الفصل الخامس عشر
حلَّقت الطائرة من مطار هيثرو وفوقها سماء عاصفة. وكان هناك مجموعة من الشباب البريطانيين يرتدون ستراتٍ غيرَ مناسبة لأجسامهم يملئون مؤخرة الطائرة، وجلس أحدهم — وهو شابٌّ| طويل نحيف شاحِب الوجه لا يزال حَب الشباب يُزعِج بشرتَه — على المقعد إلى جواري. وقرأ تعليمات الطوارئ مرَّتَين بتركيزٍ شديد، وبمجرد أن ارتفعت الطائرة التفت ليسألني عن وجهتي، فأخبرتُه أنني أتَّجه إلى نيروبي لزيارة عائلتي.
«إن نيروبي مكانٌ جميل حسبما أسمع. ولن أُمانع أبدًا في الذهاب إلى هناك يومًا ما. أما أنا فأتَّجه إلى جوهانسبرج.» وشرح لي أن الحكومة البريطانية رتَّبت له ولزملائه — كجزءٍ من برنامجٍ دراسي يؤهل للحصول على درجة علمية في علم الجيولوجيا — العملَ مع شركات تعدين في جنوب أفريقيا لمدة عام. وقال: «يبدو أن لدَيهم نقصًا في الأيدي العاملة المدرَّبة هناك، ومن ثَم إذا كنا محظوظين فسيجعلوننا نعمل لدَيهم في موقعٍ دائم. وهي على ما أظن أفضلُ فرصةٍ لنا للحصول على عمل بأجرٍ لائق، إلا إذا أراد المرء أن يتجمَّد على أحد أرصفة البترول في بحر الشمال. وأنا لا أرغب في هذا، شكرًا لك.»
أخبرتُه أنه إذا حصل السُّود في جنوب أفريقيا على الفرصة فإن كثيرًا منهم قد يكون مهتمًّا بالحصول على مثل هذا التدريب.
فقال: «أظن أنك على حق.» وتابع: «أنا لا أوافق على سياسة التمييز العنصري هناك. إنها لعارٌ.» ثم فكَّر لدقيقة. وقال: «لكن بقية القارة الأفريقية تتمزَّق الآن، أليس كذلك؟ على الأقل هذا ما أعرفه. فالسُّود في جنوب أفريقيا لا يموتون جوعًا مثلما يحدث لهم في بعض تلك البلاد البائسة. إنهم في موقفٍ لا يُحسدون عليه، ولكن مقارنة ببعض المساكين في إثيوبيا …»
جاءت إحدى المضيفات في الممر ومعها سمَّاعات للأذن يمكن تأجيرها أثناء الرحلة، أخرج الشاب محفظته ودفع ثَمن إيجار السماعة. وقال: «بالطبع سأحاول وأبتعِد عن السياسة. أظن أن هذا ليس من شأني. والأمر نفسه يحدث في الوطن؛ فالجميع يحصلون على الإعانة التي تدفعها الحكومة للبطالة، وكبار السن في البرلمان يُردِّدون نفس التفاهات القديمة. أفضل شيء يفعله المرء هو أن يهتمَّ بالحيز الصغير الذي يشغله من العالم، هذا رأيي.» وأخرج سمَّاعات الأذن ووضعها في أُذنَيه.
وقال قبل أن يُرجِع مقعده إلى الوراء لينام قليلًا: «هلا توقظني عندما يُحضِرون الطعام.»
أخرجت كتابًا من حقيبتي الصغيرة التي أحملها معي داخل الطائرة وحاولتُ أن أقرأ. كان الكتاب وصفًا لعدة دول أفريقية كتبه صحفي غربي قضى عَقدًا من الزمان في أفريقيا، وسيُطلق عليه خبير بأفريقيا، وهو شخص يفتخر على ما يبدو بقُدرته المتزنة على التقدير. ناقشتِ الفصول القليلة الأولى من الكتاب تاريخَ الاستعمار بشيءٍ من التفصيل: استغلال الكراهية القبلية، ونزعة الاستعمار إلى تغيير الحدود، والتهجير، والاعتقالات، وجميع أشكال المهانة. أما الأعمال البطولية في بدايات الاستقلال لرجالٍ مثل كينياتا ونكروما فقد وفَّاها المؤلف حقَّ قدْرها قبل أن ينتقل للحديث بعد ذلك عن انجرافهم إلى الاستبداد وهو ما يُعزى، على الأقل إلى حدٍّ ما، إلى الدسائس الكثيرة للحرب الباردة.
وفي الفصل الثالث من الكتاب بدأت صور من الحاضر تطغى على الماضي. المجاعة والأمراض والانقلابات، والانقلابات المضادة التي يُنفِّذها شباب أُميُّون يبرعون في استخدام رشاشات كلاشنكوف «أيه كى-٤٧» وكأنها عصا رعاة الأغنام، وبدا كأن الكاتب يقول لو أن أفريقيا لها تاريخ فإن مدى المعاناة الحالية جعلت هذا التاريخ غير ذي معنًى.
حقًّا مساكين. وبلاد بائسة.
وضعتُ الكتاب جانبًا، وأنا أشعر بغضبٍ مألوف يجري في عروقي، غضب يُثير جنوني كثيرًا لأنه يفتقد إلى هدف واضح. وإلى جواري يشخر الشاب البريطاني برفق، ونظارته تنزلق قليلًا على أنفه الذي يُشبه زعنفة السمكة. تساءلتُ بداخلي: هل كنتُ غاضبًا منه؟ هل ذنبه أنني — رغم كلِّ ما تلقَّيتُه من تعليم، وما أعرفه من نظريات — لم أكن أمتلك إجاباتٍ جاهزة للأسئلة التي طرحها؟ إلى أيِّ حدٍّ يمكنني أن ألومه لأنه يريد أن يُحسِّن وضعه؟ ربما أشعر بالغضب فقط بسبب أُلفته الشديدة معي، وافتراضه أنني بصفتي أمريكيًّا، بل أمريكيًّا أسودَ، قد أُشاركه بطبيعة الحال نظرته المعتمة عن أفريقيا؛ افتراض يُمثِّل في عالمه على الأقل تطورًا من نوعٍ ما، لكنه في نظري لا يمثِّل إلا تأكيدًا على وضعي غير المستقر؛ فأنا غربي لا يشعر أن الغرب وطنه بحق، وأفريقي في طريقه إلى أرضٍ مليئة بالغرباء.
كان هذا الشعور يتملَّكني طوال الفترة التي قضيتُها في أوروبا؛ كنتُ متوترًا ومتحفظًا ومتردِّدًا في التعامُل مع الغرباء. ولم أكن أُخطِّط للأمر بهذا الشكل. فقد كنتُ أفكِّر في التوقُّف المؤقت هناك على أنه ليس إلا اتخاذ طريقٍ غير مباشر للوصول إلى الجهة نفسها، وفرصة لأزور أماكنَ لم أرَها من قبل. ولمدة ثلاثة أسابيع سافرتُ وحدي في أرجاء القارة معظم الأوقات بالحافلة وبالقطار، وفي يدي دليلٌ إرشادي للسياح. احتسيتُ الشاي على ضفاف نهر التيمز، وشاهدتُ الأطفال وهم يُطارد بعضهم بعضًا بين أشجار الكستناء في حديقة لكسمبورج بفرنسا. ومررتُ عند الظهيرة بالضبط بساحة بلازا مايور بإسبانيا ورأيتُ ما بها من ظلالٍ للوحات «دي شيريكو» والعصافير التي تحوم في السماء الفضية اللون، ورأيتُ حلول الظلام على تلِّ بالاتين بإيطاليا مُنتظرًا ظهور النجوم، واستمعتُ إلى صوت الرياح وما يحمله من همساتٍ عن الفناء.
وفي نهاية الأسبوع الأول تقريبًا أدركتُ أنني قد اقترفتُ خطأ. لم يكن الأمر أن أوروبا ليست جميلة، بل كان كل شيءٍ كما تخيلتُه بالضبط. لكن المكان لم يكن مكاني. شعرتُ أنني أعيش قصةَ إنسانٍ آخر؛ فقد وقف تاريخي غير المكتمِل حاجزًا بيني وبين الأماكن التي أراها مثل جدارٍ غليظ من الزجاج. وبدأتُ أشكُّ في أن هذا التوقف في أوروبا وسيلة أخرى للتأخير، مجرد محاولة أخرى لتجنُّب التصالح مع أبي. كنتُ مجبرًا — بعد أن تجردتُ من اللغة والعمل والروتين، وتجردت حتى من الهواجس العنصرية التي أصبحتُ معتادًا عليها بشدة والتي أصبحتُ أعتبرها (على العكس) علامةً على النضج — على النظر إلى أعماق نفسي ولم أجد فيها سوى فراغ كبير.
فهل ستملأ هذه الرحلة إلى كينيا هذا الفراغ أخيرًا؟ هكذا ظنوا في شيكاغو. إذ قال ويل في الحفل الذي أُقيم بمناسبة رحيلي، سيكون كما في رواية «الجذور». وقال عنها أسانتي إنها رحلة مقدسة. وفي نظرهما، وكذلك في نظري، أصبحَتْ أفريقيا فكرةً أكثرَ من كونها مكانًا حقيقيًّا، أرض ميعاد جديدة، مليئة بتقاليد عتيقة ومشاهد جارفة وصراعات نبيلة وطبول مُعبرة. ونظرًا لتمتُّع أفريقيا ببُعد المسافة عنا أصبحنا نحمِل لها مشاعرَ خاصة، هي نفس المشاعر التي حملتُها لأبي يومًا ما. ماذا سيحدث بمجرد أن أمحو بُعد المسافة؟ كان من الأفضل أن أومن أن الحقيقة ستُحررني بصورةٍ ما، لكن ماذا لو كنتُ مخطئًا؟ ماذا لو كانت الحقيقة مُخيِّبة للآمال، وأن موت أبي لم يكن يعني شيئًا، وتركه لي لم يكن يعني شيئًا، وأن الصلة الوحيدة التي تربطني به، أو بأفريقيا، هي الاسم، أو فصيلة الدم، أو احتقار الرجل الأبيض لكِلَينا؟
أطفأتُ المصباح الموجود فوق رأسي وأغمضتُ عينيَّ، وتركتُ عقلي ينجرف عائدًا إلى شخصٍ أفريقي قابلته وأنا أسافر في أرجاء إسبانيا، رجل آخر يهرب. كنتُ أنتظر حافلة المساء على رصيفٍ إلى جانب الطريق في منتصف المسافة بين مدريد وبرشلونة. وبعض الرجال كبار السن يجلسون إلى طاولات ويحتسون الخمر في أكوابٍ قصيرة غير شفافة. وعلى أحد الجوانب طاولة للعبة البلياردو، ولسببٍ ما نظَّمتُ الكرات وبدأت ألعب وأنا أتذكَّر تلك الليالي مع جَدي في الحانات في شارع هوتيل ستريت بما به من فتيات ليلٍ وقوادين، وجَدي هو الرجل الأبيض الوحيد في الملهى الحقير.
وحين كنتُ أنتهي من تنظيم الطاولة ظهر فجأة رجلٌ يرتدي سترةً صوفية خفيفة وسألني هل يمكنه أن يدعوني إلى فنجانٍ من القهوة. لم يكن يتحدَّث الإنجليزية ولُغته الإسبانية ليست أفضل منِّي كثيرًا، لكن لدَيه ابتسامة رائعة ونظرة شخصٍ في حاجةٍ ماسة للصحبة. وأخبرني عندما وقفنا في الحانة أنه من السنغال وأنه يطوف جميع أنحاء إسبانيا جَيئةً وذهابًا يعمل في أعمالٍ موسمية. وأراني صورةً بالية يحتفظ بها في محفظته لشابةٍ لها وجنتان مُستديرتان ناعمتان. وقال إنها زوجته وإنه اضطُرَّ أن يتركها بالسنغال. وقال إن شملهما سوف يجتمع بمجرد أن يدَّخر المال. وعندئذٍ سيكتب لها طالبًا منها الحضور للعيش معه.
انتهى بنا الحال مُستقلَّينِ الحافلة إلى برشلونة معًا، ولم يتحدَّث أيٌّ منا كثيرًا، فكان يتلفت إليَّ من حينٍ لآخر يحاول أن يشرح لي دعابات برنامجٍ إسباني يُعرض في التليفزيون المثبت فوق مقعد السائق. وقبل الفجر بقليلٍ نزلنا أمام محطة حافلات قديمة، وأشار صديقي إلى نخلةٍ قصيرة كثيفة زُرعت على جانب الطريق. وأخرج من حقيبة ظهره فرشاةَ أسنانٍ ومشطًا وزجاجةَ مياه أعطاها لي بأدبٍ شديد. واغتسلنا معًا قبل شروق الشمس، قبل أن نحمل حقائبنا على أكتافنا ونتَّجِه إلى المدينة.
ماذا كان اسمه؟ لا أتذكَّر الآن، إنه مجرَّد متلهفٍ آخرَ بعيدٍ عن وطنه، واحد من كثيرين من أبناء المستعمرات القديمة، أحد أبناء الجزائر أو الهند الغربية أو باكستان، الذين يخترقون الآن الحواجز التي وضعها أسيادهم القدامى، ويُرتِّبون لغزوهم العشوائي المُنهَك. ومع ذلك فعندما كنَّا نسير في اتجاه شوارع الرامبلا شعرتُ أنني أعرفه بالفعل، ومع أننا نأتي من طرفَين متقابلَين من العالَم فإننا نقوم بالرحلة نفسها. وعندما افترقنا في النهاية ظللتُ في الشارع وقتًا طويلًا جدًّا أُراقب صورة جسده النحيل وساقيه المتقوستَين تبتعِد وتبتعِد، وتمنَّى بعضٌ مِنِّي حينها لو أذهب معه إلى حياةٍ مليئة بالطرقات المفتوحة والأيام المشرقة، في حين أن بعضًا آخر أدرك أن مثل هذه الأمنية قصة، أو فكرة، جزئية كصورتي عن أبي أو عن أفريقيا. حتى استقررتُ على حقيقة أن هذا الرجل القادم من السنغال قد اشترى لي القهوة وقدَّم لي الماء، وهذا حقيقي، وربما يكون هذا هو كلَّ ما يحق لأحدِنا أن يتوقَّعه؛ مجرد مقابلة بالصدفة، وقصة مشتركة، وعمل صغير يدل على الطيبة …
اهتزت الطائرة قليلًا ببعض الاضطرابات، وجاء طاقم العمل بالطائرة ليقدِّم لنا العَشاء. أيقظتُ الشاب البريطاني الذي تناول طعامه بدقَّة مُثيرة للإعجاب، وكان يصف وهو يأكل كيف يكون الحال عندما يتربَّى المرء في مانشستر. وفي النهاية رُحت في سباتٍ عميق. وعندما استيقظتُ كانت المضيفة تُوزِّع استمارات الجمارك استعدادًا للهبوط. وفي الخارج كان الظلام لا يزال مُخيمًا، لكن عندما ألصقتُ وجهي في الزجاج استطعتُ رؤية بعض الأضواء المتناثرة، وكانت ناعمة وغير واضحة مثل اليراعات، وبالتدريج بدأت تتجمَّع لتكوِّن شكل مدينة بالأسفل. وبعد بضع دقائق ظهر مُنحَدرٌ من تلالٍ مُستديرة مظلمة في مقابل خيطٍ طويل من الضوء في الأفق الشرقي. وبمجرد أن هبطنا في فجرِ يوم أفريقي رأيتُ سُحبًا رفيعةً عالية تخط السماء وأسفلها يتوهَّج باللون الأحمر.
•••
كان مطار كينياتا الدولي خاويًا تقريبًا، ويحتسي المسئولون شاي الصباح وهم يفحصون جوازات السفر، وفي منطقة تسلُّم الحقائب سيرٌ نقَّال يُصدِر صريرًا يُخرِج الحقائب ببطء. لم أرَ أوما في أي مكان؛ لذا جلستُ على حقيبتي التي أحملها معي وأشعلتُ سيجارة. وبعد بضع دقائق جاء أحد حراس الأمن يسير باتجاهي وفي يدِه هراوة خشبية. فنظرتُ حولي بحثًا عن طفاية سجائر، ظنًّا مني أنني في منطقةٍ ممنوع التدخين فيها، ولكن بدلًا من توجيه اللوم إليَّ ابتسم الحارس وسألني هل معي سيجارة أخرى له.
قال وأنا أُشعِل سيجارته: «هذه أول رحلة لك إلى كينيا، أليس كذلك؟»
«بلى.»
«أعلم ذلك.» جلس القرفصاء إلى جواري. وقال: «إنك من أمريكا. لعلك تعرف ابن أخي. اسمه سامسون أوتيينو. إنه يدرُس الهندسة في تكساس.»
فأخبرته أنني لم أذهب إلى تكساس قط، فلم تتسنَّ لي فرصة مقابلة ابن أخيه. وقد بدا أن هذا أصابه بالإحباط، فالتقط عدة أنفاس مُتعاقبة من السيجارة في تتابُعٍ سريع. وفي ذلك الوقت كان آخِر الركَّاب في الرحلة التي أتيتُ فيها قد غادر المطار. فسألتُ الحارس ألا يزال هناك المزيد من الحقائب قادمة. فهزَّ رأسه بشك.
وقال: «لا أظن هذا، ولكن إذا انتظرتَ هنا فسأجد لك مَن يساعدك.»
وانعطف حول ممرٍّ ضيِّقٍ واختفى عن الأنظار، فوقفتُ كي أشدَّ ظهري. وفي ذلك الوقت كان انفعال الترقُّب بداخلي قد جفَّ، وابتسمتُ لذكرى العودة إلى الوطن التي تخيلتُها لنفسي ذات مرة: انقشاع السُّحب، وهروب الشياطين القدامى، وارتجاف الأرض والأجداد يخرجون منها للاحتفال. وبدلًا من ذلك شعرتُ بأنني متعَب ووحيد. كنتُ على وشك البحث عن هاتفٍ عندما ظهر حارس الأمن مرةً أخرى مع سيدة رائعة الجمال سوداء البشرة نحيفة القوام يصل طولها إلى ما يقرب من ستة أقدام [١٨٠ سنتيمترًا]، وترتدي زيَّ العامِلين في الخطوط الجوية البريطانية. وقدَّمت نفسها على أنها الآنسة أومورو، وقالت إن حقيبتي على الأرجح أُرسِلت خطأً إلى جوهانسبرج.
قالت: «أعتذر بشدة عن هذا الخطأ.» وتابعت: «هل تملأ من فضلك هذه الاستمارة، ويمكننا الاتصال بجوهانسبرج وإعادتها إلى هنا على متن أول طائرة قادمة.»
ملأتُ الاستمارة ونظرتْ إليها الآنسة أومورو نظرةً سريعة قبل أن تعود وتنظر إليَّ. سألتني: «هل تمُتُّ بصلةٍ للدكتور أوباما؟»
«نعم، إنه أبي.»
فابتسمت الآنسة أومورو في تعاطُف. وقالت: «أنا آسفة للغاية لرحيله. لقد كان والدك صديقًا مقربًا لعائلتي. وكان كثيرًا ما يأتي إلى منزلنا وأنا طفلة.»
بدأنا نتحدَّث عن زيارتي، وأخبرتني هي عن دراستها في لندن، وكذلك شوقها للسفر إلى الولايات المتحدة. ووجدتُ نفسي أحاول أن أطيل الحوار، ولم يكن ذلك بسبب جمالها الفتان — فقد ذكرَتْ أنها مخطوبة — بقدرِ ما كان لأنها عرفتِ اسمي. وأدركتُ أن هذا لم يحدث قط من قبل، لا في هاواي ولا إندونيسيا ولا لوس أنجلوس ولا نيويورك ولا شيكاغو. ولأول مرة في حياتي أشعر براحةٍ وثبات الهوية التي قد يُقدِّمها الاسم، وكيف يمكن أن يحمل تاريخًا كاملًا في ذكريات أناسٍ آخرين، حتى إنهم يمكن أن يومئوا برءوسهم، ويقولون: «نعم، أنت فلان ابن فلان.» فلن يسأل أحدٌ في كينيا كيف أتهجَّى اسمي، أو يتلعثم في نطقه لأن لسانه لم يعتَد هذه الأسماء الغريبة. لقد كان اسمي ينتمي إلى هذا المكان، وكذلك أنا، وينجذب إلى شبكةٍ من العلاقات والتحالُفات والضغائن التي لم أفهمها بعد.
«باراك!» استدرتُ لأجد أوما تقف هناك تقفز لأعلى وأسفل خلف حارسٍ آخر لم يدعها تمرُّ إلى منطقة الحقائب. استأذنتُ وهُرعت إليها وضحكنا وتعانقنا بنفس الطريقة المضحكة التي تقابلنا بها لأول مرة. وإلى جوارنا سيدة طويلة سمراء البشرة تقف مُبتسمة، فالتفتت أوما وقالت: «باراك، هذه عمتنا زيتوني، أخت والدنا.»
قالت زيتوني: «مرحبًا بك في بلدك»، وقبَّلتني على كِلتا وجنتيَّ.
أخبرتهما عن الحقيبة وقلتُ إن شخصًا هنا يعرف أبي. لكن عندما نظرتُ إلى حيث كنتُ أقف وجدتُ أن الآنسة أومورو قد اختفت عن الأنظار. سألت حارس الأمن إلى أين ذهبت. هزَّ كتفيه وقال لا بد أنها استأذنت لبقية اليوم.
•••
كانت أوما تقود سيارةً قديمة لبنية اللون من طراز فولكس فاجن بيتل. وكانت السيارة تُمثِّل لها مشروعًا استثماريًّا. فنظرًا لأن المواطنين الكينيين الذين يعيشون بالخارج يمكنهم شحن سيارةٍ إلى كينيا بدون دفع رسوم الاستيراد الكبيرة، رأت أنها يمكنها استخدامها خلال السنة التي ستُدَرِّس فيها في جامعة نيروبي، ثم تبيعها بسعر تكلفة الشحن، وربما تجني من ورائها بعض الربح. ولسوء الحظ أُصيبَ المحرك بصدمةٍ عنيفة وسقط كاتم الصوت (الشكمان) في الطريق إلى المطار. وعندما انطلقنا إلى الطريق السريع ذي الحارات الأربع، وأوما تقبِض بكلتا يدَيها على عجلة القيادة، لم أستطِع أن أمنع نفسي من الضحك.
وقلت: «هل أخرج وأدفع السيارة من الخلف؟»
فعبست زيتوني. وقالت: «لا تقل شيئًا عن هذه السيارة يا باري. إنها سيارة جميلة. لا تحتاج إلا إلى طلاء جديد. وفي الواقع لقد وعدَتْني أوما بالفعل أن أحصُل على هذه السيارة بعد أن ترحل.»
هزَّت أوما رأسها. وقالت: «إن عمَّتك تحاول أن تغشَّني الآن يا باراك. كلُّ ما في الأمر أنني وعدتها أن نتحدَّث بهذا الشأن.»
فقالت زيتوني وهي تغمز لي: «ما الذي سنتحدَّث بشأنه؟» وتابعت: «إنني سأمنحكِ أفضلَ سعرٍ يا أوما.»
بدأت كلتاهما تتحدَّثان في الوقت نفسه وتسألانني كيف كانت رحلتي، وتُخبرانني بالخطط التي جهَّزتاها لي وتسردان قائمةً بالأشخاص الذين يجب أن أراهم. امتدَّت السهول الفسيحة أمامنا على جانبي الطريق، معظمها من حشائش السافانا، ومن حينٍ لآخر تظهر شجرة شوكية في الأفق؛ مناظر بدت قديمة وطبيعية. وبالتدريج بدأ المرور يزدحم، وبدأت الحشود تتدفَّق من الريف في طريقها إلى العمل، وكان الرجال لا يزالون يقفلون أزرار قمصانهم الخفيفة والسيدات مُنتصبات القامة ورءوسهن مُغطاة بأوشحة ملونة بألوان زاهية. والسيارات تسير في خطوطٍ غير منتظمة عبر الحارات والطرق الملتوية، تراوغ لتتجنَّب الحُفَر في الأرض والدراجات والمشاة، في حين توقَّفت حافلات ركاب صغيرة قديمة غير ثابتة، قيل لي إن اسمها «ماتاتو»، دون أي تحذيرٍ كي تحمل المزيد من الركَّاب على متنها. بدا المشهد بأسرِه مألوفًا لديَّ بصورةٍ غريبة وكأنني قد مررتُ في الطريق نفسه من قبل. وحينها تذكَّرتُ أيامي في إندونيسيا وأُمي ولولو يتحدَّثان في المقعدَين الأمامِيَّين للسيارة، وتنبعث رائحة الأخشاب المحترقة والديزل نفسها، والسكون نفسه الذي كان يُخيِّم في فترة الازدحام في الصباح، والنظرة نفسها على وجوه الناس وهم يشقُّون طريقهم لبدء يومٍ جديد لا يدور بمخيلاتهم الكثير من التوقُّعات سوى تمضية اليوم، وربما أمل محدود في أن يتغير حظهم، أو على الأقل يصمد كما هو.
ذهبنا لنُوصِّل زيتوني إلى مجمعٍ سكني كبير كئيب يُطلَق عليه «كينيا برويريز» حيث تعمل مبرمجةَ كمبيوتر. وعندما خرجتُ من السيارة انحنت عليَّ مرةً أخرى لتُقبِّلني على وجنتيَّ، ثم لوَّحت بأصبعها لأوما. وقالت: «اعتني بباري جيدًا، واحرصي على ألا نَفقده مرة أخرى.»
وعندما عُدنا إلى الطريق السريع سألتُ أوما ماذا تعني زيتوني بفقداني مرةً أخرى، فهزَّت أوما كتفَيها.
وقالت: «إنه تعبير شائع الاستعمال هنا.» وتابعت: «عادة ما يعني أن هذا الشخص لم يرَك منذ فترة. فتجده يقول لك «إنك فُقِدت». أو «لا تجعلني أفقدك». وفي بعض الأحيان يكون له معنًى أكبر. على سبيل المثال: فمثلًا ينتقل ابن أو زوج إلى المدينة أو إلى الغرب — مثل عمِّك عمر في بوسطن. هم يَعِدون بالعودة بعد الانتهاء من الدراسة. ويقولون إنهم سيُرسِلون للعائلة بمجرد أن يستقروا. وفي البداية يرسِلون خطابًا كل أسبوع. ثم يُصبح مرةً واحدة كل شهر. ثم يتوقَّفون تمامًا عن إرسال الخطابات. ولا يراهم أحد مرةً أخرى. ومن ثم نقول إنهم فُقِدوا. هذا مع أن الجميع يعلمون أين هم.»
ناضلَتِ السيارة لتصعد طريقًا منحدرًا محاطًا ببساتين كثيفة وأشجار الأوكالبتوس والنباتات المعترشة. والمنازل القديمة الأنيقة تقف وراء سياج وأحواض الزهور، وقالت أوما إنها المنازل التي كانت في يومٍ من الأيام خاصةً بالبريطانيِّين فقط، ولكنها الآن خاصة بمسئولي الحكومة والعامِلين بالسفارات الأجنبية. وفي أعلى المنُحدَر انعطفنا يمينًا وأوقفنا السيارة في نهاية طريقٍ مليء بالحصى إلى جوار مبنًى سكني أصفر اللون يتكوَّن من طابقَين استأجَرتْه الجامعة لأعضاء هيئة التدريس. وهناك أراضٍ خضراء شاسعة تنحدِر من المبنى لتلتقِيَ بالأرض المزروعة بأشجار الموز وغابة عالية، وبالأسفل مجرًى مائي ضيِّق وغير نظيف يجري عبر وادٍ واسعٍ مليء بالأحجار.
كانت شقة أوما تقع في الطابق الأول وهي شقة صغيرة لكنها مُريحة، بها أبواب على الطراز الفرنسي تجعل ضوء الشمس ينفذ إلى الغُرَف. وهناك أكوام من الكتب في كل مكان، ومجموعة من الصور، صورة فوتوغرافية وأخرى التُقِطت بكاميرا فورية، مُلصقة معًا على لوحٍ واحد ومعلقة على أحد الحوائط، وهو عمل فني من مزيجٍ من صور العائلة صنعته أوما لنفسها. وفوق سرير أوما لاحظتُ وجود صورةٍ كبيرة لامرأةٍ سوداء تنظر بوجهها لأعلى باتجاه زهرٍ يتفتح، وأسفلها طبعت الكلمات «لديَّ حُلم».
فسألتُها وأنا أضع حقائبي: «ما حُلمك يا أوما؟»
ضحكت. وقالت: «هذه هي أكبر مشكلة لديَّ يا باراك. لديَّ أحلام كثيرة. وأية امرأة لدَيها أحلام لدَيها دائمًا مشكلات.»
لا بد أن إنهاكي من الرحلة كان باديًا عليَّ لأن أوما اقترحت أن أنال قسطًا من النوم في حين ذهبَتْ هي إلى الجامعة لتُلقي محاضراتها. سقطتُ على الفراش الصغير الذي أعدَّته لي ورحتُ في سباتٍ عميق على صوت طنين الحشرات خارج النافذة. وعندما استيقظتُ كان وقت الغسق ولا تزال أوما بالخارج. ومن المطبخ لاحظتُ وجود سربٍ من القرود سُود الوجوه يجتمع أسفل شجرة موز. أكبرها سنًّا يجلس بحذرٍ أسفل الشجرة يشاهد بحاجبَين معقودَين والصغار يجرون هنا وهناك عبر الجذور الطويلة الملتوية. غسلتُ وجهي في الحوض ووضعتُ الماء كي يغلي لأصنع شايًا، ثم فتحت الباب الذي يقود إلى الفناء. فتجمَّدتِ القردة في أماكنها، وأعيُنها جميعًا تتجه إليَّ في انسجام. وعلى بُعد بضعة أقدامٍ امتلأ الجو بخفقات جناحَين أخضرَين ضخمَين، وراقبتُ الصعود الحالم لطائرٍ طويل العنق وهو يُصدِر سلسلةً من الأصوات الغليظة ويتَّجِه نحو شجرةٍ بعيدة.
•••
قرَّرنا أن نبقى في المنزل تلك الليلة نطهو اليخني ونتبادل أخبارنا. وفي الصباح التالي سِرنا إلى المدينة وتجوَّلنا نُشاهد معالمها دون قصد وجهةٍ مُعينة. وكان مركز المدينة أصغرَ مما توقَّعت، وبه الكثير من الفنون المعمارية الاستعمارية كما هي: فرأيت صفوفًا من المباني المطليَّة بالجص الأبيض من الأيام التي لم تكن فيها نيروبي أكثرَ من مجرد مخفرٍ لخدمة إنشاء السكة الحديد البريطانية. وإلى جانب هذه المباني ظهرت مدينة أخرى، مدينة من المباني الإدارية الشاهقة الارتفاع والمحال الأنيقة والفنادق ذات الرَّدهات التي لا تختلف كثيرًا عن نظيراتها في سنغافورة وأطلنطا. إنه مزيج مُثير ومحيِّر؛ تناقض يبدو أنه يتكرَّر في أيِّ مكان نذهب إليه؛ فأمام أحد مُوزعي سيارات مرسيدس بنز رأينا طابورًا من نساء قبيلة ماساي يمر في طريقِه إلى السوق ورءوس النساء حليقة خالية تمامًا من الشعر وأجسادهن النحيلة مُغطاة بالشال الأحمر الذي يُطلق عليه «شوكا» وشحمة الأذن على جانب وجوههن طويلة ومحاطة بخرزٍ لامع، وعند مدخل مسجدٍ في الهواء الطلق رأينا مجموعةً من موظفي البنوك يخلعون أحذيتهم بحرصٍ ويغسلون أرجُلَهم قبل الانضمام إلى الفلاحِين وعمال الحفر في أداء صلاة العصر. كانت تلك المشاهد كما لو أن تاريخ نيروبي رفض أن يستقرَّ في طبقاتٍ منتظمة، وكما لو أن الماضي والحاضر قد اصطدما تصادمًا مُستمرًّا مُزعجًا.
تجوَّلنا إلى داخل السوق القديمة، وهي مبنًى ضخم يُشبه الكهوف من الداخل تنبعث منه رائحة الفاكهة الناضجة ومحل جزارة قريب. كان الممرُّ في مؤخرة المبنى يقود إلى متاهةٍ من الأكشاك في الهواء الطلق حيث يُنادي التجار على بضائعهم من المنسوجات والسلال والحلي النحاسية والتحف الأخرى. توقَّفتُ أمام أحد هذه الأكشاك حيث تُعرض مجموعة من الأعمال النحتية الخشبية الصغيرة. تعرَّفتُ على أشكال الهدايا التي أهداني إيَّاها أبي قبل وقتٍ طويل: الأفيال والأسود وقارعي الطبول الذين يرتدون غطاءً للرأس على الطراز القبلي. قال لي أبي يومَها إنها أشياء صغيرة.
قال الشاب الذي يُدير المحل: «تفضَّل يا سيدي.» وتابع: «لدَينا عِقد جميل لزوجتك.»
«إنها أختي.»
«أختك جميلة جدًّا. تفضَّل، سيكون هذا جميلًا عليها.»
«كم سعره؟»
«فقط ٥٠٠ شلن. إنه جميل.»
قطَّبَتْ أوما ما بين حاجبَيها وقالت للرجل شيئًا باللغة السواحيلية. ثم فسَّرت قائلة: «إنه يبيعك بسعرٍ عالٍ.» وتابعت: «السعر المخصَّص للرجل الأبيض.»
ابتسم الشاب. وقال: «أنا آسِف أيتها الأخت.» وتابع: «السعر للكينيين هو ٣٠٠ شلن فقط.»
وداخل الكشك سيدة عجوز تربط خرزًا زجاجيًّا بسلكٍ لتجمعَه معًا وأشارت إليَّ وقالت شيئًا جعل أوما تضحك.
«ماذا قالت؟»
«تقول إنك تُشبه الأمريكيين.»
فقلت وأنا أضرب بيدي على صدري: «أخبريها أنني أحد أبناء قبيلة لوو.»
ضحكت العجوز وسألت أوما عن اسمي. وقد دفعت الإجابة السيدة للضحك أكثر، ونادت عليَّ كي أقف إلى جوارها وهي تأخذ بيدي. فقالت أوما: «إنها تقول إنك لا تبدو من أبناء لوو، لكن وجهك طيب. وتقول إن لدَيها ابنة يجب أن تُقابلها، وإذا اشتريتَ لها مياهًا غازية فسيُمكنك الحصول على تحفتَين من الأعمال المنحوتة والعِقد الذي تصنعه مقابل ٥٠٠ شلن.»
ذهب الشاب ليشتري لنا جميعًا مياهًا غازية، وجلسنا على كراسي خشبية بلا ظهر أو مساند للذراعَين أخرجَتْها العجوز من خلف خزانة كبيرة. وأخبرتنا عن عملها، والإيجار الذي يجب أن تُسدِّده للحكومة لاستخدام الكشك، وكيف التحق ابنها الآخر بالجيش لأنه لم يَعُد هناك أرض ليعمل بها في قريتهم. وعلى الجانب الآخر سيدة أخرى تغزل خُوصًا ملوَّنًا وتحوِّله إلى سلال، وإلى جوارها رجل يقطع جلدًا إلى شرائط طويلة لاستخدامه في صُنْع أحزمة الحقائب.
راقبتُ تلك الأيدي الرشيقة وهي تحيك وتقطع وتغزل، واستمعتُ إلى صوت السيدة العجوز يعلو فوق صوتِ العمل والمقايضات، ولوهلةٍ بدا العالَم كلُّه واضحًا أمامي. فبدأتُ أتخيَّل إيقاعًا ثابتًا للأيام، يعيشها المرء على أرضٍ ثابتة حيث يُمكنه الاستيقاظ كلَّ صباح وهو يعلَم أن كل شيءٍ كما كان في اليوم السابق، ويرى فيها كيف صُنِعت الأشياء التي يستخدِمُها، ويمكنه أن يسرد قصةَ حياة الأشخاص الذين صنعوها، ويمكنه أن يُصدِّق أن جميعهم يُكوِّنون وحدةً مُتماسِكة دون أجهزة إدخال البيانات إلى الكمبيوتر أو أجهزة الفاكس. كل هذا وموكب ثابت من الوجوه السوداء يمرُّ أمام أعيُننا؛ وجوه الأطفال المستديرة ووجوه العجائز المجعَّدة، جميعها وجوه جميلة جعلتني أفهم التحوُّل الذي زعمَتْ أسانتي والأمريكيون السود الآخرون أنهم مرُّوا به بعد زيارتهم الأولى لأفريقيا. وعلى مدار أسابيع أو شهور يمكنك الشعور بالحرية التي يولِّدها إحساس المرء بأنه ليس تحت المراقبة، حرية الإدراك أن شعرك ينمو كما ينبغي أن ينمو، وأنَّ رِدفك يتمايل بالطريقة التي ينبغي أن يتمايل بها. ويمكنك أن ترى رجلًا يتحدَّث إلى نفسه ولا شك أنه مجنون، أو تقرأ عن الجرائم في الصفحات الأولى للجرائد اليومية وتُفكِّر في فساد قلب الإنسان دون أن تُضطرَّ إلى التفكير فيما إذا كان المجرم أو المجنون يقول شيئًا عن مصيرك أنت. هنا العالم أسود، ومن ثم فلا تكون سوى نفسك، ويمكنك اكتشاف جميع الأشياء الخاصة بحياتك فقط دون أن تعيش في كذبةٍ أو ترتكِب خيانة.
وفكَّرتُ كم من المغري أن أهرُب بعيدًا بهذه اللحظة كما هي. وأن أُغلف هذا الشعور بالراحة بإتقانٍ مثلما يُغلِّف الشاب عِقد أوما، وأصطحبه عائدًا إلى أمريكا كي أتدثَّر به كلما فترتْ روحي.
ولكن بالطبع لم يكن هذا ممكنًا، فقد انتهينا من تناول المياه الغازية، ودفعنا النقود، وغادرنا السوق، وهربَتْ منا تلك اللحظة.
انعطفنا إلى شارع كيماثي، الذي يحمل اسم أحد قادة ثورة ماو. كنتُ قد قرأت كتابًا عن كيماثي قبل أن أُغادر شيكاغو وتذكَّرتُ صورة له يظهر فيها بين عدة رجال يُطلِقون شعرهم على الطراز الأفريقي يعيشون في الغابة وينشرون قَسَمًا سِريًّا بين السكان الأصليين، أي النموذج المعتاد لمقاتلي حرب العصابات. وقد اختار لنفسه زيًّا ذكيًّا (فقد خدم كيماثي والقادة الآخرون لثورة ماو في الكتائب البريطانية في أوقاتٍ سابقة من حياتهم) وهي صورة استغلَّت جميع المخاوف من الغرب الاستعماري، النوع نفسه من الخوف الذي استحضره نات ترنر في يوم من الأيام في الجنوب قبل الحرب الأهلية الأمريكية، والذي يُثيره الآن اللصوص الذين ذهب الكوكايين بعقولهم في أذهان البِيض في شيكاغو.
بالطبع ترقد ثورة ماو في ماضي كينيا. فقد أُلقي القبض على كيماثي وأُعدِم. وأُطلِق سراح كينياتا من السجن وتُوِّج أولَ رئيسٍ لكينيا. وقد سارع بالتأكيد إلى البِيض الذين كانوا مشغولين بحزْمِ أمتعتهم ليُطمئنَهم أن شركاتهم لن تُؤمَّم، وأن ملكية الأرض لن تُمسَّ ما دام الرجل الأسود هو الذي يمسك بزمام الحكومة. وأصبحت كينيا أكثرَ تلميذٍ مخلص للغرب في أفريقيا، ونموذجًا للاستقرار، وتُمثِّل تناقُضًا عمليًّا للفوضى التي تعمُّ أوغندا، والاشتراكية الفاشلة في تنزانيا. وعاد مقاتلو الحرية السابقون إلى قُراهم أو انضمُّوا إلى الأعمال المدنية، أو رشَّحوا أنفسهم للحصول على مقعدٍ في البرلمان. وأصبح كيماثي اسمًا على لافتة، اسمًا لشارع هُيِّئَ تمامًا من أجل السيَّاح.
انتهزتُ الفرصة لدراسة هؤلاء السياح عندما جلستُ أنا وأوما لتناول الغداء في المقهى الخارجي لفندق نيو ستانلي. كان السياح — ألمانًا ويابانيين وبريطانيين وأمريكيين — في كل مكانٍ يلتقطون الصورَ ويلوِّحون لسيارات الأجرة، ويبعدون عنهم الباعة المتجوِّلين في الشارع، والكثير منهم يرتدون سترات سفاري مثل الكومبارس أثناء تصوير فيلم. وفي هاواي، عندما كنَّا صغارًا، كنتُ أنا وأصدقائي نضحك على سيَّاح مثل هؤلاء، بالحروق الشمسية في جلودهم وسيقانهم النحيفة الشاحبة ونستمتِع بمشاعرِ تفوُّقِنا الواضح. أما هنا في أفريقيا فلم يبدُ السياح مُضحِكين. فقد شعرتُ بصورةٍ ما أن وجودهم تَعدٍّ على حقوق الآخرين، ووجدت براءتهم مهينة بصورةٍ غامضة. وطرأ على ذهني أنه في افتقادهم التام لإدراك الذات كانوا يُعبِّرون عن حريةٍ لم أستطِع أنا ولا أوما أن نشعُر بها قط، ثقة جوهرية بضيق أفق تفكيرهم، ثقة مُدَّخرة فقط لأولئك الذين وُلِدوا بين أحضان ثقافة إمبريالية.
وفي تلك اللحظة لاحظتُ أن عائلةً أمريكية تجلس على بُعد بضع طاولات منا. وعلى الفور قفز نادلان أفريقيان للعمل، وكلاهما ترتسِم على وجهه ابتسامة ملء وجهه. ونظرًا لأنه لم يكن أحدٌ قد تقدَّم ليعرف طلباتنا أنا وأوما بدأتُ ألوِّح للنادلَين اللذَين يقفان عند المطبخ، وأنا أظنُّ أنهما لم يرَيانا بصورةٍ ما. ولبعض الوقت نجحا في تجنُّب إشاراتي، لكن استجاب لنا في النهاية رجل مُتقدِّم في السن له عينان ناعِستان وأحضر لنا قائمتَين للطعام. كان يبدو ممتعضًا، وبعد عدة دقائق أخرى لم يبدُ عليه أنه ينوي العودة على الإطلاق. بدأ الغضب يظهر على وجه أوما، ومرةً أخرى لوَّحتُ للنادل، الذي استمرَّ على صمته وهو يدوِّن طلباتنا. وفي ذلك الوقت حصلَتِ العائلة الأمريكية على طعامها بالفعل، ونحن لم يُصنع لنا شيء حتى إعداد الطاولة لوضع الطعام عليها. وسمعتُ طفلة تعقص شعرها الأشقر خلف ظهرها على شكل ذيل حصانٍ تشتكي من أنه لا يُوجَد كاتشب، فنهضت أوما.
قالت: «هيا بنا.»
وبدأت تتَّجه نحو باب الخروج، ثم فجأةً استدارت وعادت إلى النادل الذي كان يُحدِّق فينا بنظرةٍ جامدة.
قالت له أوما وصوتها يرتجف: «يجب أن تشعر بالخِزي من نفسك.» وتابعت: «يجب أن تشعر بالخزي.»
أجاب عليها النادل بلهجةٍ فظة باللغة السواحيلية.
فقالت له: «لا أُبالي بعدد الأفواه التي يتحتَّم عليك إطعامها، ولكن لا يمكنك أن تُعامِل شعبك مثل الكلاب. انظر …» وفتحت حقيبتَها وأخرجت منها ورقةً نقدية متجعدة فئة ١٠٠ شلن وصاحت: «أترى!» وتابعت: «يُمكنني أن أدفع ثَمن الطعام اللعين.»
وألقت الورقة على الأرض، ثم اتجهت نحو الشارع. ولعدة دقائق أخذنا نتجوَّل دون وجهةٍ مُحدَّدة، حتى اقترحتُ أنا في النهاية أن نجلس على مقعدٍ بجوار مكتب البريد المركزي.
ثم سألتها: «هل أنت بخير؟»
فأومأت برأسها. وقالت: «كان ذلك غباءً منِّي، أقصد إلقاء النقود على الأرض بهذا الشكل.» وضعَتْ حقيبتها إلى جوارها وأخذنا نُراقِب حركة المرور. ثم قالت: «أتدري، لا يمكنني الذهاب إلى النادي في أيٍّ من هذه الفنادق إذا كنتُ بصحبة سيدة أفريقية.» وتابعت: «سيطردنا رجال الشرطة للخارج ظانِّين أننا عاهرات. والأمر نفسه ينطبق على هذه المباني الإدارية الضخمة؛ إذا لم تكن تعمل هناك، وأنت أفريقي، فسيُوقِفونك حتى تُخبرهم ماذا تريد. ولكن إذا كنت بصحبة صديق ألماني فستجد الابتسامات على وجوههم. وهم يسألونك: «مساء الخير يا آنسة، كيف حالك اليوم؟» وهزَّت أوما رأسها. وقالت: «لهذا كينيا هي أضحوكة باقي أفريقيا، مهما كان إجمالي الناتج القومي لها، وبصرف النظر عن الأشياء التي يُمكنك شراؤها هنا. إنها عاهرة أفريقيا يا باراك. تفتح ساقَيها لكلِّ مَن يدفع.»
أخبرتُ أوما أنها قاسية للغاية على الكينيين وأن الأمر نفسه يحدُث في جاكرتا أو مكسيكو سيتي، إنها مسألة اقتصادية فحسب. ولكن عندما بدأنا نسلك طريقنا عائدَين إلى المنزل كنت أعلم أن كلماتي لم تفلح على الإطلاق في التخفيف من حدةِ ما تشعُر به من مرارة. فظننتُ أنها على حق؛ فليس جميع السياح في نيروبي جاءوا لمشاهدة الحياة البرية. بعضهم أتى لأن كينيا تعرض عليهم دون خجلٍ العودةَ للعصر الذي كانت فيه حياة البِيض على الأراضي الأجنبية تقِف شامخةً على أعناق الأجناس السوداء؛ عصر من البراءة قبل أن ينشر رجال مثل كيماثي، والرجال الآخرون الغاضبون في سويتو أو ديترويت أو دلتا الميكونج، الجريمةَ والثورة في الشوارع. وفي كينيا كان لا يزال بإمكان الرجل الأبيض أن يسير في منزل إيزاك دينسين، ويتخيَّل قصة حبٍّ مع بارونة شابة غامضة، أو يحتسي الخمر أسفل مراوح السقف في فندق لورد ديلامير، ويُعجَب بصورة هيمنجواي وهو يبتسِم بعد رحلة صيد ناجحة، محاطًا بالوجوه المتجهمة للعمال الآسيويين البُلَهاء. يمكن أن يخدمه رجل أسود دون خوف أو شعور بالذنب، ويتعجَّب من سعر الصرف، ويترك بقشيشًا كبيرًا؛ وإذا شعر بعُسْر هضم عند رؤيته لمتسولين مُصابين بالجذام خارج الفندق فيمكنه دائمًا أن يأمر بإحضار دواء منشط. ومع ذلك فقد جاء عهد السود. هذا بلدُهم، ونحن مجرد زوَّار.
هل كان النادل يعلم أن عصر السود قد أتى؟ هل يعني ذلك أيَّ شيءٍ له؟ وفكَّرتُ في نفسي ربما سيعرف ذلك يومًا ما. هذا عندما تتقدَّم سنُّه فتسمح له أن يعرف الاستقلال وصيحات الحرية باللغة السواحيلية ورفع الأعلام الجديدة. لكن مثل هذه الذكريات قد تبدو له الآن خيالية وبعيدة وساذَجة. لقد تعلَّم النادل أن مَن كانوا يحكمون الدولة قبل الاستقلال لا يزالون يحكمونها، وهو لا يزال لا يمكنه أن يأكل في المطاعم أو يُقيم في الفنادق التي بناها الرجل الأبيض. ويرى أموال المدينة تدور فوق رأسه والتكنولوجيا التي تلفظ بضائع من فمها الآلي. وإذا كان طموحًا فسيبذل قصارى جهده ليتعلَّم لُغة الرجل الأبيض، ويستخدِم ماكينات الرجل الأبيض محاولًا أن يجعل الغايات تتلاقى بالطريقة نفسها التي يفعل بها مَن يُصلِح أجهزة الكمبيوتر في نيوآرك أو سائق الحافلة في شيكاغو، بموجاتٍ متعاقبة من الحماس أو الإحباط، لكن غالبًا باستكانة. وإذا أخبرتَهُ أنه يخدم بهذا مصلحةَ الاستعمار الحديث أو شيئًا من هذا القبيل، فسيكون ردُّه أنه يوافق على فعْل ذلك إذا كان هذا هو المطلوب. فالمحظوظون هم مَن يخدمون، أما غير المحظوظين فينجرفون في تيار المهن غير الشريفة أو الغريبة المعتمة، والكثير منهم سيغرقون.
وقد لا يكون هذا هو كلَّ ما يشعر به النادل. ربما لا يزال جزء منه يتمسَّك بقصص ماو، الجزء نفسه الذي يتذكَّر صمت الليل في القرية أو صوت أُمِّه وهي تطحن الذرة أسفل مطحنة حجرية. ولا يزال شيء بداخله يُخبره أن طُرق الرجل الأبيض ليست طرقه، وأن الأشياء التي قد يَستخدمها كلَّ يومٍ ليست من صُنْعه. ويتذكَّر وقتًا وطريقةً لتخيُّل نفسه، يتركهما فقط كي يُعاني. فلا يمكنه الهروب من قبضة ذكرياته، ومن ثَم فإنه يُباعد بين عالَمين لا يشعر بالثقة في أيٍّ منهما، ودائمًا يكون غير متوازن، ويلعب أية لعبةٍ تدرأ عنه الفقر المدقِع الذي لا ينتهي، وهو حريص على أن يترك غضبَه ينصبُّ على الذين في مثل حالته فقط.
وهناك صوت يقول له نعم لقد حل التغيير، وتدمَّرت الطرق القديمة، ويجب أن تجد طريقةً بأسرعِ ما يمكنك كي تكسب قوتَ يومِك وتمنع الرجل الأبيض من الضحك عليك.
صوت يقول له لا، إنك ستحرق الأخضر واليابس في وقتٍ أقرب.
•••
في ذلك المساء اتجهنا بالسيارة شرقًا إلى ضاحية كارياكو، وهي مجمع سكني شاسع مُحاط بأراضٍ تتجمَّع فيها القمامة. وكان القمر قد اختفى خلف سُحبٍ كثيفة، وبدأت أولى خيوط الضوء تنبثق. وعندما كنا نصعد السلَّم المظلم وثب شابٌّ من أمامنا إلى الرصيف المحطَّم واختفى في الظلام. وفي الطابَق الثالث دفعت أوما بابًا كان مفتوحًا قليلًا.
«باري! أخيرًا وصلت.»
احتضنتني بقوةٍ عند منطقة الخَصْر سيدةٌ قصيرة مُمتلئة الجسد لها وجه مُبتهج أسمر اللون. ومن خلفها كان هناك ما يقرب من ١٥ شخصًا، جميعهم يبتسِمون ويلوِّحون مثل حشدٍ في عرض عسكري. نظرت السيدة القصيرة إلى الأعلى تجاهي وقطَّبت ما بين حاجبَيها.
وسألت: «إنك لا تتذكَّرني أليس كذلك؟»
«أنا …»
«أنا عمَّتك جين. أنا التي اتصلت بك عندما تُوفي والدك.» وابتسمت وأخذت يدي. وقالت: «تعالَ. يجب أن تُقابِل الجميع هنا. لقد قابلتَ زيتوني بالفعل. وهذه …» قالتها وهي تقودني إلى سيدة جميلة مُتقدِّمة في العمر ترتدي زيًّا مزركشًا: «هذه أختي، كيزيا. وهي والدة أوما وروي أوباما.»
التقطَتْ كيزيا يدي ونطقَت اسمي ومعه بضع كلمات باللغة السواحيلية.
فقالت جين: «إنها تقول إن ابنها الآخر قد عاد إلى الوطن أخيرًا.»
كرَّرَت كيزيا باللغة الإنجليزية وهي تُومئ وتجذبني إلى حضنها. قالت: «ابني عاد إلى الوطن.»
استكمَلْنا رحلة التعارُف في جميع أرجاء الغرفة وأنا أُصافح عماتي وأولادهن وأولاد وبنات إخوتي. وقد حيَّاني الجميع بفضول مُبتهج، لكن دون علاماتٍ قوية على الارتباك كما لو أن لقاء أحد أقربائهم للمرة الأولى أمرٌ يحدُث كلَّ يوم. كنتُ قد أحضرتُ علبةً من الشيكولاتة للأطفال، وتجمَّعوا حولي في فضولٍ مُهذَّب والكبار يحاولون أن يشرحوا لهم مَن أنا. لاحظت أن هناك شابًّا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره يقف مستندًا إلى الحائط وعلى وجهه تعبير مُتحفِّظ.
فقالت أوما: «هذا أحد إخوتك.» وتابعت: «اسمه برنارد.»
تقدَّمتُ باتجاه الفتى وتصافَحنا، فحص كِلانا وجه الآخر. ووجدتُ نفسي غير قادر على التفوُّه بكلمة، لكني استطعتُ أن أسأله كيف حاله.
فأجاب برفق: «بخيرٍ على ما أظن»، مما دفع الجميع إلى الضحك.
وبعد أن انتهى التعارُف قادتني جين إلى منضدة صغيرة عليها أطباق من لحم الماعز والخضراوات والسَّمك المقلي والكرنب والأرز. وفي أثناء تناول الطعام سألوني عن عائلتي في هاواي وحاولتُ أن أصف لهم حياتي في شيكاغو وعملي مُنظِّمًا للمجتمع الأهلي. وقد أومئوا برءوسهم بأدب، ولكن بدت الحيرة على وجوههم قليلًا؛ لذا أخبرتُهم أنني سأدرس القانون في جامعة هارفارد في الخريف.
قالت جين وهي تلتقِط عظمةً من طبق اللحم والخضراوات: «هذا رائع يا باري.» وتابعت: «لقد درس والدُك في جامعة هارفارد أيضًا. إنك ستجعلنا جميعًا فخورين بك، تمامًا كما فعل هو. أترى يا برنارد، يجب أن تجتهد مثل أخيك.»
قالت زيتوني: «يظن برنارد أنه سيُصبح نجمًا في كرة القدم.»
فالتفتُّ إليه. وقلتُ: «هل هذا صحيح يا برنارد؟»
فقال وعدم الارتياح يبدو عليه لأن الأنظار التفتت إليه: «كلَّا.» وتابع: «كلُّ ما في الأمر أنني اعتدتُ لعب الكرة.»
«حسنًا … ربما يمكننا اللعب في وقتٍ ما.»
فهزَّ رأسه. وقال بجدية: «أنا الآن أُحب لعب كرة السلة.» وتابع: «مثل ماجيك جونسون.»
خفَّفت الوجبة بعضًا من الإثارة التي كانت في البداية، واتجه الأطفال بعد ذلك لمشاهدة تليفزيون كبير يعرض الصورة باللونين الأبيض والأسود كان يبثُّ سلسلة من علامات سخاء الرئيس: الرئيس يفتتح مدرسة، الرئيس يشجب الصحفيين الأجانب ومختلف العناصر الشيوعية، الرئيس يُشجِّع الأمة على متابعة السير في طريق التقدُّم. ذهبتُ مع أوما لأرى باقي أجزاء الشقة التي كانت تتكوَّن من غرفتَي نومٍ مُتخمتَين بمراتب قديمة.
فسألتها: «كم عدد مَن يعيشون هنا؟»
فقالت أوما: «لا أدري ما العدد الآن.» وتابعت: «إنه يتغيَّر دائمًا. فجين لا تعرف كيف تقول لشخصٍ لا، ومن ثم فكلَّما انتقل أحد أقربائنا إلى المدينة أو فقد عمله انتهى به الحال هنا. وفي بعض الأحيان يمكثون فترةً طويلة، أو يتركون أطفالهم هنا. وقد ترك أبي وأمي برنارد هنا كثيرًا. وعمليًّا جين هي التي ربَّته.»
«وهل تستطيع هي الإنفاق على كل هذا؟»
«في الواقع لا، إنها تعمل عاملة هاتف، ولا تتلقَّى راتبًا كبيرًا. ومع ذلك فهي لا تشتكي. ولأنها لا تُنجِب فهي ترعى أطفال الآخرين.»
عُدنا إلى غرفة المعيشة، وجلستُ على أريكة قديمة، وفي المطبخ كانت زيتوني تتولى توجيه السيدات الأصغر سنًّا في غسيل الأطباق، وعدد قليل من الأطفال يتجادلون حول الشيكولاتة التي أحضرتها. تركتُ عينَي تتجوَّلان في المشهد؛ الأثاث المتهالك، ونتيجة الحائط التي تعود لعامَين، والصور الباهتة، والتماثيل الخزفية الزرقاء لأطفالٍ بأجنحة موضوعة على مناديل صوفية. وأدركتُ أنه هو المشهد نفسه في شقق ألتجيلد. السلسلة نفسها من الأمهات والبنات والأطفال، وضوضاء النميمة والتليفزيون، والحركة المستمرة في الطهي والتنظيف ورعاية الأطفال تُثقل كاهل الجميع. والغياب نفسه للرجال.
ودَّعنا الجميع الساعة العاشرة مساء تقريبًا ووعدْنا بزيارة كلِّ فردٍ على حدة. وفي طريقنا إلى الباب جذبَتْنا جين جانبًا وخفضت صوتها وهمست لأوما. قالت: «يجب أن تأخُذي باري ليرى عمَّتك سارة.» ثم التفتت إليَّ: «سارة هي شقيقة والدك الكبرى. أول واحدة وُلِدت. وتريد أن تراك بشدة.»
فقلت: «بالطبع.» وتابعت: «لكن لماذا لم تكن هنا الليلة؟ هل تقطن بعيدًا عن هنا؟»
نظرت جين إلى أوما ودار بينهما حوار صامت. وفي النهاية قالت أوما: «تعالَ يا باراك.» وتابعت: «سأشرح لك في السيارة.»
كانت الشوارع خالية وزلِقة من المطر. وقالت ونحن نمر من أمام الجامعة: «إن جين على حق يا باراك.» وتابعت: «يجب أن تذهب وترى سارة. لكنني لن أذهب معك.»
«ولمَ لا؟»
«الأمر يتعلق بالإرث الذي تركه أبي. فسارة أحد الأشخاص الذين عارضوا وصيَّتَه. فكانت تُخبِر الجميع أنني وروي وبرنارد لسنا أولاده.» ثم تنهَّدت. وأكملت: «لا أعلم. جزء منِّي يتعاطف معها. فقد عاشت حياةً صعبة. ولم تحظَ أبدًا بالفُرَص التي أُتيحت لأبي مثل الدراسة والسفر إلى الخارج. وقد جعلها هذا تشعر بالمرارة، فتظن بشكلٍ ما أنني وأُمي السبب في حالتها.»
«ولكن بِكَم يقدَّر هذا الإرث؟»
«ليس كثيرًا. ربما معاش حكومي صغير. وقطعة أرض ليست لها قيمة. وأنا أحاول أن أبقى بعيدًا عنها. ومهما كان الميراث فإنه على الأرجح أُنفِق على المحامين الآن. ولكن الجميع يتوقَّع الكثير من أبي. فقد جعلهم يظنُّون أنه يملك كلَّ شيء، حتى وهو لا يملك شيئًا. والآن بدلًا من أن يستمروا في حياتهم، ينتظرون ويتجادلون فيما بينهم ظنًّا منهم أن أبي سيُنقِذهم وهو في قبره. وقد تعلَّم برنارد هذا الانتظار. إنه ذكي حقًّا يا باراك، لكنه يجلس هناك طوال اليوم ولا يفعل شيئًا. وقد ترك المدرسة وليست لدَيه فُرَص كثيرة في الحصول على عمل. وقد أخبرتُه أنني سأساعده كي يلتحِق بمدرسةٍ تجارية، أو أي شيءٍ يريد، فقط حتى يفعل أيَّ شيء. فيقول حسنًا، ولكن عندما أسأله هل حصل على أيِّ استمارات تَقدُّم أو تحدَّث إلى ناظر المدرسة، أجد أنه لم يفعل شيئًا. وفي بعض الأحيان أشعر أنني لو لم أَخْطُ معه كل خطوةٍ فإن شيئًا لن يحدث.»
«ربما يمكنني المساعدة.»
«نعم. ربما يمكنك التحدُّث إليه. ولكن الآن بما أنك هنا وقادم من أمريكا، فإنك جزء من الميراث. لهذا تود سارة أن تراك كثيرًا. إنها تظن أنني أُخفيك عنها لأنك الشخص الذي يملك كل شيء.»
عادت الأمطار تهطل مرةً أخرى ونحن نوقف السيارة. كان المصباح الوحيد الذي يبرُز من جانب المبنى يُلقي بظلالٍ شبكية مُترقرقة على وجه أوما. وقالت هي برفق: «لقد سئمتُ الأمر برمَّته يا باراك.» وتابعت: «لن تُصدِّق كم كنتُ أشتاق إلى كينيا عندما كنتُ في ألمانيا. كلُّ ما كنتُ أفعله هو التفكير في العودة إلى الوطن. وفكَّرتُ كيف لا أشعر بالوحدة أبدًا هنا؛ العائلة في كل مكان، ولا أحد يُرسِل والدَيه إلى دارٍ لرعاية المسنين، أو يترك أطفاله مع غرباء. ثم أعود إلى هنا وأجد الجميع يطلبون منِّي المساعدة، وأشعر أنهم جميعًا يتمسَّكون بي وأنني سأغرق. كما أني أشعر بالذنب لأنني كنتُ أسعد حظًّا منهم. فقد التحقتُ بالجامعة. ويمكنني الحصول على عمل. لكن ماذا بوسعي أن أفعل يا باراك؛ فأنا مجرد فردٍ واحد.»
أمسكتُ يدَ أوما ومكثنا في السيارة عدةَ دقائق نستمع إلى صوت هطول المطر. وقالت في النهاية: «لقد سألتَني عن حلمي.» وتابعت: «في بعض الأحيان يُراوِدني حلم أنني سأبني منزلًا جميلًا على أرض جَدنا. منزلًا كبيرًا حيث يُمكننا جميعًا البقاء وإحضار عائلاتنا. ويمكننا زراعة أشجار فواكه مثل جَدنا، وسيعرف أطفالنا الأرض ويتحدَّثون بلغةِ قبيلة لوو ويتعلَّمون تقاليدنا من الكبار. وستكون ملكًا لهم.»
«يمكننا أن نفعل كل هذا يا أوما.»
هزَّت رأسها. وقالت: «دعني أُخبرك ما بدأتُ أفكر فيه. أفكر فيمن سيعتني بالمنزل إذا لم أكن أنا موجودة؟ مَن يمكنني الاعتماد عليه كي أتأكَّد أن الترسيب سيُصَلَّح أو أن السياج سيُرَمَّم؟ أعرف أن هذه أنانية رهيبة. وكلُّ ما أستطيع فعله عندما أفكر بهذا الشكل أن أشعر بالغضب تجاه أبي لأنه لم يبنِ لنا هذا المنزل. نحن الأبناء يا باراك. لماذا علينا الاعتناء بكل فرد؟! كل شيء مقلوب رأسًا على عقب، كل شيء في حالة جنون. فكان عليَّ أن أعتني بنفسي، بالضبط مثل برنارد. والآن اعتدتُ أن أعيش حياتي الخاصة مثل الألمان. كل شيء منظَّم. وإذا احتاج شيء إلى إصلاح فأنا أصلحه. وإذا فسد شيء فهذا خطئي أنا. وإذا كانت لدي نقود فإني أُرسِلها إلى العائلة وهم يفعلون بها ما يريدون وأنا لا أعتمد عليهم، ولا هم يعتمدون عليَّ.»
«يبدو أنك وحيدة.»
«أعلم هذا يا باراك. لهذا أعود دائمًا إلى الوطن. ولهذا لا أزال أحلم.»
•••
بعد مرور يومَين لم أكن قد استعدتُ حقيبتي بعد. أخبرنا مكتب شركة الطيران في وسط المدينة أن نتَّصِل بالمطار، ولكن كلما حاولنا ذلك وجدنا الخطوط مشغولة. اقترحَت أوما في النهاية أن نذهب إلى هناك بأنفسنا. وفي مكتب الخطوط الجوية البريطانية وجدْنا شابَّتَين تتحدَّثان عن ملهًى ليلي افتُتِح لتوِّه. قاطعتُ حوارهما كي أسأل عن حقيبتي فقلبَتْ واحدة منهما بلا مبالاة كومةً من الأوراق.
ثم قالت: «ليس لدَينا أي أوراق عنك يا سيدي؟»
«تأكَّدي مرةً أخرى من فضلك.»
هزَّت كتفَيها. وقالت: «إذا أردتَ يمكنك العودة في منتصف الليل. فهناك رحلة قادمة من جوهانسبرج في هذا التوقيت.»
«قيل لي إن حقيبتي ستُرسَل إليَّ.»
«آسِفة، ليس لديَّ أيُّ ذِكر لحقيبتك هنا. إذا أردتَ يمكنك ملء استمارةٍ أخرى.»
«هل الآنسة أومورو هنا؟ إنها …»
«أومورو في إجازة.»
أزاحتني أوما جانبًا. وقالت: «مَن غيرك هنا يُمكننا التحدُّث إليه بما أنك لا تعرفين شيئًا؟»
أجابتها بأسلوب فظ قبل أن تعود لاستكمال حديثها: «اذهبي إلى وسط المدينة إذا أردتِ التحدُّث إلى شخصٍ آخر.»
كانت أوما لا تزال تغمغم ساخطة عندما دخلنا إلى مكتب الخطوط الجوية البريطانية في وسط المدينة. كان المكتب في مبنًى عالٍ يُعلِن فيه المصعد رقم كل طابقٍ إلكترونيًّا بنبرة فخمة واضحة، وكانت هناك موظفة استقبال تجلس أسفلَ صورٍ لأشبالِ أسُود وأطفالٍ يرقصون. وقالت لنا مرة أخرى إنه علينا التأكُّد من المطار.
قلتُ لها وأنا أحاول ألا أصرخ: «أريد التحدُّث إلى المدير من فضلك.»
«أنا آسفة، السيد مادوري في اجتماع.»
«اسمعي يا آنسة، لقد أتينا للتوِّ من المطار حيث أخبرونا أن نأتي إلى هنا. وقبل يومَين قيل لي إن حقائبي ستُرسَل إليَّ. والآن تقولون لي إنه لا أحد يعلم حتى أنها مفقودة. أنا …» توقَّفت في منتصف الجملة. وانسحبَت موظفة الاستقبال وراء قناع حجري، وهو مكانٌ لا تصل إليه المناشدات أو الصياح الغاضب. ويبدو أن أوما رأت الشيء نفسه، فلم تنبس ببنت شفة هي الأخرى، وسقطنا معًا إلى كُرسِيَّين مُريحَين لا نعرف ماذا نفعل بعد ذلك، عندما ظهرت يدٌ فجأة على كتف أوما. فالتفتت أوما لتجد أنها يدُ رجلٍ أسود نحيف يرتدي سترة زرقاء.
«عماه! ماذا تفعل هنا؟»
قدَّمَتْني أوما للرجل الذي كان قريبًا لنا في نسبٍ لم أستطِع تعقُّبه. وسألنا هل نخطط للقيام برحلة، فأخبرَتْه أوما بما حدث.
فقال عمُّنا: «اسمعا، لا تقلقا.» وتابع: «إن مادوري صديق مُقرَّب لي. في الحقيقة أنا الآن على وشك تناول الغداء معه.» والتفت إلى موظفة الاستقبال التي كانت تُراقِب حديثنا باهتمامٍ كبير.
وقالت مبتسمة: «السيد مادوري يعرف بالفعل أنك هنا.»
كان السيد مادوري رجلًا قصير القامة ممتلئ الجسد له أنف ضخم وصوت أجش. وبعد أن أعدنا قصتنا على مسامعه أخذ سماعةَ الهاتف على الفور وقال: «مرحبًا؟ نعم أنا مادوري. مَن المتحدث؟ اسمعي لديَّ الآن السيد أوباما الذي كان يبحث عن حقيبته. نعم، أوباما. إنه ينتظر وصول حقيبته منذ وقتٍ طويل. ماذا؟ نعم ابحثي الآن من فضلك.» وبعد بضع دقائق انطلق رنين الهاتف. «نعم … حسنًا، أرسليها إلى …» ومنح مُحدِّثَتَه عنوان مكتب أوما، ثم أغلق الهاتف وأخبرنا أن الحقيبة ستُرسَل إلى هناك بعد ظهر هذا اليوم.
وقال: «اتصل بي إذا واجهتْكَ أية مشكلات أخرى.»
شكرنا الرجُلَين بشدة واستأذنا للانصراف على الفور خوفًا من أن يتغير حظنا في أية لحظة. وفي الأسفل توقَّفتُ أمام صورة كبيرة لكينياتا مُعلَّقة على نافذة مكتب. كانت عينا الرجل تشعَّان ثقةً ومكرًا، ويدُه القوية التي يرتدي بها المجوهرات تقبض على عصا زعيم قبيلة كيكويو المنقوشة. فجاءت أوما ووقفت إلى جواري.
وقالت: «من هنا يبدأ كل شيء.» وتابعت: «الرجل الكبير. ثم مساعده أو عائلته أو صديقه أو قبيلته. الأمر نفسه ينطبق سواء أكنتَ تريد هاتفًا أو تأشيرة سفر أو عملًا. مَن أقرباؤك؟ مَن معارفك؟ فإذا كنتَ لا تعرف أحدًا فانْسَ الأمر. وهذا ما لم يفهمه أبي قط. لقد عاد إلى هنا وهو يظن أنه نظرًا لأنه تلقى تعليمًا راقيًا ويتحدَّث لغةً إنجليزية صحيحة ويفهم خرائطه ورسومه البيانية فإن كلَّ شخصٍ سيودُّ أن يُوليه المسئولية. ونسي الشيء الذي يربط كل الأشياء بعضها ببعض هنا.»
فقلت بهدوء: «لقد تاه.»
وفي طريقنا عائدَين إلى السيارة تذكَّرتُ قصة كانت أوما قد أخبرتني بها عن أبي بعد أن أفل نجمه. مساء أحد الأيام أخبرها أن تذهب إلى المتجر وتشتري له بعض السجائر. فذكَّرته أنهم لا يمتلكون نقودًا، لكن أبي هز رأسه بنفاد صبر.
وقال: «لا تكوني سخيفة.» وتابع: «فقط أخبري صاحب المتجر أنك ابنة الدكتور أوباما وأنني سأدفع له فيما بعد.»
فذهبت أوما إلى المتجر، وكرَّرت ما قاله لها والدُها. فضحك صاحب المتجر وصرفها. ولخوفها من العودة إلى المنزل ذهبت إلى أحد أقاربها كان والدها قد ساعده في الحصول على عمل، وأقرضها الشلنات القليلة التي كانت تحتاج إليها. وعندما عادت إلى المنزل أخذ أبي السجائر ووبَّخها على التأخير.
قال لها وهو يفتح العلبة: «أرأيتِ!» وتابع: «لقد أخبرتُك أنك لن تُواجهي أية مشكلة. فالجميع هنا يعرفون أوباما.»
شعرتُ بوجود أبي وأنا أقطع مع أوما الشارع المزدحم. أراه في وجوه التلاميذ الذين يَجْرون من أمامنا، وسيقانهم السوداء النحيلة تتحرك مثل عصا المكابس بين أرجل السراويل الزرقاء والأحذية التي يفوق حجمها مقاس أرجلهم. أسمعه في ضحكات طلاب الجامعة الذين يرتشفون الشاي المُحلَّى الكريمي ويأكلون سمبوسة في مقهى الشاي ذي الإضاءة الخافتة. أشم رائحته في دخان سجائر رجل الأعمال الذي يُغطي إحدى أُذنَيه ويصرخ في الهاتف الذي يعمل بالعملة، وفي عَرق العامل الذي يعمل باليومية في تحميل الحصى على عجلاتٍ تُدفع باليد، ووجهه وصدره العاري مُغطَّيان بالغبار. وفكَّرت في نفسي: أبي هنا، مع أنه لا يقول لي شيئًا. إنه هنا ويطلُب مني أن أفهم.