الفصل السادس عشر
قرع برنارد جرس الباب في تمام العاشرة. كان يرتدي شورتًا أزرق اللون وقميصًا ضيقًا للغاية، وفي يدَيه كرة سلة برتقالية اللون يحملِها في يدَيه كما لو أنه يحمل هدية.
سألني: «هل أنت جاهز؟»
«تقريبًا. امنحنى ثانيةً واحدة كي أرتدي الحذاء.»
تبِعَني إلى داخل الشقة واتجه إلى المكتب حيث كنتُ أعمل. وقال وهو يهزُّ رأسه: «كنتَ تقرأ مرةً أخرى يا باري.» وتابع: «ستسأم منك أية سيدة تُرافِقك؛ فأنت تقضي وقتك دائمًا مع الكتب.»
جلستُ لأعقدَ رباط حذائي الرياضي. وقلت: «لقد قيل لي هذا.»
فقذف الكرة في الهواء. وقال: «أما أنا فلا أهتمُّ بالكتب. أنا رجل أفعال. مثل رامبو.»
فابتسمتُ. وقلت له وأنا أنهض وأفتح الباب: «حسنًا يا رامبو.» وتابع: «لِنَرَ أداءك وأنت تركض حتى نصِل إلى الملاعب.»
فنظر إليَّ برنارد بشك. وقال: «الملاعب بعيدة للغاية. أين السيارة؟»
«استقلَّتها أوما إلى عملها.» وخرجتُ إلى الشرفة وبدأتُ أمارس بعض التمرينات الرياضية البسيطة. «وعلى أية حال، فقد أخبرْتَني أن الملاعب تبعُد ميلًا واحدًا فقط عن هنا. وهذا إحماء جيد لساقَيك الصغيرتَين.»
فتبِعَني في أداء بعض التمرينات الرياضية بفتورٍ قبل أن نبدأ السير في الطريق المفروش بالحصى الذي يقود إلى الطريق الرئيسي. كان الجو رائعًا يُخفِّف فيه النسيم المستمر من حدة أشعة الشمس، والطريق خاويًا فيما عدا سيدة تسير على بُعد مسافةٍ منا تحمل فوق رأسها سلةً بها قطعٌ صغيرة من الخشب. وبعد أقلِّ من ربع ميلٍ توقَّف برنارد فجأة وقطرات العَرق تتصبَّب على جبهته الناعمة العالية.
وقال وهو يستنشِق الهواء بقوة: «أجريتُ ما يكفي من الإحماء يا باري.» وتابع: «أظن أنه علينا أن نسير الآن.»
يحتلُّ حرم جامعة نيروبي مساحةَ بضعةِ أفدنةٍ بالقرب من وسط المدينة. وكانت ملاعب كرة السلة تُوجَد أعلى مضمار ألعاب القوى على منحدرٍ قليل الارتفاع، وأرضيتها الأسفلتية المليئة بالحصى تتخللها الأعشاب. وراقبتُ برنارد ونحن نتبادل الأدوار في قذف الكرة تجاه السلة، وفكَّرتُ كم كان رفيقًا كريمًا ومُريحًا في الأيام القليلة السابقة، وهو يأخذ على عاتقه مهمَّة إرشادي في أرجاء المدينة عندما كانت أوما مشغولةً في تصحيح الاختبارات. وكان يُمسك يدي وكأنه يحميني ونحن نشقُّ طريقَنا عبر الطرُق المزدحمة، وكان صبرُه لا ينفد عندما أتوقَّف لأنظر إلى مبنًى أو أقرأ لافتة يمرُّ هو بها كل يوم، ويبدو أن سلوكياتي الغريبة تُسلِّيه لكن دون أن تبدو عليه أيٌّ من علامات الملل أو الاعتراض الكثيرة التي كنتُ أنا سأبديها وأنا في سنِّه.
وهذا اللطف وافتقاره للخداع جعلاه يبدو أصغر كثيرًا من سنوات عمره السبع عشرة. ولكنني كنتُ أُذكِّر نفسي دائمًا أنه في السابعة عشرة من عمره، وهي سنٌّ سيكون فيها تمتُّعه بمزيدٍ من الاستقلالية والحدة في شخصيته مسألةً لا غبار عليها. وأدركتُ أن ذلك الوقت الذي يمنحه لي لم يكن إلا لأنه لم يكن لدَيه شيء أفضل ليقوم به. كما أدركتُ أن صبره لم يكن إلا لأنه ليس لدَيه مكان محدَّد يريد الذهاب إليه. ويجب أن أتحدَّث إليه بهذا الشأن كما وعدتُ أوما أن أفعل، وسيكون حديثَ رجلٍ لرجل …
سألني برنارد وهو يستعدُّ لقذف الكرة: «هل رأيتَ ماجيك جونسون وهو يلعب؟» مرت الكرة داخل الحلقة التي لا تحتوي على شبكة، فقذفتُ له الكرة مرةً أخرى.
«في التليفزيون فقط.»
أومأ برنارد. وقال: «كل شخصٍ في أمريكا لدَيه سيارة. وهاتف.» كانت الجملة إخبارية أكثر من كونها استفهامية.
فقلت: «معظم الناس. لكن ليس كل شخص.»
قذف الكرة مرةً أخرى فأصدرت صوتًا مُزعجًا وهي تمرُّ فوق الحلقة. وقال: «أظن أن الحياة هناك أفضل.» وتابع: «ربما أُسافر إلى أمريكا، يمكنني أن أُساعدك في عملك.»
«ليس لديَّ عمل الآن. ربما بعد أن أنتهي من الدراسة في كلية الحقوق …»
«لا بد أنه من السهل الحصول على عمل.»
«ليس للجميع. في الحقيقة الكثيرون يُواجِهون أوقاتًا عصيبةً في الولايات المتحدة. ولا سيما السود.»
أمسك الكرة. وقال: «ليست عصيبةً مثل هنا.»
نظر أحدُنا إلى الآخر، وحاولتُ أن أتخيَّل ملاعبَ كرة السلة في الولايات المتحدة. وكان من بين الصور التي تخيلتُها: صوت الطلقات النارية في الجوار، وتاجر ماريجوانا يُقتَل في بئر السُّلَّم، وصورة أخرى. صوت ضحكات الصبية وهم يلعبون في الفناء الخلفي لمنازلهم في الضواحي، وأمهاتهم تنادي عليهم للدخول وتناول الطعام. كان هذا حقيقيًّا أيضًا. اصطدمت الصورتان وترَكَتاني صامتًا. وصرتُ راضيًا بصمتي، فعاد برنارد إلى قذف الكرة.
عندما أصبحتِ الشمس في كبد السماء سِرنا إلى محلٍّ لبيع الآيس كريم على بُعد بضعة مبانٍ من الجامعة. طلب برنارد أيس كريم بالشيكولاتة، وبدأ يأكُله بانتظام، نصف ملعقةٍ في كل مرة. فأشعلتُ سيجارةً واتكأتُ بجسدي إلى الخلف على الكرسي.
وقلت: «أخبرتني أوما أنك تُفكِّر في الالتحاق بإحدى مدارس التدريب المهني.»
فأومأ برأسه بتعبير غير واضح.
«ما نوع الدراسة التي تُثير اهتمامك؟»
«لا أعلم.» ثم أخذ قطعة أخرى من الآيس كريم وفكَّر دقيقةً. وقال: «ربما ميكانيكا السيارات. نعم … أظن أن ميكانيكا السيارات مناسبة.»
«هل جرَّبتَ الالتحاق بأحد هذه البرامج؟»
«كلَّا. ليس بالضبط.» ثم توقَّف ليتناول ملعقةً أخرى. وقال: «يجب أن تدفع مقابلًا لهذا.»
«كم عمرك يا برنارد؟»
قال بحذَر: «سبعة عشر.»
فأومأتُ له: «سبعة عشر.» وأطلقتُ دخان السيجارة في الهواء. ثم قلت: «سبعة عشر، إنك تعرف ماذا يعني هذا، أليس كذلك؟ يعني أنك رجل تقريبًا. أصبحتَ شخصًا ذا مسئوليات. تجاه عائلتك. وتجاه نفسك. ما أحاول أن أقوله لك هو أنه قد حان الوقت لتُقرِّر القيام بشيء يُثير اهتمامك. قد يكون هذا الشيء هو ميكانيكا السيارات. أو قد يكون شيئًا آخر. ولكن مهما يكن هذا الشيء فعليك أن تُحدِّد بعض الأهداف وتسعى لتحقيقِها. يمكن أن أُساعدك أنا وأوما في دفع مصاريف المدرسة، لكن لا يُمكننا أن نعيش حياتك بدلًا منك. عليك أن تبذل بعض المجهود. أتفهمني؟»
فأومأ برنارد بالإيجاب. وقال: «أفهمك.»
جلسنا يُخيِّم علينا الصمت بعض الوقت نُراقب ملعقة برنارد تدور في الآيس كريم الذي أصبح سائلًا. وبدأتُ أتخيَّل كم تبدو كلماتي جوفاء في نظر أخي، أخي الذي كان كلُّ ما ارتكبه من ذنب هو أنه وُلِد على الجانب الخطأ من عالَم أبي الممزَّق. ولم يبدُ أنه استاء منِّي لهذا. ليس بعد. لا بد أنه يتساءل فقط لماذا أتظاهر أن قواعدي ستنطبق عليه بشكلٍ ما. فكلُّ ما كان يريده بعض التذكارات لعلاقتنا، ربما شرائط بوب مارلي أو حذاء كرة السلة بمجرد أن أرحل. أشياء قليلة للغاية يطلُبها، وأي شيء آخر أُقدِّمه، مثل نصيحة أو توبيخ أو طموحي له، سيبدو أقل شأنًا من هذه الأشياء.
أطفأتُ السيجارة واقترحتُ أن نذهب. وعندما خرجْنا إلى الشارع ألقى برنارد ذراعه حول كتفي.
وقال قبل أن يُلوِّح مودِّعًا ويختفي في الزحام: «من الجميل أن يكون لي أخٌ كبير قريب مني.»
•••
ما معنى العائلة؟ هل هي فقط سلسلة جينية من آباء وذرية، أناس يُشبهونني؟ أم أنها بناء اجتماعي ووحدة اقتصادية هي الوضع الأمثل لتربية الأطفال وتقسيم العمل؟ أم أنها شيء آخر مختلف تمامًا؛ مخزون من الذكريات المشتركة مثلًا؟ نطاق من الحب؟ يدٌ تمتد إليك في الفراغ؟
وضعتُ قائمة بالاحتمالات. ولكني لم أتوصَّل إلى إجابة مُحدَّدة قط، وكنتُ أعي مسبقًا، نظرًا لظروفي، أن مثل هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل. وبدلًا من ذلك رسمتُ سلسلة من الدوائر حول نفسي؛ دوائر لها حدود تتغيَّر بمرور الوقت وبتغير الأوجه، ولكنها مع ذلك قدَّمت لي وهمَ السيطرة. فهناك دائرة داخلية وبها الحبُّ مُستمر والحقوق غير خاضعة للنزاع. ثم دائرة ثانية: عالَم من الحب الخاضع للتفاوُض حيث الاختيار الحر للالتزام. ثم دائرة من الزملاء والمعارف مثل السيدة البشوشة الوجه التي كسا الشيب شعرها والتي تُسجِّل البضائع على آلة تسجيل النقود في المتجر في شيكاغو. حتى تتَّسِع الدائرة في النهاية لتضمَّ أُمَّةً أو عِرقًا، أو اتجاهًا أخلاقيًّا مُحدَّدًا، وفيها لا يعود الالتزام مرتبطًا بوجوهٍ أو أسماء، ولكنها في الواقع تكون التزاماتٍ أتعهَّد بها أمام نفسي.
وفي أفريقيا انهار على الفور عالم الدوائر الذي رسمته. فقد كانت العائلة في كل مكان: في المتاجر، في مكتب البريد وفي الشوارع وفي الحدائق، جميعهم يتحدَّثون ويتجادلون عن ابن أوباما الذي فُقد لوقتٍ طويل. وإذا ذكرت بصورةٍ عابرة أنني أحتاج إلى كراسة أو كريم حلاقة، يمكن أن تصرَّ واحدة من عمَّاتي على أن تَصحبني إلى ركنٍ ناء في نيروبي كي أشترِيَه بأرخص سعر، بصرف النظر عما تستغرقه الرحلة، أو كم قد تكون غير مناسبة لها.
وتجد الواحدة منهن تقول: «آه يا باري … وماذا أهم من مساعدة ابن أخي؟»
وإذا اكتشفَ أحد أولاد عمومتي أن أوما قد تركتني أتولَّى أموري بنفسي، فقد يسير مسافة ميلَين إلى شقة أوما لمجرد أن هناك احتمالًا بعيدًا أن أكون هناك وأحتاج إلى رفقة.
وتجد الواحد منهم يقول: «آه يا باري … لماذا لم تتَّصِل بي؟ تعالَ معي سأصحبك لتُقابل بعض أصدقائي.»
أما الأمسيات فقد استسلمتُ أنا وأوما لعددٍ لا ينتهي من الدعوات التي كانت تُوجَّه إلينا من أعمامنا وأبناء إخوتنا وأولاد أعمامنا أو أولاد عمَّاتنا، وجميعهم يطلبون منا، مخاطِرين بأن نجرح مشاعرهم، أن نجلس ونتناول الطعام، مهما يكن توقيت الزيارة أو عدد الوجبات التي تناولناها بالفعل.
وتجدهم يقولون: «آه يا باري … ربما لا يكون لدَينا الكثير هنا في كينيا، لكن ما دمتَ هنا فسيكون لدَيك دائمًا شيء لتأكُله!»
في البداية كان ردُّ فعلي على كل هذه الرعاية مثلَ ردِّ فعلِ طفلٍ تجاه حِضن أُمِّه؛ مليء بعرفانٍ تامٍّ وبسيط للجميل. وكان ذلك يتفق مع فكرتي عن أفريقيا والأفريقيين، وهو تناقُض واضح للعزلة المتزايدة في الحياة الأمريكية، وهو تناقُض تفهَّمته في إطارٍ ثقافي وليس عنصريًّا. مقياس لما ضحَّينا به من أجل التكنولوجيا وسهولة الحركة، لكن ذلك المقياس هنا، كما كان الحال في قرى السكان الأصليين خارج جاكرتا أو قرى أيرلندا أو اليونان، ظل في جوهره كما هو: السعادة الشديدة برفقة الأشخاص الآخرين ومتعة دفء العلاقات الإنسانية.
ومع ذلك بمرور الأيام أصبح القلق والشك يشوبان سعادتي. ويرجع هذا إلى حدٍّ ما إلى ما تحدَّثَتْ عنه أوما تلك الليلة في السيارة؛ إدراك مُفاجئ وحادٌّ لثروتي الجيدة نسبيًّا، والأسئلة المزعِجة التي تُشير إليها تلك الثروة. ولم تكن المشكلة بالضبط أن أقرباءنا يعانون. فكلٌّ من جين وزيتوني لدَيهما عمل ثابت، وكيزيا تعيش من الدخل الذي يدرُّه عليها بيع الأقمشة في الأسواق. وإذا كان هناك عجز في النقود فيمكن إرسال الأطفال إلى الجزء الداخلي من البلاد لبعض الوقت حيث كان يُقيم هناك، كما قيل لي، أخٌ آخر اسمه آبو، مع عمٍّ في كندو باي حيث يُوجَد دائمًا عمل يَومي للقيام به وطعام على مائدتهم وسقف يظلهم.
ومع ذلك فقد كان الحال في نيروبي سيئًا ويزداد سوءًا. فكانت الملابس التي يرتدونها غالبًا مُستعمَلة، والذهاب للطبيب لا يكون إلا في حالات الطوارئ القصوى. وكان معظم أفراد العائلة من الشباب لا يعملون، ومن بينهم الاثنان أو الثلاثة الذين تمكَّنوا من أن يتخرجوا في واحدة من جامعات كينيا رغم ظروف المنافسة الصعبة. وإذا ما أصاب المرض جين أو زيتوني، أو إذا ما أغلقت الشركتان اللتان تعملان بهما أبوابهما أو استغنتا عنهما، فإن الحكومة لن تُقدِّم لهما أيُّ معونة مالية، ولن يبقى سوى العائلة فقط، الأقارب، وهم أشخاص مُثقَلون بصعابٍ مماثلة.
ذكَّرتُ نفسي في ذلك الوقت بأنني أصبحتُ جزءًا من العائلة، والآن لديَّ مسئوليات. ولكن ماذا يعني هذا بالضبط؟ في الولايات المتحدة استطعتُ أن أُترجِم هذه المشاعر إلى العمل في السياسة وتنظيم المجتمع وإلى نوعٍ محدَّد من إنكار الذات. أما في كينيا فهذه الاستراتيجيات تبدو أفكارًا مجردة بلا أمل، بل حتى منغمسة في ذاتها. فالالتزام بالعمل على منْحِ السود مكانةً وسلطة في المجتمع لن يساعد في إيجاد عمل لبرنارد. والإيمان بالديمقراطية القائمة على المشاركة لا يمكن أن يشتري لجين طقم ملاءات جديدًا. ولأول مرة في حياتي أجد نفسي أُفكِّر بشدة في النقود؛ افتقاري إليها والسعي للحصول عليها، والسلام البسيط الذي لا يمكن إنكاره والذي بوسعها أن تشتريه. وتمنَّى جزء منِّي لو أنني أستطيع أن أكون أهلًا للصورة التي تخيَّلها أقربائي الجدد لي: محامٍ في شركة أو رجل أعمال أمريكي أضع يدي على الصمام ومُستعِد لأن أُمطر عليهم من ثروات الغرب.
ولكني بالطبع لم أكن أيًّا من الاثنَين، وحتى في الولايات المتحدة تتضمَّن الثروة موازنة بين أشياء لا تجتمع معًا لمن لم يُولَد في حِضن هذه الثروة، وهو النوع نفسه من الموازنة التي أرى أن أوما تقوم بها الآن، وهي تحاول، بطريقتِها الخاصة، أن تُحقِّق توقعات العائلة. فكانت في ذلك الصيف تعمل بوظيفتَين؛ تُدَرِّس في دورات لتعليم اللغة الألمانية لرجال الأعمال الكينيِّين إلى جانب وظيفتِها في الجامعة. ولم تكن تُريد أن تستخدِم المال الذي ادَّخرتْه في إصلاح منزل الجَدة في أليجو فحسب، بل أرادت أيضًا أن تشتريَ قطعة أرضٍ حول نيروبي، شيئًا تزداد قيمته بمرور الزمن، وقاعدة تبدأ منها عملية البناء. كان لدَيها خطط وجداول وميزانيات ومواعيد لإنجاز العمل، وهي جميع الأشياء التي تعلَّمَت أنها مطلوبة للتعامُل مع العالم الحديث. المشكلة أن هذه الجداول كانت تعني أيضًا الابتعاد عن شئون العائلة، وميزانيتها تعني الاعتذار عن الطلبات الدائمة للنقود التي كانت توجَّه إليها. وعندما يحدُث هذا — عندما أصرَّت على الذهاب إلى منزلها قبل أن تُقدِّم جين العشاء لأن الاجتماع العائلي بدأ مُتأخرًا ساعتَين عن موعده، أو عندما رفضت أن تترك ثمانية أشخاص يتكدَّسون في سيارتها لأنها مُصمَّمة لاستيعاب أربعة أشخاص فقط، وأن هذا سيُمزِّق المقاعد — تجد نظرات الجِراح الصامتة، التي لا تختلف كثيرًا عن نظرات الاستياء، تبرُق في جميع أنحاء الغرفة. لقد كان قلقُها واستقلالها واستعدادها الدائم لأن تُفكِّر في المستقبل، جميع هذه الأشياء صدمت العائلة على أنها غير طبيعية بطريقةٍ ما. غير طبيعية … وغير أفريقية.
إنها المعضلة نفسها التي طرحَها أمامي فرانك العجوز تلك السنة التي تركتُ فيها هاواي، التوتر نفسه الذي قد يشعر به بعض الأطفال في ألتجيلد إذا كانوا يستمتعون بشدة بأداء واجباتهم المدرسية، الشعور الغريب بذنب النجاح نفسه الذي أتوقَّع الشعور به إذا ما حاولتُ كسب النقود والمرور بحشود الشباب السُّود في زوايا الشوارع وأنا أسلك طريقي إلى مكتبٍ في وسط المدينة. فبدون قوة للجماعة، بل جماعة أكبر حتى من العائلة الكبيرة، فإن نجاحنا يُهدِّد دائمًا أن يترك آخرين خلفَنا. وربما تكون هذه الحقيقة هي التي تركتني غير مُستقر — حقيقة أنه حتى هنا في أفريقيا الأنماط نفسها التي تدفع المرء إلى الجنون هي التي تفرض سُلطانها، وأنه لا أحد هنا يستطيع أن يُخبرني ما الذي تتطلَّبه صِلة القرابة، أو كيف يمكن التوفيقُ بين هذه المطالب وفكرةِ اتحاد البشر الأكبر. كان الأمر كما لو أننا، أنا وأوما وروي وبرنارد، نختلِقُها ونحن نتقدَّم في طريقنا. كما لو أن الخريطة التي قد تكون قاست في يومٍ من الأيام اتجاهَ وقوةَ حبِّنا، والشفرة التي من الممكن أن تفتح الحظ الوافر لنا، فُقِدَت قبل وقتٍ طويل، دُفِنَت مع أجدادنا تحت الأرض الصامتة.
•••
قربَ نهاية أسبوعي الأول في نيروبي اصطحبَتْني زيتوني لزيارة عمَّتي الأخرى سارة. وظلَّت أوما غير راغبة في الذهاب، ولكن نظرًا لأنه اتضح أن الميكانيكي الذي يُصلح سيارتها يعيش بالقُرب من سارة، فقد عرضت علينا أن تُقلَّنا إلى الورشة، وقالت إنه من هناك يمكننا الذهاب سيرًا. وفي صباح يوم السبت ذهبنا أنا وأوما لاصطحاب زيتوني واتجهنا شرقًا مرورًا بمبانٍ أسمنتية وقِطَع أراضٍ جافة بها قاذورات، حتى وصلنا في النهاية إلى حافة وادٍ واسع معروف باسم «ماثار». أوقفَتْ أوما السيارة ونظرتُ أنا من النافذة لأرى بالأسفل الجزء الفقير من المدينة، والأميال الممتدة من الأسطح المتموِّجة التي تُومِض تحت أشعة الشمس مثل أوراقٍ طافية من نبات زنبق الماء الأبيض وهي تنبعج وتغطس في تسلسل مُستمر عبْر أرض الوادي.
فسألتها: «كم عدد الناس الذين يعيشون هناك؟»
هزَّت أوما كتفَيها واستدارت إلى عمَّتِنا. وقالت: «كم تظنين يا عمَّتي؟ ربما نصف مليون؟»
هزَّت زيتوني رأسها. وقالت: «كان ذلك الأسبوع الماضي. لا بد أن الرقم وصل إلى مليون هذا الأسبوع.»
أعادت أوما تشغيل محرك السيارة. وقالت: «لا أحد يعلم عن يقينٍ يا باراك.» وتابعت: «فعدد سكان هذا المكان يزداد طوال الوقت. فالناس يتدفَّقون إلى هنا من الريف بحثًا عن عملٍ وينتهي بهم الحال إلى البقاء هنا للأبد. ولبعض الوقت حاول مجلس المدينة إزالة المستوطنة. وقالوا إن لها مخاطرَ صحية، وإساءة إلى صورة كينيا. وجاءت الجرافات وفقد الناس ما كانوا يملكون من أشياء قليلة. ولكن بالطبع لم يكن لدَيهم مكانٌ آخر يذهبون إليه. وبمجرد أن غادرت الجرافات أعاد الناس بناء كل شيء كما كان.»
توقَّفنا أمام كوخٍ مُنحدِر مصنوع من الصفيح ظهرَ منه ميكانيكي وعددٌ من عماله للاعتناء بسيارة أوما. تركتُ أنا وزيتوني أوما في الورشة بعد أن وعدْناها أن نعود في غضون ساعة، وبدأنا نسلك طريقنا في طريق واسع غير مُعبَّد. كان الجو حارًّا بالفعل، والطريق خاليًا تمامًا من أي ظلال، وعلى كِلا جانبيه صفوف من الأكواخ الصغيرة جدرانها مزيج من الأغصان الرقيقة المجدولة والطمي وأجزاء من الورق المقوَّى ورقائق الخشب التي يحصلون عليها من البحث في القمامة. ومع ذلك فالمنازل مُرتَّبة والأرض الترابية أمام كل منزلٍ نظيفة، وفي كل مكانٍ خياطون ومُصلِحو أحذيةٍ ومُصنِّعو أثاثٍ ينخرطون في عملهم خارج أكشاكٍ على جانب الطريق، ونساء وأطفال يبيعون الخضراوات التي يضعونها فوق مناضد خشبية مُتهالِكة.
وفي النهاية وصلْنا إلى إحدى حواف وادي ماثار، حيث كانت تقف سلسلة من المباني الخرسانية على طول طريق مُعبَّد. وكان ارتفاع المباني ثمانية طوابق وربما وصل إلى اثني عشر طابقًا، ومع ذلك فهي غير مُكتملة البناء بصورةٍ تُثير الفضول؛ فالدعامات الخشبية والأسمنت الجاف متروكان في العراء كما لو أن هذه المباني تعرَّضت لقصفٍ جوي. دخلنا أحد هذه المباني وصعدنا سلالم ضيقة، ثم وجدنا أنفسنا في نهاية رواقٍ طويل غير مضاء، وفي الطرف الآخر رأينا فتاةً مُراهقة تُعلِّق الملابس كي تجفَّ في شرفةٍ أسمنتية صغيرة. ذهبت زيتوني لتتحدَّث إلى الفتاة التي قادتنا دون أن تتفوَّه ببنت شفة إلى بابٍ مُنخفض مُتهالك. طرقنا الباب فخرجت سيدة سوداء في منتصف العمر قصيرة القوام ولكن قوية البنيان، لها عينان لامعتان قاسِيتان تستقرَّان في وجهها الكبير النحيف، وقد أمسكت يدي وقالت شيئًا بلغة قبيلة لوو.
فترجمَتْ زيتوني قائلة: «إنها تقول إنها تشعر بالخجل لأن ابن أخيها يراها هنا في مثل هذا المكان البائس.»
دلفنا إلى غرفةٍ صغيرة مساحتها ١٠ × ١٢ قدمًا لكنها تستوعب فراشًا وخزانة ذات أدراجٍ وكرسِيَّين وماكينة خياطة. اتخذتُ أنا مقعدًا وزيتوني المقعد الآخر، وعادت الشابَّة التي أدخلتْنا إلى غرفةِ سارة ومعها كوبان من المياه الغازية الدافئة. جلست سارة على السرير وانحنت للأمام لتتفرَّس ملامح وجهي. وكانت أوما قد أخبرَتْني أن سارة تعرف بعض الإنجليزية ولكنها كانت تتحدَّث بلغة قبيلة لوو معظم الوقت. وحتى دون ترجمة زيتوني استطعتُ أن استشف أنها غير سعيدة.
شرحت زيتوني قائلة: «إنها تريد أن تعرف لماذا استغرقتَ كل هذا الوقت كي تأتي لزيارتها.» وتابعت: «إنها تقول إنها أكبر أولاد جَدك حسين أونيانجو، وكان يجب أن تأتي لزيارتها أولًا.»
قلتُ وأنا أنظر إلى سارة لكن دون أن أكون واثقًا ماذا تفهم: «أخبريها أنني لم أقصد إظهار عدم الاحترام.» وتابعت: «لقد كنتُ مشغولًا للغاية منذ وصولي، وكان من الصعب أن آتي قبل الآن.»
أصبحَتْ نبرة سارة حادَّة. فقالت زيتوني: «إنها تقول إن مَن تمكث لدَيهم يُخبرونك بأكاذيب.»
«أخبريها أنني لم أسمع شيئًا يُسيء إليها. وأخبريها أن النزاع حول الميراث الذي تركه أبي جعل أوما لا تشعر بالارتياح لفكرةِ قدومِها معي إلى هنا.»
أصدرت سارة صوتًا يُعبِّر عن ازدرائها بعد الترجمة، وبدأت تتحدَّث من جديد بصوتٍ صاخبٍ تُردِّده الجدران القريبة. وفي النهاية عندما توقفت ظلت زيتوني صامتة.
«ماذا قالت يا زيتوني؟»
ظلت عينا زيتوني مُعلَّقة على سارة وهي تُجيب سؤالي. «تقول إن المحاكمة ليست خطأها. بل خطأ كيزيا، والدة أوما. وتقول إن الأطفال الذين يدَّعون أنهم أولاد أوباما ليسوا أولاده. وتقول إنهم أخذوا كل شيءٍ وتركوا أهله الحقيقِيِّين يعيشون مثل المتسوِّلين.»
أومأت سارة برأسها وبدأت عيناها تشتعلان غضبًا. ثم قالت فجأة بالإنجليزية: «نعم يا باري.» وتابعت: «أنا التي اعتنيتُ بأبيك وهو صبي صغير. ووالدتي أكومو هي أيضًا والدة أبيك. أكومو هي جَدتك الحقيقية وليس تلك التي تخاطبها بلقب الجَدة. أكومو هي المرأة التي منحت والدَك الحياة، ويجب أن تساعدها. وأنا أختُ والدك، انظر كيف أعيش. لماذا لا تُساعدنا بدلًا من مساعدة أولئك الآخرين؟»
قبل أن أتمكَّن من الرد، بدأت زيتوني وسارة تتناقشان بلغة لوو. وفي النهاية نهضت زيتوني وعدَّلت من هندامها.
وقالت: «يجب أن نذهب الآن يا باري.»
شرعتُ في النهوض من على مقعدي، لكن سارة أمسكت يدي بكلتا يدَيها، وبدأ صوتها يرق.
قالت: «ألن تعطيني شيئًا؟ من أجل جَدتك؟»
أخرجتُ محفظتي وشعرتُ بعينَي السيدتَين تُراقِبانني وأنا أعُدُّ النقود التي كانت معي، ربما ما يساوي ٣٠ دولارًا من الشلنات. ووضعتُهم في يد سارة الجافة المشقَّقة، فأسرَعَت هي بوضعِها في صدر قميصها قبل أن تعود وتُمسك بيدي مرة أخرى.
وتقول: «ابقَ هنا يا باري. يجب أن تُقابل …»
ولكن زيتوني قاطعتها قائلة: «يمكنك أن تعود مرةً أخرى يا باري.» وتابعت: «هيا بنا.»
وفي الخارج كان هناك ضوء أصفر غائم يُنير الطريق، وكانت ملابسي شبْهَ مُبتلة على جسدي في ذلك الجو الحار الذي يفتقر إلى الهواء. كانت زيتوني هادئة، والغضب واضح على ملامحها؛ فقد كانت سيدة تعتزُّ بنفسها ولا بد أن ذلك المشهد مع سارة قد أحرجَها. ثم إنها، على حسب عِلمي، كان يمكنها الانتفاع بالثلاثين دولارًا …
سِرْنا لمدة ١٠ دقائق قبل أن أسأل زيتوني عما كانت تتجادل هي وسارة بشأنه.
فقالت: «لا شيء يا باري. هذا ما يحدث مع السيدات العجائز اللائي يعِشْن دون أزواج.» وحاولَتْ أن تبتسِم ولكن التوتُّر منع شفتَيها من الانفراج.
«أخبريني الحقيقة يا عمتي.»
هزَّت زيتوني رأسها. وقالت: «أنا لا أعلم أساسًا ما الحقيقة. أو على الأقل لا أعلم الحقيقة كاملة. فأعرف أنه حتى عندما كبرنا، كانت سارة دائمًا أقربَ إلى أُمِّها الحقيقية أكومو. أما باراك فقد كان يهتمُّ فقط بوالدتي أنا، التي تُخاطبها بلقَب الجَدة، التي ربَّتهم بعد أن رحلَتْ أكومو.»
«ولماذا رحلت أكومو؟»
«لا أدري. يجب أن تسأل الجَدة عن هذا.»
أشارت زيتوني كي نعبر الشارع، ثم استأنفت الحديث. قالت: «أتعرف، كان والدك وسارة مُتشابِهَين للغاية، مع أنهما لم يكونا مُتفقَين دائمًا. كانت ذكيةً مثلَه. وكانت مُستقلة. واعتادت أن تُخبرني عندما كنا أطفالًا أنها تريد أن تتعلم حتى لا تُضطرَّ للاعتماد على أي رجل، ولهذا انتهى بها الحال إلى الزواج من أربعة رجال، ولم يستمرَّ أحد منهم معها. فقد مات الأول أما الثلاثة الآخرون فقد تركتهم لأنهم كانوا كسالى أو حاولوا استغلالها. وأنا مُعجبة بها من أجل هذا. فمعظم الكينيات يتكيَّفنَ مع أي وضع. أنا فعلتُ هذا وقتًا طويلًا. لكن سارة أيضًا دفعت ثَمن استقلال شخصيتها.»
مسحت زيتوني العَرق من على جبينها بظهر يدِها. واستأنفت: «على أية حال، بعد موت زوج سارة الأول قرَّرَتْ أن والدك يجب أن يتولى الإنفاق عليها هي وطفلها نظرًا لأنه هو مَن حظي بفرصة التعليم. ولهذا تكره كيزيا وأطفالها. فكانت تظن أن كيزيا مجرد فتاة جميلة تريد أن تأخذ كل شيء. ويجب أن تفهم يا باري أنه في عادات قبيلة لوو الذكَر يرِث كلَّ شيء. وخشِيَتْ سارة أنه بمجرد أن يموت جَدك فإن كل شيءٍ سيئول إلى باراك وزوجاته، وهي لن تحصل على شيء.»
هززتُ رأسي. وقلت: «ولكن هذا ليس مُبرِّرًا للكذب فيما يخصُّ أبناء أبي.»
«إنك على حق. ولكن …»
«ولكن ماذا؟»
توقَّفت زيتوني عن السير. والتفتت إليَّ. وقالت: «بعد أن رحل أبوك ليعيش مع زوجته الأمريكية روث … نعم، كان يذهب إلى كيزيا في بعض الأحيان. ويجب أن تفهم أنها طبقًا للعادات كانت لا تزال زوجته. وفي أثناء إحدى تلك الزيارات أصبحت كيزيا حاملًا في آبو، الأخ الذي لم تُقابله. والمشكلة أن كيزيا عاشت مع رجلٍ آخر وقتًا قصيرًا في ذلك الوقت. لذا عندما أصبحت حاملًا مرةً أخرى، هذه المرة في برنارد، لم يكن أحد واثقًا مَن يكون …» توقَّفت زيتوني وتركت الفكرة تُكمِل نفسَها.
«وهل يعرف برنارد هذا؟»
«نعم، إنه يعرفه الآن، ومثل هذه الأشياء لم تُشكِّل فارقًا مع أبيك. فكان يقول إنهم جميعًا أولاده. فأبعد ذلك الرجل الذي كانت كيزيا تعرفه، وكان يمنح كيزيا النقود لتُنفِق على الأطفال كلَّما استطاع. ولكن بمجرد أن تُوفي لم يكن هناك شيء يُثبِت أنه قد اعترف بهم بهذه الطريقة.»
انعطفنا عند زاويةٍ إلى طريقٍ أكثرَ ازدحامًا. وأمامنا رأينا مِعْزاة حاملًا كانت تُصدر صوت ثغاء وهي تبتعِد مسرعةً عن طريق عربة ماتاتو. وعلى الجانب الآخر من الطريق كانت هناك فتاتان صغيرتان ترتديان زي مدرسةٍ لونه أحمر باهت، ورأساهما المستديران شبه خالِيَين من الشعر، وتمسك كلتاهما بيد الأخرى وتُغنِّيان وهما تقفزان فوق بالوعة. وأشارت لنا سيدة مُتقدمة في العمر تغطي رأسها بشالٍ باهت اللون كي نذهب ونرى بضائعها التي تتكوَّن من علبتَين تحتويان على فاصوليا مجفَّفة، وكومة منظمة من الطماطم وسمك مُجفَّف يتدلى من سلكٍ يُشبه سلسلةً من العملات الفضية. نظرتُ إلى وجه السيدة العجوز الذي يختبئ أسفل الظلال. وتساءلت مَن تكون هذه السيدة؟ جَدتي؟ شخص غريب؟ وماذا عن برنارد، هل يجب أن تختلف مشاعري تجاهه الآن؟ ثم نظرتُ إلى محطة الحافلة حيث كانت جموع من الشباب تتدفَّق إلى الشارع، وجميعهم طوال القامة وسُود البشرة ونحيفو القوام، وعظامهم بارزة من ثيابهم. وفجأة تخيلتُ وجه برنارد عليهم جميعًا، يتضاعف على مرمى البصر، وعبر القارات. جميعهم رجال جياع مُكافحون يائسون وجميعهم إخوتي …
«لعلك ترى الآن ما الذي عاناه والدك!»
«ماذا؟» مسحتُ عيني ورفعت بصري لأجد أن عمتي تُحدِّق فيَّ.
وكررَتْ: «نعم يا باري، لقد عانى والدك.» وتابعت: «وأنا أقول لك إن مشكلته أن قلبه كان كبيرًا أكثرَ مما ينبغي. عندما كان حيًّا كان يُعطي أيَّ شخصٍ يطلُب منه. وجميعهم كانوا يطلبون. أتعرف لقد كان من أوائل مَن درسوا في الخارج في المنطقة كلها. والناس هنا في أرض الوطن لم يعرفوا أيَّ شخصٍ استقلَّ طائرة من قبل. لذا فقد توقَّعوا كلَّ شيءٍ منه. وكانوا يُردِّدون: «باراك، لقد أصبحت رجلًا عظيم الشأن الآن يجب أن تمنحني شيئًا. يجب أن تُساعدني.» ودائمًا مثل هذه الضغوط من العائلة. ولم يستطِع أن يقول لا، فقد كان كريمًا للغاية. حتى أنا كان عليه أن يعتني بي عندما أصبحتُ حاملًا، بعد أن خابت آماله فيَّ. فقد أرادني أن ألتحق بالجامعة. لكنني لم أُطِعْه، وبدأتُ علاقتي بزوجي. ومع ذلك فعندما أصبح زوجي عنيفًا وعليَّ أن أتركه وأنا لا أملك نقودًا ولا عملًا، مَن تظن أنه تولى رعايتي؟ نعم، إنه أبوك. لهذا بصرف النظر عما يقوله عنه الآخرون في بعض الأحيان فسأظلُّ ممتنةً له دائمًا.»
كنا نقترب من الورشة، ورأينا أوما تتحدَّث إلى الميكانيكي وسمِعنا صوت محرك السيارة القديمة يئن. وإلى جوارنا ولدٌ صغير عاري الجسد، ربما في الثالثة من عمره، يتجوَّل خلف صفٍّ من براميل الزيت، وقدَماه مُغطَّاتان بما يُشبِه القطران. ومرة أخرى توقَّفَت زيتوني، هذه المرة كما لو أنها مريضة، وبصقت على التراب.
وقالت: «عندما تغيَّر حظ أبيك، نسِيَه أولئك الذين كان يُساعدهم، وضحكوا عليه. حتى أفراد العائلة رفضوا أن يَستضيفوه ليمكث في منازلهم. نعم يا باري! رفضوا! وقالوا لباراك إن هذا أمر خطير جدًّا. وكنتُ أعلم أن هذا يجرح مشاعِره ولكنه لم يكن يلوم أحدًا. فوالدك لم يشعر بالضغينة قطُّ تجاه أحد. وفي الحقيقة عندما استردَّ أبوك اعتباره وعادت حياته تسير على ما يُرام مرةً أخرى، اكتشفتُ أنه يساعد أولئك الذين تخلَّوا عنه. ولم أفهم لماذا يفعل هذا. فكنتُ أقول له: «باراك يجب أن تعتني بنفسك وأطفالك فقط! هؤلاء الآخرون عاملوك معاملةً سيئة. إنهم مجرد كسالى لا يودُّون العمل بأنفسهم»، وهل تعلم ماذا كان يقول لي؟ كان يقول: «وكيف تعرفِين أن هذا الشخص لا يحتاج إلى هذا الشيء البسيط أكثرَ منِّي؟»
استدارت عمَّتي مُبعِدةً وجهها ولوَّحت لأوما وهي تُجبر نفسها على الابتسام. وعندما بدأنا نتقدَّم مرة أخرى، أضافت: «إنني أُخبرك بهذا حتى تعرف الضغط الذي تعرَّض له والدك في هذا المكان. حتى لا تكون قاسيًا في الحكم عليه. ويجب أن تتعلَّم من حياته. تتعلَّم أنه إذا كان لدَيك شيء فإن الجميع سيُريدون جزءًا منه. لذا عليك أن تضع حدودًا. فإذا كان الجميع من عائلتك فلا عائلة لك. وأظن أن والدك لم يفهم هذا قط.»
•••
أتذكَّر حوارًا دار في شيكاغو عندما كنتُ لا أزال أعمل في تنظيم المجتمع. كان الحوار مع سيدةٍ نشأت في عائلة كبيرة من منطقة ريفية في جورجيا. وأخبرتني أنهم كانوا خمسة إخوة وثلاث أخوات، جميعهم يحتشدون تحت سقفٍ واحد. وأخبرتني عن مجهودات أبيها غير المجدية لزراعة قطعةٍ صغيرة من الأرض، وزراعة والدتها للخضراوات، والخنزيرين اللذَين كانا يُربيانهما في الفناء، والرحلات مع إخوتها للصيد في المياه الموحِلة لنهرٍ قريب. وعندما استمعتُ إليها وهي تتحدَّث بدأتُ أُدرك أن اثنتَين من الأخوات الثلاث تُوفِّيتا عند ميلادهما، لكنهما ظلَّتا في عقل تلك السيدة دائمًا، أرواح بأسماء وأعمار وشخصيات؛ أختان كانتا معها وهي تسير إلى المدرسة أو تقوم بالأعمال المنزلية، تُخفِّفان عنها عندما تبكي وتهَدِّئان من روعها. فلم تكن العائلة عند تلك السيدة أبدًا كيانًا يضم الأحياء فقط. بل إن الأموات أيضًا لديهم حقوق، وأصواتهم تشكِّل مسار أحلامها.
وهكذا كان الأمر لي في ذلك الوقت، فأذكر أنه بعد أيام قليلة من زيارتي لسارة، صادفت أحد معارف أبي من بنك باركليز في الخارج. وفهمتُ أن أوما لم تكن تذكر اسمه؛ لذا فقد مددتُ يدي لأُصافحه وقدَّمتُ نفسي. فابتسم الرجل وقال: «يا إلهي، لقد أصبحتَ طويلًا للغاية. كيف حال والدتِك؟ وأخوك مارك، هل تخرَّج في الجامعة بعد؟»
في البداية شعرتُ بالحيرة. فهل كنتُ أعرف هذا الشخص؟ ثم شرحَتْ له أوما بصوتٍ مُنخفض أنني أخٌ غير ذلك الذي يتحدَّث عنه، وأن اسمي باراك ونشأتُ في أمريكا وأنني ابن أمٍّ أخرى. ديفيد قد تُوفي. وأصبح الموقف غريبًا لجميع الأطراف، فأومأ الرجل برأسه (وقال: «أنا آسِف، لم أكن أعلم») ولكن عاد ونظر إليَّ مرةً أخرى كما لو أنه يتأكد أن ما سمعه حقيقي، وحاولَتْ أوما أن تبدو كما لو أن الموقف، مع أنه حزين، من الأمور المأسوية الطبيعية، أما أنا فوقفتُ على الجانب أتساءل كيف يشعر المرء بعد أن يُخطئ الآخرون ويظنُّوه شبحًا.
وبعد ذلك عندما عُدنا إلى الشقة سألتُ أوما متى كانت آخِر مرةٍ رأت فيها مارك وروث. فأمالت رأسها على كتفي ونظرَتْ إلى السقف.
وقالت: «في جنازة ديفيد.» وتابعت: «مع أنهما في ذلك الوقت كانا قد توقَّفا عن التحدُّث إلينا منذ وقتٍ طويل.»
«لماذا؟»
«أخبرتُك أن طلاق روث من أبي كان شيئًا مريرًا. وبعد انفصالهما تزوَّجَت من رجلٍ تنزاني وجعلت مارك وديفيد يحمِلان اسمه. وأرسلَتْهما إلى مدرسةٍ دولية وتربَّيا مثل الأجانب، وأخبرَتْهما أنهما يجب ألا تربطهما أية علاقةٍ بجانبنا من العائلة.»
ثم تنهَّدت أوما. واستأنفت: «لا أعلم، ربما لأن مارك كان أكبر سنًّا، أصبح يُشارك روث موقفها ولم يكن له أي اتصالٍ بنا بعد ذلك. ولكن لسببٍ ما، بمجرد أن أصبح ديفيد مراهقًا بدأ يثور على روث. وأخبرَها أنه أفريقي، وبدأ يُطلِق على نفسه أوباما. وفي بعض الأحيان كان يتسلَّل من المدرسة لزيارة أبي وباقي أفراد العائلة، وكانت هذه هي الطريقة التي عرفناه بها. وأصبح الأخ المفضَّل للجميع. فقد كان لطيفًا للغاية ومرحًا، وإن كان طائشًا في بعض الأحيان.
حاولت روث أن تُلحِقه بمدرسة داخلية، على أمل أن ذلك سيجعله يستقر. ولكن انتهى الأمر بديفيد هاربًا ولم يرَه أحد لأشهُر. وبالصدفة التقى به روي في مباراة رجبي. كان قذِرَ الهيئة نحيف الجسد يتسوَّل النقود من الغرباء. وعندما رأى روي أخذ يضحك ويتفاخَر بحياته في الشوارع، يبيع الحشيش مع أصدقائه. وقد أخبره روي أن يعود إلى المنزل لكنه رفض؛ لذا فقد اصطحبه إلى شقتِهِ وأرسل لروث يُخبرها أن ابنها بأمانٍ وأنه يمكث عنده. وعندما سمِعَت روث بهذا شعرت بالارتياح لكنها استشاطت غضبًا أيضًا، وترجَّت ديفيد أن يعود، وعندما رفض مرة أخرى قبلت ضمنيًّا الاتفاق مع روي على أملِ أن يُغيِّر ديفيد رأيه في النهاية.»
ارتشفت أوما من كوب الشاي الخاص بها. واستأنفت: «وفي ذلك الوقت تُوفي ديفيد. عندما كان يعيش مع روي. وقد فطر موته قلبَ الجميع، ولا سيما روي. فقد كانا مُقرَّبَين حقًّا. لكن روث لم تفهم ذلك قط. فظنَّت أننا أفسدْنا ديفيد. وسرقْنا ابنها منها. ولا أظن أنها قد سامحتنا قطُّ على ذلك.»
قررتُ أن أتوقَّف عن الكلام عن ديفيد بعد ذلك، ورأيتُ أن تلك الذكريات كانت أليمةً للغاية على أوما. لكن بعد أيامٍ قليلة عُدت أنا وأوما إلى المنزل ووجدنا سيارةً تنتظرنا خارج المبنى، وسلَّمَها السائق الأسمر البشرة — الذي تبرز تفاحة آدم من عنقه بشدَّة — خطابًا.
سألتُها: «ما هذا؟»
فأجابت: «إنها دعوة من روث.» وتابعت: «فقد عاد مارك من أمريكا لقضاء الصيف. وتريد أن تدعونا على الغداء.»
«أتُريدين الذهاب؟»
هزَّت أوما رأسها وظهرت نظرة ازدراء على وجهها. وقالت: «إن روث تعرف أنني هنا منذ نحو ستة أشهر. وهي لا تهتمُّ بي. السبب الوحيد في دعوتها لنا أنها تشعر بفضولٍ تجاهك. وتريد أن تُقارنك بمارك.»
فقلت بهدوء: «أظنُّ أنه ربما يجب أن أذهب.»
نظرت أوما إلى الدعوة مرة أخرى، ثم أعادتها إلى السائق وقالت له شيئًا باللغة السواحيلية. ثم قالت: «سنذهب نحن الاثنَين»، ثم دخلنا إلى الشقة.
كانت روث تعيش في ويستلاندز وهي مقاطعة من المنازل الباهظة يفصل بينها مساحة كبيرة من الأعشاب والحواجز التي تتولى حراسةَ كلٍّ منها نقطة حراسة بها حراس يرتدون زيًّا بُنيًّا موحدًا. كانت السماء تمطر ونحن ذاهبون بالسيارة إلى المنزل، وتُرسِل رذاذًا رقيقًا عبر الأشجار الكبيرة المورِقة. وقد ذكَّرتني تلك البرودة بالشوارع حول بوناهو ومانوا وتنتالوس، وهي الشوارع التي كان يقطن بها بعض زملائي الأثرياء في هاواي. وفكَّرتُ وأنا أُحدِّق من نافذة سيارة أوما في مشاعر الحسد التي كنتُ أشعر بها تجاه أولئك الزملاء كلما دعوني للعبِ في الأفنية الخلفية الواسعة لمنازلهم أو للسباحة في حمَّامات السباحة الخاصة بهم. وإلى جانب ذلك الحسد هناك انطباع مُختلف: إحساس اليأس الهادئ الذي كانت تحويه تلك المنازل الجميلة الكبيرة. وصوت شقيقة أحدِهم تبكي برفقٍ خلف الباب. ومشهد إحدى الأمَّهات وهي تحتسي خلسةً كأسًا من الخمر القوي بعد الظهر. والتعبير على وجه الأب وهو يجلس وحدَه في غرفته، وملامحه المتحفزة وهو يُقلِّب بين مباريات كرة القدم بين الجامعات التي تُعرض في التليفزيون. إنه انطباع بالوحدة الذي من المحتمل ألا يكون صحيحًا، فربما يكون إسقاطًا من داخلي فقط، لكنه في كلتا الحالتَين كان يجعلني أشعر برغبةٍ في الهروب، مثلما فعل ديفيد الذي كان المحيط يفصل بيني وبينه، عائدًا إلى السوق والشوارع المزدحمة، عائدًا إلى الفوضى والضحكات التي تؤدِّي إليها تلك الفوضى، عائدًا إلى نوع الألم الذي يستطيع صَبي أن يفهمه.
وصلْنا إلى أحد المنازل المتواضِعة في المجمع، وأوقفنا السيارة عند مُنحنى طريقٍ دائري. خرجت سيدة بيضاء، لها فكٌّ واسع وشعر بدأ في المشيب، من المنزل لتستقبلنا. وخلفها رجل أسود البشرة في مثل طولي ولون بشرتي، وشعره كثيف يُطلِقه على النمط الأفريقي، ويضع نظارةً لها إطار بارز.
قالت روث: «تفضَّلا، تفضَّلا!» تصافَحْنا نحن الأربعة بجفاء. ودخلنا إلى غرفة معيشة كبيرة حيث كان هناك رجل أسود أصلع مُسنٌّ يرتدي سترة سفاري ويهدهِد صبيًّا صغيرًا على حِجره بقذفِه لأعلى. قالت روث: «هذا زوجي، وهذا جوي أخو مارك الصغير.»
قلتُ وأنا أنحني لأُصافح الطفل: «مرحبًا يا جوي!» كان صبيًّا جميلًا له بشرة بلون العسل وسنتَّاه الأماميَّتان مفقودتان. داعبَتْ روث شَعره الكبير المعقوص، ثم نظرت إلى زوجها وقالت: «ألستُما في طريقكما إلى النادي؟»
نهض الرجل وقال: «نعم، تعالَ يا جوي.» وتابع: «تعالَ يا جوي … كان من اللطيف مُقابلتكما.» نهض الصبيُّ بسرعةٍ وحدق فيَّ وفي أوما بابتسامةٍ مشرقة فضولية حتى التقطه أبوه وحمله مُتجهًا إلى الباب.
قادتنا روث إلى الأريكة وصبَّت لنا عصير الليمون. وقالت: «حسنًا، ها نحن.» وتابعت: «يجب أن أقول إنها كانت مفاجأة حقًّا أن نعرف أنك هنا يا باري. فأخبرتُ مارك أننا يجب أن نرى ما أصبح عليه ابن أوباما الآخر. اسمك أوباما، أليس كذلك؟ ولكن والدتُك تزوَّجَت مرة أخرى. لا أدري لماذا جعلتْك تحتفظ باسمك؟»
ابتسمتُ كما لو أنني لم أفهم السؤال. وقلتُ وأنا ألتفتُ إلى أخي: «مارك، سمعت أنك في بيركلي.»
فصحَّح لي قائلًا: «بل ستانفورد». كان صوته عميقًا، ويتحدَّث بلكنةٍ أمريكية صحيحة. وقال: «أنا في عامي الأخير من دراسة الفيزياء هناك.»
فقالت أوما: «لا بد أنه صعب.»
فهزَّ مارك كتفَيه. وقال: «ليس في الواقع.»
فقالت روث: «لا تكن شديد التواضُع يا عزيزي. الأشياء التي يدرُسها مارك معقدة للغاية وعدد قليل للغاية فقط من الناس يفهمونها حقًّا.» وربَّتت على يد مارك ثم التفتت إليَّ. قالت: «سمعتُ أنك ستلتحِق بجامعة هارفارد يا باري. بالضبط مثل أبيك. لا بد أنك تتمتع بذكائه. ولكن آمُل ألا تكون ورِثتَ عنه بقية صفاته. أنت تعلم أن أوباما كان مجنونًا إلى حدٍّ ما، أليس كذلك؟ واحتساء الكحول جعل الأمور أسوأ. هل قابلتَه قط؟ أعني أوباما؟»
«مرة واحدة. عندما كنتُ في العاشرة من عمري.»
«لقد كنتَ محظوظًا إذن. وعلى الأرجح هذا يُفسِّر السبب وراء نجاحك.»
هكذا مرَّت الساعات التالية وروث تتبادل رواية قصصٍ عن فشل أبي وقصص عن إنجازات مارك. وكانت الأسئلة تُوجَّه إليَّ، تاركةً أوما تتناول بعصبيةٍ وصمت اللازانيا التي قدَّمتْها روث. وأردتُ أن أغادر بمجرد أن تنتهي الوجبة، لكن روث اقترحت أن يُرينا مارك ألبوم العائلة وتُحضِر هي الحلويات.
قال مارك: «أنا واثِق أنهما غير مُهتمَّين بهذا الأمر يا أمي.»
فقالت روث: «إنهما مُهتمَّان بالطبع.» ثم أصبح صوتها بعيدًا بشكلٍ غريب عندما قالت: «إنه يحتوي على صور لأوباما، منذ صغره …»
تبِعنا مارك إلى خزانة الكتب وجذبَ ألبوم صورٍ كبيرًا. وجلسنا معًا على الأريكة نتصفح الصور. شاهدنا صورًا لأوما وروي، ببشرتهما السوداء وأجسادهما النحيلة الطويلة وسيقانهما وعيونهما الكبيرة، يحملان الطفلَين الصغيرَين بحرصٍ بين ذراعَيهم. ثم صور لأبي وروث يُذاكران على شاطئ في مكانٍ ما. وصور للعائلة بأكملها وهي ترتدي ملابس السهرة لقضاء الأمسية في الخارج بالمدينة. كانت جميعها مشاهد سعيدة ومألوفة بصورةٍ غريبة، كما لو أنني كنتُ ألمح عالمًا بديلًا وُجِد وانتهى وأنا غير موجود. أدركتُ أنها كانت انعكاسات للأوهام التي كانت تستقرُّ في نفسي منذ زمنٍ بعيد، أوهام ظلَّت أسرارًا حتى عن نفسي. وهْم أن أبي اصطحبَني أنا وأُمي معه إلى كينيا. وأُمنِية أن يكون الأب والأم والإخوة والأخوات جميعًا في منزلٍ واحد. وفكَّرتُ في نفسي أنني أرى بعينَي ما كان من الممكن أن يحدُث. وقد جعلني إدراك مدى السوء الذي وصلَتْ إليه الأمور والدليل القاسي على النهج الحقيقي الذي سارت عليه الحياة بالفعل حزينًا للغاية، حتى إنني بعد بضع دقائق أبعدتُ ناظرِيَّ.
وفي طريق العودة اعتذرتُ لأوما لأنني وضعتُها في مثل هذا المأزق. لكنها تجاهلت المسألة.
وقالت: «كان من الممكن أن تكون الأمور أسوأ.» وتابعت: «ومع ذلك فإنني أشعر بالأسف تجاه مارك. إنه يبدو وحيدًا للغاية. أتعرف، ليس من السهل أن تكون طفلًا لأبوَين من عِرقَين مختلفَين في كينيا.»
نظرتُ من النافذة، وفكَّرتُ في أُمي وجَدتي وجَدي، ومدى شعوري بالامتنان تجاههم من أجلِ ما كانوا عليه والقصص التي رَوَوْها لي. ثم استدرتُ إلى أوما مرة أخرى وقلت: «إنها لم تتغلب على فراقِه بعد، أليس كذلك؟»
«مَن؟»
«روث. لم تتغلَّب على فكرة فراق أبي.»
فكَّرَتْ أوما لدقيقة. وقالت: «كلَّا يا باراك. لا أظن هذا. مثل بقِيَّتنا.»
•••
في الأسبوع التالي، اتصلتُ بمارك واقترحتُ عليه أن نخرج ونتناول الغداء معًا. وقد بدا مُترددًا في البداية لكنه وافق في النهاية على أن يُقابلني في مطعمٍ هندي في وسط المدينة. كان أكثر ارتياحًا هذه المرة من لقائنا الأول، وألقى بعض الدعابات التي ينتقِد فيها نفسه، وأبدى ملاحظاته عن كاليفورنيا والصراع الأكاديمي الداخلي. وسألتُه ونحن نتناول الطعام ما شعوره عندما عاد لقضاء فترة الصيف.
فقال: «رائع. من اللطيف أن أرى أُمِّي وأبي بالطبع. وجوي أيضًا، إنه طفل رائع.» قطع مارك قطعة من السمبوسة ووضعها في فمه. واستأنف: «أما باقي أجزاء كينيا فلا أشعر بارتباطٍ شديد تجاهها. إنه مجرد بلد أفريقي فقير آخر.»
«ألم تُفكِّر قطُّ في الاستقرار هنا؟»
شرب مارك من مياهه الغازية. وقال: «لا.» وتابع: «أعني لا يُوجَد هنا مجال كبير أمام فيزيائيٍ للعمل في بلد لا يملك فيه المواطن العادي هاتفًا.»
كان يجب أن أتوقَّف في الحديث عند هذا الحد، لكن شيئًا آخر، ربما الثقة بصوت هذا الأخ، أو الشبَه غير الواضح بيننا، مثل النظر إلى مرآة غائمة، جعلني أُريد أن أستمرَّ في الحديث. سألته: «ألم يُراوِدك شعور قط أنك تفتقِر إلى شيء.»
وضع مارك السكين والشوكة لأول مرة في تلك الأمسية ونظر إلى عينيَّ مباشرة.
قال بصراحة: «أنا أفهم ما ترمي إليه.» وتابع: «إنك تظنُّ أنني بشكلٍ ما أقطع جذوري وأشياء من هذا القبيل.» ومسح فمه ووضع المنديل على الطبق. وقال: «حسنًا، معك حق. ففي وقتٍ ما اتخذتُ قرارًا بألَّا أُفكِّر فيمن هو أبي الحقيقي. لقد كان ميتًا في نظري حتى عندما كان لا يزال على قيد الحياة. كنتُ أعرف أنه رجل سِكِّير ولا يهتمُّ بزوجته وأطفاله. وكان هذا كافيًا.»
«أثار جنونك.»
«لم يُثِر جنوني. ولكنه جعلني لا أشعُر تجاهه بأية مشاعر.»
«وهذا لا يُقلِقك؟ أعني ألا تشعُر بشيء؟»
«تجاهه، لا. فهناك أشياء أخرى تُحركني. منها سيمفونيات بتهوفن وقصائد شكسبير. أعلم أن هذا ليس مما ينبغي أن يَهتمَّ به رجل أفريقي. ولكن مَن المفترض أن يخبرني بما أهتمُّ وبما لا أهتم؟ افهمني جيدًا، إنني لا أشعر بالخِزي لأني نِصف كيني. كلُّ ما في الأمر أنني لا أطرح على نفسي الكثير من الأسئلة عما يَعنيه هذا. أسئلة عمن أكون حقًّا.» ثم هزَّ كتفيه. وقال: «لا أعلم. ربما يجب أن أفعل. وأنا أعترف أنه من الممكن إذا نظرتُ بحرصٍ أكبرَ إلى نفسي، فإنني …»
شعرت لوهلة بتردُّد مارك، مثل مُتسلِّق الجبال الذي انزلقَتْ قدمُه. ثم على الفور استعاد رِباطة جأشه ولوَّح للنادل كي يُحضِر ورقةَ الحساب.
وقال: «مَن يدري؟» وتابع: «الشيء المؤكد هو أنني لا أحتاج إلى هذا الضغط. فالحياة قاسية بما يكفي دون كل هذه الأشياء.»
نهضنا لنُغادر، وأصررتُ على دفع الفاتورة. وفي الخارج تبادلنا عناويننا ووعد كِلانا أن يُراسِل الآخر؛ كانت وعودًا زائفةً جعلت قلبي يتألَّم. وعندما عُدتُ إلى المنزل أخبرتُ أوما كيف سار اللقاء. فنظرت بعيدًا للحظة ثم انفجرَتْ في ضحكةٍ قصيرة مريرة.
«ما المضحك؟»
«كنتُ أفكِّر فقط في مدى غرابة الحياة. أتعرف بمجرد أن مات أبي اتصل المحامون بكلِّ مَن قد يكون له حقٌّ في الإرث. وعلى عكس أُمي كان لدى روث جميع المستندات اللازمة لإثبات مَن هو والد مارك. ولهذا فمِن بين جميع أولاد أبي، مارك هو الوحيد الذي لا غبار على حقِّهِ في الميراث.»
ومرةً أخرى ضحكت أوما، فنظرتُ أنا إلى الصورة المعلَّقة على الحائط، وهي الصورة نفسها الموجودة في ألبوم روث، صورة لثلاثة إخوة وأُخت يبتسِمون ابتساماتٍ عذبة أمام عدسة الكاميرا.