الفصل الحادي عشر

وصلتُ إلى موقف سيارات المطار في الثالثة و١٥ دقيقة واتجهتُ إلى صالة الوصول سريعًا قدرَ استطاعتي. طُفتُ سريعًا حول المكان مراتٍ عديدة وأنا ألهث من كثرة الطواف، وكانت عيناي تُنعم النظر في الحشود المتزاحمة من الهنود والألمان والبولنديين والتايلنديين والتشيكيين الذين يحملون حقائبهم.

اللعنة! أعرف أنه كان يجب أن أصل في وقتٍ مُبكِّر عن ذلك. ربما تكون قد قلقت وحاولت الاتصال بي. لكن تُرى هل أعطيتُها رقم هاتف مكتبي؟ وماذا لو فاتتها رحلتها الجوية؟ وماذا إذا كانت قد مشَتْ بجانبي ولم أعرِفها؟

نظرتُ إلى الصورة التي بيدي والتي أرسلَتْها لي منذ شهرَين، كانت قد اتَّسخت من كثرة إمساكي بها. وبعدها نظرتُ لأعلى فوجدتُ الصورةَ أمام عيني وقد أصبحت تنبض بالحياة؛ سيدة أفريقية ظهرت لي من خلف بوابة الجمارك تمشي بخطواتٍ رشيقة وهادئة، وها قد تحوَّلت عيناها اللامعتان الهائمتان لتنظُر في عينيَّ مباشرة، وعندما ارتسمت على وجهها ابتسامة أصبح وجهها الأسمر المستدير الذي يبدو مُتفتحًا مثل زهرة الوود روز وكأنما نحتته يدُ فنان.

«باراك؟»

«أوما؟»

«يا إلهي …»

عانقتُ أختي ورفعتها عن الأرض وضحكنا وكِلانا ينظر إلى الآخر، وحملتُ حقيبتها وبدأنا نمشي معًا إلى ساحة انتظار السيارات. علَّقتْ ذراعَها في ذراعي بخفةٍ شديدة. وفي هذه اللحظة أدركتُ أنَّني أُحبها حبًّا جمًّا بصورةٍ غريزية، لكنني بعدما رحلَتْ وجدتُ نفسي متشككًا في حبي لها محاولًا تفسيره لنفسي؛ وحتى هذه اللحظة لا أستطيع تفسيره، ولا أعرف إلا أن حبي لها كان صادقًا ولا يزال كذلك وأنني ممتنٌّ بشدة لهذا الحب.

قالت أوما ونحن في طريقنا إلى المدينة: «إذن أخي لا بد أن تحكي لي كلَّ شيء.»

«بخصوص ماذا؟»

«كل شيء عن حياتك دون شك.»

«من البداية؟»

«من أية نقطةٍ تريد.»

أخبرتُها عن شيكاغو ونيويورك، وعن عملي كمُنظم، وعن أُمي وجَديَّ ومايا، وقالت لي إنها سمعت الكثير عنهم من أبي وتشعر أنها تعرفهم بالفعل. وصفَتْ لي أوما مدينة هيدلبيرج حيث كانت تدرس للحصول على شهادة الماجستير في علم اللغة، وروت لي تجربةَ العيش في ألمانيا والمحن التي واجهَتْها هناك.

وقالت لي: «أعتقد أنه ليس لديَّ حقٌّ في الشكوى.» وتابعت قائلة: «أنا حاصلة على منحةٍ دراسية وعندي شقة. ولا أعرف في الواقع ماذا كنتُ سأفعل إذا كنتُ ما زلت في كينيا. وحتى الآن أعتقد أنني لستُ مهتمةً كثيرًا بالحياة في ألمانيا. فأنت تعلم أن الألمان يُفضِّلون التفكيرَ في أنفسهم على أنهم مُتحرِّرون للغاية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأفارقة، لكن إذا ما تطرقتَ إلى هذه المسألة حتى ولو من بعيدٍ فستجد أنهم لا يزالون يحملون بعضَ أفكار ومواقف طفولتهم. ففي الحكايات الخيالية الألمانية التي تُروى للأطفال كانت العفاريت دومًا من ذوي البشرة السوداء. وأشياءُ كهذه ليس من السهولة بمكانٍ نسيانها. وفي بعض الأحيان كنتُ أحاول أن أتخيَّل شعور الرجل العجوز عندما غادر وطنه للمرة الأولى. وهل شعر بالوحدة نفسها التي …»

الرجل العجوز! هذا هو ما أطلقَتْه أوما على أبينا. بدت لي على الفور — إلى حدٍّ ما — مألوفة وبعيدة؛ قوة جوهرية لم أفهمها فهمًا كاملًا. اكتشفَتْ أوما في شقتي أنه تُوجَد على رفِّ مكتبتي صورة له احتفظَتْ بها أُمي.

«يبدو بريء الوجه أليس كذلك؟ وشابًّا أيضًا.» هكذا قالت أوما وهي تُمسك بالصورة بالقرب من وجهي. وتابعت: «إن فمك يُشبه فمه.»

أخبرتها أنه من الأفضل أن تستريح قليلًا في الفراش، وأذهب أنا إلى مكتبي لبضع ساعات لأُنجز بعض الأعمال.

هزَّت رأسها. وقالت: «لستُ متعبة. دعني أذهب معك.»

«ستشعرين بتحسُّن لو أخذتِ سِنةً من النوم.»

ردت عليَّ قائلةً: «أوه يا باراك! أرى أنك مُتسلط مثل الرجل العجوز أيضًا. لم تقابله سوى مرةٍ واحدة فقط؟ يبدو أنها صفة تجري في العروق.»

ضحكتُ إلا أنها لم تضحك، بل جالت بناظرَيها في وجهي كما لو كانت أمام لغزٍ تحاول حله، وشعرتُ أنها تواجه مشكلةً تُنغِّص عليها حياتها بالرغم من ثرثرتها المرحة المفعمة بالحيوية.

طُفت بها في جولةٍ بالجانب الجنوبي بعد ظهر هذا اليوم، هي الجولة نفسها التي قمتُ بها في أيامي الأولى في شيكاغو، والتي لم يتبقَّ لي منها سوى بعض الذكريات. عندما وصلنا إلى مكتبي تصادف وجود أنجيلا ومُنى وشيرلي هناك. وأخذنَ يسألنَ أوما عن كل شيءٍ في كينيا وعن كيفية تضفير شعرها وتحدُّثها بلباقةٍ تامة كملكة إنجلترا، واستمتعت السيدات الأربع كثيرًا وهنَّ يتحدثنَ عني وعن عاداتي الغريبة.

بعدئذٍ قالت أوما: «يبدونَ معجباتٍ بك للغاية.» وتابعت: «إنهنَّ يذكِّرنني بعماتنا في كينيا.» أنزلت أوما زجاج نافذة السيارة ووجَّهَت وجهها للريح، وهي تشاهد شارع ميشيجان في أثناء مرورنا به؛ حيث الأطلال المحزنة لمسرح روزلاند القديم، والمَرْأَب المليء بالسيارات الصدئة المتهالكة. وسألتني وهي تستدير نحوي: «أهذا هو ما تفعله لهم يا باراك؟» وتابعت: «أقصد أن هذا هو العمل التنظيمي؟»

هززتُ كتفي. وقلت: «لهم. ولي.»

عاد تعبير الحيرة والخوف نفسه يرتسِم على وجه أوما. وقالت: «إنني لا أُحب السياسة كثيرًا.»

«لماذا؟»

«لا أعرف. الناس دومًا ينتهي بهم الأمر وهم محبطون.»

عندما رجعنا إلى المنزل كان هناك خطابٌ في انتظارها في صندوق البريد، من طالبٍ ألماني يدرُس بكلية الحقوق، كانت — طبقًا لما قالت — على علاقةٍ به. كان الخطاب طويلًا، مُكوَّنًا على الأقل من سبع صفحات، وحين كنت أُعِدُّ العَشاء جلسَت هي على طاولة المطبخ تقرأ الخطاب وهي تضحك تارةً وتتنهَّد تارة أخرى، وفجأةً بدت على وجهها ملامح رقيقة تواقة.

قلت: «اعتقدتُ أنكِ لم تحبي الألمان.»

مسحت عينَيها وضحكت. قالت: «نعم … لكنَّ أوتو مختلف. إنه لطيف للغاية! في بعض الأحيان كنتُ أعامله بأسلوبٍ غير لائق! لا أعرف يا باراك. إنني في بعض الأحيان أُفكِّر في أنه من المستحيل أن أثِق بأي شخصٍ ثقةً عمياء. وأُفكِّر فيما فعله الرجل العجوز في حياته، وأضحت فكرة الزواج تُصيبني … كيف أقولها … بالخوف. الأمر نفسه ينطبق على أوتو وحياته المهنية لأننا كنا سنُضطر إلى العيش في ألمانيا. فبدأتُ أتخيَّل نفسي في هذه الحياة وأنا أعيشها كاملة أجنبية، ولا أعتقد أنني سأتحمَّل ذلك.»

طوت الخطاب ووضعَتْه في مظروفه مرةً أخرى. وسألتني: «ماذا عنك يا باراك؟» وتابعت: «هل تعاني المشكلات نفسها، أم أنني بمفردي أعاني هذا الارتباك؟»

«أعتقد أنني أعرف شعورك.»

«هيا يا باراك فلتُخبرني.»

ذهبتُ إلى الثلاجة وأخذتُ منها ثمرتين من الفلفل الأخضر ووضعتُهما على لوح التقطيع. وقلتُ لها: «حسنًا … أحببتُ سيدة في نيويورك. هي بيضاء. وسوداء الشعر، وتميل عيناها إلى الخضرة. وكان صوتها عذبًا. تقابلنا لقرابة عام. غالبًا في أيام العطلات. أحيانًا في شقتي وأحيانًا أخرى في شقَّتِها. أتعرفين شعور مَن ينغمس في عالمه الخاص؟ لم يكن في هذا العالم سوى شخصَين — أنا وهي — مختفِّيَين عن الأنظار ويغمرنا الدفء. كنا منغمِسَين في لُغتنا. كنا مُنغمسَين في عاداتنا. هكذا كانت حياتنا.

دعتني هذه السيدة في أحد أيام العطلات في منزل عائلتها الريفي. كان والداها هناك، وكانا لطيفَين وكريمين إلى حدٍّ بعيد. كنا في الخريف الرائع ومن حولنا الغابات، وركبنا الزوارق الطويلة، وجدَّفنا بمجاديفها في بحيرةٍ ثلجية مستديرة وكانت أوراق الشجر الذهبية الصغيرة تتجمَّع على ضفتَيها. كانت العائلة تعرف كلَّ شبرٍ في هذه الأرض. وكيف تكوَّنت تلالها وكيف كوَّنت تياراتُ النهر الجليدية البحيرةَ، وأسماء المستعمرين البِيض الأوائل وأسلافهم ومن قبلهم أسماء الهنود الذين كانوا فيما مضى يجولون في المنطقة مُتعقِّبين حيوانات الصيد. كان المنزل الذي يعيشون فيه قديمًا جدًّا، كان منزل جَدها لأبيها. وكان جَدها هذا قد ورثه من جَدِّه لأبيه. وكانت لديهم مكتبة مليئة بالكتب القديمة وصور الجَد بصُحبة أفرادٍ مشهورين كان يعرفهم، من رؤساء ودبلوماسيين وصحفيين ورجال صناعة. وكانت الغرفة تتمتع بقدرةٍ جاذبة هائلة. وأدركت، وأنا أقف وسطها، أن عالمَينا — أنا وصديقتي — تفصل بينهما مسافةٌ شاسعة كالمسافة نفسها التي تفصل بين كينيا وألمانيا. وعلمتُ أيضًا أننا لو بَقِينا معًا لعِشْت في عالمها في النهاية. مع ذلك فهذا هو ما كنتُ أفعله معظم أوقات حياتي. وبيني وبينها كنتُ شخصًا عرَف كيف يعيش غريبًا.»

«وماذا حدث؟»

هززتُ كتفي. قلت: «أبعدتُها عني.» وتابعت: «بدأتِ الخلافات تنشب بيننا. وبدأنا نفكر في المستقبل الذي بدأ يضغط على عالمنا الدافئ الصغير. وذات مساء دعوتها لمشاهدة مسرحية جديدة من تأليف كاتبٍ أسود. وكانت المسرحية تُعبِّر عن الغضب الشديد للسُّود إلا أنها مُضحكة للغاية. كانت تُعبِّر تعبيرًا صادقًا عن مسرح السُّود الهزلي الأمريكي. وكان معظم الجمهور من السود، ضحك الجمهور وصفَّق وهللوا جميعًا كما لو كانوا يُسبِّحون في الكنيسة. وبعد انتهاء العرض المسرحي بدأت صديقتي تسألني عن السبب الدائم لغضب السُّود. وقلت لها إن الأمر مُتعلِّق بذكرياتهم — كما قلتُ إن أحدًا لا يسأل اليهود عن سبب تذكُّرهم الهولوكوست — لكنها أخبرتني أن الأمر مختلف وعارضتُها في ذلك، فقالت لي إن الغضب ليس إلا طريق مسدود. وبذلك تشاجَرْنا أمام المسرح. وعندما عُدنا إلى السيارة بدأتْ تبكي. وقالت إنها لا تستطيع أن تكون سوداء. وإنها كانت ستفعل إذا كان ذلك بيدِها. وإنها لا تستطيع أن تكون أحدًا غير نفسها.»

«يا لها من قصةٍ محزنة يا باراك.»

«نعم أعتقد ذلك. وربما حتى إن كانت سوداء لم تكن ستستمرُّ العلاقة. أقصد أن هناك بعض السيدات السوداوات اللاتي جعلنَ قلبي ينفطِر مِثلها.» ارتسمت ابتسامة على شفتي ووضعتُ الفلفل المقطَّع في الإناء، ثم استدرتُ إلى أوما مرةً أخرى. وقلتُ لها دون أية ابتسامة: «المشكلة أنني كلما عُدت بذاكرتي إلى ما قالته صديقتي هذه الليلة أمام المسرح أشعر بالخجل من نفسي إلى حدٍّ ما.»

«هل تعرف أيَّ شيء عنها الآن؟»

«أرسلَتْ لي بطاقةً بريدية في الكريسماس. إنها سعيدة الآن حيث أقامت علاقةً مع شخصٍ ما. أما أنا فلديَّ عملٌ أهتمُّ به.»

«وهل هذا كافٍ؟»

«في بعض الأحيان.»

•••

لم أذهب إلى العمل اليوم التالي، وقضينا هذا اليوم معًا وزُرنا معهد الفنون (أردتُ أن أرى الرأسَين الصغيرَين في متحف فيلد، لكنَّ أوما رفضت)، إلى جانب أننا بحثنا عن الصور الفوتوغرافية القديمة التي كانت في خزانتي لمشاهدتها، وذهبنا إلى السوبر ماركت، حيث أقرَّت أوما أن الشعب الأمريكي ودود ووزنه زائد. في بعض الأحيان كنتُ أجد أوما صعبة المراس وفي أحيانٍ أخرى مُتهوِّرة، وفي أوقاتٍ كثيرة مشغولة بهموم العالَم، ودائمًا ما كانت تؤكِّد قدرتها على الاعتماد على نفسها، وهو الأمر الذي كنتُ أراه ردَّ فعلٍ مكتسَب، وكان هذا ردَّ فِعلي تجاه شعوري بالشك.

لم نتحدَّث كثيرًا عن أبينا وكأنَّ حديثنا كان يتوقَّف كلما أوشكنا على الاقتراب من ذِكراه. وبعد ليلةٍ تناولنا فيها العشاء ومشَينا مسافةً طويلة بمحاذاة حاجز الأمواج المنهار للبحيرة، شعر كِلانا أننا لن نتقدَّم خطوة واحدة إلا إذا طرحنا هذا الموضوع للمناقشة. أعدَّت لنا كوبَين من الشاي وبدأت أوما تُخبرني عن الرجل العجوز، قدرَ ما أسعفَتْها ذاكرتها.

قالت: «لا أستطيع القول إنني بالفعل عرفتُه حقَّ المعرفة يا باراك.» وتابعت: «ربما لم يستطِع أحدٌ معرفته حقَّ المعرفة على الإطلاق. فحياته كان التشتُّت سمتَها. ولم يعرف أحد سوى حلقاتٍ منفصلة منها، حتى أبناؤه.

كنتُ خائفة منه. فأنت تعلم أنه لم يكن بجانبنا عندما وُلِدت. كان في هاواي مع أُمك وبعدَها ذهب إلى هارفارد. وعندما عاد إلى كينيا كان أخونا الأكبر — روي — وأنا ما زلنا طفلَين صغيرَين. وقد عِشنا مع أُمنا في قرية أليجو حتى ذلك الوقت. وكنتُ صغيرة للغاية على أن أتذكَّر تفاصيلَ مجيئه. كنتُ في الرابعة من عمري في حين أن روي كان في السادسة؛ لذا ربما يستطيع هو إخبارك بما حدث بصورةٍ أكثرَ إسهابًا. إنني لا أتذكَّر إلا عودته بصُحبة السيدة الأمريكية التي تُدعى روث، وأنه أخذَنا من أُمي لنعيش معهما في نيروبي. كما أتذكَّر أن هذه السيدة — روث — كانت أول شخصٍ من ذوي البشرة البيضاء أتعامل معه عن قُرب، وأنه على حين غِرة أصبح من المفترض أن تكون هي أُمي الجديدة.»

«لماذا لم تظلِّي مع أُمك؟»

هزَّت أوما رأسها. وقالت: «لا أعرف السببَ بالضبط. إلا أنه في كينيا يحتفظ الأزواج بأطفالهم في حالات الطلاق، إذا كانوا يريدون ذلك. وعندما سألتُ أُمي عن هذا الأمر كان من الصعب عليها التحدُّث بخصوصه. ولم تقُل شيئًا سوى أن زوجة أبي الجديدة رفضت أن تعيش مع زوجةٍ أُخرى وإنها — أمي — اعتقدت أننا كأطفالٍ من الأفضل أن نعيش مع والدنا لأنه كان ثريًّا.

في السنوات الأولى كان والدُنا يُعاملنا معاملة حسنة. كان يعمل في شركة بترول أمريكية، هي شركة شل. وكان ذلك بعد استقلال كينيا ببضع سنوات، وكان لأبينا علاقات جيدة مع كبار المسئولين في الحكومة. فقد كان أغلبهم زملاء له في المدرسة. نائب الرئيس والوزراء، وكانوا جميعًا يأتون إلى المنزل لزيارته في بعض الأحيان ويشربون معه الخمر ويتحدَّثون في أمور السياسة. كان أبي يملك منزلًا كبيرًا. وكان يملك سيارة فارهة، وكان الجميع معجبًا به لأنه حصل على قدرٍ هائل من التعليم من خارج البلاد مع أنه لا يزال حديثَ السن للغاية، كما كان مُتزوجًا من امرأة أمريكية وهو ما كان حينذاك أمرًا نادرًا؛ مع أنه بعد ذلك كان يخرج مع أُمي في بعض الأحيان — في الوقت الذي كان لا يزال مُتزوجًا من روث. كما لو كان يريد أن يُظهِر للناس أنه مُقتدِر. أو بعبارة أخرى يستطيع أن يحظى بهذه السيدة الأفريقية الجميلة عندما يريد. في تلك الأثناء وُلِد إخوتنا الأربعة الآخرون. مارك وديفيد من روث ووُلدا في منزلنا الكبير في ويستلاندز، وآبو وبيرنارد من أُمي وعاشا معها وعائلتها في القرية. وفي ذلك الوقت لم نكن نعرف أنا وروي أيًّا من آبو وبيرنارد لأنهما لم يأتيا إلى المنزل لزيارتنا على الإطلاق، وعندما كان أبونا يزورهما كان يذهب دائمًا بمفرده دون أن يُخبر روث.

لم أُفكِّر في هذا الأمر كثيرًا إلا فيما بعد؛ أعني في الطريقة التي قسمت حياتنا قسمَين لأنني كنتُ صغيرةً للغاية. وأعتقد أن الأمر كان أكثرَ صعوبةً على روي لأنه كان كبيرًا بما يكفي لتذكُّر كيف كانت المعيشة في أليجو مع والدتنا وعشيرتنا. أما أنا فكلُّ شيءٍ كان على ما يُرام. وفي الواقع كانت روث — أُمُّنا الجديدة — لطيفةً إلى حدٍّ معقول معنا، وكانت تُعاملنا كابنَيها تقريبًا. وأعتقد أن والدَيها كانا من الأثرياء؛ فقد كانا يُرسِلان لنا هدايا جميلة من الولايات المتحدة. وكلما استقبلنا أيَّ هديةٍ منهما سعدتُ كثيرًا. لكنني أتذكَّر أن روي أحيانًا كان يرفض أخذ هداياهما، حتى إن أرسلا لنا الحلوى. وأتذكَّر أنه ذات مرة رفض أخذ الشيكولاتة التي أرسلاها، لكن ليلًا بعدما اعتقد أني نائمة رأيتُه يأخذ بعضًا مما احتفظتُ به في دولابي. لكنني لم أقُل شيئًا لأحد لأنني كنتُ أعرف أنه حزين.

بعد ذلك بدأت الأمور تتغيَّر. فعندما أنجبَتْ روث مارك وديفيد تحوَّل تركيزُها إليهما. بالإضافة إلى أن والدنا ترك الشركة الأمريكية ليعمل في الحكومة في وزارة السياحة. ولعله كانت له طموحات سياسية. في البداية سارت الأمور على ما يُرام في الحكومة. لكنَّ الانقسامات في كينيا أصبحت أكثر خطورةً عن ذي قبل بحلول عام ١٩٦٦م أو ١٩٦٧م. كان الرئيس كينياتا ينتمي لقبيلة الكيكويو وهي أكبر القبائل. لذا بدأت ثاني أكبر القبائل — وهي قبيلة لوو — الشكوى من أن قبيلة الكيكويو يحصل أهلُها على أفضل الوظائف. وبذلك فاضت الحكومة بالدسائس والمؤامرات. وقال نائب الرئيس الذي يُدعى أودينجا، الذي كان ينتمي لقبيلة لوو، إن الحكومة ازدادت فسادًا. وبدلًا من خدمة مَن حاربوا في سبيل تحقيق الاستقلال أخذ السياسيون الكينيون مكان الاستعماريين البِيض واشترَوا كل الشركات والأراضي التي كان يجب إعادة توزيعها على الشعب. حاول أودينجا الشروع في تكوين حزبه السياسي إلا أنه حُكِم عليه بالإقامة الجبرية في منزله باعتباره شيوعيًّا. بالإضافة إلى أن وزيرًا بارزًا آخرَ ينتمي لقبيلة لوو — وهو توم مبويا — اغْتِيل رميًا بالرصاص على يد قاتلٍ محترف من قبيلة الكيكويو. وهكذا بدأ أهل قبيلة لوو يتظاهرون في الشوارع. واتخذت الشرطة الحكومية إجراءات صارمة ردًّا على ذلك. وقُتل الناس. وبالطبع غرس كلُّ ذلك شكًّا أكبر بين القبائل.

صمت معظم أصدقاء أبي وسطَ هذه الأحداث ولم يُحرِّكوا ساكنًا وتعلموا التعايش معها. لكنَّ أبانا بدأ في التحدُّث. وأخبر الناس بأن النظام القبلي في طريقه إلى تخريب البلد وأن أفضل الوظائف باتت تُمنح لغير الأَكْفاء. حاول أصدقاؤه تحذيره من المجاهرة بهذه الأقوال، لكنه لم يهتمَّ بالأمر. وكان دائمًا ما يعتقد أنه يعرف الأفضل. وعندما تخطَّى المسئولون ترقيته تذمَّر علنًا. وقال لأحد الوزراء: «كيف يمكن أن تكون رئيسًا عليَّ، مع أنني أُعلِّمك كيف تؤدي مهام وظيفتك كما ينبغي؟» وصل الأمر إلى كينياتا في صورة أن والدنا من مُختلِقي المشكلات، واستُدعِيَ بالتالي لمقابلة الرئيس. وطبقًا لما قُصَّ عليَّ، فإن كينياتا قال لأبينا إنه لن يعمل في أي مكانٍ حتى يمشي حافيَ القدمَين.

في الواقع لا أعلم مدى صحة هذه التفاصيل. لكنني متأكدة من أن الأحوال كانت سيئة للغاية مع والدي في علاقته مع الرئيس بوصفه عدوًّا. حيث طُرد من الحكومة ووُضع اسمه على القائمة السوداء. ولم تَعرِض عليه أيٌّ من الوزارات العمل فيها. وعندما اتجه إلى الشركات الأجنبية ليعمل فيها جرى تحذير هذه الشركات من مغبَّة تعيينه. ولذا بدأ يبحث عن عملٍ خارج البلاد إلى أن وافقوا على تعيينه في بنك التنمية الأفريقي في أديس أبابا، لكن قبل أن يعمل فعليًّا سحبت الحكومة جواز سفره ولم يستطِع مغادرة كينيا.

في نهاية الأمر اضطُر إلى قبول العمل في وظيفةٍ متواضعة في وزارة الري، ولم ينل هذه الوظيفة إلا بعد تدخُّل أحد أصدقائه الذي أشفق عليه. وفي الحقيقة ساعدت هذه الوظيفة في توفير الطعام والشراب، لكنها كانت له بمنزلة الضربة القاضية. بدأ والِدُنا يُفرِط في شرب الخمر، وتوقَّف كثيرون من معارفه عن زيارته لأن رؤيتهم معه أصبحت من الأمور الخطيرة آنذاك. وأخبروه أن حياته ستتحوَّل للأفضل إذا ما اعتذر وغيَّر من مواقفه. لكنه رفض واستمرَّ في قول كلِّ ما يخطر بباله.

فهمتُ معظم هذه الأمور عندما كبِرت. وفي هذا الحين أدركتُ أن الحياة في المنزل أصبحت صعبةً للغاية. فوالدنا لم يكن يتحدَّث مع روي أو معي على الإطلاق إلا إذا كان يريد توبيخنا. وكان يأتي إلى المنزل في وقتٍ متأخِّر جدًّا وهو مخمور، وكنتُ أسمعه وهو يصيح في وجه روث يأمُرها أن تُعِدَّ له الطعام. ونتيجةً لذلك شعرت روث بمرارةٍ كبيرة؛ فقد تغيَّر والدُنا معها، وفي بعض الأحيان عندما يكون خارج المنزل كانت تقول لروي ولي إن والدَنا مجنون، وإنها مُشفقة علينا لأن لنا أبًا كهذا. ومع ذلك فلم أكن ألومُها، بل بالعكس كنت أحيانًا أوافقها الرأي. لكنني لاحظتُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ آخر أنها كانت تُعاملنا بأسلوبٍ مختلف عن أسلوب معاملة ابنَيها. وكانت تقول إننا لسنا طفلَيها، وإنها ليس بيدِها شيء تفعله لنا لمساعدتنا. فبدأتُ أنا وروي نشعر بأنه ما من أحدٍ يهتمُّ بأمرنا. وعندما تركَتْ روث والدنا لم يكن شعورنا هذا بعيدًا بكثيرٍ عن الحقيقة.

تركَتْ روث المنزل عندما كنتُ في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري، بعد أن تعرَّض أبي لحادث سيارة خطير. وعلى ما أعتقد كان مخمورًا، ومات في هذا الحادث سائق السيارة الأخرى الذي كان مزارعًا من البِيض. ظل أبونا في المستشفى فترةً طويلةً بلغت السنة، وعشتُ أنا وأخي روي بصفةٍ أساسية معتمِدَين على أنفسنا. وعندما خرج من المستشفى ذهب لزيارتك أنت وأُمك في هاواي. وأخبرَنا حينها أنكما — أنت وأمك — ستعودان معه وسنعيش جميعًا كأسرة بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى. لكنكما لم تأتيا معه عندما رجع وظللتُ أنا وروي نعيش معه بمفردنا.

بسبب الحادث بالطبع فقدَ أبونا وظيفته في وزارة الري، ولم يَعُد لدَينا مكانٌ نعيش فيه. ولفترة من الوقت أخذنا نتجوَّل بين الأقارب لكنهم في النهاية قرَّروا طردنا لأن لدَيهم ما يكفي مِن المشكلات. بعد ذلك وجدنا منزلًا حالته سيئة للغاية في جزءٍ خطير من المدينة مشهور بالجرائم الكثيرة التي تحدُث فيه، واستقررنا هناك سنواتٍ عديدة. كانت أيامًا عصيبة. ذلك لأن أبانا لم يكن يملك من النقود سوى القليل؛ لذا كان مُضطرًّا إلى الاقتراض من الأقارب لمجرد توفير الطعام. وهذا ما جعله أكثر خجلًا من نفسه — على ما أعتقد — وازدادت طباعه حدَّة. ومع كل هذه المشكلات التي تعرَّضنا لها فإنه لم يعترف إطلاقًا لي أو لروي بأن الأمور ليست على ما يُرام. وأعتقد أن هذا هو ما جرحه لأقصى درجة؛ أي الأسلوب المتعجرِف الذي كان لا يزال يُخبرنا به بأننا أبناء الدكتور أوباما. كانت خزانات الطعام فارغة، لكنه كان يتبرع للجمعيات الخيرية حفاظًا على المظاهر! كنتُ أناقِشه في هذا الأمر في بعض الأحيان، لكنه لم يكن يقول شيئًا سوى إنني فتاة حمقاء صغيرة لا أفهم ما يفعله.

كان الأمر أسوأ مع روي. فقد كانا يتشاجران مشاجراتٍ عنيفة. مما أدَّى بروي في نهاية الأمر إلى ترْك المنزل والعيش مع آخرين. لذا ظللتُ بمفردي مع والدي. وأحيانًا كنتُ أظل مُستيقظة لمنتصف الليل في انتظار مجيئه وهو يفتح الباب، قلقةً من أن يكون قد حدث له مكروه. ومع الوقت اعتاد المجيء مُترنحًا من كثرة شرب الخمر، وكان يدخل غرفتي ويوقظني بحجةِ أنه يريد الجلوس في صحبةِ أحد أو تناول الطعام. وكان يتحدَّث معي بخصوص شعوره بالتعاسة وكيف تعرَّض للخيانة. لكنني في هذه الأحيان كنتُ أشعر بنعاسٍ شديد فلا أفهم شيئًا مما كان يقوله. وبدأتُ بيني وبين نفسي أتمنى أن يظلَّ بالخارج إلى الأبد ولا يعود على الإطلاق.

الشيء الوحيد الذي أنقذني من هذه المأساة كان التحاقي بمدرسة كينيا الثانوية. إنها مدرسة للبنات كانت فيما مضى مخصَّصة للبريطانيات. وكانت هذه المدرسة صارمة القواعد للغاية وكانت ما زالت عنصرية، فلم يكن يُسمَح للمدرسين الأفارقة بالتدريس إلا في الوقت الذي التحقتُ بها فيه بعد رحيل معظم الطالبات البيضاوات. لكن مع كل هذه الأشياء فقد كنتُ طالبة نشطة. ولأنها كانت مدرسة داخلية فكنتُ أظل فيها في فترة الدراسة بدلًا من المكوث مع أبي. وفي الواقع عرفتُ من هذه المدرسة معنى النظام. كما عرفتُ معنى أن يكون لدَيك شيء تتمسَّك به.

في إحدى سنواتي الدراسية لم يستطِع أبي دفع مصاريف المدرسة، ولذا طُرِدتُ منها. وكنت حينها غايةً في الخجل وبكيتُ طوال الليل. ذلك لأنني لم أكن أعرف ماذا أفعل. لكنني رغم كل هذا كنتُ محظوظة. إذ سمِعَتْ إحدى المديرات بالمدرسة عما حلَّ بي وأعطتني منحةً دراسية سمحت لي بالبقاء في الدراسة. وعلى الرغم من قدْر رعايتي لأبي وقلقي عليه فمن المؤسِف أن أقول إنني كنتُ سعيدة لعدم اضطراري إلى العيش معه. لذا تركتُه بمفرده وتركتُ الماضي خلف ظهري.

في السنتَين الأخيرتَين في المدرسة الثانوية تحسَّنت أحوال أبي. كان ذلك عندما مات كينياتا وأصبح أبي قادرًا إلى حدٍّ ما على العمل مرةً أخرى في الحكومة. فحصل على وظيفة في وزارة المالية وبدأ ينعم بالمال من جديد إلى جانب السلطة. إلا أنني أعتقد أنه لم يتغلَّب أبدًا على الشعور بالمرارة لما حدث له، خاصةً عند رؤية زملائه الذين من عمره وهم يعملون في مناصبَ أعلى من منصبه حيث كانوا يتمتَّعون بالقدْر الكافي من الذكاء السياسي الذي مكَّنهم من الوصول إلى هذه المناصب. بعد كل ذلك كان الوقت قد فات لجمعِ شتات عائلته. وظل فترةً طويلة يعيش وحيدًا في غرفةٍ بأحد الفنادق حتى بعدما أصبح يستطيع ماديًّا شراء منزل. وكانت له علاقات عابرة مع نساء أوروبيات وأفريقيات إلا أن علاقته بأيٍّ منهن لم تدُم طويلًا. لم أكن ألتقي به تقريبًا، وحتى عندما يتصادف ونتقابل لم يكن يعرف كيف يتعامل معي. أصبحنا كالغرباء لكنه كان لا يزال لدَيه الرغبة في التظاهر بأنه أبٌ مثالي يوجِّه ابنته للتصرُّفات الصحيحة. أذكر أنني عندما حصلتُ على المنحة الدراسية للدراسة في ألمانيا كنتُ خائفة من أن أُخبره. واعتقدتُ أنه ربما يقول إنني صغيرة جدًّا عن أن أذهب للدراسة في الخارج ويتدخَّل لإلغاء تأشيرتي كطالبةٍ التي كان لا بدَّ من أن تُصدِّق عليها الحكومة. لذا سافرتُ دون أن أُودِّعه.

ولم أبدأ في التخلُّص من بعض الغضب الذي كنتُ أشعر به نحوه إلا بعدما سافرتُ إلى ألمانيا. فمن بعيدٍ استطعتُ التفكير جيدًا فيما تعرَّض له وكيف أنه لم يستطِع فهْم أحدٍ بالفعل حتى نفسه. وفي نهاية المطاف — بعد كل هذه الفوضى التي سبَّبها لحياته — أعتقد أنه ربما كان على وشك الشروع في تغيير نفسه بالفعل. ذلك لأنني آخِر مرة رأيته كان في رحلةِ عملٍ مُمَثِّلًا كينيا في مؤتمرٍ دولي في أوروبا. كنت قلقةً للغاية من مقابلتنا لأننا لم نكن قد تحدَّثنا منذ زمنٍ بعيد. لكنه عندما وصل إلى ألمانيا بدا متحررًا بالفعل من التوتر العصبي بل ميالًا للهدوء. وقضينا وقتًا طيبًا حقًّا. والواقع أنه كان جذَّابًا حتى في أسوأ حالاته! اصطحبني معه إلى لندن حيث مكثنا في فندقٍ فاخر، وهناك عرَّفني على جميع أصدقائه في النادي البريطاني. كان أبي يجذب لي المقعد لأجلس ويهتم بي اهتمامًا عظيمًا، مخبرًا جميعَ أصدقائه كم هو فخور بي. وفي رحلة العودة من لندن لفت انتباهي في الطائرة كأس زجاجية صغيرة كان أبي يحتسي فيها الويسكي، ولأنها أعجبتني أخبرته بأنني سوف أسرقها، لكنه قال لي: «لا داعي لمثل هذه الأشياء.» واستدعى المضيفة وطلب منها، وكأنه يمتلك الطائرة، إحضار طقم كامل من هذه الكئوس. وعندما أعطتني المضيفة إيَّاها شعرتُ بأنني عُدت إلى الطفولة من جديد. أو بالأحرى شعرت بأنني أميرته المدلَّلة.

في اليوم الأخير لزيارته لي في ألمانيا اصطحبني لتناول الغداء وتحدَّثنا عن المستقبل. وسألني إن كنتُ في حاجةٍ إلى المال وأصرَّ على منحي بعض المال. وأخبرني أنه بمجرد عودتي إلى كينيا سيجد لي زوجًا صالحًا. كم كان مُؤثِّرًا ما حاول فعله … كما لو كان بوسعه تعويض كل الأوقات الضائعة. كان قد أصبح عندئذٍ أبًا من جديد لطفلٍ يُدعى جورج أنجبه من سيدةٍ شابة كان يعيش معها. لذا قلتُ له: «إنني وروي كبِرنا بالفعل. وكلٌّ منا لدَيه حياته الخاصة وذكرياته، وما حدث بيننا جميعًا من الصعب محوه من الذاكرة. أما جورج الرضيع فهو كالصفحة البيضاء التي لم يَخُطَّ فيها قلم. وإن لدَيك الفرصة لتُعامله معاملةً حسنة حقًّا.» لم يفعل شيئًا سوى هزِّ رأسه، كما لو كان … أقصد كما لو أنه …»

لبرهة من الوقت، حملقَتْ أوما في صورة أبي الفوتوغرافية بغير تركيزٍ في الضوء الخافت. وبعدها وقفت واتَّجهت ناحية النافذة وأدارت ظهرَها لي. قبضت أوما على جسدِها وتسلَّلَت يداها ببطءٍ شديد تجاه كتفَيها المنحنيتَين. وبدأت ترتعِد بصورةٍ عنيفة. فنهضتُ من مكاني وذهبت خلفها ولففتُ ذراعيَّ حولها وهي تبكي، والحزن يأخذ طريقه إليها في صورةِ موجاتٍ بطيئة وعميقة. وقالت لي بين عَبَراتها: «أرأيتَ يا باراك؟» وتابعت قائلة: «كنتُ في بداية معرفتي به. وكنا قد وصلنا إلى المرحلة التي … التي ربما استطاع فيها توضيح نفسه وتفسير تصرُّفاته. وفي بعض الأحيان أعتقد أنه ربما تجاوز المرحلة الحرجة بالفعل وبدأ في التحول نحو الأفضل. لكن بعدما مات شعرت بأنني … مخدوعة للغاية. وهو الشعور الذي لا بدَّ وأن يكون راودَك.»

في الخارج سمعنا صوتًا مُرتفعًا لسيارةٍ عند زاوية الشارع ورأينا رجلًا يعبر الشارع وحيدًا في ظل الضوء الأصفر الصادر عن أعمدة الإنارة. وعلى حين غِرة اعتدلَت قامة أوما وانتظم تنفُّسها — كما لو كانت قوة إرادتها هي التي دفعتها لفعل ذلك — ومسحت عينَيها بكُمِّ قميصها. وقالت وهي تبتسم ابتسامةً سرعان ما اختفت من وجهها: «انظر إلى ما فعلتَهُ بأختك.» استدارت نحوي. وقالت: «أتعرف، اعتاد أبونا أن يتحدَّث عنك كثيرًا! وكان يستعرض صورتك أمام الجميع مُتباهيًا ويُخبرنا عن مدى مهارتك في المدرسة. وأظن أنه ووالدتك اعتادا تبادل الخطابات. وهذه الخطابات — حسب اعتقادي — كانت تُريحه دون شك. وفي الأوقات العصيبة — عندما توقَّف الجميع عن مساعدته — كان أبي يُحضِر خطاباتها إلى غرفتي ويقرؤها بصوتٍ عالٍ. كان يُوقظني ويُصِرُّ على أن أسمع، وعندما ينتهي من القراءة يمسك بالخطابات في يدِه ويذكر إلى أي مدًى كانت أُمك طيبة القلب وحنونًا. وكان يقول: «أترين؟» ويتابع كلامه: «على الأقل هناك أناس يهتمُّون بأمري بإخلاص.» كان يقول ذلك لنفسه مراتٍ ومراتٍ عديدة …»

أعددتُ الأريكة لأوما لتنام عليها في حين كانت هي تُنظِّف أسنانها. وسرعان ما استغرقَت في سباتٍ عميق تحت البطانية وهي مُنكمِشة على نفسها. أما أنا فظللتُ مستيقظًا، متكئًا على مقعدٍ في ضوء مصباح المكتب، وأخذتُ أنظر إلى هدوء وجهها وأستمع إلى إيقاع تنفُّسها، محاولًا فَهْم ما قالته واستيعابه. شعرتُ أن حياتي انقلبت رأسًا على عقب، تمامًا كما لو أنني استيقظتُ من النوم فوجدتُ الشمس زرقاء وسط سماءٍ صفراء، أو كما لو أنني سمعتُ الحيوانات تتحدَّث مثلَنا نحن بني البشر. إنني طيلةَ حياتي حملتُ في ذاكرتي صورةً واحدة لأبي، أتمرَّد عليها في بعض الأحيان لكن دون أن أُناقِشها، صورةً حاولت أن أتخذها لنفسي فيما بعد. صورة المثقف الذكي والصديق السخي، والقائد المستقيم … ففي والدي اجتمعت كل هذه الصفات. أقول كل هذه الصفات وأكثر لأنه لولا زيارته القصيرة لي في هاواي لم يكن ليظهر في حياتي إطلاقًا لينتقِص من هذه الصورة لأنني لم أرَ ما يراه معظم الرجال في مرحلةٍ ما في حياتهم، مثل رؤية جسد أبيهم وهو يتضاءل، أو آماله وهي تتبخَّر، أو علامات الحزن والندم وهي تكسو وجهه.

نعم، لقد رأيتُ مراحل الضَّعف هذه في شخصياتٍ أخرى؛ في جَدي وشعوره بالإحباط، وفي لولو والتنازلات التي قدَّمها. لكنَّ هذَين الرجلَين أصبحا عِبرةً لي، ربما أحببتُهما لكنني لم أحاول إطلاقًا تقليدهما، الأبيض منهما أو الأسمر اللذَين لم ينطبق مصيرهما على مصيري. كانت الصورة التي رسمتها لأبي — الرجل الأسود ابن القارة الأفريقية — متضمنةً كل الصفات التي سعيتُ لأن أتَّسِم بها؛ سمات مارتن ومالكولم ودوبواز ومانديلا. وإذا كنتُ بعد ذلك رأيتُ أن الرجال السود الذين عرفتهم — فرانك أو راي أو ويل أو رفيق — فشلوا في الارتقاء إلى هذه المعايير السامية، وإذا ما تعلمتُ احترامهم من أجل كفاحهم الذي خاضوه والاعتراف بأنهم بمنزلةِ أهلٍ لي، فإن صوت والدي ظلَّ مع ذلك لم يمسَسْه سوء، مُلهِم وموبِّخ، يُوافقني على أفعالي أو يمتنع عن منحي هذه الموافقة. فكنتُ كأني أسمعه أحيانًا يقول لي: «إنك لا تعمل بجِدٍّ كافٍ يا باري. لا بد أن تساعد زملاءك في كفاحهم. انتبه أيها الرجل الأسود!»

والآن — بعدما جلستُ في ضوء المصباح الكهربائي متأرجحًا قليلًا على مقعدٍ صلب الظهر — تلاشت هذه الصورة عن أبي على حين غِرة وحلَّت محلها … ماذا؟ شخص سِكِّير؟ زوج بذيء اللسان؟ موظف حكومي مهزوم ووحيد؟ اعتقدتُ أنني طوال حياتي كنتُ أُكافح من أجل شيءٍ ليس أكثر من شبح! وللحظةٍ شعرتُ بدوار، وإن لم تكن أوما في الغرفة كنتُ سأضحك بصوتٍ عالٍ. لقد خُلِعَ الملك عن عرشه. ونُحِّيَتْ جانبًا الستائر الخضراء الزمردية. وباتت حشود الغوغاء داخل عقلي لها مُطلق الحرية في أن تتجاوز جميع الحدود؛ أي يمكنني فعلُ ما يخطر ببالي ويُسعدني. فلا أحد لدَيه السلطة — ما عدا أبي — لأن يَنهني عن ذلك. ومهما أفعل من سوء فلن يكون أسوأ مما فعله هو نفسه.

انقضى الليل ببطءٍ شديد وحاولتُ أن أستعيد توازُني في ظل شعوري بعدم الرضا كثيرًا عن تحرُّري الذي ما لبثتُ أن اكتشفتُه. فماذا سيقف في طريق خضوعي للهزيمة نفسها التي أطاحت بوالدي؟ ومَن ذا الذي سيحميني من الشكِّ أو يُحذِّرني من جميع الأشراك الدفينة في روح رجل أسود؟ إن الصورة الخيالية التي رسمتُها لأبي ساعدت على الأقل في إبعادي عن الشعور باليأس. لكنَّه الآن مات، حقيقةً لا خيالًا. ولم يَعُد في مقدوره إخباري كيف أعيش.

ربما كان كلُّ ما يستطيع إخباري به هو ما حدث له بالفعل. وخطر ببالي أنني مع كل هذه المعلومات الجديدة فإنني لا أزال لا أعرف الرجل الذي كان أبًا لي. ما الذي حلَّ بقُوَّته والتزامه في الحياة؟ ما الذي شكَّل طموحاته؟ لقد تخيلتُ مجددًا المرة الأولى والأخيرة التي تقابَلْنا فيها، واكتشفتُ أن الرجل الذي عرفته بعد سرد كل هذه الحقائق لا بد أنه كان مُتخوفًا من المستقبل مثلما كنت، كان رجلًا عاد إلى هاواي ليُنعم النظرَ في ماضيه وربما يحاول أن يستعيد أفضل جزءٍ في كيانه؛ الجزء الضائع. لم يكن عندئذٍ قادرًا على إخباري بمشاعره الحقيقية مثلما لم أستطِع التعبير عن رغباتي وأنا في العاشرة من عمري. لقد تبلَّدت مشاعرنا عند رؤية أحدنا الآخر، وعجزنا عن الفِرار من الشكوك التي كانت أرواحنا في حاجةٍ إليها إذا ما نظرنا إلى الأمر عن قرب. والآن بعد ١٥ سنة نظرتُ إلى وجه أوما النائم ورأيتُ الثَّمن الذي دفعناه مقابل هذا الصمت.

•••

بعد ١٠ أيام جلستُ أنا وأوما على المقاعد البلاستيكية الصلبة في صالة المغادرة في المطار، لنُشاهد الطائرات من الجدار الزجاجي المرتفع. وسألتُها عما تُفكِّر فيه فابتسمت ابتسامةً رقيقة.

وقالت: «كنتُ أفكِّر في أليجو، في ميدان هوم.» وتابعت: «أرض جَدي التي لا تزال الجَدة تعيش فيها. إنها أجمل بقعةٍ يا باراك. عندما أكون في ألمانيا ويكون الطقس باردًا في الخارج وأشعر بالوحدة أغمض عينيَّ في بعض الأحيان وأتخيَّل أنني هناك. في الأرض الفسيحة جالسة ومن حولي الأشجار الكبيرة التي زرعها جَدُّنا. أتخيَّل الجَدة وهي تتحدَّث وتخبرني بأشياءَ مُسلِّية، وأسمع البقرة وهي تمشي خلفنا، ونقر الدجاج على حدود الحقل، وأشمُّ رائحة النار في أكواخ إعداد الطعام. وتحت شجرة المانجو — بالقُرب من حقول الذرة — ترقد جثة أبينا …»

كانت الطائرة قد بدأت استقبال الركَّاب. لكننا ظللنا جالسَيْن وأغمضَتْ أوما عينَيها وشدَّت على يدي.

وقالت: «علينا أن نذهب إلى بلدنا» وتابعت: «علينا أن نعود إلى وطننا يا باراك ونراه هناك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤