الفصل الرابع عشر
كان مبنًى قديمًا في أحد الأحياء العتيقة بالجانب الجنوبي، ومع أنه لا يزال متينًا فإنه في حاجةٍ ماسَّة إلى الترميم وربما إلى سطح جديد. كان الحرم مُظلمًا ومُشتملًا على مقاعدَ خشبيةٍ عديدة، منها ما تصدَّع ومنها ما انكسر، وكانت هناك سجادة حمراء مفروشة على الأرض تنبعث منها رائحة رطوبة عفِنة، وفي أماكنَ مختلفة بدا سطح الأرضية المُغطَّى بالسجادة غيرَ مستوٍ ارتفاعًا وانخفاضًا. أما مكتب القس فيليبس فكان على هذه الحالة الرثة البالية نفسها ولم يكن مضاءً إلا بمصباح مكتبٍ عتيق ألقى بظلاله الكئيبة الصفراء على الغرفة كلها. هذا بالإضافة إلى أن القس فيليبس نفسه كان مُتقدمًا في السن. وعندما فُتح ستار النافذة بدا القس — وهو مُحاط بأكوام الكتب القديمة المتراصَّة — ملتصقًا بالحائط دون أية حركةٍ فصار كبرواز مُعلَّق عليها، ولم يكن ظاهرًا منه بوضوح سوى شعره الناصع البياض وصوته الجهوري الروحاني الذي كان له صدًى كالصوت المسموع في الأحلام.
تحدثنا لما يقرُب من ساعة، ودار معظم حديثِنا عن الكنيسة. لكننا لم نتحدَّث عن كنيسته بقدرِ ما تحدَّثنا عن الكنيسة بوجهٍ عام؛ التطور التاريخي لكنائس الأمريكيين من أصلٍ أفريقي (الكنائس السوداء) والكنيسة بوصفها مؤسَّسةً والكنيسة بوصفها فكرةً. كان رجلًا مطلعًا واسعَ المعرفة وبدأ حواره معي بالحديث عن تاريخ ديانة العبيد؛ أخبرني عن الأفارقة — الذين حطوا رحالهم على شواطئ عاتية لم تستقبلهم بالتَّرحاب — أنهم كانوا يجلسون في حلقاتٍ حول نارٍ مُوقدة يخلطون في أحاديثهم بين الأساطير الجديدة وإيقاعات الماضي، وأصبحت أغانيهم وكأنها سفينة تحمل أجمل الأفكار؛ البقاء والحرية والأمل. استمر القس في حديثه مُتذكرًا الكنيسة الموجودة في الجانب الجنوبي في شبابه وقال إنها كانت مكانًا صغيرًا من الخشب المدهون باللون الأبيض بُنِيَت بعَرق المزارعين المستأجِرين وبقروشهم القليلة التي كانوا يدَّخِرونها، واستطرد قائلًا إنه مكانٌ كانت تختفي فيه في صباح أيام الآحاد الحارة المشرقة كلُّ مشاعر الذُّعر وتندمِل فيه جراح الأسبوع بأسْرِها بفعل الدموع وصيحات الشكر والامتنان وتصفيق الأيادي والتلويح بها للحثِّ على الأفكار العنيدة نفسها؛ البقاء والحرية والأمل. تحدَّث القس عن زيارة مارتن لوثر كينج إلى شيكاغو والغيرة التي لاحظَها كينج بين بعض خدام الكنائس وخوفهم من اغتصاب سُلطتهم، ثم استطرد في حديثه عن ظهور المسلِمين قائلًا إنه تفهَّم غضبهم؛ فقد كان هذا الغضب غضبه هو نفسه، الغضب الذي لم يتوقَّع أن يهرب منه كليةً إلا أنه تعلَّم كيفية التحكُّم فيه عن طريق الصلاة، وحاول ألا يُورِّث هذا الغضب أطفاله.
شرح القس بعد ذلك تاريخ الكنائس في شيكاغو. وقد كان بالمدينة عندئذٍ آلاف الكنائس وبدا هو وكأنه يعرفها جميعًا؛ فقد تحدَّث عن الكنائس الصغيرة التي تُنشأ أمام المتاجر والكنائس الضخمة المبنية بالحجارة، ثم حدثني عن المصلِّين الأفروأمريكيين ذوي البشرة الفاتحة الذين كانوا يجلسون جِلسةً عسكرية وهم يُنشدون ترانيمهم المتشدِّدة، وأولئك المصلين الذين يتعبَّدون بحماسٍ بالِغٍ وتهتز أجسادهم وهم يتفوَّهون بلغةٍ غير مفهومة. أوضح القس فيليبس أن معظم الكنائس الكبيرة في شيكاغو كانت مزيجًا من هذَين النمطَين من المصلين، وأنها مثال على النِّعم الخفية للفصل العنصري، ومثال على الطريقة التي فرضت على المحامي والطبيب أن يعيشا ويتعبَّدا بجانب الخادم والعامل الأجير. كانت الكنيسة كقلبٍ هائل الحجم ينبض بالحياة؛ إذ كانت تُوزِّع السلع وتروِّج المعلومات والقِيَم والأفكار ذهابًا وإيابًا؛ بين الغنيِّ والفقير، بين المتعلم والأُمِّي، بين المذنب ومَن نال الخلاص.
قال القس فيليبس إنه لا يعرف كم من الوقت يمكن أن تستمر كنيسته في أداء دور القلب هذا. فمعظم رعاياها الأكثر ثراءً انتقلوا إلى أحياء أكثرَ نظافةً وعاشوا حياة سكان الضواحي. على أنهم لا يزالون يحضُرون الصلاة في أيام الآحاد إخلاصًا منهم أو ربما من باب الاعتياد. لكنَّ طبيعة ارتباطهم بالكنيسة طرأ عليها التغيُّر؛ فكانوا مُتردِّدين في التطوُّع لعملِ أي شيء — مثل الاشتراك في برنامجٍ تعليمي أو الزيارات المنزلية — ربما يضطرُّهم إلى البقاء في المدينة بعد حلول الظلام. أضاف القس أن هؤلاء يحتاجون إلى مزيدٍ من الأمان في المناطق حول الكنيسة، وبناء سياجٍ حول مكان انتظار السيارات لحماية سياراتهم. وتوقَّع القس فيليبس أنه بمجرد أن يموت سيتوقَّف العديد من رعايا الكنيسة عن الحضور إليها وسيُنشئون كنائسَ جديدة مُنسَّقة مثل شوارعهم الجديدة. وكان القس يخشى من أن تتقطَّع في النهاية صِلات الارتباط بالماضي وتختفي من ذاكرة الأطفال الحلقات التي كان يجلس حولها أجدادهم المسيحيون الأفارقة حول النار …
بدأ صوته ينخفض تدريجيًّا حتى توقَّف عن الحديث وشعرت أن التعب قد تمكَّن منه؛ لذا طلبتُ منه أن يقترح عليَّ أسماء قساوسةٍ آخَرين ربما يكون لدَيهم اهتمام بالعمل التنظيمي فذَكَر بضعة أسماء، وقال إن القس جيريميه رايت الابن — الشاب النشيط — قس كنيسة المسيح المتحدة للثالوث يستحقُّ أن نتحدَّث معه، حيث إن رسالته ستروق للشباب من أمثالي. أعطاني القس فيليبس رقم هاتفه، وعندما نهضتُ من مكاني لأُغادر مكتبه قلتُ له: «إذا استطعنا جمع شمل ٥٠ كنيسة فقط فسنُصبح قادرين على تغيير بعض الأمور التي حدثتني عنها.»
أومأ القس فيليبس برأسه وقال: «ربما تكون محقًّا يا سيد أوباما. إن لديك بعض الأفكار الشائقة. لكن كما ترى اعتادت الكنائس هنا على التصرُّف حسب أهوائها الخاصة. وفي بعض الأحيان ينطبق هذا على رعايا الكنائس أكثرَ مما ينطبق على القساوسة.» فتح الباب لي، ثم صمت. وقال بعد ذلك: «بالمناسبة، إلى أية كنيسة تنتمي؟»
«إنني … إنني أحضُر الصلوات في كنائسَ مختلفة.»
«لكن ألستَ عضوًا في أية كنيسة؟»
«أعتقد أنني لا أزال أبحث.»
«حسنًا، أفهم ذلك. على أن كونك عضوًا في كنيسةٍ بعَينها ربما يساعدك كثيرًا في رسالتك. ولا يهمُّ بأية كنيسة ستكون عضوًا. إن ما تطلبه من القساوسة يتطلَّب منا — من أجل مصلحة المسيحية — أن نُنحِّي جانبًا بعض اهتماماتنا الدينية. وهذا يتطلب منا أن يكون لدينا قدْر كبير من الإيمان بداخلنا. وسيجعلنا هذا في حاجة إلى معرفة مصدر استقائك هذا الإيمان. الإيمان هو المهم.»
عندما أصبحتُ خارج المبنى ارتديتُ نظارتي الشمسية ومررتُ بجانب مجموعةٍ من الرجال المسنِّين الذين جلسوا على مقاعد على رصيف الشارع يلعبون الورق. كان الطقس في ذلك اليوم رائعًا حيث كانت درجة الحرارة ٢٤ درجة مئوية (٧٥ درجة فهرنهايت) وكان ذلك في أواخر شهر سبتمبر. وبدلًا من أن أقود سيارتي مباشرةً إلى ميعادي التالي قررتُ أن أنتظر وأفتح باب السيارة وأُخرِج ساقي منها وأنا على المقعد لأشاهد العجائز وهم يلعبون الورق. لم يتحدثوا كثيرًا. وذكَّروني بالرجال الذين كان جَدي معتادًا لَعِبَ البريدج معهم، كانوا يشبهونهم إلى حدٍّ كبير؛ نفس الأيادي القوية السميكة، ونفس الجوارب الأنيقة، ونفس الأحذية الصغيرة العجيبة الشكل، ونفس حبات العَرق بين ثنيات أعناقهم أسفل قبعاتهم المسطحة مباشرةً. حاولتُ أن أتذكَّر أسماء هؤلاء الرجال الذين كانوا في هاواي، وماذا كانوا يعملون لكسب قوتِ يومهم، وبدأت أتساءل عما تبقَّى من الأشياء التي تركوها لي وظلَّت عالقة في نفسي. كم كان هؤلاء الرجال السود غامِضين؛ هذا الغموض الذي كان أحد أسباب مجيئي إلى شيكاغو. أما الآن وبينما أغادر شيكاغو فقد وجدت نفسي أتساءل هل فهمتهم فهمًا أفضل من ذي قبل.
لم أخبِر أحدًا بقراري هذا ما عدا جوني. وفكَّرت في أن أعلِن للآخرين هذا الخبر فيما بعد. وحتى شهر يناير لم يصلني ردٌّ من أيٍّ من كليات الحقوق التي أرسلتُ إليها أطلب الالتحاق بها. وفي هذا الوقت كان من المفترض بدء نشاط برنامج الشباب الجديد، وكان من المفترض أيضًا أن أجمع ميزانية العام المقبل، وأن أدعو بعض الكنائس الأخرى للمشاركة في العمل التنظيمي. وفي حقيقة الأمر فإنني لم أُخبِر سوى جوني بهذا القرار إلا لأنَّني كنتُ أرغب في معرفةِ هل لدَيه الاستعداد للبقاء في شيكاغو ليحلَّ محلي كمُنظم قائد أم لا، وربما يكون السبب أيضًا أنه صديقي وكنتُ أرغب في أن أُفسِّر له ما يدور بخَلدي وأشرح الأمر له. لكنَّ جوني نفسه لم يكن يرى أن هناك حاجةً إلى أيِّ تفسيرات. ولحظة أن أخبرتُه بكليات الحقوق التي تقدَّمتُ للالتحاق بها — في جامعة هارفارد وجامعة ييل وجامعة ستانفورد — ارتسمت على شفتَيه ابتسامةٌ عريضة وربَّت على ظهري.
وصاح قائلًا: «كنتُ أعرف ذلك!»
«تعرف ماذا؟»
«أن رحيلك عن هنا ليس إلا مسألة وقت. مسألة وقت ليس أكثر.»
«لماذا فكَّرتَ بهذه الطريقة؟»
هزَّ جوني رأسه وضحك. قال: «اللعنة، تسأل يا باراك؛ لأن لدَيك «خيارات». هذا هو السبب. أقصد أن باستطاعتك أن ترحل عن شيكاغو. إنني أعرف أنك شابٌّ حي الضمير تقوم بعملك كما ينبغي، لكن عندما يكون على المرء الاختيار بين الدراسة في جامعة هارفارد أو جامعة روزلاند لا بد أنه سيختار جامعة روزلاند.» ومرةً ثانيةً هزَّ رأسه. وأضاف: «إنها هارفارد يا رجل! إنني لا أتمنى إلا أن تتذكَّر أصدقاءك عندما تكون جالسًا في المكتب الخلاب وسط المدينة.»
لسببٍ أو لآخر جعلتني ضحكات جوني أتَّخذ موقفًا دفاعيًّا. حيث أصررتُ على أنني سأعود مرةً أخرى إلى الحي. وأخبرتُه بأنني لم أُخطِّط للانبهار بالثروة والسلطة التي تعنيها هارفارد، وأكدتُ ضرورةَ ألا ينبهر بهما هو الآخر. صدَّق جوني بمُزاح على كلامي. وقال: «إنك لستَ في حاجة لأن تُخبرني بكل هذا. فلستُ أنا مَن سيترك المدينة.»
هدأت انفعالاتي وشعرتُ بالإحراج من ثورتي غير المبرَّرة.
وقلت له: «حسنًا … لم أكن أريد أن أقول لك إلا أنني سأعود، هذا كلُّ ما في الأمر. لا أريد أن يُساء فهمي سواء من جانبك أو من جانب القادة.»
ضحك جوني برقة. وقال: «لن يُسيء فهْمَك أحدٌ يا باراك. إننا فخورون بأن نراك ناجحًا.»
كانت الشمس في هذا الوقت تفرُّ ببطءٍ خلف السحاب، ونهض اثنان من لاعبي الورق وارتدى كلٌّ منهما المعطف الثقيل الذي كان يضعه على ظهر مقعده. أشعلتُ سيجارة وحاولت فكَّ شفرة الحوار الذي دار بيني وبين جوني. تُرى هل ساورته الشكوك في نواياي؟ أم أنني لا أثق بنفسي؟ لقد أمعنتُ النظر في قراري هذا ١٠٠ مرة على الأقل. إنني في حاجةٍ إلى فترة راحة، أردتُ الذهاب إلى كينيا، فأُوما قد عادت بالفعل منذ عام إلى نيروبي لتدرس في الجامعة، وقد يكون هذا وقتًا مثاليًّا للقيام بزيارةٍ طويلة.
كانت هناك بعض الأشياء التي ينبغي أن أتعلمها عبر الدراسة في كلية الحقوق ستُساعدني في إحداث تغيير حقيقي. أشياء عن أسعار الفائدة، واندماج الشركات، والعملية التشريعية، والطريقة التي تعمل بها الشركات والبنوك معًا، وكيفية نجاح أو فشل الشركات العاملة في مجال الاستثمار العقاري. بالإضافة إلى ذلك سأتعلَّم الكثير عن أداة القوة بكل تفاصيلها وتعقيداتها، إنها العلم الذي عرَّضني للخطر قبل مجيئي إلى شيكاغو ولكنني الآن سأُعيده إلى المكان الذي هو في مسيس الحاجة إليه؛ سأُعيده إلى روزلاند، وسأعيده إلى ألتجيلد، وسأفعل مثلما فعل بروميثيوس مع النار.
تلك هي القصة التي كنتُ أرويها لنفسي، القصة نفسها التي تخيلتُ أبي وهو يرويها لنفسه منذ ٢٨ عامًا عندما ركب الطائرة إلى أمريكا؛ أرض الأحلام. ربما يكون قد اعتقد هو الآخر أنه يؤدي عملًا عظيمًا، وأنه لم يسافر فرارًا من أمورٍ لا تتطابق مع المنطق. وفي الواقع عاد بعدَها إلى كينيا، أليس كذلك؟ بلى، لكنه عاد رجلًا ذا روح ممزقة، وسرعان ما دُفِنَت خُططه وأحلامه …
ترى هل سألقى نفس المصير؟ ربما كان جوني مُحقًّا في أنه بمجرد أن يُنحِّي المرء التبريرات جانبًا تُصبح المسألة دائمًا مسألة هروب. هروب من الفقر أو السأم أو الجريمة أو القيود المفروضة بسبب لون البشرة. ربما لا يكون التحاقي بكلية الحقوق إلا تكرارًا لنمطٍ بدأ منذ قرون عندما وطئت أقدام البِيض الشواطئ الأفريقية — بعدما دفعتهم مخاوفهم من أمورٍ لا تتطابق مع المنطق — حامِلين معهم بنادقهم وجوعهم الأعمى حتى يسحبوا المهزومين في قيودهم. أعادت هذه المواجهة الأولى رسم خريطة حياة السود، وأعادت تحديد مركز عالمهم، وخلقت الفكرة الجديدة المتمثلة في الهروب؛ تلك الفكرة التي ظلَّت باقية في نفس فرانك وغيره من السود العجائز الذين وجدوا ملاذًا لأنفسهم في هاواي، وفي نفس جويس الفتاة ذات العينَين الخضراوَين في جامعة أوكسيدنتال التي كانت ترغب في أن تكون إنسانة فحسب، وفي أوما الممزقة المشاعر بين ألمانيا وكينيا، وفي روي الذي اكتشف أنه لن يستطيع أن يبدأ حياته من جديد. وظلت باقية هنا في الجانب الجنوبي من شيكاغو بين رعايا كنيسة القس فيليبس الذين ربما سار بعضهم بجانب الدكتور مارتن لوثر كينج مؤمنين بأنهم يسيرون من أجل تحقيق هدفٍ سامٍ، ومن أجل الحقوق والمبادئ ومن أجل جميع البشر أبناء الرب، على أن هؤلاء الرعايا أدركوا في مرحلةٍ ما أن السلطة مُتعنتة والمبادئ ليست ثابتة، وأنه حتى بعد سَن القوانين وإلغاء تنفيذ حكم الإعدام دون محاكمةٍ استمر أقرب مفهوم للحرية يحمل بين طياته معنى الهروب — الهروب النفسي إن لم يكن المادي — بعيدًا عن أنفسنا وبعيدًا عما عرفناه في رحلةٍ إلى خارج حدود إمبراطورية الرجل الأبيض، أو ربما أقرب من ذلك، إلى قلبها.
لم تكن المقارنة دقيقة تمامًا، ولم تكن العلاقة بين البِيض والسود ومعنى الهروب مماثِلَين من منظوري لما كانا عليه من منظور فرانك أو أبي أو حتى من منظور روي. وفي ظل أنين شيكاغو من ضغط الفصل العنصري، وفي ظل التوتر بين الأعراق تسبَّب نجاح حركة الحقوق المدنية على الأقل في خلق بعض التداخُل بين المجتمعات، ومنْح أمثالي مساحةً أكبر للمناورة. فكَّرتُ في أنني يمكنني العمل في المجتمع الأسود كمنظِّمٍ أو محامٍ وفي الوقت نفسه أسكن في وسط المدينة في بناية شاهقة. أو العكس تمامًا؛ العمل في مؤسسة قانونية كبيرة وأسكن في الجانب الجنوبي وأشتري منزلًا كبيرًا وسيارة جميلة وأتبرع ﻟ «الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين» وإلى حملة هارولد الانتخابية، وأُلقي الخُطَب في المدارس الثانوية المحلية، ويُطلقون عليَّ لقب المثل الأعلى لنجاح الرجل الأسود.
هل يشوب هذا شائبة؟ من الواضح أن جوني لم يفكِّر بهذه الطريقة. أدركتُ الآن أن الابتسامة التي ارتسمت على شفتَيه لم تكن تعبيرًا عن رأيه فيَّ، ورأيتُ أنه — مثله مثل قادتي — لم يرَ أيَّ خطأ في السعي لتحقيق مثل هذه النجاحات. وكان هذا درسًا من الدروس التي تعلمتُها خلال عامَين ونصف قضيتها في شيكاغو، ألم يكن كذلك؟ تعلمت درسًا فحواه أن معظم السود لم يكونوا مثل صورة أبي التي حلمتُ بها ولم يكونوا مثل الرجل الذي كان بطلًا في القصص التي حكتْها لي أُمي؛ رجل المُثل العليا المتضخمة الذي يُصدِر أحكامه وآراءه سريعًا. على النقيض من ذلك كان معظم هؤلاء السود أشبه بلولو — زوج أمي — حيث كانوا عملِيين للغاية وعرفوا أن الحياة قاسية للغاية فلا ينبغي أن يُصدِر أيٌّ منهم حكمًا عن الآخر، وعرفوا أن الحياة غاية في الفوضوية فلا يمكن العيش فيها طبقًا لمثاليات مجردة. لم يتوقع أيٌّ منهم أن أُضحي بنفسي من أجلهم؛ لم يتوقع ذلك رفيق الذي كان يُلحُّ عليَّ قبل قليل في مساعدته لجمع تبرُّعات من مؤسسات البِيض لتمويل مشروعه الأخير، وكذلك القس سمولز الذي قرَّر أن يُرشِّح نفسه في انتخابات الولاية للحصول على عضوية مجلس الشيوخ، وكان يتوق للحصول على دعمنا. وكان شغلهم الشاغل جميعًا أن لوني الأسمر معيارٌ كافٍ للالتحاق بعضوية المجتمع، وهو ما يُعتبر في حدِّ ذاته أمرًا كريهًا ينبغي أن أتحمَّله.
هل كان ما أحضرني إلى شيكاغو الرغبةُ في الحصول على قبول الآخرين؟ هذا أحد الأسباب التي أتت بي إلى هنا، وبكل تأكيد فإن هذا القبول أحد معاني المجتمع. لكن هناك معنًى آخر للمجتمع ودافعًا أكثر إلحاحًا وتأثيرًا. بالطبع كان يمكن أن يكون المرء أسود دون أن يأبَهَ بما يحدُث في ألتجيلد أو روزلاند. أو يأبه بأحوال صِبية مثل كايل وأمَّهات صغيرات مثل بيرناديت أو سادي. أما أن يُحسِّن المرء لنفسه وللآخرين ويُضفي معنًى على معاناة المجتمع بالإسهام في التئام جرحها، فهذا الأمر يتطلَّب ما هو أكثر. إنه يتطلَّب نوعًا من الالتزام مثل ما كانت تقوم به دكتورة كوليار يوميًّا في ألتجيلد، وتضحيات مثل التي كان السيد أسانتي مُستعدًّا لتقديمها لطلَّابه.
ويتطلَّب ذلك إيمانًا أيضًا. ألقيتُ نظرة سريعة على النافذة الصغيرة في الطابق الثاني في الكنيسة وتخيلتُ القس العجوز داخلها وهو يكتب مسودة العظة التي سيُلقيها يوم الأحد. لقد سألني عن مصدر إيماني. وعلى حين غِرة خطر ببالي أنني ليس لديَّ إجابة عن سؤاله. وربما أكون في الوقت الراهن لديَّ إيمان بذاتي. لكن إيمان المرء بنفسه لا يمكن أن يكون كافيًا.
أطفأتُ سيجارتي وأدرتُ محرك السيارة. ونظرت من المرآة الخلفية وأنا أقود، وشاهدت لاعبي الورق الصامِتين العجائز وهم يختفون عن أنظاري.
•••
تقابلت مع عددٍ أكبر من خُدَّام الكنائس السُّود في المنطقة على أملِ إقناعهم بالانضمام إلى عملنا التنظيمي، وكان جوني يدير الأنشطة اليومية الخاصة بهذا العمل. كانت هذه العملية تسير بخطواتٍ بطيئة؛ إذ كان معظم القساوسة السود — على عكس القساوسة الكاثوليكيين — مُستقلِّين بصورةٍ كبيرة ومُنغلقين على أنفسهم في أبرشياتهم غير مبالين ولا يحتاجون كثيرًا إلى أية مساعدات خارجية. وكلما اتصلتُ بهم هاتفيًّا أبدَوا، عادةً، ارتيابهم مني أو راوغوني حائرين من سبب رغبتي في استقطاع بضع دقائق من وقتهم ظانِّين تارةً أنني مُسلم وتارةً، وهو الأسوأ، أنني أيرلندي. أما القساوسة الذين قابلتُهم فقد تطابقَتْ شخصياتهم مع الشخصياتِ التي تظهر في روايات ريتشارد رايت أو خُطَب مالكولم إكس، القساوسة أصحاب اللُّحى الذين شاب شعرهم المتظاهرين بالتقوى وهم يُبشِّرون بالجنة في الحياة الآخرة، أو مُتديِّنين بارعين يجوبون الشوارع للترويج لدينهم راكبين سياراتٍ تلفت الأنظار وأعينهم لا تفارق سلَّة التبرُّعات.
وكلما أُتيحت لي الفرصة لمقابلة هؤلاء الرجال وجهًا لوجهٍ انبهرت. ذلك لكونهم — كمجموعة — مُراعين حقوقَ الآخرين ومُثابرين ولدَيهم من الثقة وتحديد الهدف ما جعلهم أفضلَ المنظمِّين على الإطلاق في أحيائهم. كانوا كرامًا في مَنحي أوقاتهم، ومُهتمين بالقضايا، ومُستعدين — بطريقةٍ تبعث على الدهشة — للتحدُّث أمامي عن أنفسهم بكلِّ صراحة. مثلًا تحدَّث أحد الخدَّام ذات مرةٍ عن إدمانه المقامرة فيما مضى. وأخبرَني خادم آخر عن سنواته التي قضاها مديرًا تنفيذيًّا ناجحًا وهو سِكِّير في الخفاء. تحدَّث جميعهم عن فتراتٍ من الشك الديني؛ كانت هذه الفترات تبدأ بالتفكير في فساد العالَم من حولهم وعدم نقاء قلوبهم، ثم السقوط في الهاوية وتحطُّم كبريائهم، وفي النهاية يأتي إحياء النفس من جديد، النفس التي تتحوَّل إلى شيءٍ أكبر، أصرَّ هؤلاء الرجال على أن هذا كان مصدر ثِقتهم؛ ألا وهو سقوطهم الشخصي ثم خلاصُهم فيما بعد. وكان هو ما أعطاهم المرجعية لأن ينشروا تعاليم الإنجيل.
وكان بعضهم يسألني: هل سمعتَ الإنجيل؟
هل تعرف مصدر إيمانك؟
عندما طلبتُ أسماء قساوسة آخرين للتحدُّث معهم أعطاني العديد منهم اسم القس رايت الذي كان الخادم نفسه الذي ذكره لي القس فيليبس ذاك اليوم في كنيسته. كان من الواضح أن الخُدَّام الأصغر سنًّا ينظرون إلى القس رايت باعتباره مُعلِّمًا، وإلى كنيسته باعتبارها نموذجًا لما يأمُلون هم أنفسهم في تحقيقه. أما عن القساوسة الأكبر سنًّا فكانوا أكثر احتراسًا عند مدحهم إيَّاه ومنبهِرين بالتطوُّر السريع لأبرشية المسيح المتحدة للثالوث، لكنهم إلى حدٍّ ما يحتقرون شعبيَّتها بين العامِلين الشباب السود. (قال لي أحد القساوسة عنها ذات مرة: «كنيسة المتعلِّمين السود».)
في أواخر شهر أكتوبر، سنحت لي الفرصة لزيارة القس رايت ورؤية الكنيسة بنفسي. وعندما ذهبتُ رأيت مبنًى مفعمًا بالحياة في شارع ٩٥ في حيٍّ سكني يبعُد عن مشروعات لودين هوم ببعض المباني. في البداية توقَّعتُ أن أرى مبنًى ضخمًا مهيبًا، لكن اتضح أنه مبنًى مُتواضِع منخفض، مبنيٌّ بالطوب الأحمر، وبه نوافذ بزوايا، ومحاطٌ بأشجارٍ ونباتات خضراء، وشجيرات تبدو وكأن نحَّاتًا بارعًا قد نحتها بيدَيه، ولافتة صغيرة مُثبتة في الأرض المكسوة بالعشب مكتوب عليها بحروف كبيرة «حرِّروا جنوب أفريقيا». أما عن الكنيسة من الداخل فإنها كانت جميلة وتعجُّ بالنشاط. وكان بها مجموعة من الأطفال الصغار المنتظِرين أهلَهم لأخذِهم من دار الحضانة. مرَّت مجموعة من الفتيات المراهقات ترتدي ما كان يُشبه زيَّ الرقص الأفريقي. وظهر أربع سيدات مُتقدِّمات في السن من حرم الكنيسة، وصاحت إحداهنَّ «الرب خيِّر!» وردَّ عليها الأخريات قائلات: «طَوال الزمان!»
في نهاية المطاف جاءتني سيدة جميلة ذات أسلوبٍ مرح ومُفعم بالحيوية، وعرَّفتني بنفسها قائلة إن اسمها تراسي وإنها إحدى مساعِدات القس رايت. وقالت إن القس سيتأخَّر بضع دقائق وسألتني هل أرغب في تناول القهوة. وفي أثناء اتِّباعي لها في طريق المطبخ في الجزء الخلفي للكنيسة بدأنا نتحدَّث وكان حديثنا في معظمه عن الكنيسة وإن كانت قد حدَّثَتْني قليلًا عن نفسها. قالت لي إنها مرَّت بعامٍ عصيب؛ فزوجُها تُوفِّي قريبًا، وفي غضون بضعة أسابيع ستنتقل إلى الضواحي. ثم استطردت قائلةً إنها قاومت كثيرًا هذا القرار لأنها عاشت معظم حياتها في المدينة، لكنَّها رأت أن الرحيل سيكون أفضلَ لابنها المراهق. بدأت تشرح لي كيف أن زيادة عدد عائلات السود في الضواحي ستساعد ابنَها في أن يسير بحريةٍ إلى مدرسته دون أن يتعرَّض للمُضايقة، وكيف أن المدرسة التي سيلتحِق بها تشتمِل مناهجُها على حصصٍ للموسيقى وفرقة موسيقية وأنه سيحصل على آلات موسيقية وزيٍّ موحَّد بالمجان.
قالت تراسي برِقَّة: «أراد ابني دائمًا أن يكون عضوًا في فرقة موسيقية.»
وبينما كنا نتحدَّث لاحظتُ رجلًا في أواخر سنِّ الأربعين يسير تجاهنا. كان شعره وشاربه ولحيته بِيضًا، ويرتدي حُلَّة رمادية من ثلاث قطع. تحرَّك ببطءٍ وبانتظام نحونا كما لو كان يريد الحفاظ على طاقته وعدم إهدارها، كان ينظر بالتتابُع إلى رسائله واحدةً تلوَ الأخرى وهو يمشي ويُهمهِم لنفسه بأحد الألحان.
«باراك!» هكذا قال كما لو كنَّا صديقَين قديمين، «دعنا نرَ هل ستسمح تراسي لي بأخذ دقيقةٍ من وقتك.»
قالت تراسي وهي تقف وتجذب ثوبها لأسفل: «لا تنتبِه إليه يا باراك.» وتابعت: «كان من المفترَض أن أُحذِّرك من أنَّ القس يُحب المزاح في بعض الأحيان.»
ابتسم القس رايت وقادني إلى مكتبٍ صغير يعجُّ بأشياءَ كثيرة مبعثرة، وقال بعد أن دخل وأغلق الباب خلفه: «آسِف على التأخير.» وتابع: «إننا نحاول بناء حرمٍ جديد للكنيسة، وكان عليَّ مقابلة المصرفيين. إنهم دائمًا في حاجةٍ إلى أشياءَ إضافية من المرء. وآخِر ما طلبوه هو بوليصة أخرى للتأمين على حياتي خشيةَ أن أموت غدًا. إنهم يتصوَّرون أن الكنيسة بأكملها ستنهار في عدم وجودي.»
«هل هذا صحيح؟»
هزَّ القس رايت رأسه. وقال: «إنني لست الكنيسة يا باراك. وإن لقيتُ حتفي غدًا، لا آمُل إلا أن يَدفِنَني رعايا الكنيسة دفنًا لائقًا. وإنني أميل إلى التفكير في أن بعض الدموع ستسيل حزنًا على موتي. لكن بمجرد أن أُدفَن تحت الأرض بستة أقدام فإنهم سرعان ما سيبحثون ما يمكن فعله كي تؤدي الكنيسة رسالتها.»
تربَّى القس في فيلادلفيا وكان ابنًا لخادمٍ معمداني. قاوم الرجل نداءه الداخلي للاشتغال بوظيفة أبيه في البداية؛ ولذا التحق بالقوات البحرية بعد تخرُّجه، واهتمَّ بمعرفة الكثير من المعلومات عن تجارة المشروبات الروحية وعن الدين الإسلامي والقومية السوداء في ستينيَّات القرن العشرين. لكنَّ نداء الإيمان في قلبه ظل باقيًا بوضوح، وفي آخِر المطاف التحق بجامعة هاورد، ثم بجامعة شيكاغو حيث قضى ست سنوات يدرُس للحصول على شهادة الدكتوراه في تاريخ الأديان. تعلَّم اللغة العبرية واليونانية وقرأ أعمال تيليش ونيبور وكتابات علماء اللاهوت التحرُّريين السود. أحضرَ القسُّ معه إلى كنيسة الثالوث منذ عَقدَين من الزمن غضَبَ رجلِ الشارع وفكاهته. ومع أنني لم أعرف الكثير عن سيرته إلا فيما بعدُ؛ فقد أصبح من الواضح من لقائي الأول معه — على الرغم من إنكاره المستمر لهذا الأمر — أن موهبته الشاملة وقدرته على توحيد العناصر المتعارضة لتجربة السود، إن لم يكن التوفيق بينها، كانت الأساس للنجاح الذي حققته الكنيسة في النهاية.
قال لي القس رايت: «إن لدَينا العديد من الشخصيات المختلفة هنا.» وتابع: «علماء الثقافة الأفريقية من ناحية. والمتمسِّكون بالتقاليد من ناحيةٍ أخرى. وبين الحين والآخر أجد أنه لا مفرَّ لي من أن أتدخَّل وأُهيِّئ الأمورَ قبل أن يختلف الحزبان. لكنَّ هذا نادرًا ما كان يحدُث. وفي المعتاد إن خطرت ببالِ أحدهم فكرةُ استحداث خدمةٍ دينية جديدة أُخبِره بأن يسعى لتطبيقها ولا أُعرقل طريقَهم.»
من الواضح أن منهجه في العمل أتى بثماره؛ فقد ازداد عدد أعضاء الكنيسة من ٢٠٠ عضو إلى أربعة آلاف عضو خلال مدة تولِّيه المنصب، وكانت هناك أنشطة تُرضي جميع الأذواق بدءًا من اليوجا وحتى النوادي المبنية على طرازِ تلك الموجودة في جزر البحر الكاريبي. كان القس سعيدًا للغاية بالتقدُّم الذي تُحرزه الكنيسة في زيادة عدد أعضائها مع أنه أقرَّ بأن المشوار أمامهم لا يزال طويلًا.
قال القس رايت: «ليس هناك شيء أصعب من الحصول على اشتراك إخوة في مرحلة الشباب مثلك.» وتابع: «في الواقع إنهم يهتمُّون بصفةٍ أساسية بكونهم لطفاءَ غيرَ حادِّي الطباع. ويقلقون بشأنِ ما يقوله عنهم أصدقاؤهم. ويقولون لأنفسهم إن الكنيسة تليق بالسيدات أكثرَ من الرجال، وإنه من علامات الضعف أن يعترف أيُّ رجلٍ بأن لدَيه احتياجات روحانية.»
نظر القس إليَّ بعد ذلك نظرةً جعلتني أشعر بالتوتر. لذا قررتُ أن أغيِّر مجرى المحادثة إلى موضوعٍ آخر أكثرَ ألفةً لكِلَينا، فأخبرتُه عن مشروع التنمية المحلية وعن القضايا التي كنا نركز عليها موضحًا الحاجة إلى أن تنضمَّ إلينا الكنائس الكبيرة مثل كنيسته. جلس في صمتٍ وصبْر واستمع إلى كلامي وعندما انتهيتُ أومأ برأسه.
وقال لي: «سأحاول مساعدتك إذا استطعت.» واستدرك: «لكن ينبغي لك أن تعرف أن انضمامنا إليك لا يُعدُّ بالضرورة شرفًا لك.»
«لماذا؟»
هزَّ القس كتفَيه. وقال: «لا يُقدِّر بعضُ رجال الدين زملائي ما نتحدَّث بصدده. فهم يشعرون أننا بذلك سنختلف اختلافًا جذريًّا عنهم. وبالنسبة إلى آخرين فإننا لا نختلف اختلافًا كافيًا. وبعضهم يرانا عاطفِيِّين للغاية. ويرانا آخرون غير عاطفيين بصورةٍ كافية. وتركيزنا على التاريخ الأفريقي وعلى الثقافة …»
قاطعتُه بقولي: «يقول بعض الناس إن الكنيسة قادرة على التحوُّل السريع إلى الأفضل.»
تلاشت ابتسامة القس. وقال بحدة: «هراء!» وتابع: «الناس الذين يتفوَّهون بهذا الكلام يعكسون اضطرابهم الداخلي. فهم آمنوا بكلِّ الأشياء التي تعوق عملَنا معًا. ونصف هؤلاء يعتقدون أن أفراد العصابات السابقة أو المسلمين السابقين ينبغي ألا يكون لهم علاقة بشئون الكنيسة. ويعتقد النصف الآخر أن أيَّ رجلٍ أسود متعلم أو يعمل في وظيفةٍ أو ينضم إلى كنيسةٍ تحترم الثقافة هو رجلٌ مُشتَبَه فيه إلى حدٍّ ما.
إننا لا نؤمن بهذه الانقسامات الزائفة هنا. كما أن الأمر ليس متعلقًا بالدخل المالي يا باراك. فالشرطيون لا يسألون عن حسابي في البنك عندما يُوقفون سيارتهم بجانب الطريق ويجعلونني أقف مباعدًا بين قدميَّ ورافعًا يديَّ لأعلى. هؤلاء الإخوة لا يستوعبون الأمر كما ينبغي، شأنهم شأن ذلك الأستاذ الذي يُدرِّس علم الاجتماع في جامعة شيكاغو ويتحدَّث عن «الأهمية المتناقصة للعِرق.» فهل يعرف هذا الأستاذ في أية دولة يعيش؟»
بعد ذلك سألته: أليست الانقسامات الطبقية مسألةً حقيقية؟ وذكرت للقس المحادثة التي كانت بيني وبين مُساعِدته بخصوص مَيل البعض للرحيل من المدينة. فخلع نظارته وحكَّ عينَيه المُتعبتَين.
وقال بهدوء: «لقد أبلغتُ تراسي برأيي في مسألة الرحيل من المدينة.» وأضاف: «إن ابنها سيذهب إلى هناك دون معرفة مَن هو أو إلى أين ينتمي.»
«من الصعب المخاطرة بأمن طفلك.»
«إن الحياة ليست آمنة لرجلٍ أسود في هذا البلد يا باراك. وأبدًا لم تكن كذلك. ومن المُحتمل أنها لن تكون أيضًا.»
بعد ذلك اتصل السكرتير ليُذكَّر القس رايت بميعاده التالي. تصافحنا ووافق على أن تُعِدَّ تراسي قائمة بأسماء الأعضاء المفترض أن يُقابلوني. ثم وأنا في مكانِ انتظار السيارات جلستُ في سيارتي أتصفَّح سريعًا صفحات كتيبٍ فضي اللون أخذته من مكتب الاستقبال بالكنيسة. اشتمل هذا الكتيب على مجموعةٍ من المبادئ الإرشادية — مثل نظام قيمة السود — التي تبنَّتها الأبرشية عام ١٩٧٩. وفي أعلى القائمة مكتوب وعد للرب «الذي سيهبنا القوة حتى نتوقَّف عن التواكُل، وحتى نُصبح نشطاء مسيحيين سودًا وجنودًا هدفنا حرية السود وتحقيق كرامة البشرية كلها.» وتلا هذا الوعدَ وعدٌ آخَر تجاه المجتمع الأسود والعائلات السوداء والتعليم وأخلاقيات العمل والنظام واحترام الذات.
كانت هذه القائمة صادقةً ومخلصة، لكنني أشكُّ في أنها لم تكن مختلفة عن القِيَم التي يمكن أن يكون القس فيليبس العجوز قد تعلَّمها في كنيسته المطلية باللون الأبيض في الريف منذ ٦٠ عامًا. كانت هناك فقرة بعَينها في كتُيب كنيسة الثالوث تتميز عن غيرها من الفقرات؛ إذ تشتمل على وصيةٍ يظهر في نبرتها وعيٌ أكثرُ بالذات في احتياجها إلى مزيدٍ من التوضيح. عنوان الوصية: «التبرؤ من السعي للانضمام إلى الطبقة المتوسطة.» وبدأ متنها بالعبارة التالية: «في الوقت الذي يُوصى فيه بالسعي للحصول على «دخل متوسط» بكلِّ ما أوتيت من قوة»، فإن هؤلاء الذين أنعم الرب عليهم بموهبة (أو بموفور الحظ) مما ساعدهم على تحقيق النجاح وسط الاتجاه الأمريكي السائد لا بد من أن يتجنَّبوا الوقوع في الفخ النفسي ﻟ «الطبقة المتوسطة» السوداء التي تدفع الناجِحين من الرجال والسيدات دفعًا إلى الاعتقاد في أنهم أفضل من الباقين وتُعلِّمهم كيف يُفكِّرون من منطلق «نحن» و«هم» بدلًا من «جميعنا»!»
•••
أعدتُ التفكيرَ مرةً أخرى في هذه الوصية في الأسابيع التي تلت مُقابلتي للقس رايت وقت لقائي بالأعضاء الآخرين لكنيسة الثالوث. رأيتُ أن سلوك القس رايت كان على الأقل مبررًا إلى حدٍّ ما عندما رفض الانتقادات الموجَّهة إلى الكنيسة لأن أغلبية الأعضاء من الطبقة العاملة مثلهم مثل المدرسين وموظفي السكرتارية والعمال الحكوميين في الكنائس السوداء الكبرى في أنحاء المدينة. أما سكان مشاريع الإسكان القريبة فقد جرى اجتذابهم وتوفير الوظائف لهم، وصُمِّمت برامج للوفاء باحتياجات الفقراء — مثل المساعدات القانونية والتعليمية وبرامج علاج الإدمان — وكلها أمور كانت تلتهم قدرًا كبيرًا من موارد الكنيسة.
وحتى الآن يعرف الجميع أن عدد المختصِّين السود بالكنيسة غير كافٍ، من مهندسين وأطباء ومحاسبين ومديري شركات. فبعضُهم ترعرع في كنيسة الثالوث وبعضهم انتقل إليها من طوائف مسيحية أخرى. واعترف العديد منهم بأنهم ابتعدوا عن ممارسة الدين لوقتٍ طويل؛ بعض هؤلاء فعل ذلك عن عمدٍ كجزءٍ من وعيٍ فكري أو سياسي، لكن البعض الآخر فعل ذلك لأن الكنيسة بدت غير ملائمة لهم وهم يعملون في مؤسسات البِيض بصفةٍ أساسية.
في مرحلةٍ ما أخبروني جميعًا بأن طريقهم الروحاني صار مسدودًا، وهو الشعور — الغامض والمقبِض للصدر من أول وهلة — بأنهم انفصلوا عن ذاتهم. وبصفةٍ متقطعة ثم منتظمة، كانوا يعودون إلى الكنيسة ليجدوا فيها بعضًا من الأشياء نفسها التي يسعى كلُّ دين إلى تقديمها إلى أتباعه؛ الملاذ الروحاني والفرصة كي يرى المرء مواهبه مقدَّرة أيما تقدير بطريقةٍ لا يستطيع المال أن يُوفيها حقَّ قدْرها، والطمأنينة — عندما تتيبس العظام ويشيب الشعر — بأنهم مُنتمون إلى شيء سيبقى بعد زوال حياتهم، وأنه عندما يحين أجلهم سيكون هناك أناس يُحيُون ذكراهم.
فكَّرتُ في أن الدافع الديني ليس هو ما يحرِّك هؤلاء الناس جميعًا، وأنهم لم يعودوا للكنيسة من أجل المسيح فقط. وخطر ببالي أن كنيسة الثالوث — بأفكارها الأفريقية وبتركيزها على تاريخ السود — استمرت في أداء الدور الذي وصفه القس فيليبس في البداية كأداة لإعادة توزيع القِيَم وترويج الأفكار. إلا أن عملية إعادة التوزيع لم تَسِر عندئذٍ في اتجاهٍ واحد فحسب من مُدرِّس المدرسة أو الطبيب الذي كان يرى أن المسيحية تُحتِّم عليه مساعدة المُزارع المستأجَر أو الشاب القادم من الجنوب في التكيُّف مع حياة المدن الكبيرة. بل أصبح تيار الثقافة يسير في الاتجاه العكسي أيضًا؛ فعضو العصابات السابق والأم المراهِقة يدَّعِيان أنهما تعرَّضا لقدرٍ أكبرَ من الحرمان ومن ثَمَّ ينبغي التعامل معهما على أساس أنهما مُتساويان مع غيرهما، وهكذا يُصبح وجودهما في الكنيسة عاملًا يزوِّد المحامي أو الطبيب بخبراتٍ مُستقاةٍ من الشوارع. وعن طريق فتح أبوابها أمام الجميع أكَّدت كنيسة الثالوث لأعضائها أن أقدارهم واحدة، وأن كلمة «جميعنا» الجلية لا تزال باقية.
كان هذا المجتمع الثقافي برنامجًا فعَّالًا أكثرَ مرونةً من القومية العادية وأكثرَ تحمُّلًا من أيٍّ من برامجي التنظيمية. ولكن لا أزال لا أستطيع التوقُّف عن التساؤل بخصوص هل كان يكفي منْع مزيدٍ من الناس من الرحيل عن المدينة أو إبعاد الشباب عن دخول السجن. وهل الزمالة المسيحية بين مدير مدرسةٍ أسودَ على سبيل المثال، وولي أمرٍ أسودَ لأحد الطلاب، يمكن أن تُغيِّر أسلوب إدارة المدارس؟ وهل يسمح الاهتمام بالإبقاء على هذه الوحدة للقسِّ رايت بأن يُعبِّر عن رأيه في آخِر الاقتراحات المقدَّمة لإصلاح الإسكان العام؟ وإن كان رجالٌ مثل القس رايت قد فشلوا في التعبير عن آرائهم، وإن رفضت الكنائس مثل الثالوث الاشتراكَ بفاعلية في الأمر والمخاطرة بحدوث نزاعٍ فِعلي، إذن ما فرصة الحفاظ على وحدة المجتمع الأكبر؟
في بعض الأحيان كنتُ أطرح هذه الأسئلة على مَن أُقابلهم. وكانوا يُجيبونني بنظرة الارتباك نفسها التي كان ينظر بها لي القسِّ فيليبس والقس رايت. ووجهة نظرهم أن المبادئ الموضحة في كتيب الثالوث مقالات إيمانية لا تزيد عن الاعتقاد في يوم البعث. وقالوا لي إن لدَيك أفكارًا طيبة. وربما إن انضممتَ إلى الكنيسة يمكنك مُساعدتنا في بدء برنامج للمجتمع. لماذا لا تأتي يوم الأحد؟
وما كنتُ أفعله هو أن أهزَّ كتفَي وأُكرِّر السؤال مرةً أخرى، غير قادر على الاعتراف بأنني لم أعُد أستطيع التمييز بين الإيمان والهراء، وبين الإيمان والثبات؛ بمعنى أنني كنتُ أومن بالصِّدق الذي كنتُ أسمعه منهم، وفي نفس الوقت بقِيتُ مُتشككًا في دوافعي الخاصة ومحترسًا من الاهتداء الضروري، وكان كل ذلك بسبب صراعاتي الكثيرة مع مفهوم الرب التي منعتني مِن تقبُّل فكرة أن الخلاص يمكن أن أحصل عليه بمثل هذه السهولة.
•••
مات هارولد واشنطن قبل يومٍ واحد من الاحتفال بعيد الشكر.
حدث ذلك دون سابق إنذار. وقبل وفاته ببضعة أشهر كان هارولد قد فاز في الانتخابات المعادة فوزًا ساحقًا على فردولياك وبيرن مُحطِّمًا سياج الفشل الذي أحاط بالمدينة على مدار الأربع سنوات السابقة. أدار هارولد حملته الانتخابية هذه المرةَ بمهارةٍ شديدة؛ إذ استعمل حنكته التي حصل عليها بخبرة السنوات وتخلَّى في هذه الحملة عن تلك الحماسة التي اتصف بها عام ١٩٨٣؛ كانت حملة توحيد ودعم، حملة ميزانيات مُتوازنة ومشاريع عامة. استطاع هارولد التواصُل مع بعض السياسيين القدامى — من الأيرلنديين والبولنديين — المستعدِّين لصُنع السلام، وأرسلَتْ إليه الشركات الأموال مُعلِنةً تقبُّلها لوجوده. ومن ثَمَّ فإن سلطته أصبحَت آمِنةً للغاية مع أن أصوات الاستياء علَتْ في النهاية في قاعدته من بين القومِيِّين السود اليائسين بسبب استعداده لتقليل عدد العاملين من البِيض والهيسبانيين، وبين النشطاء المحبطين بسبب فشلِه في التعامل مباشرةً مع الفقر، وبين مَن فضَّلوا الحُلم على الحقيقة، والأهمية على الحلول الوسط.
لم يعطِ هارولد اهتمامًا كثيرًا لهذه الانتقادات. ورأى أنه لا يُوجَد سببٌ للمخاطرة والتسرُّع. وقال إنه سيكون العمدة على مدار العشرين عامًا القادمة.
ثم حلَّ الموت؛ مفاجِئًا وبسيطًا وحاسمًا، بل سخيفًا في حدوثه بصورةٍ عادية وانتزاعه النبض من قلب هذا الرجل الضخم.
كان الجوُّ ممطرًا وباردًا في عطلة نهاية الأسبوع هذه. وخيَّم الصمت على شوارع الحي. وبكى الناس داخل المنازل وخارجها. وأخذت المحطات الإذاعية التي تبثُّ برامجها للسود تُعيد إذاعة خُطَب هارولد — ساعةً بعد أخرى — وكأنهم يحاولون استدعاء روح الميت. وفي مجلس المدينة كانت الصفوف تمتدُّ بطول بضع بنايات حيث الحزانى ذاهبون لزيارة الجثة الراقدة في سلام. وظهر السُّود في كل مكان مذهولِين ومذعورين وخائفين من المستقبل وفي حالةٍ من عدم القدرة على تحديد الاتجاهات.
عندما حان وقت الجنازة عزف مؤيدو حكومة واشنطن على ألحان الصدمة الأولى. فبدءوا في مقابلة الناس وإعادة تجميعهم مُحاولين تحديد استراتيجيةٍ للحفاظ على السيطرة ومحاولين أيضًا اختيار وريثٍ عادل لهارولد. لكن في الواقع كان أوان ذلك قد فات. حيث لم يكن هناك أيُّ حزبٍ سياسي أو مبادئ مُعترف بها بوضوح حتى تُتَّبَع. كانت المبادئ السياسية للسُّود قد تركَّزت حول رجلٍ واحد كان مُشرقًا كالشمس الساطعة في السماء. لكنه غاب الآن عن الأنظار ولم يستطِع أحدٌ الاتفاقَ على معنى وجوده السابق.
دبَّ النزاع بين مُؤيدي واشنطن. وظهرت الفصائل. وانتشرت الإشاعات. وفي يوم الإثنين — اليوم الذي كان من المقرَّر فيه أن يُحدِّد مجلس المدينة عمدةً جديدًا ليكون في الحكم لحين ميعاد الانتخابات — انفكَّ الائتلاف الذي منح هارولد منصبه. ذهبتُ إلى مجلس المدينة مساء هذا اليوم لأُشاهد الموتَ الثاني؛ حيث إن الناس — وكان أغلبهم من السود — تجمعوا خارجَ قاعاتِ الاجتماع في مجلس المدينة من بعد الظهيرة، كان منهم الشيوخ والفضوليون، رجالًا وسيداتٍ يحملون شعاراتٍ ولافتات. كانوا يصرخون في وجوه أعضاء مجلس المدينة الذين أبرموا صفقةً مع جبهة البِيض. ولوَّحوا بأوراق الدولارات في وجه عضو مجلس المدينة الأسود الهادئ الطِّباع المعسول اللسان الذي كان في السلطة منذ وجود الأحزاب السياسية التي تهدف إلى تحقيق مآربها الشخصية، والذي يدعمه أعضاء مجلس المدينة البِيض. لذا أطلقوا على الرجل لقبَ الخائن وخادم البِيض. وأخذوا يهتفون ويمشون بخطواتٍ غاضبة سريعة ويُقسِمون بأنهم لن يَبرحوا أماكنهم.
على الرغم من كل ذلك فقد تمتَّعت السلطة بالصبر، وكانت تعرف ماذا تريد؛ حيث كان بوسعها هزيمةُ اللافتات، والصلوات، وبقاء الناس سهارى في الطريق تحت أضواء الشموع مُعبِّرين عن احتجاجهم. وقرابة منتصف الليل، وقبل أن يبدأ المجلس فعليًّا في أخذ الأصوات، فُتح الباب إلى قاعات الاجتماع لوقتٍ وجيز، ورأيتُ اثنَين من أعضاء مجلس المدينة يَتناقشان بصوتٍ خفيض. كان أحدهما أسودَ من رجال هارولد، والآخر أبيضَ من مُؤيدي فردولياك. وأخذا يتهامسان ويبتسِمان ابتساماتٍ قصيرة، وينظران إلى الحشود التي لا تزال تنشد، مُحاولين سريعًا التوقُّف عن الابتسام، كانا ضخمَي الجثة ممتلئي القوام يرتديان حُلَّتين ذواتَي الصفَّين من الأزرار ورأيتُ في عينَيهما نظرةَ الجوع نفسَها؛ رجُلَين يعرفان النتيجة مُسبقًا.
غادرتُ مجلس المدينة بعد ذلك. واخترقتُ الزحام الذي تدفَّق إلى الشوارع ومشيتُ عبرَ طريق دالي بلازا قاصدًا سيارتي. كم كانت الرياح باردةً وحادة مثل شفرة السكين، وأنا في طريقي شاهدتُ لافتة بخط اليد ملقاةً على الأرض بجانبي. كان مكتوبًا عليها: «عاشت روحه» بحروف كبيرة واضحة. وأسفل الكلمات رأيتُ صورة هارولد، الصورة التي رأيتها كثيرًا وأنا أنتظر إخلاء أحد المقاعد في صالون سميتي للحلاقة، حيث الوجه الوسيم الأشهب والابتسامة الرقيقة المتسامحة، والعينان المتلألئتان، رأيت صورته وهي تتطاير في الهواء وكأنها ورقة شجر تُحرِّكها رياح الخريف.
•••
مرَّت الشهور بسرعةٍ هائلة وأنا أتذكَّر دائمًا الأشياء التي لم تُنجَز بعد. وعملنا بالتعاون مع تآلُفٍ له شعبيته في المدينة كلِّها من أجل كسب التأييد لبرنامج إصلاح المدارس. وعقدنا مجموعةً من الاجتماعات المشتركة مع المكسيكيين في أقصى الجانب الجنوبي لوضع استراتيجيةٍ بيئية مشتركة للمنطقة. واستشاط جوني غضبًا وأنا أحاول أن أحشوه بكافة الأشياء التي تعلمتُها في ثلاث سنوات.
سألته: «إذن مَن قابلته هذا الأسبوع؟»
«حسنًا، تقابلتُ مع السيدة بانكس في كنيسةِ ترو فاين هولينيس. ويبدو أن لدَيها إمكانيات فائقة. فهي مُعلِّمة ولها اهتمامات كثيرة بالتعليم. وأعتقد أنها دون شكٍّ ستتعاون معنا.»
«ما وظيفة زوجها؟»
«نسيتُ في الواقع أن أسألها.»
«ما رأيها في نقابة المعلمين؟»
«لم يكن لدي سوى نصف ساعة فقط يا باراك …»
في شهر فبراير، تلقيتُ خطاب قَبولي للدراسة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وجاء مع الخطاب قدْرٌ كبير من المعلومات. وذكَّرني هذا الأمر بالمعلومات التي تلقيتُها من أكاديمية بوناهو ذلك الصيف منذ ١٤ عامًا. وتذكَّرت كيف كان جَدي يجلس طوال الليل يتصفح الكتيب الدعائي الذي يعرِض لدروس الموسيقى ودورات التأهيل ونوادي الإنشاد الجماعي وشهادة إتمام الدراسة الثانوية؛ تذكَّرتُ كيف كان يُلوِّح بالكتيب ويُخبرني بأنه سيكون ورقتي الرابحة وبأن مَن سأتعرَّف عليهم في أكاديمية بوناهو سيظلُّون معي طوال حياتي، وأنني سوف أكون عضوًا نشطًا في المجتمع وستُتاح لي كل الفرص التي لم تُتَح له. تذكَّرت كيف كان في نهاية المساء يبتسِم ويمسح على شعري وتتلألأ الدموع في عينَيه كما لو كان على وشْك البكاء ورائحة الويسكي تنبعِث من فمه. وكيف كنتُ أبتسِم له وأتظاهر بأني أفهم ما يقوله لكنني كنتُ في الواقع أتمنَّى لو كنتُ لا أزال في إندونيسيا أركض بين حقول الأرز حافيَ القدمَين، منغمسة قدماي في الوحل الرَّطب البارد وأنا واحِدٌ من أفراد ذلك الصف من الأطفال ذوي البشرة السمراء الذين يَجْرون وراء طائرةٍ ورقية ممزقة.
راودني هذا الشعور نفسه الآن.
رتَّبتُ لدعوة ٢٠ خادم كنيسة — أو ما يقرُب من ذلك — الذين وافقَت كنائسهم على الانضمام إلى المؤسسة على غداء عملٍ هذا الأسبوع في مَكتبنا. وجاء معظم الخُدَّام المدعوِّين ومعظم أفراد القيادة الرئيسيين. وناقشنا معًا استراتيجيات العام القادم والدروس التي تعلمناها من موت هارولد. هذا بالإضافة إلى أننا حدَّدنا فترةَ التدريب واتفقنا على قيمة المشاركة المالية، وتحدَّثنا عن الحاجة المستمرة لانضمام عددٍ أكبرَ من الكنائس. وعند انتهائنا من تحديد كل شيءٍ أعلنتُ أنني سأرحل في شهر مايو وأن جوني سيكون المدير الجديد.
لم يفاجَأ أحدٌ بهذا الأمر. وجاءوا جميعهم إليَّ بعد ذلك وقدَّموا تهانيهم. وأكدَّ لي القس فيليبس أنني اتخذتُ قرارًا حكيمًا. وقالت مُنى وأنجيلا إنهما كانتا تعرفان أنني كنتُ سأصبح مهمًّا يومًا ما، وسألتني شيرلي عن مدى استعدادي لمساعدة ابن أخٍ لها وقعَ في إحدى بالوعات الصرف الصحي في الشارع وأراد رفع دعوى قضائية.
كانت ماري الوحيدة التي اعتلى وجهَها الحزن. وبعد أن غادر معظم الخدَّام ساعدتني أنا وويل وجوني في ترتيب المكان. وعندما سألتُها إن كانت في حاجة إلى أن أوصلها هزَّت رأسها.
قالت وهي تنظر إليَّ وإلى ويل وترتدي معطفها: «ما خطْبُكم أيها الرجال؟» ارتعد صوتها بعض الشيء. وأضافت: «لماذا دائمًا في عجلةٍ من أمركم؟ لماذا لا يُعجبكم شيء؟»
ردَدْتُ عليها وفكَّرت في ابنتَيها الجالِستَين في المنزل وفي أبيهما الذي لم تعرفاه مطلقًا. وبعد ذلك مَشيتُ معها إلى باب الغرفة وعانقتُها. وعندما رحلتُ عُدت إلى غرفة الاجتماعات حيث كان ويل ممسكًا بطبقٍ يتناول ما به من بقايا أجنحة الدجاج المقدمة للضيوف.
سألني وهو يأكل: «أتُريد بعضًا من الطعام؟»
هززتُ رأسي بالنفي وجلستُ على الطاولة. وشاهدني لفترة من الوقت وهو يمضغ بهدوء ويلعق الصوص الحار العالِق بأصابعه.
وقال في النهاية: «إن هذا المكان يروق لك، أليس كذلك؟»
أومأتُ برأسي بالإيجاب. وقلت: «بلى، هذا صحيح يا ويل.»
احتسى رشفةً من المياه الغازية التي أمامه وتجشَّأ. وقال: «ثلاث سنوات ليست فترة طويلة.»
«ومَن قال لك إنني سأعود مرةً أخرى؟»
قال وهو يُبعِد طبقه بعيدًا عنه: «لا أحد.» وتابع: «إنني أعرف فحسب.» ودون أن يتفوَّه بكلمةٍ أخرى ذهب ليغسل يدَيه قبل أن يركب دراجته ويسير بها في الشارع.
•••
استيقظتُ من النوم في السادسة صباح يوم الأحد. وكان الجو لا يزال مظلمًا بالخارج. حلقتُ ذقني ونظَّفتُ حُلتي الوحيدة التي أملكها ووصلتُ إلى الكنيسة في السابعة والنصف. كانت معظم المقاعد مشغولةً بالفعل. وقادني مرشدٌ يرتدي قفازًا أبيضَ إلى الطريق ومررنا بجانب سيداتٍ طاعنات في السن ارتدَين قبعاتٍ كبيرة عليها ريش، ورجال طوال القامة ارتسمت على وجوههم ملامحُ الجِدية يرتدون حُللًا وأربطة عنقٍ وقبعاتٍ مصنوعة من قماش منقوش، وأطفال في كامل أناقتهم كما هو معهود في أيام الآحاد. لوَّح لي وليُّ أمر تلميذٍ يدرُس في مدرسة دكتورة كوليار، كان موظفًا في هيئة شيكاغو للإسكان وكنتُ قد تشاجرتُ معه عدة مرات، ورددتُ على تلويحه بإيماءة جافة. شققتُ طريقي إلى أن وصلتُ إلى وسط أحد الصفوف وجلست بجانب سيدةٍ ممتلئة الجسم تَكبرني سنًّا لم تكن تستطيع التحرُّك بسرعةٍ وعائلة مكونة من أربعة أفراد كان الأب يتصبَّب عَرقًا نظرًا لارتدائه جاكيتًا من الصوف الثقيل والأم تُخبر ابنَيها الجالِسَين بجانبها بأن يتوقَّفا عن ضرب أحدهما الآخر.
سمعتُ أحدهما الأصغر سنًّا وهو يسأل أخاه: «أين الرب؟»
فأجاب الأخ: «اصمت.»
وقالت لهما أمهما: «فلتهدآ الآن.»
بدأت الراعية المساعدة لكنيسة الثالوث — وكانت سيدة في منتصف العمر طال الشيب شعرها وتتَّسِم بالجِدية الشديدة — في قراءة نشرة الكنيسة، وقادت بعض الأصوات الحالمة في ترتيل بعض الترانيم التقليدية. بعد ذلك ملأت جوقة المنشِدِين الممشى بين الصفوف، وكان أفرادها يرتدون ثيابًا بيضاء وشيلانًا مصنوعةً من قماش حريري، وكانوا يُصفِّقون ويغنون وهم ينتشرون إلى خلف المذبح على ألحان آلة الأرغن التي تلي قرع الطبول المتسارع:
وفي حين اشترك رعايا الكنيسة في الغناء ظهر الشمامسة وبعدهم القس رايت خلفَ الصليب الكبير المعلَّق في عوارض السقف الخشبية. ظل القس صامتًا أثناء تلاوة الصلوات، وكان يُمعن النظر في وجوه مَن يقفون أمامه ومتتبعًا بعينَيه سلةَ التبرعات وهي تنتقل من يدٍ لأخرى. وعندما انتهى رعايا الكنيسة من التبرُّع صعد إلى منبر الوعظ وقرأ أسماء مَن تُوفوا ذلك الأسبوع وأسماء المرضى، وكان يُصاحِب كل اسمٍ يقرؤه همهمات من بعض الحضور دليلًا على معرفتهم به.
قال القس: «لنَضُمَّ أيدينا ونحن نركع ونُصلي عند قدم الصليب القديم الصلد …»
«نعم …»
قال القس: «ربنا، جئنا في البداية لنشكرك على ما قدَّمته لنا بالفعل … جئنا لنشكرك أساسًا من أجل يسوع، ربنا، جئنا من مُختلف الطبقات في المجتمع. البعض من طبقات رفيعة والبعض الآخر من طبقات وضيعة … لكننا جميعًا سواسية عند قدمِ هذا الصليب. نشكرك ربنا يسوع … حامل أثقالنا وشريكنا في حملنا الثقيل، إننا نشكرك …»
كان عنوان العظة التي ألقاها القس رايت في ذلك الصباح هو «جرأة الأمل». وبدأ حديثه بقراءة فقرةٍ من سِفر صموئيل التي تتحدَّث عن قصة حِنة؛ السيدة العاقر التي كانت ضرتها تستهزئ بها، والتي بكت وارتعشت في صلاتها أمام ربها. قال القس إن هذه القصة تُذكِّره بعظةٍ ألقاها قسٌّ زميلٌ له في مؤتمرٍ ما منذ بضع سنوات، وفيها وصفَ القس ذهابه إلى أحد المتاحف ومشاهدته لوحةً اسمها «الأمل».
شرح القس رايت هذه الحادثة بقوله: «صورت اللوحة سيدةً تعزف على القيثار تبدو من أول وهلة وكأنها جالسة فوق قمةٍ شاهقة لأحد الجبال. على أن المرء إذا أمعن في النظر فسيجد أن السيدة مُصابة بكدمات ومخضَّبة بالدماء، وأنها ترتدي أسمالًا بالية ممزَّقة. وسيكتشف المرء أن أوتار القيثار جميعها مكسورة فيما عدا وترًا واحدًا باليًا. بعد ذلك عندما تنتقل عينُ المرء إلى أسفل المشهد، حيث الوادي الذي يُوجَد عند سفح الجبل، سيجد في كل مكان آثارًا للدمار الذي خلَّفته المجاعة، وقرعًا لطبول الحرب، وعالمًا يئن من الحروب والحرمان.»
قلتُ في نفسي: «إنه عالَمنا، عالَمٌ تُلقِي فيه البواخر السياحية في البحر كمياتٍ من الطعام في يومٍ واحد تفوق ما يراه في عام كامل معظمُ سكان مدينة «بورت أوبرنس» عاصمة هايتي، عالَمٌ فيه جشع البِيض يتحكم في سكانه المحتاجين، عالَمٌ تعمُّه التفرقة العنصرية في أحد نصفَيه واللامبالاة في نصفه الآخر … هذا هو العالَم! هذا هو العالَم الذي يكمن الأمل فيه!»
هكذا قدَّم القس رايت عظته في سياق تأمُّلي لعالَمٍ منهار. بينما كان الولدان الجالسان بجواري يعبثان بنسخةٍ من النشرة التي تُصدِرها الكنيسة تحدَّث القس رايت عن مذبحة شاربفيل بجنوب أفريقيا والضربة النووية على هيروشيما اللتَين تُعبِّران عن قسوة قلوب صناع السياسة، سواء في البيت الأبيض أو في المجلس التشريعي. وبمجرد أن بدأت العظة تتجلى للذهن أصبحت قصص الحروب أكثرَ مللًا، وأصبح الشعور بالألم أكثرَ تعلقًا بالوقت الحاضر. تحدَّث القس عن الصِّعاب التي يمكن أن تُواجهها الأبرشية في الغد، وألم مَن هم بعيدون عن قمة الجبل الذين ينتابهم القلق من عدم قُدرتهم على دفع فاتورة الكهرباء. وتحدَّث أيضًا عن ألم أولئك القريبين من قمة الجبل المجازية: سيدات الطبقة المتوسطة اللاتي لديهنَّ كل احتياجاتهنَّ الدنيوية إلا أن أزواجهنَّ يُعاملونهنَّ مثل «الخادمات وحارسات المنزل والرفيقات، كل هذا في وقتٍ واحد»، والأطفال الذين يهتم آباؤهم الأثرياء «بملمس الشَّعر أعلى الرأس أكثرَ من اهتمامهم بجودة التعليم داخلها.»
«أليس هذا العالَم … هو الذي يعيش فيه كلٌّ منا؟»
«نعم!»
«مثلنا مثل حِنة، مررْنا بأوقاتٍ عصيبة! ويوميًّا نواجه الرفض واليأس.»
«نعم هذا صحيح!»
«ومع ذلك، تخيلوا مرةً أخرى الصورة أمام أعينكم. الأمل! مثلها مثل حِنة، عازفة القيثار التي تنظر لأعلى، وتُصدِر من قيثارتها بعض الألحان الواهنة إلى أعالي السماء. إن لدَيها الجرأة على أن تشعر بالأمل … لديها الجرأة … على أن تعزف الموسيقى … وتُسبِّح الرب … بعزفها على الوتَر الواحد … الذي تبقى لها!»
بدأ الناس يصيحون وينهضون من مقاعدهم ويصفِّقون ويبكون، وكانت هناك ريح شديدة تحمل صوت القس إلى عوارض السقف الخشبية. وعندما شاهدتُ هذا وسمعته وأنا في مقعدي بدأتُ أسمع كل ألحان السنوات الثلاث المنقضية وهي تدور في دوامة بداخلي. شجاعة روبي وخوف ويل. الزهو بالعِرق وغضب رجالٍ من أمثالِ رفيق. الرغبة في التنفيس عن الغضب، والرغبة في الهروب، والرغبة في الاستسلام إلى إلهٍ قادر على تخليص المرء من اليأس.
وبين طيات هذا اللحن المنفرِد — الأمل! — سمعتُ شيئًا آخر؛ عند ذلك الصليب، وداخل آلاف الكنائس في المدينة كلها، تخيلتُ قصص عوام السُّود مندمجةً مع قصة داوود وجالوت، وقصة موسى وفرعون، وقصص المسيحيين الذين أُلقوا في جُبِّ الأُسود، وقصة وادي حزقيال المليء بالعظام اليابسة. أصبحت هذه القصص — قصص البقاء والحرية والأمل — قصصنا نحن، قصتي أنا؛ فالدماء التي أُريقت هي دماؤنا، والدموع التي انهمرت هي دموعنا، إلى أن بدت هذه الكنيسة السوداء في هذا اليوم المشرق كالسفينة تنقل القصة إلى أجيال المستقبل وإلى العالم الفسيح. وأصبحت محاولاتنا وانتصاراتنا فريدةً وعالمية في آنٍ، للسُّود ولغيرهم من بني البشر، وبتأريخ رحلتنا منحتنا هذه القصص والأغاني فرصةً لاستعادة الذكريات التي لم نَعُد في حاجةٍ إلى أن نشعر بالخجل منها، الذكريات التي من السهل استيعابها أكثرَ من ذكريات مصر القديمة، الذكريات التي ربما يتدارَسُها الناس جميعًا وتعلَق طويلًا بأذهانهم والتي في ظلها نستطيع أن نستعيد قوَّتنا. وإذا كان بعض مِنِّي استمر في الشعور بأن هذا العشاء الرباني ليوم الأحد يعرض حالتنا بوضوحٍ في بعض الأحيان، وإن كان في أحيانٍ أخرى يُخفي أو يكبت الصراعات الحقيقية بيننا، هذا العَشاء الذي يَفي بوعدِه من خلال الفعل فحسب، فإنني شعرتُ أيضًا ولأول مرة كيف حملت هذه الروح — الوليدة غير الكاملة — بين طياتها إمكانية انتقالنا إلى ما هو أبعدُ من أحلامنا المحدودة.
قال القس: «جرأة الأمل! لا أزال أتذكَّر جَدتي وهي تُغني في المنزل وتقول: «هناك جانب مشرق في الحياة … لا يهدأ لك بالٌ حتى تجده …»»
«هذا صحيح!»
استطرد القس قائلًا: «جرأة الأمل! تذكَّرت الأوقات التي لم نستطِع فيها دفع الفواتير. وتذكَّرتُ الأوقات التي بدا الأمر فيها وكأنني لن أستطيع إطلاقًا تحقيق أي شيء … في سن الخامسة عشرة وأنا مقبوض عليَّ في حادث سرقةٍ كبيرة خطَّطتُ لها بنفسي … ومع ذلك فقد ظل أبي وأمي يُغنِّيان …
ثم قال القس: «ما أبعد هذا الغناء عن المنطق! سألت نفسي لماذا يشكران الرب رغم كل هذه الصِّعاب التي واجهاها؟ على أنني في الواقع لم أكن أنظر إلا إلى البُعد الأفقي في حياتهما!
«أخبِراني الآن!»
لم أفهم أنهما كانا يتحدَّثان عن البُعد الرأسي! عن علاقتهما بالرب! لم أفهم أنهما كانا يشكرانه مقدَّمًا على جرأة أملهم فيَّ! أشكرك يا رب على أنك لم تتخلَّ عني عندما تخليتُ عنك! أشكرك يا رب …»
شعرتُ بلمسةٍ حانية على يدي عندما عادت جوقة المنشِدين للغناء وإثارة الحماسة وعندما بدأتْ جماعة المصلِّين من رعايا الكنيسة في التصفيق لمن اتجهوا نحو المذبح لتلبية نداء القس رايت. نظرتُ لأسفل ورأيتُ الولد الأكبر يجلس بجانبي، وكان وجهه يتوجَّس خِيفةً بعض الشيء عندما أعطاني كيس مناديل ورقية، وكانت أمُّه بجانبه ترمقني وعلى شفتَيها ابتسامة باهتة واستدارت لتعاود النظر إلى المذبح. شعرت بالدموع تنهمِر على وجنتيَّ وأنا أشكر الولد.
سمعتُ السيدة العجوز بجانبي تهمس برقَّةٍ وهي تقول: «نشكرك يا يسوع.» وتابعت: «نشكرك على أنك أوصلتنا لما وصلنا إليه.»