرٍ أو أكثر على ما أظن، في صباح يومٍ بارد كئيب من أيام شهر نوفمبر، كانت الشمس باهتةً خلف ضباب السُّحب؛ جاءت المكالمة الهاتفية. كنت أُعِدُّ الفطور لنفسي والقهوة على الموقد والبَيض في المقلاة، عندما ناولني رفيقي الهاتف، كان الصوت بعيدًا ومشوشًا:
«باري؟ باري، أهذا أنت؟»
«نعم … مَن المتحدث؟»
«نعم يا باري … أنا عمَّتك جين من نيروبي، هل تسمعني؟»
«عفوًا، قلتِ مَن؟»
«عمَّتك جين، استمع إليَّ يا باري، لقد تُوفي أبوك. مات في حادث سيارة. باري؟ هل تسمعني؟ أقول إن أباك قد تُوفي. باري من فضلك اتصل بعمِّك في بوسطن وأخبِره. لا يمكنني التحدُّث الآن. سأحاول الاتصال بك مرةً أخرى …»
كان هذا هو كلَّ ما جاء في المحادثة. وانقطع الخط فجلستُ على الأريكة وانتشرَت رائحةُ البَيض وهو يحترق في المطبخ، أخذتُ أُحملق في شقوق طلاء الحائط أحاول أن أُقدِّر حجم خسارتي.
•••
لم يكن أبي عندما تُوفي إنسانًا عاديًّا من وجهة نظري؛ بل كان أسطورة. ترك أبي هاواي عام ١٩٦٣حينها لم أكن قد تجاوزتُ الثانية من عمري؛ لذا لم أعرف أبي حين كنتُ طفلًا إلا من حكايات أمي وجَدي. وكان لكلٍّ منهم حكاياته المفضَّلة، وكلٌّ منها مترابط وسلِس من كثرة التكرار. ولا يزال بإمكاني تخيُّل صورة جَدي وهو ينحني إلى الوراء في مقعده الوثير بعد العشاء ويرتشِف الويسكي وينظِّف أسنانه بورق سيلوفان من علبة سجائره ويحكي لي كيف كاد أبي أن يرمي برجلٍ من على جرف «بالي لوك أوت» بسبب غليون:
«قرَّر والداك أن يصطحبا صديقَ أبيك في جولة سياحية حول الجزيرة. ذهبا بالسيارة إلى جرفِ لوك أوت، وكان باراك على الأرجح يسير على الجانب الخاطئ طوال الطريق إلى هناك.»
عقَّبت أمي قائلة: «كان والدك سائقًا سيئًا.» وتابعت: «وكان ينتهي به الحال إلى الجانب الأيسر من الطريق بالطريقة التي يقود بها البريطانيون، وإذا قلتَ له شيئًا، تجده يُبدي سخطه على القواعد الأمريكية السخيفة …»
«حسنًا، في تلك المرة نجحوا في الوصول سالمين، وخرجوا من السيارة ووقفوا على الحاجز المعدني المُقام على الجرف ليتأملوا المشهد. كان باراك يدخِّن من الغليون الذي أعطيتُه إيَّاه في عيد ميلاده، ويشير بمقدمته إلى جميع المشاهد مثل قبطانٍ بحري …»
وهنا تُقاطع أمي مرةً أخرى: «لقد كان أبوك فخورًا حقًّا بذلك الغليون.» وتابعت: «كان يُدخِّن منه طوال الليل وهو يذاكر، وفي بعض الأحيان …»
«حسنًا يا آن، هل تودِّين أن تحكي أنت القصةَ أم ستدعينني أُكمِلها؟»
«آسفة يا أبي. تفضَّل.»
«على أية حال، كان ذلك الفتى المسكين طالبًا أفريقيًّا أيضًا، أليس كذلك؟ كان قد وصل لتوه إلى أمريكا. ولا بد أن ذلك الفتى المسكين قد أُعجِب بالطريقة التي يتحدث بها باراك وهو يشير بالغليون؛ إذ طلب أن يجرِّبه، فكَّر والدك في الأمر لدقيقة ثم وافق في النهاية، وما إن بدأ الفتى في التدخين منه حتى داهمته نوبة سعال. وأخذ يسعل بقوةٍ حتى إن الغليون انزلق من يده وسقط من فوق الحاجز، من ارتفاع مائة قَدم ليستقر أسفل الجرف.»
ثم يتوقَّف جَدي ليرتشف من زجاجته قبل أن يستأنف كلامه. قال: «حسنًا، كان أبوك لطيفًا بما يكفي لأن ينتظر حتى ينتهي صديقه من السعال ثم أمرَه أن يقفز من فوق الحاجز ويُعيد له الغليون. فنظر الرجل أسفل الجرف الذي يهبط بزاوية قائمة وقال لباراك إنه سيشتري له واحدًا آخر عوضًا عنه …»
قالت جدتي من المطبخ: «أمرٌ معقول جدًّا.» (كنا نطلق على جدتي توتو، أو اختصارًا توت، وتعني «الجدة» بلغة هاواي لأنها رأت في اليوم الذي وُلِدْتُ فيه أنها لا تزال صغيرة للغاية كي يخاطبها أحد بلقب جدتي.) فيعقد جَدي ما بين حاجبَيه ويقرِّر أن يتجاهلها:
«لكن باراك كان مصرًّا على استعادة غليونه؛ لأنه كان هديةً ولا شيء يعوِّضه عنه. فألقى الفتى نظرةً أخرى وهزَّ رأسه مرة أخرى، وهنا رفعه والدك من على الأرض وبدأ يؤرجِحه على الحاجز!»
ويطلق جَدي صيحةً ويضرب على ركبته بمرح. ويضحك وفي هذه اللحظة أتخيَّل نفسي أنظر إلى والدي الأسمر البشرة واقفًا قُبالة الشمس الساطعة، وذراعا صديقه المذنب تلوِّحان في الهواء وأبي يحمله عاليًا؛ يا لها من رؤية مخيفة لتحقيق العدالة.
فتقول أمي وهي تنظر إليَّ بقلق: «إنه لم يكن يحمله فوق الحاجز بالضبط يا أبي»، ولكن جَدي يأخذ رشفةً أخرى من الويسكي ويستمر في الحديث:
«عندئذٍ، بدأ الناس يحدِّقون فيما يحدث، وأمُّك تناشد باراك أن يتوقَّف، وأظن أن صديقه كان يحبس أنفاسه ويتلو صلواته. وعلى أية حال، بعد بضع دقائق ترك والدك الرجل يهبط على قدمَيه مرةً أخرى، وربَّت على ظهره واقترح بهدوء أن يذهبوا جميعًا ويحتسوا الجِعَة. وما لا يخطر لك على بال أن أباك استمر في التصرُّف بهذه الطريقة لما تبقَّى من الرحلة، وكأن شيئًا لم يكن. وبالطبع كانت والدتُك عندما عادا إلى المنزل ما زالت غاضبةً إلى حدٍّ بعيد. في الحقيقة كانت تتحدَّث إلى والدك بالكاد، ولم يكن والدك يساعد على تحسين الأمور. فعندما حاولت والدتُك أن تُخبرنا بما حدث، هزَّ رأسه وبدأ يضحك، وقال لها: «اهدئي يا آنا»، كان صوت والدِك عميقًا جهوريًّا ويتحدَّث باللكنة البريطانية. وهنا يَثني جَدي ذقنه إلى عنقه ليحقِّق التأثير الكامل. ويستكمل: «اهدئي يا آنا.» ويتابع: «ما أردتُ إلا تعليم ذلك الشاب درسًا عن العناية اللائقة بممتلكات الآخرين!»»
كان جَدي يبدأ في الضحك مرة أخرى حتى يأتيه السعال، وتُغمغم جدتي بصوتٍ خافت أنها رأت أنه من الأفضل أن والدي قد أدرك أن إسقاط الغليون كان مجرد حادثٍ عارض لأنه مَن يدري ماذا كان سيحدث غير ذلك، وكانت والدتي توجِّه نظرَها إليَّ وتقول إنهما يُبالغان.
كانت أمي تعترِف وعلى شفتَيها يرتسِم شبحُ ابتسامة: «قد تكون شخصية والدك مسيطرة إلى حدٍّ ما.» ثم تستدرك: «لكن هذا في الواقع لأنه شخص صادق للغاية. وذلك يجعله عنيدًا في بعض الأحيان.»
كانت أمي تُفضِّل أن ترسم صورةً أكثرَ رقةً لوالدي، فتحكي لي أنه حضَر لتسلُّم مفتاح الجمعية الفخرية «في بيتا كابا» مرتديًا ثيابَه المفضَّلةَ؛ بنطلون جينز وقميصًا قماشيًّا قديمًا عليه صورة نَمِر. وتقول: «لم يخبره أحدٌ أن الأمر شرف كبير؛ لذا فقد دخل ووجد الجميع يقفون في تلك الغرفة الأنيقة يرتدون ستراتٍ رسمية. وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رأيته يشعر فيها بالخجل.»
وكان جَدي، بعد أن يستغرق فجأةً في التفكير العميق، يبدأ يومئ لنفسه ويقول: «إنها حقيقة يا باري.» ويتابع: «لقد كان بإمكان والدك أن يتعامل مع أي موقفٍ فجعل هذا الجميعَ يحبُّونه. أتذكَّر أنه كان عليه أن يُغني في مهرجان الموسيقى الدولي؟ لقد وافق على غناء بعض الأغاني الأفريقية، لكن عندما وصل اتضح أن الأمرَ ليس هينًا، كانت السيدة التي قدَّمت العرض السابق له مطربةً شِبه محترفة؛ فتاة من هاواي لدَيها فرقة موسيقية كاملة تدعمها. كان يمكن لأي شخصٍ عندئذٍ أن يتوقَّف، ويتعلَّل بأن خطأً ما قد حدث إلا باراك. فلم تكن تلك طبيعته؛ فقد نهض وبدأ يُغني أمام ذلك الجمْع الكبير، وأنا أقول لك إن هذا ليس بالأمر الهين، وهو لم يكن رائعًا، لكنه كان واثقًا من نفسه فحصل على الفور على الإعجاب نفسه الذي حصل عليه الآخرون.»
وكان جَدي يهزُّ رأسه وينهض من على مقعده ويقلب قنوات التليفزيون. وكان يقول لي: «هناك شيء يمكنك أن تتعلَّمه من والدك.» ثم يستكمل: «الثقة. إنها سرُّ نجاح الإنسان.»
•••
كانت جميع القصص تسير على هذه الوتيرة؛ موجزةً ومشكوكًا في صحتِها وتُروى في تتابُعٍ سريع على مدار أمسيةٍ واحدة، ثم تطويها ذاكرة عائلتي لشهور، وفي بعض الأحيان لسنوات. بالضبط مثل الصور القليلة لوالدي التي ظلَّت في المنزل، وهي صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود كنتُ أعثر عليها عَرَضًا وأنا أبحث في الخزانات عن زينة رأس السنة أو جهازٍ قديم للتنفُّس تحت سطح الماء. وفي الوقت الذي بدأتْ فيه ذكرياتي، كانت أُمي قد بدأت بالفعل علاقتها العاطفية بالرجل الذي سيُصبح زوجها الثاني، وشعرتُ دون تفسيرٍ لماذا تعيَّن أن تُوضَع الصور بعيدًا. ولكن بين الحين والآخر، كنتُ أُحدِّق — وأنا أجلس مع أُمِّي على الأرض، ورائحة الغبار والنفتلين تنبعث من الألبوم الممزَّق — في صورة أبي؛ الوجه الأسمر المبتسِم، الجبهة البارزة والنظارة السميكة التي تجعله يبدو أكبر سنًّا من عمره الحقيقي، وأستمع وأحداث حياته تتدفَّق في قصةٍ يرويها طرَف واحد.
علمتُ أن أبي كان أفريقيًّا، كينيًّا من قبيلة «لوو» وُلِد على شواطئ بحيرة فيكتوريا في قريةٍ يُطلق عليها «أليجو». كانت القرية فقيرة، لكن والده — جَدي الآخر حسين أونيانجو أوباما — كان مزارعًا بارزًا وأحد كبار القبيلة، وطبيبًا يمتلك قوًى شفائية. ترعرع أبي يرعى ماعز والدِه ويدرُس في المدرسة المحلية التي أنشأتها حكومةُ بريطانيا الاستعمارية، وقد أظهر تفوُّقًا كبيرًا في دراسته، بعد ذلك فاز بمنحةٍ دراسية بجامعة نيروبي، ثم في عشية استقلال كينيا اختاره القادة الكينيُّون والرعاة الأمريكيون للدراسة بجامعةٍ في الولايات المتحدة لينضمَّ إلى أول موجةٍ كبيرة من الأفارقة تُبعَث لتُتقِن تكنولوجيا الغرب وتعود بها تبني أفريقيا عصرية جديدة.
عام ١٩٥٩م وصل أبي إلى جامعة هاواي وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ليكون أول طالب أفريقي في تلك الجامعة. ودرس الاقتصاد القياسي واجتهد في دراسته بتركيزٍ ليس له نظير، وتخرَّج بعد ثلاث سنوات أوَّلَ دفعتِه. كان له عدد ضخم من الأصدقاء، وساعد في تنظيم الاتحاد الدولي للطلاب، وكان أوَّل رئيس له. وفي دورةٍ لدراسة اللغة الروسية، قابل فتاةً أمريكية خجولة مُرتبكة كانت في الثامنة عشرة من عمرها فجمعهما الحب. وأُسِر والدا الفتاة — اللذان كانا مُتحفِّظَين في البداية — بجاذبية الرجل وعقليته، وتزوَّج الشابَّان وأنجبا طفلًا أورثه والدُه اسمَه. ثم فاز الأب بمنحةٍ دراسية أخرى، هذه المرة ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، لكنه لم يحصل على النقود التي تجعله يصطحِب أُسرتَه الجديدة معه. وحدث الانفصال، وعاد هو إلى أفريقيا ليفي بوعده للقارة. وظلَّت الأم والطفل في أمريكا، لكنَّ بُعدَ المسافة لم يؤثِّر على رباط الحب.
وهنا تنتهي صور الألبوم، وأبتعِد أنا راضيًا مُتدثرًا بالقصة التي وضعتْني في منتصف عالمٍ شاسِع ومرتَّب. وحتى في الرواية الموجزة التي قصَّتها عليَّ والدتي وجَدَّاي، كان هناك الكثير من الأشياء التي لم أفهمها. لكني نادرًا ما سألتُ عن التفاصيل التي من الممكن أن تُحدِّد معنى كلمة «دكتوراه» أو «استعمار» أو أن أُحدِّد موقع أليجو على الخريطة. بدلًا من ذلك، احتلَّ مسار حياة أبي المكان نفسه الذي احتلَّه كتابٌ اشترته لي أمي ذات مرة، كتاب يُسمَّى «الجذور»، وهو مجموعة من قصص الخلق من جميع أنحاء العالم، قصص لسِفْر التكوين والشجرة التي وُلِد عندها الإنسان، وبروميثيوس ونعمة النار، والأسطورة الهندوسية للسلحفاة التي تطفو في الفضاء وتحمل ثِقَل العالَم على ظهرها. وفي وقتٍ لاحق، عندما أصبحتُ أكثرَ اعتيادًا على طريق السعادة الضيق الذي يُوجَد في التليفزيون والسينما، أصبحَتِ الأسئلة تعصف بذهني؛ ما الذي يحمل السلحفاة؟ لماذا يترك إله قدير ثعبانًا يُسبِّب كلَّ هذا الحزن؟ لماذا لم يَعُد أبي؟ لكن في سنِّ الخامسة أو السادسة، رضيتُ أن أترك هذه الألغاز البعيدة دون المَساس بها، كلُّ قصة قائمة بذاتها وحقيقية كالتي تليها، تنجرف إلى أحلامٍ هادئة.
وحقيقةُ أن أبي لم يكن يبدو مثل أيِّ شخصٍ ممن حولي، أنه أسود كالفحم وأمي بيضاء كاللبن، لم تَعلقْ بذهني.
في الحقيقة لا أتذكَّر سوى قصةٍ واحدة تتناول بصراحةٍ موضوع العِرق، وعندما كبرتُ كانت تتكرَّر كثيرًا، كما لو أنها تُعبِّر عن جوهر القصة الأخلاقية التي أصبحت حياةُ أبي تُمثِّلها. ووفقًا للقصة، انضم أبي، بعد ساعاتٍ طويلة من المذاكرة، إلى جَدي وعدد من الأصدقاء الآخرين في حانةٍ محلية في منطقة وايكيكي. كان الجميع في مزاجٍ مرحٍ يأكلون ويشربون على صوت الجيتار الذي تشتهر به هاواي عندما أعلن رجلٌ أبيض فجأة لساقي الحانة بصوتٍ عالٍ أسمعَ الجميعَ أنه لم يكن من المفترض أن يحتسيَ الخمرَ الجيد «بجوار زنجي». غرقت الحانة في الصمت واستدار الجميعُ إلى أبي متوقِّعين أن يَشبَّ شجار. لكن أبي نهض، وسار إلى الرجل وابتسم وبدأ يُلقِّنه درسًا عن حماقة التعصب الأعمى ووعد الحلم الأمريكي والحقوق العالمية للإنسان. وكان جَدي يقول: «تملَّك الرجلَ شعورٌ بالأسف الشديد عندما انتهى باراك من حديثه حتى إنه وضع يده في جيبه وأخرج ١٠٠ دولار أعطاها لباراك في الحال، ودفع مقابل جميع المشروبات والمقبلات التي تناولناها لباقي السهرة، بل إيجار سكن والدك لباقي الشهر.»
عندما بلغتُ سنَّ المراهقة أصبحتُ أشكُّ في صِدْق هذه القصة وطرحتُها جانبًا مع باقي القصص، حتى تلقيتُ مكالمةً هاتفية بعد مرور سنواتٍ كثيرة من رجلٍ أمريكي من أصلٍ ياباني قال إنه كان زميلَ والدي في هاواي وأنه يُدرِّس في إحدى جامعات الغرب الأوسط. كان الرجل لطيفًا للغاية، ويشعر بشيءٍ من الخجل من اندفاعه، وأوضح لي أنه رأى حوارًا معي منشورًا في الصحيفة المحلية، وأن رؤية اسم والدي جعلت موجةً من الذكريات تتدفَّق إلى ذهنه. ثم في أثناء الحوار الذي دار بيننا أعاد على أسماعي القصة نفسها التي أخبرني إياها جَدي عن الرجل الأبيض الذي حاول أن يشتري عفوَ والدي، وقال لي الرجل عبر الهاتف: «لن أنسى هذا أبدًا»، وسمعتُ في صوته النبرةَ نفسَها التي سمعتُها من جَدي قبل سنواتٍ كثيرة؛ نبرةَ عدم التصديق والأمل.
•••
«اختلاط الأجناس». مصطلح يبدو قميئًا مشوهًا ينذر بنتيجةٍ بشعة، بالضبط مثل عبارة «ما قبل الحرب الأهلية الأمريكية» أو وصف شخصٍ بأن «ثُمن أسلافه من الزنوج»، إنها تستدعي صورًا من عصرٍ آخر، عالم بعيد من السياط والنيران، ونباتات المنغولية الميتة وأروقة المعابد المتداعية. ومع ذلك فلم تنجح المحكمة العليا بالولايات المتحدة في إقناعِ ولاية فيرجينيا أن منْعَها الزواجَ بين الأجناس المختلفة خرقٌ للدستور إلا عام ١٩٦٧م، وهو العام الذي احتفلتُ فيه بعيد ميلادي السادس، والعام الذي عزَف فيه جيمي هندريكس في مونتيري وغنَّى، وبعد ثلاث سنوات من حصول الدكتور كينج على جائزة نوبل للسلام، وهو وقتٌ كانت أمريكا قد بدأت فيه بالفعل تسأم مطالبة السود بالمساواة، وانتهت على ما يفترض مشكلة التمييز العنصري. أما عام ١٩٦٠م، العام الذي تزوَّج فيه والداي، فكان اختلاط الأجناس لا يزال يوصف بأنه جريمةٌ عظمى في أكثر من نصف ولايات الاتحاد. وفي أجزاء عديدة من الجنوب كان من الممكن أن يُعَلَّق أبي على شجرةٍ لمجرد أنه ينظر إلى أمي نظرةً غيرَ لائقة؛ وفي أكثرِ مدن الشمال تحضرًا كان من الممكن أن تدفع النظرات العدائية والهمسات أية امرأة في مأزق والدتي أن تقوم بعملية إجهاض غير شرعية، أو على الأقل أن تلجأ لديرٍ بعيد يمكن أن يرتِّب لعملية التبني، وكان من الممكن اعتبار مجرَّد صورتهما معًا مسألةً فظيعة وشاذة؛ بمنزلة ردٍّ فعَّال على القلة من المتحررين الأغبياء الذين يدعمون أجندة الحقوق المدنية.
لكن السؤال: هل كنتَ ستدع ابنتك تتزوَّج واحدًا منهم؟
وردُّ جَداي بالإيجاب على هذا السؤال — بصرف النظر إلى أي مدًى كان ذلك على مضضٍ — يظلُّ لغزًا مُلحًّا عليَّ. فلم يكن هناك أيُّ شيء في ماضيهما ينبئ بمثل هذه الإجابة، فلا يُوجَد مؤمنون بالفلسفة المتعالية من نيو إنجلاند أو اشتراكيون متطرفون في شجرة عائلتيهما. صحيح أن كانساس حاربت إلى جانب الاتحاد في الحرب الأهلية، وكان جَدي يحب أن يذكِّرني بأن فروعًا مختلفة من شجرة العائلة كانت تضمُّ مناهضين متحمِّسين للعبودية. وإذا سألت جدتي فإنها ستدير رأسها إلى الجانب لتستعرض أنفها الأعقف الذي يدل — بالإضافة إلى عينيها الشديدتي السواد — على أنها من نسل قبيلة شيروكي (من السكان الأصليين للولايات المتحدة).
لكن صورة قديمة بُنية اللونِ على رفِّ الكتب كانت تعبِّر بوضوح عن جذورهما. يظهر فيها جَدَّا جَدَّتي، وهما من أصلٍ اسكتلندي وإنجليزي، واقفَين مُتجهمَين أمام منزلٍ متداعٍ، يرتديان ملابسَ من صوفٍ خشن، وعيونهما شبه مغمضة تنظر إلى الحياة الصعبة القاسية التي تمتد أمامهما. وكان لهما وجهان كاللذين يظهران في اللوحة التي رسمَها جرانت وود التي حملت اسم القوطي الأمريكي وهم الأقارب الفقراء من نسل البروتستانت الأنجلو ساكسونيين البِيض (واسب)، وفي عيونهما يرى المرءُ الحقائقَ التي سأعلم فيما بعدُ أنها وقائع؛ أن كانساس لم تنضمَّ إلى الاتحاد حرةً إلا بعد الأحداث العنيفة التي سبقت نشوب الحرب الأهلية في المعركة التي تذوَّق فيها سيف جون براون طعمَ الدماء لأول مرة، وأنه في حين كان أحدُ أجدادي الأوائل، وهو كريستوفر كولومبس كلارك، جنديًّا في جيش الاتحاد وحاصلًا على أوسمة، كانت الشائعات تطارد أمَّ زوجته أنها تَمُتُّ بصلةِ قرابةٍ من الدرجة الثانية لجيفرسون دافيس، رئيس الولايات الكونفدرالية التي انشقَّت عن الاتحاد، ومع أن أحد أجدادها الأوائل كان من قبيلة شيروكي فقد كان ذلك النسل مصدرًا للخِزي الشديد لوالدة جدتي، وكلما ذكر أحدُهم هذا الأمر شحب وجهها، وتمنَّت أن تحمل هذا السرَّ معها إلى قبرها.
هذا هو العالَم الذي نشأ فيه جدَّاي، وسط الدولة بالضبط المحاط بالأرض من جميع الاتجاهات، وهو مكان ترتبط فيه اللياقة وقوة التحمُّل وروح الريادة ارتباطًا وثيقًا بالامتثال لقواعد المجتمع، والشك واحتمال التعرُّض للقسوة التي لا يطرِف لها جَفن. لقد نشأ أحدهما على بُعد أقل من ٢٠ ميلًا من الآخر؛ فجدَّتي نشأت في أوجوستا وجَدي نشأ في إلدورادو وهما مدينتان أصغر من أن تظهرا بحروفٍ بارزة على خريطةٍ للطريق، ورسمت مرحلة الطفولة — التي كانا يحبَّان أن يقصَّاها كي أستفيد منها — بلدةً صغيرة، كما رسمت أمريكا أثناء عصر الكساد بجميع مظاهر مجدِها البريء؛ الاستعراض العسكري في الرابع من يوليو وعروض الأفلام التي كانت تُقام على جوانب الحظائر، واليراعات الموضوعة في برطمان، والمذاق الحلو كالتفاح للطماطم الناضجة، والعواصف الترابية والثلجية، والفصول المكتظَّة بأطفال المزارع الذين لا يبدِّلون أبدًا ملابِسَهم الداخلية الصوفية التي تلتصق بأجسادهم منذ بداية الشتاء، وتنبعث منهم رائحةٌ كريهة مثل الخنازير مع مرور الشهور.
حتى أزمة انهيار المصارف ونزْع ملكية المزارع بدت أمرًا رومانسيًّا بعد أن غزلته ذاكرة جديَّ، وعندئذٍ كان الجميع يشترك في الشدائد التي تُعد وسيلةً عظيمة للمساواة بين الناس والتقريب بينهم. لذا كان على المرء أن يستمع بحرصٍ ليُدرك الترتيب الهرمي الدقيق والقوانين غير المعلنة التي كانت تحكم حياتهم في بدايتها، والتمييز بين الأشخاص الذين لا يملكون الكثير ويعيشون في مناطقَ نائية. لقد كان الأمر يتعلَّق بشيء يُطلَق عليه الاحترام؛ فقد كان هناك أناس محترمون وآخرون لا يحظون بقدرٍ كبير من الاحترام، ومع أن المرء لا يجب أن يكون ثريًّا لينعم باحترام الناس؛ ففي الواقع عليه أن يبذل كثيرًا من الجهد لينال هذا الاحترام إن لم يكن ثريًّا.
كانت عائلة جدتي محترمة. فكان والدها يعمل بوظيفةٍ ثابتة طَوال فترة الكساد، فيدير عقودَ تأجير الأراضي التي سيُنقَّب فيها عن البترول لشركة ستاندرد أويل. وكانت والدتها قبل أن تنجِب تُدرِّس في مدارس إعداد المعلمين. كانت الأسرة تحافظ على منزلها نظيفًا، وتطلب كتبًا من التي ترِد في قائمة «جريت بوكس» عبر البريد، وتقرأ الكتاب المقدَّس ولكنها بصفةٍ عامة كانت تتجنَّب الذَّهاب إلى الخِيام التي تُعقد بها اجتماعات النهضة المسيحية، وتُفضِّل شكلًا قويمًا من تعاليم الكنيسة الميثودية التي تقدِّر العقل على العاطفة والاعتدال على كليهما.
أما وضْع جَدي فقد كان أصعب. ولم يعرف أحدٌ لماذا؛ فلم يكن جدَّاه اللذان ربياه هو وشقيقه الأكبر ثريَّين، لكنهما كانا مُهذَّبَين ومعمدانيَّين يخافان الله، وينفقان على العائلة من أجرهما كعاملين في منصات النفط بالقرب من مدينة ويتشيتا. ومع ذلك فقد تحوَّل جَدي بطريقةٍ ما إلى شخصٍ طائش إلى حدٍّ ما. وأرجع بعض الجيران سببَ ذلك إلى انتحار والدته؛ فقد كان ستانلي — الذي لم يتجاوز الثامنة — هو الذي وجد جثَّتها. وكان آخرون أقلَّ رفقًا به يهزون رءوسهم ويقولون إن الولد يحذو حذو والده زير النساء، ويرَون أن هذا هو السبب الأكيد لمصير والدته التَّعس.
ومهما كان السبب، فعلى ما يبدو كان جَدي يستحق السمعة التي عُرف بها. ففي سن الخامسة عشرة، طُرد من المدرسة الثانوية لأنه لكمَ الناظرَ في أنفه. وفي السنوات الثلاث التالية كان ينفِق على نفسه من أعمالٍ مختلفة؛ يتنقَّل بين عربات القطارات المتجهة إلى شيكاغو ثم كاليفورنيا ثم يعود أدراجه مرة أخرى، وأثناء هذا التنقُّل ينخرط في الهراء ولعِبِ الورق وإقامة علاقات مع النساء. وكما كان يحب أن يقول، فإنه كان يعرف طريقه جيدًا في ويتشيتا حيث انتقلت عائلته وعائلة جَدتي في ذلك الوقت، وهي من جانبها لا تُناقض ما يقوله، وبالطبع صدَّق والدا جَدتي القصصَ التي سمعاها عن الشاب واستنكرا علاقته بها من البداية. وأول مرة أحضرت فيها جَدتي جَدي إلى منزلها ليقابل أُسرتها ألقى والدها نظرة واحدة على شَعر جَدي الأسود الأملس الممشَّط إلى الخلف، ثم ابتسم ابتسامة الرجل الحكيم التي يرسُمها دائمًا على شفتَيه وعبَّر عن تقييمه الصريح:
«إنه يُشبه المتبخترين من الإيطاليين.»
ولكن جَدتي لم تأبَه. فهي كمتخصصة في التدبير المنزلي حديثة التخرُّج في المدرسة الثانوية سئمت الامتثالَ لقواعد المجتمع، ولا بد أن جَدي كان أنيقًا وجذابًا لها. في بعض الأحيان أتخيَّلهما في كل مدينة أمريكية في تلك السنوات التي سبقت الحرب، وهو يرتدي سروالًا فضفاضًا وفانلة بيضاء وقبَّعة عريضة الحواف يُرجِعها إلى الخلف على رأسه، وهو يقدِّم سيجارةً إلى هذه الفتاة العذبة الحديث التي تُفرِط في طلاء شفتيها باللون الأحمر وتصبغ شعرها ليصبح أشقرَ ولها ساقان جميلتان تصلحان لاستعراض جوارب المتجر المحلي. أتخيَّله وهو يحدِّثها عن المدن الكبيرة، والطريق السريع الذي لا ينتهي، وهروبه الوشيك من السهول الخاوية التي يُغطيها الغبار، حيث تعني الخططُ الكبيرة العملَ مديرًا لبنك، وتعني التسليةُ آيس كريم بالصودا وحضورَ حفلٍ في نهار يوم الأحد، وحيث يخنُق الخوفُ وضيقُ الخيال أحلامَ المرء حتى إنه يعرف بالفعل في اليوم الذي يُولد فيه أين بالضبط سيموت ومَن سيدفنه. ويصرُّ جَدي على أنه لن ينتهيَ به الحال هكذا، فلدَيه أحلامه، ولدَيه خططه، وسينقل لجدتي عدوى التنقُّل التي جعلت أجدادهما يعبُرون المحيط الأطلنطي ونصف قارة قبل سنوات كثيرة.
وهربَا سرًّا ليتزوَّجا في توقيت قصف بيرل هاربور بالضبط، وجُنِّد جَدي في الجيش. وعندئذٍ تسير أحداث القصة في ذهني بسرعةٍ شديدة مثلَ مشهد نزع أوراق نتيجة حائط بوتيرةٍ أسرعَ فأسرع في أحد تلك الأفلام القديمة بيدٍ خفية، فتدور بسرعةٍ في مخيلتي عناوين أخبار عن هتلر وتشرشل وروزفلت ونورماندي، إلى أن تصل العناوين لدوي القصف بالقنابل وصوت إدوارد آر. مورو وإذاعة بي بي سي. وأشاهد أُمي وهي تُولَد في قاعدة الجيش حيث كان يتمركز جَدي، وكانت جَدتي إحدى النساء اللاتي عملن في المصانع الحربية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت تعمل في خطِّ تجميع قاذفة قنابل، وجَدي يخوض في الوحل في فرنسا ضمن قوَّات الجنرال باتون.
وعاد جَدي من الحرب دون أن يرى حربًا حقيقية قط، واتجهت الأسرة إلى كاليفورنيا حيث التحق جَدي بجامعة بيركلي بموجب قانون إعادة تأهيل رجال الجيش العائدين من الحرب. لكن غرفة الدراسة لم تتَّسع لطموحاته ونفاد صبره، ومن ثم انتقلت الأسرة مرةً أخرى عائدة في البداية إلى كانساس، ثم عبر سلسلة من المدن الصغيرة في تكساس، وأخيرًا إلى سياتل حيث استقر بهما المُقام لفترةٍ طويلة سمحت لوالدتي أن تُنهي دراستها في المدرسة الثانوية. وعمل جَدي بائعًا للأثاث، واشتريا منزلًا ووجدا شركاء يلعبون معهما لعبة البريدج. وكانا سعيدَين لأن والدتي أثبتت تفوُّقها في المدرسة، مع أنها عندما عُرض عليها الالتحاق المبكِّر بجامعة شيكاغو منعها جَدي من الذَّهاب مُقرِّرًا أنها لا تزال أصغر من أن تعيش بمفردها.
•••
وعندئذٍ كان من الممكن أن تتوقَّف القصة؛ منزل وأسرة وحياة محترمة. فيما عدا أن شيئًا واحدًا كان لا يزال يقضُّ مضجع جَدي. ويمكنني أن أتخيَّله وهو يقف على حافة المحيط الهادي، وقد شاب شعره مبكرًا، وأصبح جسده الطويل النحيل ممتلئًا، ينظر إلى الأفق يراه وهو ينحني، ولا يزال يشمُّ رائحة منصات النفط وقشر الذرة والحياة الصعبة التي ظن أنه تركها بعيدًا وراءه. ولذلك عندما ذكَر أمامه بالصدفة مديرُ شركة الأثاث التي يعمل بها أن متجرًا جديدًا على وشْك أن يُفتتَح في هونولولو، وأن فرص ازدهار العمل هناك غير محدودة نظرًا لأنها قريبًا ما ستُحقق استقلالها، أسرعَ إلى البيت في اليوم نفسِه وتحدَّث إلى جَدتي عن بيع المنزل وحَزَم حقائبهم مرة أخرى للشروع في آخر جولة في رحلتهم غربًا، في اتجاه غروب الشمس …
سيكون دائمًا بهذا الشكل، أعني جَدي، دائمًا ما يبحث عن هذه البداية الجديدة، دائمًا ما يهرُب من الأمور المألوفة. وعندما وصلت الأسرة إلى هاواي كانت شخصيته قد نضجت تمامًا على ما أظن؛ تلك الشهامة والرغبة في إسعاد الآخرين، ذلك المزيج الغريب من الخبرة والمعرفة وضيق الأفق، وسذاجة المشاعر التي من الممكن أن تجعله فجأةً غير لبقٍ ومن السهل جرحُ مشاعره. لقد كانت شخصيته شخصيةً أمريكية، نموذجًا للرجال من جيله، الرجال الذين اعتنقوا مفهوم الحرية والفردية والطريق المفتوح دون أن يكونوا دائمًا على درايةٍ بثَمن ذلك، والذين من الممكن أن تقود حماستهم بالسهولة نفسها إلى جبن المكارثية أو إلى أعمال الحرب العالمية الثانية البطولية، الرجال الذين كانوا خطيرين وواعِدين في آنٍ واحد، وكانوا كذلك بسبب براءتهم المتأصِّلة، وهم الرجال الذين سيُصابون بالإحباط في النهاية.
ومع ذلك فحتى عام ١٩٦٠ لم يكن جَدي قد تعرَّض للاختبار بعد، أوقات الإحباط ستأتي بعد ذلك، وحتى عندما تأتي فإنها ستأتي ببطءٍ ومن دون العنف الذي كان من الممكن أن يغيِّره للأفضل أو للأسوأ. وقد أصبح يعتبر نفسه مفكرًا حرًّا مخالفًا لمن حوله، بل بوهيميًّا. وكان يكتب الشعر أحيانًا ويستمع إلى موسيقى الجاز، ويعتبر عددًا من اليهود الذين قابلهم في عمله في مجال الأثاث أقربَ أصدقائه. وفي محاولته الوحيدة للدخول إلى الدِّين المنظم، كان يدرج أسماءَ الأسْرة في الاجتماع المحلي للمُتَّبِعين لمذهب الكونية التوحيدية، وكانت تروقه فكرة أن التوحيديين يستخدمون نصوص جميع الأديان العظيمة (وكان يقول: «كما لو أن لديك خمسةَ أديان في دينٍ واحد»). كانت جَدتي تحاول أن تُقنعه بالعدول عن آرائه في الكنيسة (فتقول: «بحق السماء يا ستانلي، ليس من المفترض أن يكون الدِّين مثل شراء حبوب الإفطار!»)، لكن إذا كانت جَدتي أكثر شكًّا بطبيعتها، ولم تكن تتفق مع جَدي في بعض مفاهيمه الغريبة، فإن الاستقلال العنيد لشخصيتها وإصرارها على التفكير في الأمور بنفسها، جعلهما بصفةٍ عامة متقاربَين.
كل هذا جعلهما مُتحررَين إلى حدٍّ ما، مع أن أفكارهما لن تتحدَ أبدًا لتُكوِّن ما يُشبه أيديولوجية ثابتة، وفي هذا كانا أيضًا أمريكيَّين. ولذا عندما عادت أُمي إلى المنزل ذات يومٍ وتحدَّثت عن صديقٍ قابلَتْه في جامعة هاواي، وهو طالب أفريقي يُدعى باراك، كان أول ما بدر إلى ذهنهما هو دعوته إلى العَشاء. وأظن أنه جال في خاطر جَدي أن ذلك الشاب المسكين على الأرجح وحيدٌ وبعيد عن وطنه، وكانت جدتي ستقول لنفسها من الأفضل أن نُلقي نظرةً عليه. وعندما وصل أبي إلى باب منزلهما، من المحتمل أن جَدي قد صُدِمَ على الفور بمدى تشابُه الأفريقي مع أحد مُطربيه المفضَّلين؛ نات كينج كول، وأستطيع أن أتخيَّله وهو يسأل أبي هل بإمكانه أن يُغنِّي، دون أن يفهم نظرة الارتياع التي ارتسمت على وجه والدتي، وكان جَدي على الأرجح مشغولًا للغاية يحكي إحدى دعاباته أو يتجادل مع جَدتي حول كيفية طهي شرائح اللحم حتى إنه لم يلحظ أن والدتي مدَّت يدَها وضغطت على اليد القوية الملساء إلى جوار يدِها. ولاحظت جَدتي ذلك لكنها كانت مُهذَّبة بما يكفي لأن تقدِّم الحلوى وهي تعض على شفتيها؛ فقد حذَّرتها غريزتها من أن تُبالغ في ردِّ فعْلها. وعندما انتهت الأمسية علَّق كلاهما على حِدَّة ذكاء الشاب ومدى اعتزازه بنفسه الواضح في الإيماءات المحسوبة وجِلسته الأنيقة وهو يضع ساقًا فوق أخرى، وما أجمل اللُّكنة!
ولكن هل يتركان ابنتهما «تتزوج» واحدًا مثله؟
إننا لا نعرف بعد، فالقصة حتى ذلك الحين لا تقدِّم تفسيرًا مناسبًا. الحقيقة أنهما — على غرار معظم الأمريكيين البِيض في ذلك الوقت — لم يُفكِّرا كثيرًا في السود. فقد سلكت قوانين الفصل العنصري طريقها شمالًا إلى كانساس قبل أن يُولَد جَداي بزمنٍ طويل، لكن هذه التفرقة بدت على الأقل حول ويتشيتا أكثر لُطفًا وأقل رسمية، ولم تتضمَّن ذلك القدْر الكبير من العنف الذي سيطر على ولايات أقصى الجنوب. فقد أبقت القوانين نفسُها غيرُ المعلنة التي حكمت الحياة بين البِيض التعاملَ بين الأجناس المختلفة عند أدنى مستوياته، وعندما يظهر السود في ذكريات جَدي وجَدتي عن كانساس، تكون صورًا قصيرة؛ رجال سود يأتون بالقُرب من حقول النفط من حينٍ لآخر يبحثون عن عمل كعُمَّالٍ بالأجرة، أو سيدات سوداوات يأخذن ملابس البِيض للتنظيف أو يساعدن في تنظيف منازل البِيض. فالسود كانوا موجودين وغير موجودين، مثل سام عازف البيانو أو بولا الخادمة أو أموس وأندي على شبكات الإذاعة؛ حضور صامت غير ملحوظ لا يُثير عاطفة ولا خوفًا.
ولم تبدأ الأسئلة حول العِرق تظهر في حياة عائلتي إلا عندما انتقلت إلى تكساس بعد الحرب. فقد تلقَّى جَدي في أسبوعه الأول من العمل هناك نصيحةً من زميله البائع في محل الأثاث عن كيفية التعامل مع الزبائن السود والمكسيكيين: «إذا أراد الملونون أن يلقوا نظرةً على البضائع يجب أن يأتوا بعد ساعات العمل الرسمية، ويتولوا بأنفسهم ترتيبات توصيلها لأماكنهم.» وبعد ذلك تعرَّفت جَدتي في المصرف الذي كانت تعمل فيه إلى الحارس، وهو رجلٌ أسود طويل محترم من محاربي الحرب العالمية الثانية، ولا تتذكَّر إلا أن اسمه كان السيد ريد. وبينما كانا يتبادلان أطراف الحديث في الرُّواق في أحد الأيام ثارت ثائرة سكرتيرة في المكتب وهمست بغضبٍ لجَدتي بأنها لا ينبغي أن تُخاطب أبدًا «زنجيًّا بلقب السيد». وبعد ذلك بوقتٍ قصير وجدت جَدتي السيد ريد في ركنٍ من المبنى يبكي بصوتٍ منخفض، وعندما سألته ما الخطْب نصب قامته وجفَّف عينيه وردَّ بسؤال.
قال: «ماذا فعلنا حتى نُعامل بهذا الاحتقار؟!»
لم تكن جَدتي تعرف إجابةً عن هذا السؤال في ذلك اليوم، لكن السؤال علِق في ذهنها، وكانت تُناقشه في بعض الأحيان مع جَدي حين تأوي أمي إلى الفراش. وقرَّرا أن تستمر جَدتي في مخاطبة السيد ريد بلقب «سيد»، مع أنها تفهَّمت، بمزيج من الارتياح والحزن، المسافةَ التي أصبح الحارس يراعي الحفاظ عليها كلما مرَّ أحدهما بجانب الآخر في الأروقة. وبدأ جَدي يرفض دعوات زملائه في العمل للخروج واحتساء الجِعَة، ويُخبرهم أن عليه العودةَ إلى المنزل كي يُسعِد زوجته. وأصبحا انطوائيَّين وقلقَين وملأهما خوف مجهول وكأنهما غريبان دائمان في المدينة.
وكانت أُمي هي أكثر المتضرِّرين من ذلك المناخ السيئ الجديد. كانت في ذلك الوقت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها، طفلة وحيدة لم تتعافَ من حالة ربو شديدة إلا منذ وقتٍ قليل. وقد جعلها المرض — بالإضافة إلى كثرة التنقُّل — وحيدةً نوعًا ما، كانت مرحةً وخفيفةَ الظل لكنها تميل إلى أن تدفِن رأسَها في كتاب أو تخرُج في نزهاتِ سَيرٍ فردية، وبدأت جَدتي تقلق من أن ذلك الانتقال الأخير زاد من وضوح غرابة سلوكيات ابنتها. وكانت لأمي صداقات قليلة في مدرستها الجديدة، وكانت تتعرَّض بلا رحمة لمضايقاتٍ بسبب اسمها، ستانلي آن (أحد أفكار جَدي التي تفتقد إلى الحكمة؛ إذ كان يريد ابنًا). فكانوا يطلقون عليها ستانلي ستيمر أو الرجل ستان. وكانت جَدتي عندما تعود من عملها تجدها عادةً وحدَها في الحديقة الأمامية تؤرجح ساقيها من فوق الشرفة أو تستلقي على الحشائش مستغرقةً في عالمها المنعزل.
لكن ذلك الوضع اختلف في أحد الأيام. فعندما كانت جَدتي عائدة إلى المنزل في أحد الأيام الحارة الهادئة وجدت جمعًا من الأطفال محتشِدِين خارج السياج المحيط بمنزلهم. وعندما اقتربت جَدتي استطاعت تمييز أصوات ضحكات ساخرة، وعلامات الغضب والاشمئزاز ترتسم على وجوه الأطفال. وكانوا يغنون بصوتٍ حادٍّ وبإيقاع متناوب:
«مُحِبَّة الزنوج!»
«يانكي قذرة!»
«مُحِبَّة الزنوج!»
تفرَّق الأطفال عندما رأوا جَدتي، لكن ليس قبل أن يقذف ولدٌ حجرًا كان في يدِه فوق السياج، وتتبَّعت عينا جَدتي مسار الحجر وهو يهبِط أسفل شجرة، هناك رأت سبب كل هذه الإثارة: كانت والدتي وبِصُحبتها فتاةٌ سوداء في نفس عمرها تقريبًا تستلقيان على بطنيهما إحداهما بجوار الأخرى على الأعشاب وجونلتاهما مرفوعتان فوق ركبتَيهما، وأصابع أقدامهما تخترق تربةَ الحديقة، ورأساهما يستندان على يديهما أمام أحد كتب والدتي. ومن بعيد بدت الفتاتان ساكنتَين تحت ظلِّ أوراق الشجر. ولم تُدرك جَدتي أن الفتاة السوداء كانت ترتعش وعينا أمي مليئة بالدموع إلا عندما فتحت البوابة. ظلت الفتاتان بلا حراك، مشلولتَين من الخوف، حتى انحنت جَدتي في النهاية ووضعت يدَها على رأسيهما.
وقالت: «إذا كنتما ستلعبان، فبحق السماء تعاليا إلى الداخل، أنتما الاثنتان.» وتابعت: «تعاليا!» ثم رفعت والدتي من على الأرض ومدَّت يدَها إلى يد الفتاة الثانية، لكن قبل أن تستطيع التفوه بكلمةٍ أخرى ركضت الفتاة بأقصى سرعتها، وبدت ساقاها الطويلتان كسيقان الكلاب من نوع الوبت السريعة حتى اختفت في الشارع.
استشاط جَدي غضبًا عندما سمع ما حدث، واستجوب أُمي عما حدث ودوَّن الأسماء. وفي اليوم التالي أخذ فترة الصباح إجازة من عمله لزيارة ناظر المدرسة. واتصل شخصيًّا بأولياء أمور بعض الأطفال الذين أهانوا ابنته ليصبَّ عليهم جامَّ غضبه. وقد حصل على الإجابة نفسها من كل ولي أمرٍ تحدَّث إليه:
«من الأفضل أن تتحدَّث إلى ابنتك يا سيد دونهام؛ فبنات البِيض لا يلعبنَ مع الملونين في هذه المدينة.»
•••
من الصعب أن يعرف المرء كيف يقدِّر أهمية هذه الأحداث، وما الإخلاص الدائم للقضية الذي تكوَّن أو انهار، أو ما إذا كانت هذه الأحداث بارزةً فقط في ضوءِ ما تبِعها من أحداث. فكلما تحدَّث جَدي معي عنها أصرَّ أن عدم ارتياح الأسرة مع هذه العنصرية كان من بين الأسباب التي دفعتها لمغادرة تكساس. وكانت جَدتي أكثرَ حرصًا؛ فذات مرةٍ عندما كنا وحدَنا أخبرتني أنهم لم ينتقِلوا من تكساس إلا لأنَّ الأمور لم تكن تسير على ما يُرام مع جَدي في العمل، ولأن صديقًا من سياتل وعَدَه بشيء أفضل. ووفقًا لها فلم يكن حتى مصطلح «العنصرية» في مفرداتهم في ذلك الوقت. فتقول: «كنتُ أرى أنا وجَدك أنه علينا معاملة الناس بأسلوبٍ مهذَّب يا باري. هذا هو كلُّ ما في الأمر.»
إنها حكيمة بهذه الطريقة، فجَدتي — التي تميل للشك في العواطف المفرطة أو الادعاءات المُبالغ فيها — تقبل حُكمَ الفطرة السليمة. لذا أميل إلى الثقة بروايتها للأحداث، فإنها تتفق مع ما أعرفه عن جَدي من ميله لأن يُعيد كتابة تاريخه ليكون متوافقًا مع الصورة التي يتمنَّاها لنفسه.
ومع ذلك فلا أستبعد تمامًا ما يقصه عليَّ جَدي من أحداثٍ وأعتبره عملًا من أعمال الثناء المفرِط على الذات، أي صورة أخرى من إعادة كتابة التاريخ بشكلٍ مُغاير لدى البِيض. لا يمكنني هذا، بالتحديد لأني أعرف مدى إيمان جَدي الشديد بالقصص التي يرويها، ورغبته الشديدة في أن تكون حقيقية، حتى لو لم يعرف دائمًا كيف يجعلها كذلك. بعد تكساس لا أظن أن السُّود أصبحوا جزءًا من القصص التي يرويها، القصص التي كانت تجد طريقها عبر أحلامه. وستُصبح حالة العِرق الأسود وآلامه وجراحه، تختلط في عقله مع آلامه الخاصة؛ الأب الغائب والإشارة إلى الفضيحة، والأم التي رحلت، وقسوة الأطفال الآخرين، وإدراكه أنه لم يكن صبيًّا أشقرَ الشعر، وأنه يبدو مثل «إيطالي متبختر». وأخبرته غريزتُه أن العنصرية كانت جزءًا من ذلك الماضي، جزءًا من التقاليد والجدارة بنَيل الاحترام والمكانة، وجزءًا من تكلُّف الابتسام والهمسات ونشْر الإشاعات التي أبقَتْه في الخارج يحاول أن يسترِقَ النظر إلى الداخل.
أظن أن هذه الغريزة لها أهمية؛ فقد اتجهتْ عند كثيرٍ من البِيض من جيل جَدي وجَدتي ممن لهم نفس خلفياتهما العائلية إلى الاتجاه المضاد؛ اتجاه الجماهير. ومع أن علاقة جَدي بوالدتي كانت قد توتَّرت بالفعل في الوقت الذي وصلوا فيه إلى هاواي — فهي لم تتقبَّل قط عدم استقراره ومزاجه العنيف في معظم الأوقات وستُصبح خجولة من قسوته وأخلاقه الفظة — فقد كانت تلك الرغبة في طمس الماضي، وتلك الثقة بإمكانية إعادة تشكيل العالم من الخيال هو الميراث الباقي له. وسواء أدرك جَدي هذا أم لم يُدركه، فإن رؤيةَ ابنته في صحبةِ رجل أسود قدَّمت له على مستوًى عميق غير مُستكشَف من ذاته نافذةً تطل على قلبه.
ولكن معرفة الذات هذه — حتى إذا كان قد توصَّل إليها — لم تكن لتجعل تقبُّل خطوبة أمي أسهلَ له. في الحقيقة تظل مسألة كيف حدث الزواج ومتى حدث أمرًا غير واضح، وهي التفاصيل التي لم أملِك الشجاعة قطُّ لاستكشافها. فلا يُوجَد تسجيل لحفل زواج بالمعنى المعروف، لا كعكة أو خاتم زواج أو إمساك والد العروس بيد ابنته ليسلِّمها لزوجها. ولم تحضُره عائلات، حتى يبدو أن الناس في كانساس في ذلك الوقت لم يكونوا على علمٍ به. مجرَّد حفل زواج مدني صغير، وقاضٍ لإتمام مراسم الزواج القانونية. الأمر برُمَّته يبدو هشًّا عند تأمُّله، عشوائيًّا للغاية ودون أي تنظيم. وربما يكون هذا هو الأسلوب الذي أراد جَدَّاي أن يتمَّ به الأمر، تجربة ستمر، مسألة وقتٍ فحسب، ما دام أنهما يحافظان على ثبات موقفهما ولم يقوما بأي سلوكٍ عنيف.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنهما لم يُخطئا في تقديرِ حزمِ أمي الهادئ فحسب، بل أخطآ أيضًا في تقدير تذبذُب مشاعرهما. وعندما وُلد طفل، يزن ثمانية أرطال وأوقيتَين وله عشر أصابع في قدمَيه ومثلها في يدَيه ويريد أن يأكل، ماذا كان يمكن أن يفعلا؟
بدأ الزمان والمكان يتآمران ويحوِّلان الموقفَ العصيب إلى شيءٍ يمكن تقبُّله، بل يمكن أن يُصبح مصدرًا للفخر. وكان جَدي يجلس يشارك أبي احتساء الجِعَة ويستمع إلى زوج ابنته الجديد وهو يتحدَّث بجرأة عن السياسة أو الاقتصاد وعن أماكنَ بعيدة للغاية مثل الوايتهول أو الكريملين ويتخيَّل نفسه يستطلع المستقبل. ثم يبدأ يقرأ الصحيفة بحرصٍ أكبر، ويجد أول التقارير التي تحدَّثت عن عقيدة الاندماج العنصري الجديدة في أمريكا، ويقرِّر أن العالَم ينكمِش، وأن العواطف تتغيَّر، وأن الأسرة من ويتشيتا قد انتقلت في الواقع إلى مقدمة سياسة «الحدود الجديدة» التي تبنَّاها كينيدي، وحلم الدكتور كينج الرائع. كيف يمكن لأمريكا أن تُرسِل رجالها إلى الفضاء وهي لا تزال تُبقي مواطنيها السود في العبودية؟ وكانت إحدى أوائل الذكريات في حياتي؛ أن أجلس على كتفَي جَدي أشاهد رواد الفضاء يصِلون من إحدى مهام بعثة أبوللو إلى قاعدة هيكام الجوية بعد هبوطٍ ناجح. وأتذكَّر أن روَّاد الفضاء بنظاراتهم التي يضعها الطيارون كانوا على مسافةٍ بعيدة للغاية، ولا أكاد أراهم عبر مدخل غرفة العزل. ولكن جَدي كان يُقسِم دائمًا أن أحد رواد الفضاء قد لوَّح لي وأنا لوَّحت له. كان هذا جزءًا من القصة التي يرويها لنفسه. لقد دخل جَدي مع زوج ابنته الأسود وحفيده الأسمر البشرة إلى عصر الفضاء.
وأي ميناء يكون أفضل من هاواي، أحدث عضو في الاتحاد، لبدء هذه المغامرة الجديدة؟ حتى في الوقت الحاضر — بعد أن تضاعف تَعداد سكان الولاية أربعة أضعاف، وبعد أن أصبحت وايكيكي تُتاخِم مطاعم الوجبات السريعة المختلفة والمتاجر التي تبيع شرائط الفيديو الإباحية والتقسيم الفرعي الذي يزحف دون رحمةٍ إلى كل جزءٍ من التل الأخضر — حتى في هذا الوقت يمكنني تعقُّب الخطوات الأولى التي خطوتُها وأنا طفل مُنبهر بجمال الجزر. والسطح الأزرق المرتجف للمحيط الهادي. والمنحدرات التي تُغطِّيها نباتات الأشنة الخضراء، والاندفاع الرائع لشلالات مانوا، وزهور الزنجبيل والظلال العالية المليئة بأصواتِ طيورٍ غيرِ مرئية. وأمواج الشاطئ الشمالي العنيفة، تتحطَّم كما لو أنها في بكرة شريطٍ سينمائي في عرضٍ بطيء. وظلال قِمَم بالي الجبلية، والهواء الرطب ذي الرائحة الطيبة النفَّاذة.
إنها هاواي! ولا بد أنها كانت في نظر عائلتي التي وصلت عام ١٩٥٩ كما لو أن الأرض نفسها — بعد أن سئمت تدافُع الجيوش والحضارة المريرة — أجبرت هذه السلسلة من الصخور الزمردية اللون على البروز حيث يستطيع الرُّواد من جميع أنحاء العالم أن يملئوا الأرض بأطفالهم الذين ستصبغُهم الشمس باللون البرونزي. أما الغزو القبيح لسكان هاواي الأصليين عن طريق المعاهدات الفاشلة، والأمراض العضال التي أحضرتها البعثات التبشيرية، وتجريف التربة البركانية الغنية على يد الشركات الأمريكية من أجل زراعة قصب السكر والأناناس، ونظام التعاقُد بين صاحب العمل والأجير الذي جعل المهاجرين من اليابانيين والصينيين والفلبينيين يكدحون دون توقُّف من شروق الشمس إلى غروبها في هذه الحقول، واعتقال الأمريكيين من أصل ياباني خلال الحرب؛ كل ذلك كان تاريخًا حديثًا. ومع ذلك ففي الوقت الذي وصلت فيه عائلتي كان ذلك قد اختفى بطريقةٍ ما من الذاكرة الجماعية، مثل ضباب الصباح الذي بدَّدته الشمس. كان هناك الكثير جدًّا من الأجناس — والسلطة مشتَّتة للغاية فيما بينهم — مما جعل من الصعب فرض النظام الطبقي الصارم المطبق في الدولة الأم، وعدد قليل للغاية من السود حتى إن أكثر أنصار الفصل العنصري حماسةً يمكنهم الاستمتاع بإجازةٍ بأمانٍ في ظل معرفة أن الاختلاط بين الأجناس في هاواي ليس له علاقة بالنظام القائم في الوطن.
ومن ثم، نُسِجَت خيوط أسطورة تقول إن هاواي بوتقةُ الانصهار الحقيقية، وتجربة في التجانُس العِرقي. وقد أقحم جَدي وجَدتي — ولاسيما جَدي الذي كان يتعامل مع أناسٍ كثيرين بحُكم عمله في الأثاث — نفسيهما في قضية التفاهُم المتبادل. ولا تزال هناك نسخة قديمة من كتاب ديل كارنيجي «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثِّر في الناس» على رفِّ مكتبته. وعندما كبرتُ كنتُ أسمعه يتحدَّث بذلك الأسلوب المرح الودود الذي رأى أنه سيساعده في عمله مع زبائنه. فكان من السهل عليه أن يُخرِج بسرعة صورَ العائلة ويروي قصة حياته على أول شخصٍ غريب يُقابله، ويُصافح ساعي البريد ويشدُّ على يدَيه، أو يُلقي دعاباتٍ بذيئة على النادلات في المطاعم.
كانت مثل هذه السلوكيات الغريبة تجعلني أشعر بالخجل ولكن كان هناك أشخاص أكثر تسامحًا من حفيده يقدِّرون صفاته الغريبة، حتى إنه كانت له دائرة واسعة من الأصدقاء، مع أنه لم يكن لدَيه تأثير كبير قط. فقد كان بالقُرب من منزلنا متجر صغير يُديره رجل أمريكي من أصلٍ ياباني يدعو نفسه فريدي يحتفظ لنا بأفضل شرائح التونة من نوع سكيب جاك لصُنع طبق الساشيمي، ويُعطيني حلوى رايس كاندي المغلَّفة بورق أرز يمكن أكله. وفي أوقاتٍ كثيرة كان سكان هاواي الأصليون الذين يعملون في متجر جَدي عمالَ توصيل للطلبات يدعوننا لتناوُل طبق «بوي» المميز لهاواي مع لحم الخنزير المشوي، الذي كان جَدي يلتهِمه بنهمٍ (أما جَدتي فكانت تُدخِّن السجائر حتى تعود إلى المنزل وتقلي لنفسها بيضًا). وفي بعض الأحيان كنتُ أذهب مع جَدي إلى مُتنزَّه أليئي حيث كان يحب أن يلعب الداما مع فلبينيين كبار السن يُدخِّنون سجائر رخيصة ويبصقون بكمياتٍ كبيرة عصارةَ بذور نبات التنبول التي تبدو كما لو أنها دم. ولا أزال أذكر كيف اصطحبَنا رجلٌ برتغالي — كان جَدي قد باعه أريكةً بثَمنٍ جيد — في وقتٍ مبكِّر من صباح أحد الأيام قبل شروق الشمس بساعاتٍ لاصطياد سمكٍ بالحربة من خليج كايلوا. كان هناك مصباح يعمل بالغاز يتدلَّى من الكابينة في قارب الصيد الصغير وأنا أشاهد الرجلَين وهما يغوصان في المياه المظلمة السوداء كالفحم، وضوء كشافيهما يتوهَّج أسفل السطح حتى يظهرا ومعهما سمكة كبيرة ملوَّنة تضرب بذيلها في طرف أحد الرمحَين. وقد أخبرني جَدي باسمها في لغة هاواي، وهو هومو-هومو-نوكو-نوكو-أبوا، وقد أخذنا نُردِّده طوال رحلتنا إلى المنزل.
في مثل هذه البيئة، لم يُسبِّب أصلي العِرقي لجَدي وجَدتي الكثير من المشكلات، وسرعان ما تبنَّيا سلوك الازدراء الذي يتبعه السكان المحليون تجاه الزوَّار الذين يعبِّرون عن عدم ارتياحهم فيما يخصُّ هذا الشأن. وفي بعض الأحيان عندما يرى جَدي السيَّاح يُشاهدونني وأنا ألعب على الرِّمال، فإنه يقترب منهم ويهمس، باحترام لائق، قائلًا إنني حفيد الملك كاميهاميها أول ملوك هاواي. وكان يُحب أن يقول لي وهو يرسم ابتسامةً عريضة على شفتَيه: «أنا واثق من أن صورتك تُوجَد في ألف كتاب للقصاصات يا باري، من ولاية إيداهو إلى ولاية مين.» أظن هذه القصة بالتحديد غامضة، وأرى فيها استراتيجية لتجنُّب الموضوعات الصعبة، لكن جَدي كان يروي قصةً أخرى بالسرور نفسه عن تلك السائحة التي رأتني أسبح يومًا ما، ودون أن تعرف مع مَن تتحدَّث علَّقت قائلة: «لا بد أن سكان هاواي هؤلاء يُولَدون ماهرين بالسباحة.» فأجابها جَدي إن هذا أمرٌ يصعب اكتشافه إذ إن «هذا الصبي هو حفيدي، وأمُّه من كانساس ووالده من قلب كينيا، ولا يُوجَد محيط لمسافة عدة أميال من كلا المكانَين.» ففي نظر جَدي لم يَعُد العِرق شيئًا يستحقُّ أن يقلق المرءُ بشأنه، فإذا كان الجهل لا يزال باقيًا في أماكنَ بعَينها، فسيكون من الباعث على الطمأنينة أن تفترض أن باقي العالم سرعان ما سيلحق بركْب الحضارة والتقدُّم.
•••
وفي النهاية أظنُّ أن هذا هو ما كانت تدور حوله جميع القصص عن أبي. فإنهم لم يتحدَّثوا عن الرجل نفسه بقدرِ ما تحدَّثوا عن التغيُّرات التي حدثت في الأشخاص المحيطين به، والعملية المُتردِّدة التي تغيَّر بها موقف جَدي وجَدتي تجاه العنصرية. لقد أعطت القصص صوتًا لروحٍ ستستحوِذ على الأمة طوال الفترة القصيرة بين انتخاب كينيدي وإقرار قانون حق التصويت؛ الذي يُعَد الانتصار الظاهري للعالمية على محدودية التفكير وضيق الأفق، إنه عالَم جديد مُشرق حيث ستكون الاختلافات في العِرق والثقافة مصدرًا للتوجيه والتسلية، بل ربما تقود المرء للمجد. إنها قصة خيالية جيدة تُطاردني قدرَ ما كانت تطارد عائلتي، وتستحضر بعض جوانب جنةٍ مفقودة تمتدُّ لِأبعدَ من مجرد حدود الطفولة.
ولم تكن هناك سوى مشكلةٌ واحدة؛ أنَّ أبي لم يكن موجودًا. لقد ترك الجنة، ولم يكن شيء مما أخبرَتْني به أمي أو جَدي وجَدتي بإمكانه أن يُلغي هذه الحقيقة الواضحة. وقصصهم لم تُخبرني لماذا رحل. ولم يستطيعوا أن يصِفوا كيف كانت ستبدو الأمور إذا لم يرحل. وعلى غرار الحارس السيد ريد أو الفتاة السوداء التي أثارت الغبار وهي تقطع أحد طرق تكساس مسرعة، أصبح والدي مجرَّد شخصية في قصةٍ يرويها شخصٌ ما. شخصية جذَّابة — شخص غريب قلبه من ذهب، الغريب الغامض الذي يُنقِذ المدينة ويفوز بالفتاة — ولكنه لا يزال شخصية في قصة مع ذلك.
إنني لا ألوم حقًّا والدتي أو جديَّ على هذا. فربما كان والدي يفضِّل الصورة التي رسموها له، بل ربما كان مشتركًا في تصويرها. فهو يظهر، في مقالٍ نُشر في صحيفة «هونولولو ستار-بوليتين» عند تخرُّجه، شخصًا متحفظًا ومسئولًا، في صورة الطالب النموذجي سفير قارته، وينتقِد الجامعة بلباقةٍ لأنها تحشد الطلاب الزائرين في مبنًى خاص مُلحَق بالجامعة وتُجبرهم على حضور برامجَ دراسيةٍ مُصمَّمة لتعزيز التفاهُم الثقافي، وقال إن هذا يُشتِّت انتباهه عن التدريب العمَلي الذي يسعى إليه. ومع أنه لم يتعرَّض شخصيًّا لأية مشكلات، فقد لاحظ أن البعض يعزلون أنفسهم عمن حولهم وأن هناك تمييزًا عنصريًّا واضحًا بين الجماعات العرقية المختلفة، وعبَّر بمرحٍ ساخر عن حقيقة أن «القوقازيين» في هاواي يتعرَّضون أحيانًا للتحيُّز. لكن إذا كان تقييمه يُعبِّر عن بصيرةٍ نافذة نسبيًّا، فقد كان حريصًا على أن يُنهي حديثه بملحوظةٍ إيجابية؛ إذ قال إن أحد الأشياء التي يمكن أن تتعلَّمها الأمم الأخرى من هاواي هي استعداد الأجناس للعمل معًا من أجل تحقيق التنمية المشتركة، وهو سلوك وجد المواطنين البِيض في أماكنَ أخرى غير مُستعدِّين للقيام به في معظم الأحيان.
اكتشفتُ وجودَ هذه المقالة مطويةً بين شهادة ميلادي واستمارات تطعيم قديمة، عندما كنتُ في المدرسة الثانوية. كانت قصاصةً صغيرة بها صورة له، دون ذكرٍ لأُمي أو لي، وتُركتُ أنا لأتساءل عما إذا كان الحذف متعمدًا من جانب أبي، استعدادًا لرحيله الطويل. وربما لم يطرح الصحفي عليه أسئلة شخصية خوفًا من أسلوب أبي المتعجرف، أو ربما كان الأمر قرارًا من مجلس تحرير الصحيفة بصفته ليس جزءًا من القصة البسيطة التي كانوا يبحثون عنها. وأتساءل أيضًا هل سبَّب ذلك الحذف شجارًا بين أبوي.
في ذلك الوقت ما كنت سأعرف لأني كنتُ أصغر سنًّا من أن أُدرك أنه كان من المفترض أن يكون لي أب يعيش معي، بالضبط كما كنتُ أصغر من أن أعرف أني بحاجةٍ لأن يكون لي عِرق. ولفترةٍ قصيرة للغاية بدا أن أبي قد سقط تحت تأثير التعويذة التي سقط تحت تأثيرها أمي وجدَّاي، وحتى عندما كُسِرت تلك التعويذة، واستعادت العوالم — التي ظنوا أنهم تركوها خلفهم — سيطرتها عليهم، شغلتُ أنا المكان الذي كانت تحتله أحلامهم في السنوات الست الأولى من حياتي.