الفصل التاسع عشر
استيقظ روي وآبو مصابَين بصداع شديد وظلَّا يومًا آخرَ مع كيزيا في مدينة كندو. وقررتُ أن أقوم برحلة العودة إلى هوم سكويرد — وأنا في حالةٍ صحية أفضل منهما شيئًا ما — بصحبة سيد وبيرنارد بالحافلة، لكنَّه كان قرارًا، سرعان ما ندمتُ عليه. اضطُرِرنا إلى الوقوف في الحافلة طوال الطريق، بالإضافة إلى أننا اضطررنا أيضًا إلى أن نخفض رءوسنا لأن سقف الحافلة مُنخفض. والأسوأ من ذلك أنني نزلتُ من الحافلة وأنا أعاني الإسهال. وكانت معدتي تنقلِب رأسًا على عقب فجأةً مع كل مطبٍّ في الطريق، وتؤلمني رأسي ألمًا عنيفًا مع كل انعطافةٍ هوجاء. ولذا فإنني، عندما رأتني الجَدة وأوما وقت وصولنا، مشيتُ سريعًا بحذرٍ ولوَّحت إليهما بشكلٍ مُقتضَب قبل أن أنطلق بأقصى سرعة عبر الفناء الخلفي للمنزل، مرورًا ببقرةٍ شاردة، إلى المرحاض الخارجي.
وبعد ٢٠ دقيقة عُدت، أخذت أفتح عينَيَّ وأغمضهما لا إراديًّا كسجينٍ يخرج من زنزانته ويُقابله ضوء الشمس القوي. كانت السيدات جالساتٍ فوق حصير من القش يَستظللنَ بظلِّ شجرة مانجو؛ الجَدة تضفر شعر أوما، وتضفر زيتوني شعر ابنة الجيران.
قالت أوما محاولةً ألا تبتسِم: «هل قضيتَ وقتًا طيبًا؟»
قلت لها: «رائع.» وجلستُ بجانبهنَّ وشاهدتُ ما يفعلنَ إلى أن خرجَت سيدة عجوز نحيفة من المنزل وجلست بجانب الجَدة. كانت سيدةً في بداية السبعينيات من عمرها، لكنها ترتدي سترة قرنفلية اللون مُبهجة، وثنت ساقَيها إلى جانبها كأنها تلميذة خجولة. دقَّقت هذه السيدة النظر إليَّ وتحدَّثت مع أوما بلغةِ قبيلة لوو.
«إنها تقول إنك لا تبدو في حالةٍ صحية طيبة.»
ابتسمَت لي السيدة العجوز وبات من الواضح فقدانها سِنَّتين سُفليتَين من صفِّ أسنانها الأمامي.
استطردَتْ أوما قائلةً: «هذه أخت جَدنا، واسمها دورسيلا.» وأضافت: «إنها أصغر أولاد جَدنا الأكبر أوباما. إنها تعيش في قريةٍ أخرى لكنها عندما سمعت … أوه! إنك لمحظوظ يا باراك لعدم تضفير شعرك واضطرارك إلى حلِّه. ماذا كنت أقول؟ نعم تذكَّرت … تقول دورسيلا إنها عندما سمعَت أننا حضرنا قطعَت كلَّ هذه المسافة لترانا. وهي تحمل تحيةَ كل أهل قريتها لنا.»
صافحتُ دورسيلا وذكرتُ لها أنني قابلتُ أخاها الأكبر في كندو باي. فأومأتْ برأسِها وتحدثَت مرةً أخرى.
ترجمَت لي أوما ما قالته وأخبرتني: «إنها تقول إن أخاها عجوز جدًّا.» وتابعت: «وإنه عندما كان أصغر سنًّا كان يُشبه جَدنا. وإنها في بعض الأحيان لم يكن باستطاعتها حتى التمييز بينهما.»
أومأتُ لها وأخرجتُ قدَّاحتي. وبمجرد أن خرج اللهب منها صاحت الجَدة عمة أبينا وتحدَّثَت سريعًا مع أوما.
«إنها تريد أن تعرف من أين ينبعث اللهب.»
أعطيتُ القداحة لدورسيلا وأوضحتُ لها كيفية عملها وهي لا تزال تتحدَّث. وشرحَت لي أوما قائلة: «إنها تقول إن الأشياء تتغيَّر سريعًا وإن هذا يُربكها كثيرًا. وتقول إنها عندما رأت التليفزيون لأول مرة اعتقدَت أن الناس الموجودين داخله بوسعهم رؤيتها كما تراهم. وجعلها هذا تعتقد أنهم غير مُهذَّبين لأنها عندما تتحدَّث إليهم لا يردُّون عليها إطلاقًا.»
ضحكَت دورسيلا ضحكةً خافتة بدعابةٍ واتجهت زيتوني إلى كوخ إعداد الطعام. وبعد دقائق خرجت زيتوني بكوبٍ في يدِها. سألتُها عن سيد وبيرنارد.
قالت وهي تعطيني الكوب: «إنهما نائمان.» وتابعَت: «اشرب هذا.»
شممتُ المشروب الأخضر المتصاعِد منه البخار. كانت تفوح منه رائحة عفنة.
«ما هذا؟»
«إنه مشروب مُستخلَص من نبات ينمو هنا. ثِق بي … سيمنع الإسهال في لمح البصر.»
ارتشفتُ رشفةً في البداية بتردُّد. وكان مذاق المشروب سيئًا مثل شكله، لكنَّ زيتوني ظلَّتْ تُراقبني إلى أن تجرَّعتُ آخر قطرة. وقالت: «إن هذا المشروب من وصفات جَدك.» وتابعت: «لقد أخبرتُك من قبل أنه كان يعالج الناس بالأعشاب.»
أخذتُ نفسًا من سيجارتي واستدرتُ تجاه أوما. وقلتُ لها: «اطلُبي من الجَدة أن تُخبرني مزيدًا من الأشياء عنه.» وتابعتُ: «أقصد عن جَدنا. إن روي يقول إنه نشأ بالفعل في كندو وبعدها انتقل إلى أليجو بمفرده.»
أومأت الجَدة ردًّا على ترجمة أوما لمطلبي. وقلتُ لها: «هل تعرف لماذا غادر كندو؟»
هزَّت الجَدة كتفَيها. وقالت أوما: «إنها تقول إن أهله في الأصل ينتمون لهذا المكان.»
طلبتُ من الجَدة أن تسرد القصة من بدايتها. كيف جاء جَدنا الأكبر أوباما ليعيش في كندو؟ وماذا كان يعمل جَدنا؟ ولماذا هجرته جَدتي؟ وعندما بدأت تُجيب عن أسئلتي شعرتُ بأن الرياح هدأت ثم خبت كليةً بعد ذلك. وعندئذٍ عبرت مجموعة من السُّحب البعيدة فوق التلال. وأسفل الظل الظليل لشجرة المانجو — كانت الأيادي تضفر الشعور المتجعدة السوداء في صفوفٍ متساوية — سمعتُ كل أصواتنا تنسجم معًا؛ ثلاثة أجيال تتردَّد أصواتهم بانسيابية بعضهم مع بعض كتيارات نهرٍ يجري ببطء، وكانت أسئلتي شبيهةً بالصخور المعترضة لتيارات المياه، والأحداث التي تخلَّلَتِ الذكريات تفصل هذه التيارات بعضها عن بعض لكنَّ الأصوات دائمًا تعود إلى مجراها الوحيد لتسرد قصةً واحدة …
في البدء كان ميويرو. ولا يُعرف مَن كان قبله. أنجب ميويرو سيجوما، وأنجب سيجوما أويني، وأنجب أويني كيسودهي، وأنجب كيسودهي أوجيلو، وأنجب أوجيلو أوتوندي، وأنجب أوتوندي أوبونجو، وأنجب أوبونجو أوكوث، وأنجب أوكوث أوبيُّو. أما عن السيدات اللاتي أنجبن كل هؤلاء، فإن أسماءهنَّ صارت في طي النسيان، وكان هذا معهودًا في أهلنا.
عاش أوكوث في أليجو. لكن قبل ذلك كانت العائلات تقطع مسافاتٍ بعيدة من الجهة المعروفة الآن بأوغندا إلى أليجو، ومثلنا مثل قبيلة الماساي كنا نهاجر بحثًا عن الماء والمراعي لرعي قطعان الماشية. استقرَّ الناس في أليجو وبدءوا يزرعون المحاصيل. واستقرَّ آخرون من قبيلة لوو بجانب البحيرة وتعلَّموا صيد السمك. وفي الحقيقة كانت هناك قبائل أخرى تتحدَّث بلُغاتِ البانتو تعيش بالفعل في أليجو عندما انتقلت قبيلة لوو إلى المكان، ومِن ثَمَّ نشأت حروب هائلة بين القبائل. وكان جَدنا الأكبر أويني مشهورًا بأنه مُحارب عظيم وقائد لشعبه. لذا ساعد في هزيمة جيوش المجموعات العِرقية المتحدِّثة بلغات البانتو إلا أنه سُمح لهم باستمرار العيش في أليجو والزواج من قبيلة لوو، بالإضافة إلى أنهم علَّمونا أشياءَ كثيرة عن الزراعة وما يتعلَّق بالأرض الجديدة التي وطئتها أقدامنا.
بمجرد أن بدأ الناس يستقرون ويزرعون الأرض اكتظَّت أليجو بالسكان. ولم يكن أوبيُّو — ابن أوكوث — أكبر أبنائه، وربما يكون هذا هو سبب قراره الانتقال إلى مدينة كندو باي. وعندما انتقل إلى هناك لم يكن يملك أرضًا، لكن في تقاليدنا كان بوسع أيِّ شخصٍ وضْع يدِه على أية أراضٍ غير مُستخدَمة؛ فالأراضي التي لم يكن يستخدمها أحد تعود ملكيتها إلى القبيلة؛ لذا لم تكن هناك أية مشكلة فيما فعله أوبيُّو. فعمل في مجمعات سكنية يملكها الغير ووضع يده على الأرض ليُقيم عليها مزرعته. إلا أنه مات قبل أن تُقبِل عليه الدنيا، مات في ريعان شبابه تاركًا زوجتَين وعددًا من الأطفال. تزوَّج أخو أوبيُّو إحدى زوجتَيه طبقًا للأعراف المتبعة عندئذٍ فأصبحت زوجة أخيه زوجته وأطفالها أطفاله. لكنَّ الزوجة الأخرى ماتت أيضًا وأصبح ابنها الأكبر — أوباما — يتيمًا وهو لا يزال صبيًّا. عاش أوباما أيضًا مع عمِّه لكنَّ الحالة المادية للعائلة كانت مُتعسرة لذا فعندما كبِر أوباما بدأ يعمل عند الآخرين كما فعل أبوه من قبله.
كانت العائلة التي عمل لدَيها ثريةً وتملك ماشية كثيرة. ومع ذلك فإنهم أُعجبوا بأوباما لأنه كان مقدامًا ومزارعًا ماهرًا للغاية. وعندما تقدَّم إليهم للزواج من أكبر بناتهم وافقوا وقدَّم الأعمام في هذه العائلة المهر المطلوب. وعندما ماتت وافقوا على أن يتزوج أوباما الابنة الأصغر منها واسمها «نياوكي». فأصبح لأوباما في النهاية أربع زوجات أنجبنَ له أبناء كثيرين. امتلك أوباما قطعةً من الأرض وأصبح ناجحًا وثريًّا وأصبح يملك مجمعًا سكنيًّا فسيحًا والكثير من الماشية والمَعْز. وبفضل كِياسته وتحمُّله المسئولية أصبح شيخًا في القبيلة في مدينة كندو يطلب منه الكثيرون النصيحة.
أما جَدك أونيانجو فإنه كان الخامس في ترتيب الأبناء الذين أنجبتهم نياوكي. وكانت دورسيلا التي تجلس معنا الآن أصغر أبناء آخر زوجات أوباما.
كان ذلك قبل أن يأتي البِيض. وكان لكل عائلة المجمع السكني الخاص بها، لكنَّ العائلات جميعها كانت تعيش طبقًا لقوانين شيوخ القبائل. الرجال يملكون أكواخًا خاصة بهم وهم جميعًا مسئولون عن تنظيف أراضيهم وحرثها، بالإضافة إلى حماية الماشية من الحيوانات البرية وغارات القبائل الأخرى. أما الزوجات فلكل منهنَّ الأرض الزراعية الخاصة بها التي تحرثها هي وبناتها فقط. تطهو الزوجة الطعام لزوجها وتحضر المياه من مصادرها وتحافظ على الأكواخ ونظافتها باستمرار. ويتحكم شيوخ القبائل في المزروعات والمحاصيل كلها. وينظِّمون العائلات في التناوب على عملهم فتساعد كل عائلة الأخرى في فعْل هذه الأشياء، بالإضافة إلى أنهم يوزِّعون الأطعمة على الأرامل أو المبتلين في الأوقات العصيبة، ويوفِّرون الماشية لمن لا يملكها لتقديمها مهرًا حتى يستطيعوا الزواج، وحل كل المشكلات. كانت كلمة هؤلاء الشيوخ قانونًا يُتَّبع بحزم، ومَن يعصِ أوامرهم يُغادر المكان ويبدأ من جديد في قرية أخرى.
لم يكن الأبناء يذهبون إلى المدرسة لكنهم كانوا يتعلمون بجانب آبائهم. وتُصاحب الفتيات أمهاتهنَّ ويتعلمنَ طحن الذرة البيضاء لعمل العصيدة، وزراعة الخضراوات، واستخدام الطين لبناء الأكواخ. أما عن الصبية فيتعلمون من آبائهم رعي الماشية واستخدام منجل البانجا والرمي بالرمح. وعندما تموت إحدى الأمهات تهتمُّ أية أم أخرى بطفلها وترعاه وتُرضِعه تمامًا كأحد أبنائها. وليلًا تأكل الفتيات مع الأم ويَتبع الأولاد الأبَ إلى كوخه ويستمعون إلى القصص المختلفة ويتعلمون تقاليد أهلهم. وفي بعض الأحيان يحضر عازف القيثار فيتجمَّع أهل القرية بأكملها للاستماع إلى أغانيه. كان يُنشِد إنجازات الماضي ويحكي عن المحاربين العظماء وشيوخ القبائل الحكماء. هذا بالإضافة إلى الإشادة بالمزارعين الماهرين أو السيدات الجميلات وتوبيخ الكسالى أو قساة القلوب. وتكشف هذه الأغاني عن إسهامات الجميع في القرية — الصالح منهم والطالح — وبهذه الطريقة ظلَّت تقاليد الأسلاف باقيةً في نفوس كلِّ مَن سمعها. وعندما يرحل الأطفال والسيدات من هذه التجمُّعات يجلس الرجال في القرية معًا لتقرير شئون القرية.
كان جَدك أونيانجو غريبَ الأطوار منذ صباه. ويُعرف عنه أنه لا يطيق البقاء في مكانٍ واحد. فيَهيم على وجهه وحيدًا لأيامٍ كثيرة، وعندما يعود لم يكن يذكر أين كان. وفي جميع الأحوال كان شخصًا شديد الجِدية فلا يضحك إطلاقًا أو يلعب مع الأطفال الآخرين، ولم يمزح قط. لكنه في الواقع كان دائم الفضول محاولًا معرفةَ أمور الآخرين، وهذا هو سبب تعلُّمه المداواة بالأعشاب. وفي هذا الصدد، ينبغي لك أن تعرف أن المداوي بالأعشاب يختلف عن «الشامان» الذي كان يُطلِق عليه البِيض «الطبيب الساحر». فالشامان يُلقي التعاويذ ويتحدَّث مع العالم الروحي. والمداوي بالأعشاب يعرف النباتات المتنوعة التي تشفي المرضى من أمراضٍ مُعينة أو من الجروح، علاوةً على كيفية صُنْع خليطٍ مُعيَّن يشفي الجروح. كان جَدك في صباه يجلس في كوخ المداوي بالأعشاب في قريته يُشاهده ويستمع إليه بحذرٍ ويلعب مع الأطفال أقرانه، وبهذه الطريقة اكتسب المعرفة.
عندما كان جَدك لا يزال صبيًّا بدأنا نسمع أن البِيض حضروا إلى مدينة كيزيمو. وكان يُقال إن هؤلاء البِيض بشرتهم ناعمة كبشرة الأطفال، وإنهم حضروا على ظهر سفينةٍ محدِثة ضجة شديدة كالرعد بسرعة بالغة وبها أعمدةٌ تعلوها النيران. وقبل أن يحدُث ذلك لم يكن أيُّ شخصٍ في قريتنا رأى أيًّا من البِيض ما عدا التجار العرب الذين كانوا بين الفينة والأخرى يأتون لبيع السكر والقماش. لكنَّ حدوث هذا كان نادرًا لأن أهلنا لم يَستخدِموا الكثير من السكر، ولم نكن نرتدي إلا جلود الماعز نستر بها عوراتنا. عندما سمع شيوخ القبائل هذه القصص تباحثوا معًا في الأمر ونصحوا أهلها بأن يظلوا بعيدًا عن كيزيمو إلى أن يُعرف البِيض وتُفهم شخصياتهم.
على الرغم من هذا التحذير فإن أونيانجو كان فضوليًّا وقرَّر أنه لا بد أن يرى هؤلاء البِيض بنفسه. فاختفى يومًا ما ولم يعرف أحد إلى أين ذهب. بعد ذلك بأشهرٍ كثيرة، بينما أبناء أوباما الآخرون يعملون في الأرض عاد أونيانجو إلى القرية وهو يرتدي قميصًا وبنطلونًا مثل البِيض، وحذاءً يُغطي قدمَيه. فُزع الأطفال لرؤيته ولم يستطِع إخوته تفسير هذا التغيير. لذا استدعوا أوباما الذي خرج من كوخه، وتجمَّعت العائلة وحملق الجميع في مظهر أونيانجو الغريب.
سأله أوباما: «ماذا حدث لك؟» وتابع: «ولماذا ترتدي هذه الملابس الغريبة؟» لم ينبس أونيانجو ببنتِ شفة، فقرَّر أوباما أن أونيانجو ارتدى هذا البنطلون لإخفاء أنه أُجريت له عملية ختان وهو الأمر الذي يتناقض مع تقاليد قبيلة لوو. وظنَّ أن قميص أونيانجو يغطي إصابته بطفح جلدي أو التهابات. بعد ذلك استدار أوباما إلى أبنائه الآخرين وقال لهم: «لا تقتربوا من أخيكم، إنه نجس.» وعاد إلى كوخه وضحك الآخرون على أونيانجو وتجنَّبوه، وهذا هو سبب عودة أونيانجو إلى كيزيمو وبقائه منفصلًا عن أبيه لبقية حياته.
لم يُدرِك أحد أن البِيض عقدوا العزم على البقاء في المدينة. وظننا أنهم لم يجيئوا إلا من أجل تداول بضائعهم. وسرعان ما أُعجب الناس ببعض عاداتهم، مثل احتساء الشاي. وقد اكتشفنا أننا عند احتسائه نحتاج بالطبع إلى السكر وغلايات الشاي والأكواب. وكنا نحصل على كل هذه الأشياء مقابل جلود الحيوانات واللحوم والخضراوات. بعد ذلك تعلَّمنا التعامُل باستخدام عملات البِيض. لكنَّ مثل هذه الأشياء لم تكن تؤثِّر علينا تأثيرًا كبيرًا لأن البِيض — مثلهم مثل العرب — ظل عددهم قليلًا واعتقدْنا أنهم في النهاية سيعودون إلى بلادهم. غير أن بعض البِيض استقرُّوا في كيزيمو، وجعلوا لأنفسهم رسالةً آمنوا بها. وتحدثوا عن ربٍّ وصفوه بأنه قدير، وتجاهلوا معظم الناس واعتبروا كلامهم هراءً، حتى عندما ظهر البِيض وفي أيديهم البنادق، لم يقاوِم أحد لأن حياتنا لم تكن قد تأثَّرت بعدُ بالموت باستخدام هذه الأسلحة. وظنَّ كثير منَّا أن البنادق مجرد أداة تقليب رائعة للأوجالي.
بدأتِ الأحوال تتغيَّر بأول حروب شنَّها البِيض. واستُجلِب عددٌ أكبرُ من البنادق وقدم رجل أبيض أطلق على نفسه «حاكم المقاطعة» وأطلقْنا نحن عليه «بوانا أوجالو» الذي يعني «الطاغية». فرض هذا الرجل ضريبةً على الأكواخ لا بد من دفعها لتدخُل المبالغ في حيازة البِيض. وهذا هو ما أجبر رجالًا كثيرين على العمل بالأجرة، إلى جانب أنه طبَّق نظام التجنيد الإلزامي غير المشروط على الكثير من رجالنا للانضمام إلى جيشه من أجل حمل المؤن وبناء طريقٍ يسمح بمرور السيارات. وقد استطاع هذا الرجل أن يجعل أفراد قبيلة لوو الذين ارتدَوا ملابس شبيهة بملابس البِيض يلتفُّون حوله كنوابٍ عنه وجامعي ضرائب. وعندئذٍ علِمنا أنه أصبح لدينا زعماء، مع أن هؤلاء الرجال لم يكونوا مُنتمِين إلى مجلس شيوخ القبيلة. لقد قاومنا كل هذه الأشياء وبدأ رجال كثيرون يحاربون البِيض. لكن مَن يفعل ذلك يئول مصيره في النهاية إلى الضرب أو القتل. أما الذين لم يتمكنوا من دفع الضرائب فكان جزاؤهم حرْق أكواخهم أمام أعيُنهم. فهربت بعض العائلات إلى مكانٍ أبعد في الريف لبناء قرًى جديدة. لكنَّ معظم الناس ظلُّوا في كيزيمو وتعلموا كيفية التعايُش مع هذا الوضع الجديد مع أننا أدركْنا جميعًا أنه كان من الغباء تجاهل قدوم البِيض.
في غضون ذلك عمل جَدك لدى أحد الرجال البِيض. ولم يستطِع التحدُّث بالإنجليزية أو السواحيلية إلا قليلٌ لأن الرجال لم يُفضلوا إرسال أبنائهم إلى مدارس البِيض لتلقِّي التعليم وفضَّلوا بدلًا من ذلك إبقاءهم معهم ليعملوا في الأرض. لكنَّ أونيانجو تعلَّم القراءة والكتابة وفهم النظام الذي يتبعه البِيض نظام السجلَّات الورقية وتسجيل ملكية الأراضي. وهذا هو ما جعله ذا قيمةٍ للرجل الأبيض الذي عمل لدَيه، وخلال الحرب عُيِّن مسئولًا عن فنيي إصلاح الطرق. وفي نهاية الأمر أُرسِل إلى تنجانيقا حيث ظل سنواتٍ كثيرة. وعندما عاد امتلك أرضًا في كندو لكنها كانت بعيدةً عن المجمع السكني لوالده، وكان نادرًا ما يتحدَّث مع إخوته. وفي الواقع لم يبنِ أونيانجو كوخًا مناسبًا لنفسه بل عاش في خيمةٍ ولم يكن الناس قد رأوا شيئًا كهذا من قبل، فاعتقدوا أنه مجنون. وبعد أن أعلن ملكيته للأرض سافر إلى نيروبي حيث بدأ العمل في منزل أحد البِيض.
في غضون ذلك لم تستطِع سوى قلة من الأفارقة ركوب القطار؛ لذا رحل أونيانجو إلى نيروبي مشيًا على الأقدام طوال الطريق. واستغرقت هذه الرحلة أكثرَ من أسبوعَين. وفيما بعدُ حكى لنا مغامراته فيها. فكثيرًا ما طارد النمور باستخدام مِنْجل البانجا. وفي ذات مرة هرب من جاموسٍ غاضب يُطارده وتسلَّق إحدى الأشجار واضطُر إلى النوم فوقها يومَين. وفي مرةٍ أخرى وجد طبلةً في أحد الممرات في الغابة وعندما فتحها خرج منها ثعبان مرَّ من بين قدمَيه ومضى في طريقه بين الشجيرات. إلا أنه لم يُصَب بأذًى، وفي نهاية المطاف وصل إلى نيروبي لبدء العمل في منزل رجلٍ أبيض.
لم يكن أونيانجو الوحيد الذي رحل إلى المدينة. ذلك لأن أفارقة كثيرين بدءوا يعملون بالأجرة بعد الحرب خاصةً هؤلاء الذين جُنِّدوا تجنيدًا إلزاميًّا أو عاشوا بالقُرب من المدن أو آمنوا برسالة البِيض. أُجبر أفراد كثيرون في أثناء الحرب وبعدَها مباشرةً على الرحيل لأنه تمخَّض عن الحرب بعد انتهائها المجاعات وانتشار الأمراض واستيطان أعدادٍ كبيرة من البِيض الذين سُمِحَ لهم بمصادرة أفضل الأراضي على الإطلاق.
لاحظ أفراد قبيلة كيكويو هذه التغيرات أكثرَ من غيرهم لأنهم يعيشون في الأراضي الجبلية حول نيروبي حيث استوطن البِيض بكثافةٍ عالية. لكنَّ قبيلة لوو تأثَّرت أيضًا بحكم البِيض. وأُلزم الجميع بتسجيل أسمائهم في الإدارة الاستعمارية، وزادت الضرائب المفروضة على الأكواخ بمعدلٍ ثابت. وهذا هو ما دفع عددًا أكبرَ من الرجال إلى العمل مقابل الحصول على أجرةٍ في مزارع البِيض الكبيرة. وفي قريتنا أصبحت عائلات أكثر ترتدي ملابسَ البِيض ووافق عددٌ أكبر من الآباء على إرسال أبنائهم إلى إحدى مدارس الإرساليات المسيحية. وبالطبع لم يستطِع أحد فعْل الأشياء التي كان البِيض يفعلونها. حتى مَن التحقوا بالمدرسة عجزوا عن ذلك. واقتصر امتلاك أراضٍ بعَينها على البِيض الذين احتكروا العمل في أنشطةٍ تجارية خاصة. أما عن المشروعات الأخرى فعمل بها الهندوس والعرب طبقًا لأحكام القانون.
حاول البعض الاعتراض على هذه السياسات وتقديم الالتماسات والقيام بالمظاهرات. لكنَّ عددهم كان قليلًا ومعظم الناس كافحوا من أجل البقاء على قيد الحياة. أما الأفارقة الذين لم يعملوا بالأجرة فقد ظلوا في قُراهم محاوِلين الحفاظَ على التقاليد والعادات القديمة. لكن ردود الفعل اختلفت في القرى أيضًا. وأصبحت الأراضي مكتظةً بالناس، وفي ظل النظم الجديدة لملكية الأراضي لم يَعُد هناك أية فرصة لامتلاك الأبناء الأراضي الخاصة بهم، لأن كل شيءٍ في حيازة شخصٍ آخر. هذا في حين قلَّ احترام التقاليد ورأى الشباب أن الشيوخ لا يتمتَّعون بأيةِ سلطةٍ حقيقية. والجِعَة التي كانت تُصنع من قبل باستخدام عسل النحل والتي كان الرجال يشربونها بكمياتٍ قليلة أصبحت تأتيهم الآن في زجاجاتٍ وأدمنَها الكثيرون. كما بدأ الكثير منا يُجرِّب حياة البِيض وقرَّرْنا على إثر ذلك أن حياتنا عديمة القيمة مقارنةً بحياتهم.
حقَّق جَدك النجاحَ بهذه المعايير. وفي عمله في نيروبي تعلَّم من وظيفته كيفية إعداد طعام البِيض وترتيب منازلهم. ولهذا السبب فضَّله أصحاب الأعمال فعمل في ممتلكات بعض أكثر البِيض نفوذًا لدرجةِ أنه عمل لدى لورد ديلامير. كان من أكبر ملاك الأراضي في كينيا. ادَّخر أونيانجو أُجرته التي كان يتقاضاها من عمله واشترى بها أرضًا وماشية في كندو. وعلى هذه الأرض بنى كوخًا لنفسه في النهاية. لكنَّ الأسلوب الذي حافظ به على كوخه اختلف عن أساليب الناس الآخرين. فكان نظيفًا للغاية وأصرَّ على أن يُنظِّف الناس أقدامَهم أو يخلعوا أحذيتهم قبل الدخول. وكان يأكل وجباته كافةً جالسًا على كرسي وطاولة بالشوكة والسكين أسفل ناموسية. ولا يلمس الطعام ما لم يُغسَل بإتقانٍ ويُغطَّى بمجرد طهوه. وكان يستحمُّ باستمرارٍ ويغسل ملابسه كل ليلة. وإلى أن أدركته المنية استمرَّ على هذا النحو، نظيفًا جدًّا ومُهتمًّا بالصحة، علاوةً على أنه كان يغضب إذا ما وضع أحد أي شيءٍ في غير مكانه أو نظَّف شيئًا بغير إتقان.
علاوةً على كل هذا، كان حازمًا جدًّا فيما يتعلق بممتلكاته. إذا طلبتَ منه شيئًا لم يكن يبخل إطلاقًا بإعطائك إيَّاه — مثل طعامه وأمواله حتى ملابسه. لكن إن لمستَ شيئًا يخصُّه دون الاستئذان يغضب غضبًا عارمًا. حتى بعدئذٍ بعد أن وُلد أبناؤه كان يُخبرهم دائمًا بألا يقتربوا من ممتلكات الغير.
اعتقد أهل كندو أن عاداته غريبة. كانوا يزورونه لأنه كان كريمًا في تقديمه الطعام الذي لا ينقطع أبدًا عن المنزل. كانوا فيما بينهم يستهزئون به لأنه لم يكن مُتزوجًا ولم يكن لدَيه أطفال. وربما يكون أونيانجو قد سمع هذا الحديث لأنه سرعان ما أدرك أنه ينبغي أن يتزوج. لكنَّ مشكلته تمثَّلت في عدم وجود امرأة باستطاعتها القيام بالواجبات المنزلية بالطريقة التي يتوقَّعها. ومع أنه دفع مهر فتياتٍ كثيرات فإنه كان يضربهن بقسوة كلما رآهنَّ كسالى أو كسرنَ طبقًا. وكان من المعتاد أن يضرب الرجال في قبيلة لوو زوجاتهم إذا ما تصرفنَ بطريقةٍ لا تليق، لكنَّ أفراد القبيلة اعتبروا سلوك أونيانجو قاسيًا، وفي النهاية فرَّت السيدات اللائي اتخذهنَّ لنفسه إلى آبائهنَّ. وبهذه الطريقة أضاع جَدك ماشيةً كثيرة لأن كبرياءه منعه من المطالبة باستعادة المهر الذي دفعه.
في نهاية الأمر عثر أونيانجو على زوجةٍ استطاعت العيش معه. كان اسمها «حليمة». لكن أحدًا لا يعرف كيف كان شعورها تجاه جَدك مع أنها كانت هادئة ومُهذبة، والأهم من ذلك أنها استطاعت تحقيق المعايير العالية لإدارة المنزل التي وضعَها جَدك. بنى جَدك لها كوخًا في كندو حيث قضت معظم أوقاتها. وبين الفينة والأخرى يأتي بها إلى نيروبي لتظلَّ في المنزل حيث يعمل. وبعد مرور سنواتٍ اكتشف أن حليمة لا تستطيع الإنجاب. وهذا سببٌ كافٍ للطلاق فيما بين أفراد قبيلة لوو؛ يُرسِل الرجل زوجته العاقر إلى منزل أصهاره ويُطالب باستعادة المهر. مع هذا فإن جَدك فضَّل عدم الاستغناء عن حليمة وعامَلَها معاملةً حسنة.
ومع ذلك شعرت حليمة بالوحدة لأن جَدك يعمل طوال الوقت وليس لدَيه وقت للجلوس مع الأصدقاء أو الاستمتاع بحياته. ولا يحتسي الخمر مع الآخرين ولا يُدخِّن. ومصدر سعادته الوحيد الذَّهابُ إلى قاعات الرقص في نيروبي مرةً شهريًّا لأنه يحب الرقص. ذلك مع أنه لم يكن راقصًا ماهرًا؛ وكان عنيفًا ويصطدم بالآخرين ويدوس على أقدامهم. لكنَّ أحدًا لم يقُل شيئًا بسبب ذلك فهم يعرفون أونيانجو وحِدة طباعه. وفي إحدى الليالي شكا رجل ثمِلٌ من أسلوب أونيانجو المفتقِر إلى الذوق. وتحدَّث بأسلوبٍ فظٍّ وقال لجَدك: «لقد كبرتَ في السن يا أونيانجو. ولديك ماشية كثيرة وزوجة وليس لدَيك أطفال. اصدُقني القول: ألستَ رجلًا؟»
سمِع الناس هذه المحادثة وبدءوا يضحكون وضرب أونيانجو هذا الرجل ضربًا مبرحًا. لكنَّ كلمات الرجل الثمِل لا بد أنها أثَّرت في نفس جَدك لأنه في الشهر نفسه شرع في البحث عن زوجة أخرى. فعاد إلى كندو وسأل عن كل السيدات في القرية. وفي النهاية عقد العزم على الزواج من شابة اسمها «آكومو» أُعجِب الجميع بها لجمالها. لكن أباها قدَّم وعدًا بالزواج لرجلٍ آخر أعطاه ستة رءوس من الماشية مهرًا لها ووعد بأن يُعطيه ستة أخرى فيما بعد. ولأن أونيانجو يعرف والد الفتاة فإنه أقنعه بأن يُعيد المواشي الستة له وأعطاه ١٥ في الحال. وفي اليوم التالي أمسك أصدقاء جَدك بآكومو وهي تدخل الغابة وأخذوها إلى كوخ أونيانجو.»
جاء الصبي جودفري بطستٍ صغير وغسلْنا أيدِيَنا لتناول الغداء. ووقفَتْ أوما لتفرد قامتها وكان نصف شعرها لم يُحل بعدُ لكنني رأيتُ على وجهها نظرة انزعاج. قالت شيئًا لدورسيلا والجَدة وردَّ عليها الاثنتان ردًّا طويلًا.
قالت لي أوما وهي تغرف اللحم بالملعقة في طبقها: «كنتُ أسألهما هل ضاجع جَدنا زوجته آكومو بالعنف.»
«ماذا قالتا؟»
«إنهما تقولان إن هذا العنف كان من تقاليد قبيلة لوو. وطبقًا لهذه التقاليد فإن السيدة بمجرد أن يدفع الرجل المهر لا بد ألا تُظهِر أنها توَّاقة جدًّا له. لذا فإنها تتظاهر بأنها لا تُريده، من ثم فإن أصدقاء الرجل لا بد من أن يمسكوا بها ويُعيدوها إلى كوخه. وبعد هذه المراسم فقط يُتمِّمون إجراءات الزواج الصحيحة.» أخذت أوما قضمةً صغيرة من طعامها. وأضافت: «لقد قلتُ لهما إنه في هذه الحالة قد لا يكون ما تفعله بعض السيدات تظاهرًا.»
غمست زيتوني الأوجالي في اليخني. وقالت: «ليس الأمر على هذه الدرجة من السوء يا أوما. ولا تهرُب الفتاة إلا إذا أساء الزوج التصرُّف معها.»
«ولكن كيف سيكون الحال إذا اختار الأب زوجًا آخرَ لها؟ أخبريني ماذا يحدث إذا رفضت امرأة الزواج من رجلٍ اختاره أبوها؟»
هزَّت زيتوني كتفَيها. وقالت: «إنها تجلب العار لها ولعائلتها.»
استدارت أوما للجَدة وقالت: «أترين؟» وأيًّا كان ما قالته الجَدة ردًّا عليها، فإنه جعل أوما تضرب على ذراع الجَدة على سبيل المزاح.
«سألتُها هل كان الرجل يجبِر الفتاة على أن تضاجعه ليلة الإمساك بها وأخبرتني أنه لم يكن أحد يعرف ما يحدث في كوخ الرجل. لكنها سألتني كيف يمكن أن يعرف الرجل مدى رغبته في احتساء طبق الشوربة كله إذا لم يتذوق بعضًا منه في البداية.»
سألتُ الجَدة عن عمرها عندما تزوَّجت جَدنا. وفي الواقع أسعدها هذا السؤال كثيرًا حيث إنها كرَّرتْه إلى دورسيلا التي قهقهت على إثره وضربت الجَدة بمرح على ساقها.
قالت أوما: «لقد أخبرتُ دورسيلا أنك أردتَ معرفة متى عاشرها أونيانجو.»
غمزت لي الجَدة بعَينها ثم أخبرتنا أن عمرها كان ١٦ عامًا عندما تزوجَت وقالت إن جَدنا كان صديقًا لأبيها. بعدئذٍ سألتُها هل ضايقها هذا الأمر لكنها هزَّت رأسها بالنفي.
«إنها تقول كان من الشائع الزواج من رجل عجوز.» وتابعت: «تقول أيضًا إن الزواج وقتئذٍ كان أمرًا يخصُّ أناسًا بخلاف الزوجَين. ذلك لأنه يجمع العائلات معًا ويؤثِّر على القرية بأكملها. هذا بالإضافة إلى أن الزوجة لم تكن تشكو أو تُفكِّر في الحب. وإن لم تتعلم المرأة أن تُحب زوجها فإنها تتعلم طاعته.»
أخذت الجَدة وأوما تتحدثان كثيرًا بعد ذلك، وقالت الجَدة شيئًا أثار ضحكات الآخرين. أضحك الآخرين جميعًا ما عدا أوما التي نهضت من مكانها وبدأت ترصُّ الأطباق فوق بعضها.
وقالت بغضب: «استسلمتُ.»
«ماذا قالت الجَدة؟»
«سألتُها عن سبب تحمُّل السيدات هنا عناء الزواج المخطَّط له مُسبقًا. وكيف يصبرنَ على أخذ الرجال لكل القرارات. وتعرضهنَّ للضرب. وهل تعرف ماذا قالت؟ قالت إنه في أحوال كثيرة تحتاج السيدات إلى الضرب لأنهنَّ دون ذلك لن يفعلنَ كلَّ ما هو مطلوب منهنَّ. أترى ما يحدث لنا؟ إننا نشكو لكننا لا نزال نُشجِّع الرجال على مُعاملتنا أسوأ معاملة. انظر إلى جودفري هناك. أتعتقد أنه لن يتأثَّر عندما يسمع هذه الأشياء من الجَدة ودورسيلا؟»
لم تستطِع الجَدة فهْم المعنى المقصود لكلمات أوما، لكن لا بد أنها لاحظت الأسلوب الذي تحدثت به لأن صوتها أصبح جادًّا على حين غِرة.
وقالت بلغة لوو: «إن كثيرًا مما تقولينه صحيح يا أوما.» وتابعت: «إن نساءنا حملن عبئًا ثقيلًا بالفعل. وكما يُقال: على قدرِ أهل العزمِ تأتي العزائم. فالمرء لا يعلم سوى ما يعلمه. وربما لو كنتُ شابةً الآن لم أكن لأقبل مثل هذه الأشياء. وربما لن أهتمَّ إلا بمشاعري ووقوعي في الحب. لكنَّ هذه الأمور مختلفة عن العالم الذي تربيتُ فيه. لم أعرف فيه سوى ما رأيتُه بعيني. وما لم أرَه لم يُحزنني على الإطلاق.»
اتكأتُ للخلف على الحصير وفكَّرت فيما قالته الجَدة. وظننتُ أنه انطوى على حكمةٍ مُعينة؛ لقد تحدثت عن زمانٍ ومكانٍ مختلفَين. كما أنني فهمتُ إحباط أوما وأدركتُ — وأنا أستمع إلى قصة شباب جَدنا — أنني أيضًا تعرضت للخيانة. كانت الصورة التي في مخيلتي عن أونيانجو — والتي لا تزال غامضة — أنه رجل استبدادي وربما قاسٍ. لكنني تخيلتُه أيضًا رجلًا مُستقلًّا متعاطفًا مع أهله ومعارضًا للبِيض. لقد أدركتُ عندئذٍ أنه لا يُوجَد أساس فعلي لهذه الصورة؛ لم يكن لديَّ سوى الخطاب الذي أرسله إلى أبي يقول له فيه إنه لا يريد أن يتزوج ابنه من سيدة بيضاء. واعتنق الإسلام الذي ارتبط في ذهني بأمة الإسلام في الولايات. إن ما قالته الجَدة شوَّش الصورة التي في مخيلتي تمامًا وأدَّى إلى التأكيد على بعض الصفات غير الحميدة عنه في ذهني. مثل خادم البِيض. والمتواطئ. والإمعة.
حاولتُ شرح بعض هذه الأمور إلى الجَدة وسألتها هل كان جَدُّنا قد عبَّر عما يشعر به تجاه البِيض. وحينئذٍ خرج سيد وبيرنارد من المنزل بأعينٍ نعسانة ووجَّهتهما زيتوني إلى الأطباق التي خصَّصتها لهما. ولم تَعُد الجَدة إلى سرد قصتها إلا بعد أن جلسا لتناول الطعام وعادت أوما وابنة الجيران إلى مكانهما أمام السيدتَين لتكملةِ تصفيف شعرهما.
«لم أستطِع دائمًا فهْم ما كان يفكر فيه جَدك. وكان أمرًا من الصعوبة بمكان لأنه لم يكن يُحب أن يعرفه الناس عن قُرب. حتى إن تكلم معك نظر إلى اتجاهٍ آخر خوفًا من أن تعرف فيمَ يُفكِّر. وبالطبع انطبق الأمر نفسه على شعوره تجاه البِيض. ففي أحد الأيام يقول شيئًا وفي اليوم التالي يبدو وكأنه قال شيئًا آخر. لكنني أعرف أنه كان يحترم البِيض لسُلطتهم وآلاتهم وأسلحتهم وطريقة تنظيم حياتهم. وكان يقول إن البِيض دائمًا يُطوِّرون من أنفسهم لكن الأفارقة مُتشكِّكون دائمًا من أي شيءٍ جديد. وفي بعض الأحيان يقول: «إن الأفارقة أغبياء ولا بد من ضربهم حتى يفعلوا أيَّ شيء.»
ومع ذلك فلا أظنُّ أنه اعتقد أن البِيض وُلِدوا أسمى وأرفع مقامًا من الأفارقة. وفي الواقع، إنه لم يحترم الكثير من أساليب البِيض أو عاداتهم. بل اعتقد أن كثيرًا من الأشياء التي فعلوها حمقاء أو غير عادلة. لم يكن يسمح للرجل الأبيض أن يضربه. ولهذا ترك عمله كثيرًا. فعندما يجد أن الرجل الأبيض الذي يعمل لدَيه بذيء يَسبُّه ويلعنه، يترك العمل عنده ويبحث عن وظيفةٍ أخرى. وفي إحدى المرات حاول أحد أصحاب الأعمال ضربه بالعصا لكن جَدك انتزع منه العصا وضربه بها. وأُلقِي القبض عليه لهذا السبب، لكنه عندما أوضح ما فعله أطلقَت السلطات سراحه بغرامةٍ وحذَّرته من أن يفعل فعلته هذه مرةً أخرى.
إن ما كان جَدك يحترمه هو القوة. كما كان يحترم النظام. وهذا سببُ تمسُّكه الشديد بتقاليد قبيلة لوو مع أنه تعلَّم الكثير من سلوكيات البِيض. هذا إلى جانب احترام شيوخ القبيلة. واحترام السلطة. واحترام النظام والأعراف في كل شئونه. وهذا أيضًا هو سببُ رفضه اعتناق الدين المسيحي على ما أعتقد. هذا مع أنه لوقتٍ وجيز دان بالمسيحية وغيَّر اسمه إلى جونسون. فإنه لم يستطِع فهْم أفكار مثل الرحمة بالأعداء أو أن المسيح باستطاعته محو خطايا الناس. وكان هذا لجَدك عاطفة حمقاء وشيئًا من شأنه تفريج الهم عن السيدات. لذا فإنه دان بالإسلام لأنه اعتقد أن تعاليمه مُتوافقة بصورةٍ أكبر مع معتقداته.
في الواقع إن قسوة جَدك هي التي سبَّبت الكثير من المشكلات بينه وبين آكومو. وعندما عشتُ معه أنجبت آكومو له طفلَين. أولهما سارة. وبعد ثلاث سنوات أنجبت أباك باراك. إنني لم أعرف آكومو معرفةً وثيقة لأنها عاشت هي وطفلاها مع حليمة في المجمع السكني لجَدك في كندو في حين بقيتُ أنا معه في نيروبي لمساعدته في عمله هناك. لكن كلما ذهبتُ مع جَدك إلى كندو رأيتُ آكومو تعيسة. فروحها كانت مُتمردة ورأيها في أونيانجو أنه كثيرُ المطالب. وهو أيضًا يشكو منها دومًا أنها لم تستطِع الحفاظ على نظافة البيت وترتيبه. وهو حازم معها فيما يتعلق بتربية طفلَيها. يطلُب منها أن تضعهما في السريرَين الخاصَّين بهما وتُلبِسهما ثيابًا رائعة أحضرها معه من نيروبي. وأيًّا كان الشيء الذي يلمسه الرضيعان لا بد أن يكون أنظف من أيِّ وقتٍ مضى. وفي الواقع حاولت حليمة مساعدة آكومو ورعاية الطفلَين كما لو أنهما طفلاها، لكنَّ هذا الأمر لم يكن ذا جدوى. كانت آكومو أكبر مني بسنواتٍ قليلة والضغط عليها شديدًا، وربما كانت أوما على حق … ربما كانت لا تزال تُحب الرجل الذي كان من المفترض أن تتزوَّجه قبل أن ينتزِعها منه أونيانجو.
أيًّا كان السبب فإنها حاولت لأكثر من مرةٍ هجرَ أونيانجو. مرة بعد ولادة سارة ومرة أخرى بعد ولادة باراك. وبرغم كبريائه فإن أونيانجو ذهب إليها يسألها العودة للحياة معه في المرتَين لأنه كان يعتقد أن الطفلَين في حاجةٍ إلى أُمهما. وفي كلتا المرتَين ساندته عائلة آكومو، ومن ثَم لم يكن أمامها أي خيار آخر إلا العودة إليه. وفي نهاية الأمر تعلمت فعْل كلِّ ما كان مُتوقعًا منها. لكنها بينها وبين نفسها كانت تشعر دائمًا بالمرارة.
أصبحت الحياة أفضل لها عندما نشبت الحرب العالمية الثانية. كان جَدك قد غادر البلاد ليعمل طاهيًا للقبطان البريطاني، وانتقلتُ لأعيش مع آكومو وحليمة وأساعدهما في تربية الأبناء وزرع المحاصيل. لم نرَ أونيانجو لبعض الوقت. ذلك لأنه سافر إلى بلادٍ كثيرة مع أفواج الجنود البريطانية؛ إلى بورما وسيلان وجزيرة العرب وإلى أماكنَ ما في أوروبا. وبعد أن عاد بعد ثلاث سنواتٍ أحضر معه فونوغراف وصورة امرأة زعم أنه تزوَّجها في بورما. تلك الصورة التي تراها معلقةً على جدار المنزل التُقِطت له آنذاك.
عندئذٍ كان أونيانجو يبلغ من العمر ٥٠ عامًا تقريبًا. وزاد بشدة تفكيره في ترك العمل لدى الرجل الأبيض والعودة إلى زراعة الأرض. لكنه رأى أن الأرض المحيطة بكندو مزدحمة وجرداء؛ لذا فكَّر في أليجو، الأرض التي تركها جَده. وذات يومٍ جاء إلى زوجاته وأخبرنا أن علينا إعداد أنفسنا للرحيل إلى أليجو. وفي حقيقة الأمر كنتُ امرأة شابَّةً ولديَّ القدرة على التكيف سريعًا لكن حليمة وآكومو تلقَّتا هذا الخبر بصدمة. ذلك لأن عائلتيهما عاشتا في كندو ولأنهما اعتادتا العيشَ هناك، وخافت حليمة بصفةٍ خاصة من شعورها بالوحدة في هذا المكان الجديد لأنها كانت في عمر أونيانجو ولم يكن لدَيها أبناء؛ لذا رفضت الذهاب معنا. أما آكومو فإنها رفضت الرحيل في البداية لكن عائلتها أقنعَتْها مرة أخرى بأنها لا بد من أن تتبع زوجها وتعتني بأطفالها.
عندما وصلْنا إلى أليجو كانت معظم الأراضي الزراعية التي تراها الآن بورًا والمعيشة صعبة علينا جميعًا. لكنَّ جَدك درس أساليب الزراعة الحديثة عندما كان في نيروبي، ومن ثَم طبَّق أفكاره على هذه الأرض. فكان باستطاعته زراعة أي محصول، وفي أقل من عامٍ زرعَ ما يكفي من المحاصيل لبيعها في السوق. ومهَّد الأرض وحوَّلها إلى هذه الحديقة الواسعة ونظَّف الحقول حيث نمَت المحاصيل وأصبحت وافرة الثمار. وزرع أشجار المانجو والموز والباوباو التي تراها الآن من حولك.
علاوةً على كل ذلك، فإنه باع معظم ماشيته لأنه قال إن رعيَها جعل تربة الأرض فقيرةً وتسبَّب في تدميرها. وبالأموال التي باع بها الماشية بنى أكواخًا كبيرة لآكومو ولي ولنفسه. وكان قد أحضر معه من إنجلترا جهاز راديو لاسلكيًّا وضعه على أحد الأرفُف وكان يُشغِّل نوعًا غريبًا من الموسيقى على الفونوغراف الخاص به في ساعة مُتأخِّرة من الليل. وعندما أنجبتُ طفلَي الأوَّلين عمر وزيتوني، اشترى لهما سريرَين وملابس وناموسيتَين، تمامًا مثلما فعل مع باراك وسارة. وفي كوخِ إعداد الطعام بنى فرنًا يخبز فيه الخبز والكعك وكان مذاقهما مثل الذي يُباع في المتاجر.
لم يرَ جيرانه في أليجو مثل هذه الأشياء قط. وفي بادئ الأمر ارتابوا فيه، واعتقدوا أنه أحمق خاصةً عندما باع ماشيته. لكنهم سرعان ما أصبحوا يحترمون كرمَه وما علَّمهم إيَّاه عن الزراعة والأعشاب الطبية. بالإضافة إلى أنهم تفهَّموا طِباعه لأنهم اكتشفوا أن باستطاعته حمايتهم من السحر. وفي هذه الأيام كان الناس يلجئون إلى الشامانات في أحوالٍ كثيرة، بل يخافونهم خوفًا عظيمًا. وكان يُقال إن باستطاعتهم إعطاءك مشروبًا إذا أعطيته لأيةِ امرأةٍ ترغبها وشربَتْ منه فإنها ستقع في هواك، ومشروبات أخرى تُميت أعداءك. لكن لأن جَدك سافر إلى أماكنَ كثيرةٍ وقرأ الكتبَ لم يؤمِن بصحة هذه الأشياء. واعتقد أنهم مُحتالون يسرقون أموال الناس.
حتى الآن في الوقت الراهن، يمكن أن يُخبرك الكثيرون في أليجو عن اليوم الذي جاء فيه أحد الشامانات من مقاطعةٍ أخرى لقتل أحد جيراننا الذي تودَّد لإحدى الفتيات في الجوار واتفقت العائلتان على أن يزوِّجوهما. لكن رغِب آخر في الزواج منها؛ لذا ففي غمرة شعوره بالغَيرة دفعَ مالًا لشامانٍ لقتل غريمه. عندما سمع جارنا هذه الخطة خاف خوفًا عظيمًا وجاء إلى أونيانجو طالبًا منه النصيحة. فاستمع جَدك إلى قصة الرجل ثم أخذ مِنجل البانجا الخاص به وسوطه المصنوع من جلد فرس النهر، وخرج لانتظار الشامان في عرض الطريق.
بعد قليلٍ رأى أونيانجو الشامان يقترِب حاملًا في يده حقيبةً صغيرة مليئة بالمشروبات السحرية. وعندما أصبحتِ المسافة بينهما قصيرة وقف جَدك في وسط الطريق وقال: «عُد إلى حيث جئت.» لم يعرف الشامان مَن كان أونيانجو وتظاهر بأنه يتقدَّم بخطواته، لكنَّ أونيانجو اعترض طريقه وقال: «إذا كنتَ قويًّا كما تزعم فلا بد أن تصعقني بالبرق الآن. وإذا لم تكن كذلك فالأفضل لك أن تفرَّ من هنا؛ لأنك إن لم تترك هذه القرية الآن سأُضطر إلى ضربك.» الشامان تصرَّف كما لو كان سيمرُّ عبر الطريق، لكن قبل أن يمشي خطوةً أخرى ضربه أونيانجو وطرحه أرضًا وأخذ حقيبته وعاد بها إلى المجمع السكني الذي يقطنه.
حسنًا، كان هذا أمرًا غاية في الخطورة خاصة عندما رفض جَدك إرجاع المشروبات السحرية الخاصة بالشامان. وفي اليوم التالي اجتمع مجلس الشيوخ تحت ظل شجرةٍ لحل النزاع، وكانوا قد أخبروا كلًّا من أونيانجو والشامان بأن يحضرا ويوضِّحا حقائق وملابسات الموقف. وفي البداية وقف الشامان وأخبر الشيوخ أنه إن لم يُعِدْ أونيانجو الحقيبةَ فورًا فإن اللعنة ستحلُّ على القرية بأكملها. وبعدها وقف أونيانجو وكرَّر ما قاله من قبل. قال: «إن كان لهذا الرجل سحر قوي دَعُوه يحل عليَّ اللعنة الآن فأخرَّ صريعًا.» ابتعد الشيوخ عن أونيانجو خوفًا من أن تخطئ الأرواح الهدف. لكنهم سرعان ما أدركوا أنه لم يحدُث شيء؛ لذا عاد أونيانجو إلى الرجل الذي استأجر الشامان وقال له: «فلتذهب لتبحثَ عن امرأة جديدة واترك هذه السيدة تتزوج الرجل الذي اتفق على الزواج بها.» وقال أونيانجو للشامان: «اذهب إلى حيث جئت، لن يُقتَل أحد في هذا المكان.»
وافق شيوخ القبيلة على كلِّ ما قيل. لكنهم أصروا على ضرورة أن يعيد أونيانجو حقيبة الشامان لأنهم لم يُريدوا المخاطرة. ووافق أونيانجو أيضًا، ووقت انفضاض الاجتماع دعا الشامان إلى كوخه. وطلب منِّي ذبح دجاجةٍ ليأكل الشامان، وأعطاه أموالًا حتى لا تكون رحلته إلى أليجو بلا فائدة. لكن قبل أن يسمح جَدك برحيل الشامان جعل الرجل يُريه محتويات حقيبته ويشرح خصائص كل مشروب حتى يعرف كل الخدع التي يُنفذها الشامان.
حتى إن استخدم أونيانجو أحد هذه المشروبات مع آكومو فلا أظن أنه كان بإمكانه إسعادها. وبصرف النظر عن كثرة ضربه لها فقد كانت تُجادله بغضب. وكانت متكبرة وتحتقرني، وفي أحيان كثيرة ترفض تقديم المساعدة في الأعمال المنزلية اليومية. أنجبت طفلةً ثالثة — اسمها أوما مثل أوما الجالسة معنا الآن — وبينما كانت ترضع هذه الطفلة الجديدة خطَّطت سرًّا للهروب. وفي إحدى الليالي وسارة في الثانية عشرة من عمرها وباراك في التاسعة، نفَّذت خطتها. فأيقظت سارة وقالت إنها ستهرب إلى كندو. وأخبرتها بأنها رحلة شاقَّة للغاية على الأطفال لأن يقوموا بها ليلًا لكنها قالت لها إنهما — هي وأخوها — ينبغي لهما اتباعها سريعًا عندما يكبران. ثم اختفت بابنتها الرضيعة في الظلام.
عندما اكتشف أونيانجو ما حدث استشاط غضبًا. وفي البداية فكَّر في أن يترك آكومو وشأنها، لكن عندما رأى أن باراك وسارة لا يزالان صغيرَين وأنني شابة — ولديَّ طفلان — ذهب مرةً أخرى إلى عائلة آكومو في كندو، وطلب من أهلها عودتها. لكنَّ العائلة رفضت هذه المرة. وفي الواقع، كانوا قد قبِلوا بالفعل مهرَ زواج آكومو من رجلٍ آخر وكانت آكومو وزوجها الجديد قد رحلا بالفعل للعيش في تانجانيكا. لم يكن هناك شيءٌ يستطيع أونيانجو فعْله؛ لذا عاد إلى أليجو. وقال لنفسه: «إن الأمر لا يهم»، وأخبرني بأنني الآن أم أولاده كافة.
لم نكن نعرف — أنا وهو — زيارة آكومو الأخيرة لسارة. لكنَّ سارة تذكَّرت تعليمات والدتها ومرَّت أسابيع قبل أن تُوقِظ باراك في منتصف الليل تمامًا كما فعلت معها أمُّها. وطلبت منه أن يصمت، وساعدته في ارتداء ملابسه، وبدآ معًا رحلتهما إلى كندو مشيًا على الأقدام. ولا أزال مندهشةً إلى الآن من أنهما بقِيا على قيد الحياة. غابا عنا أسبوعَين تقريبًا مشيا خلالهما أميالًا كثيرة يوميًّا؛ يختبئان من المارِّين بجوارهما في الطريق، وينامان في الحقول ويستجديان الطعام. لكنهما تاها بالقُرب من كندو، وفي آخر المطاف رأتهما سيدة وأشفقت عليهما؛ فقد كانا مُتضوِّرين جوعًا وقميئَي الهيئة؛ لذا استضافتهما في منزلها وأطعمتهما وسألتهما عن اسميهما، وعندما عرفت ماهيتهما أرسلت طلبًا لجَدك. وعندما ذهب لإحضارهما ورأى حالتهما المتدهورة بكى وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رآه أحدٌ وهو يبكي.
لم يحاول الطفلان الهرب إطلاقًا مرةً أخرى. لكنني لا أعتقد أنهما نَسِيا هذه الرحلة. وبعدئذٍ تعاملت سارة مع أونيانجو بتحفُّظ شديد وظلَّ قلبها معلقًا بآكومو لأنها كانت أكبر من أخيها، وربما رأت كيف عامل أمَّها. وأظن أيضًا أنها كانت مُستاءة مني لأخذي مكان والدتها. أما باراك فكان له ردُّ فعل مختلف. فلم يستطِع أن يُسامح أمَّه على التخلِّي عنه، وكان يتصرف وكأن آكومو لم تكن موجودة. بل أخبر الجميع أنني والدته، ومع أنه كان يُرسِل أموالًا إلى آكومو عندما كبر وأصبح رجلًا فإنه حتى نهاية حياته تعامل معها بفتور دائمًا.
الشيء الغريب أن سارة كانت تُشبِه أبيها إلى حدٍّ بعيد من حيث الشخصية. الحزم والمثابرة وسهولة الشعور بالغضب. وكان باراك طائشًا وعنيدًا مثل آكومو. لكن دون شكٍّ لا يرى الشخص عيوبه.
وبالطبع كان أونيانجو شديد الحزم مع أطفاله تمامًا كما قد تتوقَّع. جعلهم يعملون بجِد واجتهاد، ولم يسمح لهم باللعب خارج المجمع السكني؛ لأنه قال إن الأطفال الآخرين وقِحون وسيئو التربية. وكلما ابتعد أونيانجو عن المجمع تجاهلتُ هذه التعليمات لأن الأطفال لا بد أن يلعبوا مع أقرانهم تمامًا كما لا بد من تناول الطعام والنوم. لكنني لم أخبِر جَدك قطُّ بما فعلتُه، وكنتُ أُضطر إلى تنظيف الأطفال قبل أن يحضر جَدك إلى المنزل.
لم يكن هذا الأمر سهلًا خاصةً مع باراك. ذلك لأنه كثير الشغب! في وجود أونيانجو يبدو حسَن التربية ومُطيعًا، ولا يردُّ بوقاحةٍ عندما يطلُب منه والده أن يفعل شيئًا. لكن من وراء ظهره يفعل كلَّ ما يحلو له. وعندما يكون أونيانجو في الخارج في العمل يخلع باراك ملابسه الأنيقة وينصرف إلى الأولاد الآخرين لمشاجرتهم أو السباحة في النهر أو لسرقة الفاكهة من أشجار الجيران أو ركوب أبقارهم. كان الجيران يخافون من الذهاب مباشرةً إلى أونيانجو فيأتون إليَّ ويشكون من كل هذه الأشياء. لكنني لم أكن أغضب من باراك، بل دومًا أُخفي تصرفاته الحمقاء عن أونيانجو؛ لأنني أحببتُه كما لو أنه ابني.
أُعجب جَدك أيضًا كثيرًا بباراك — مع أنه لم يُحب إظهار ذلك — لأنه كان ولدًا ماهرًا جدًّا. وفي صغره علَّمه أونيانجو حروف الهجاء والأرقام، ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا إلى أن تفوَّق الابن على أبيه في هذه الأشياء. وفي الواقع أسعد هذا الشيء قلب أونيانجو؛ لأن المعرفة كانت مصدر سلطة البِيض من وجهة نظره؛ لذا فإنه أراد التأكُّد من أن ابنه مُتعلم كأي رجلٍ أبيض. كان أقلَّ اهتمامًا بتعليم سارة مع أنها سريعة التعلُّم مثل باراك. معظم الرجال كانوا يعتقدون أن تعليم بناتهم مَضيعة للأموال. وعندما أنهت سارة تعليمها في المدرسة الابتدائية جاءت إلى أونيانجو مُستجديةً منه مصاريف المدرسة للالتحاق بالمدرسة الثانوية. لكنه قال لها: «ما الذي يدفعني إلى إنفاق أموال على مصاريف التحاقك بالمدرسة وأنت ستتزوَّجين وتعيشين في منزل رجلٍ آخر؟ الأفضل أن تُساعدي أمك وتتعلَّمي كيف تُصبحين زوجة مثالية.»
خلق هذا خلافًا أكبرَ بين سارة وأخيها الأصغر خاصةً لأنها علمت أن باراك لم يكن جادًّا دائمًا في دراسته. وكل شيءٍ أراده حصل عليه بسهولة بالغة. في البداية التحق بإحدى مدارس الإرساليات المجاورة، لكنه عاد بعد يومِه الأول فيها وأخبر والده أنه لم يستطِع الدراسة هناك لأن مَن يُدرِّس له في الفصل امرأة، وأنه يعلم كل شيءٍ تُعلِّمه إياه. لقد تعلم باراك هذا الاتجاه الفكري من والده؛ لذا فإن أونيانجو لم يستطِع قول أيِّ شيء. وكانت أقرب مدرسة تبعُد بمسافة ستة أميال؛ ولذا فإنني كنتُ أصطحبه إليها كل صباح. وكان المدرِّس فيها رجلًا، لكنَّ باراك اكتشف أن هذا لم يحُلَّ المشكلات التي كان يُعانيها. فهو دومًا يعرف الإجابات، وفي بعض الأحيان يُصحِّح أخطاء المدرِّس أمام الفصل بأكمله. وكان المدرس يوبِّخ باراك على غطرسته، لكنَّ باراك كان يرفض التوقُّف عما يفعله. وتسبَّب هذا في تعرُّض باراك كثيرًا للضرب بالعصا على يد مدير المدرسة. لكنه تعلَّم درسًا منه لأنه في العام التالي عندما انتقل إلى فصلٍ آخر به مُدرِّسة لاحظتُ أنه لم يشكُ.
مع ذلك كان لا يزال يشعر بالملل من المدرسة، وعندما أصبح أكبر سنًّا كان يتوقَّف عن الذهاب إليها لمدة أسابيع في كل مرة. وقبل الامتحانات بأيام قليلة يبحث عن زميلٍ له في الفصل ويبدأ في استذكار دروسه. وفي خلال بضعة أيام يستطيع تعليم نفسه كلَّ شيء. وعندما تظهر النتيجة يكون الأول دائمًا على أقرانه. وفي المرات القليلة التي لم يكن الأول فيها كان يعود إليَّ والدموع قد ملأت عينَيه لأنه اعتاد أن يكون الأفضل دائمًا، لكنَّ هذا لم يحدث سوى مرةٍ واحدة أو مرتَين؛ كان عادةً ما يعود إلى المنزل ضاحكًا مُفتخرًا بمهارته.
لم يفتخر باراك بنجاحه بصورةٍ يمكن أن تجرح شعور الآخرين؛ فإنه كان دائمًا دمث الأخلاق في تعامُله مع زملائه، ويساعدهم عندما يطلبون المساعدة. كما أن افتخاره بنجاحاته شبيه بافتخار طفلٍ اكتشف أن بإمكانه الجريَ سريعًا أو الصيد بمهارة. لذا فإنه لم يدرك أن الآخرين ربما يستاءون من تلقائيته. حتى إنه عندما أصبح رجلًا لم يفهم هذه الأشياء. وعندما يرى زملاءه في المدرسة — الذين أصبحوا رجال دين أو رجال أعمال — في إحدى الحانات أو المطاعم يقول لهم أمام الجميع إن أفكارهم سخيفة. وكان يقول لأحدهم مثلًا: «إنني أتذكَّر أنني علمتُك ذات مرة أشياءَ في علم الحساب، إذن كيف يمكن أن تكون مهمًّا الآن؟» بعد ذلك يضحك ويدعو هؤلاء الرجال إلى الجِعَة لأنه مُعجَب بهم. لكنَّ هؤلاء الرجال يتذكرون أيام المدرسة ويكتشفون أن ما قاله باراك صحيح، ومع أنهم لم يُظهِروا ذلك فإن كلماته تجعلهم يشعرون بالغضب.
عندما أصبح والدك في مرحلة المراهقة كانت الأحوال تتغيَّر سريعًا في كينيا. حيث حارب الكثيرُ من الأفارقة في الحرب العالمية الثانية. وحملوا الأسلحة وفعلوا ما جعلهم مشهورين بالمحاربين العظماء في بورما وفلسطين. ورأوا البِيض وهم يحاربون البِيض من أمثالهم، وماتوا بجانبهم وقتلوا الكثيرَ منهم بأنفسهم. بالإضافة إلى أنهم اكتشفوا أن الأفريقي بوسعه العمل على آلات البِيض، وقابلوا السود من أمريكا الذين قادوا الطائرات وأجرَوا العمليات الجراحية. وعندما عادوا إلى كينيا تحمَّسوا لمشاركة هذه المعرفة الجديدة مع الجميع، ولم يعودوا راضين عن سيطرة البِيض عليهم.
بدأ الناس عندئذٍ يتحدَّثون عن الاستقلال. وعُقدت الاجتماعات ونُظِّمت المظاهرات وقُدمت الالتماسات إلى الإدارة لعرض شكواهم من مصادرة الأراضي وسلطة الرؤساء الذين يطبِّقون نُظُم العمل الخالية من العمولات لإتمام المشروعات الحكومية. حتى إن الأفارقة الذين تعلموا في المدارس الداخلية تمرَّدوا على كنائسهم واتهموا البِيض بتشويه المسيحية للحط من قدرِ أي شيء أفريقي. وكما كان الوضع سابقًا فإن معظم هذه الأنشطة تمركزت في أرض كيكويو لأن هذه القبيلة حملت عبء البِيض أكثر من أيِّ مكانٍ آخر. لكنَّ قبيلة لوو أيضًا كانت مُضطهَدة ومصدرًا أساسيًّا للعمل بالإكراه. لذا فإن الرجال في منطقتنا بدءوا يشاركون في مظاهرات كيكويو وقُبِضَ على كثيرٍ منهم من جرَّاء ذلك. وفي وقت لاحق، عندما أعلنت بريطانيا حالة الطوارئ، لم يُر الكثيرون مرةً أخرى منذ ذلك الحين.
وأبوك مثل أقرانه تأثَّر بالمفاوضات الأولى المتعلقة بالاستقلال، وكان يعود أدراجه من المدرسة إلى المنزل ويتحدَّث عن الاجتماعات التي رآها. أما جَدُّك فإنه أيَّد الكثير من مطالب الأحزاب الأولى مثل الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني (كانو)، لكنه ظلَّ مُتشككًا من أن حركة الاستقلال ستؤدي إلى أي شيء؛ لأنه اعتقد أن الأفارقة لن يفوزوا إطلاقًا على جيوش البِيض. وكان يقول لباراك: «كيف يمكن للأفريقي هزيمة البِيض وهو لا يستطيع صناعة الدراجة التي يركبها؟» وكان يقول إن الأفارقة لا يستطيعون تحقيق الفوز على البِيض لأن السود يريدون العمل فقط مع عائلاتهم أو عشيرتهم في حين يعمل البِيض معًا لزيادة سُلطتهم. وقال أونيانجو: «إن الرجل الأبيض بمفرده مثله مثل النملة.» وتابع: «ومن السهولة بمكانٍ تحطيمه. لكن لأنه كالنملة فإنه وأقرانه يعملون معًا ويتعاونون. ومن وجهة نظره فإن أُمَّته وعمله أكثرُ أهمية من نفسه. وهو يتبَع قادته، ولا يُناقش الأوامر الموجهة إليه. على النقيض من ذلك فإن السود لا يسيرون على هذه الوتيرة. حتى إن أكثر السود حماقة يعتقدون أنهم يفهمون أكثرَ من الحكماء. وهذا هو سبب خسارة السود دائمًا.»
ومع موقف جَدك هذا فإنه اعتُقل ذات مرة. وأصل الحادث أن رجلًا أفريقيًّا يعمل لدى حاكم المقاطعة شعر بالغيرة من جَدك بسبب أراضيه. وفي إحدى المرات وبَّخ جَدك هذا الرجل لأنه كان يجمع ضرائب زائدة عن المفترض تحصيلها ويستولي على هذه الأموال لنفسه. خلال فترة الطوارئ وضع هذا الرجل اسم أونيانجو في قائمة مؤيدي الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني وأخبرَ الرجل الأبيض أن أونيانجو من المخرِّبين. ولذا فإن عساكر الرجل الأبيض ألقوا القبض على أونيانجو واحتُجز في معسكر اعتقال. وفي النهاية استُدعي إلى جلسة استماعٍ وأُثبتت براءته. لكنَّه ظل في المعسكر لما يزيد عن ستة أشهر، وعندما عاد إلى أليجو كان نحيفًا للغاية وقذرَ الهيئة. وكان يجد صعوبة في المشي ورأسه مليء بالقمل. وبالطبع أدَّى هذا إلى شعوره بالخجل الشديد، فرفض دخول منزله أو إخبارنا بما حدث. وإنما ناداني لتسخين بعض الماء له وإحضار موس حلاقة. فحلق شعره وساعدتُه في الاستحمام لوقتٍ طويل حيث تجلس الآن. ومنذ ذلك اليوم أدركتُ أنه عجوز.
لم يكن باراك موجودًا وقتئذٍ ولم يعلم شيئًا عن اعتقال والده إلا فيما بعد. ذلك لأنه كان قد قدَّم في اختبارات المقاطعة وقُبل في مدرسة ماسينو الداخلية التي تبعُد بما يقرب من ٥٠ ميلًا جنوبًا بالقُرب من خط الاستواء. لا بد أن هذا الحدث كان شرفًا عظيمًا لباراك؛ لأن القليل من الأفارقة فقط كان يُسمَح لهم بالحصول على تعليمٍ ثانوي، والطلاب الأكثر مهارةً فقط هم الذين كانوا يلتحقون بالماسينو، لكنَّ تمرُّد أبيك وعدم التزامه بالقواعد سبَّبا مشكلاتٍ كثيرة مع المدرسة. فكان يتسلَّل إلى غُرَف الفتيات ويتحدث معهنَّ بكلامٍ معسول ويتعهد لهنَّ بتحقيق كلِّ ما حلُمن به. ويُغير هو وأصدقاؤه على المَزارع المجاورة لأخذ الدجاج ونبات اليام لأنهم لا يُحبون طعام المدرسة. وفي الواقع تغاضى المدرسون في المدرسة عن مثل هذه الأفعال غير اللائقة لأنهم كانوا على درايةٍ بمدى ذكائه. لكن في نهاية الأمر تمادى باراك في فعْل هذه الأشياء الدالة على سوء السلوك فطُرِدَ من المدرسة.
غضب أونيانجو غضبًا عارمًا عندما عرف بالأمر، ولذا ضرب باراك بالعصا إلى أن أدمى ظهره. لكنَّ باراك رفض الهروب أو الصراخ أو حتى شرح موقفه لأبيه. وفي النهاية قال أونيانجو لباراك: «إن لم تستطِع التصرُّف بأسلوبٍ لائق في بيتي فإنني لا أريدُك هنا!» وفي الأسبوع التالي أخبر أونيانجو باراك بأنه رتَّب له السفر إلى الساحل حيث سيعمل موظف أعمالٍ كتابية. وقال له: «إنك هناك ستعلم قيمة التعليم.» وتابع: «سأرى بنفسي كيف ستستمتع بوقتك وأنت تكسِب قوتَ يومك.»
لم يكن لدى باراك أيُّ خيار سوى طاعة والده. لذا فإنه ذهب إلى مومباسا وحصل على الوظيفة في مكتبِ تاجرٍ عربي. لكن بعد فترةٍ وجيزة تشاجر مع الرجل العربي وترك العمل دون أن يأخذ أجره. لكنه وجد وظيفةً أخرى فعمل موظف أعمالٍ كتابية مرة أخرى لكن بأجرٍ أقلَّ بكثير. وكان لدَيه من الكبرياء ما منعه من أن يطلب مساعدة أبيه أو يعترف بأنه أخطأ. ومع ذلك فقد علم أونيانجو بالأمر، وعندما عاد باراك للمنزل في زيارةٍ صاح فيه والده قائلًا له إنه لن يُصبح ذا قيمة. حاول باراك أن يخبِر أونيانجو أن الوظيفة الجديدة تُقدِّم له أجرًا أعلى بكثيرٍ من الوظيفة التي وفَّرها له، وقال إنه يحصل منها شهريًّا على ١٥٠ شلنًا. لذا قال أونيانجو له: «دعني أطَّلع على سجل الأجور الخاص بك إن كنتَ بالفعل ثريًّا.» وعندما لم ينبِس باراك ببنت شفة علم أونيانجو أن ابنه كذب عليه. لذا فإنه ذهب إلى كوخه وأخبر باراك أن يبتعِد عن المكان لأنه ألْحقَ العار بأبيه.
انتقل باراك إلى نيروبي وعمل موظفَ أعمالٍ كتابية في السكة الحديدية، لكنَّه شعر بالملل وألهاه اهتمامه بسياسات البلد عن العمل. ووقتئذٍ بدأت قبيلة الكيكويو حربها في الغابات. وانتشرت في كل مكانٍ الاحتشادات الجماهيرية المُطالبة بإطلاق سراح كينياتا من المعتقل. فبدأ باراك يحضر الاجتماعات السياسية بعد العمل وأصبح على علاقةٍ ببعض أفراد القيادة في الكانو. وفي أحد الاجتماعات حضرت الشرطة وأُلقي القبض على باراك لخرق قواعد الاجتماع. وبالتالي سُجن وأَرسَل إلى والده رسالةً طالبًا منه المال لدفع الكفالة، لكنَّ أونيانجو رفض إعطاء باراك المال الذي طلبه، وقال لي إن ابنه في حاجةٍ لأن يتعلم هذا الدرس على نحوٍ ملائم.
لأن باراك لم يكن قائدًا في الكانو أُطلِق سراحه بعد أيام. لكنَّه لم يشعر بأي قدرٍ من السعادة لإطلاق سراحه لأنه بدأ يُدرك أن ما قاله والده ربما يكون صحيحًا؛ أنه لن يُصبح ذا قيمة. كان باراك عندئذٍ في العشرين من عمره، لكن ماذا حقَّق بالفعل؟ لقد طُرد من وظيفته في السكة الحديدية. وتشاجر مع والده ولم يَعُد يتحدَّث معه إلى جانب أنه ليس لدَيه مال أو احتمالات نجاح. لكنه تزوَّج ولدَيه طفل. قابل باراك كيزيا وهو في الثامنة عشرة من عمره. وكانت تعيش في كندو مع عائلتها وقتئذٍ. ولأنه تُيِّم بجمالها قرَّر الزواج منها بعد علاقةٍ لم تدُم طويلًا. وحتى يستطيع الزواج منها أدرك أن والده لا بد أن يُساعده لدفع المهر، فطلب منِّي أن أتوسَّط له عند أبيه وأتحدَّث نيابةً عنه. في بداية الأمر رفض أونيانجو هذه الزيجة وكذلك سارة التي عادت إلى أليجو بعد أن مات زوجها الأول. وقالت لجَدك إن كيزيا تريد أن تحصل على ثروة العائلة فقط. لكنني قلتُ لأونيانجو إنه من غير اللائق لباراك أن يستجدي المهر من أقارب آخرين والجميع يعرفون أنه ابن رجلٍ ذي سعة من المال. بذلك أدرك أونيانجو أن لديَّ حقًّا فيما أقوله ورَقَّ لحاله ووافق. وبعد عامٍ واحد من زواج باراك وكيزيا وُلِدَ روي. وبعد عامَين أنجبا أوما.
اضطُر باراك إلى العمل في أية وظيفة وجدَها حتى يستطيع توفير ما يساعد عائلته على المعيشة، وفي آخرِ المطاف أقنع رجلًا عربيًّا آخر — اسمه سليمان — بتعيينه عاملًا لدَيه. لكنَّ باراك ظل يشعر بالحزن الشديد وأصبح قاب قوسَين أو أدنى من اليأس. فالكثير ممن في عمره والذين عرفهم من مدرسة ماسينو — والذين لم يكونوا نابغين مثله — ينتقِلون بالفعل من كينيا للالتحاق بجامعة ماكاريري في أوغندا. وبعضهم ذهبوا إلى لندن للدراسة. ومن ثَمَّ فهم يتوقعون العمل في وظائف مهمة عند عودتهم إلى كينيا بعد تحريرها. أما باراك فإنه رأى أنه لم ينتهِ الأمر به إلا موظف أعمالٍ كتابية لدَيهم لبقية حياته.
بعدئذٍ لعب الحظ لعبته في صورة سيدتَين أمريكيتَين. كانتا تدرُسان في نيروبي وأعتقد أنهما كانتا على صلةٍ بإحدى المنظَّمات الدينية، وفي ذات يومٍ حضرتا إلى المكتب الذي يعمل فيه باراك. وبدأ يتحدَّث معهما إلى أن أصبح الثلاثة أصدقاء. فأخذتا تُعِيرانه كتبًا ليقرأها وتدعوانه إلى منزلهما، وعندما أدركتا أنه على درجةٍ كبيرة من الذكاء قالتا له إن عليه الالتحاق بالجامعة. شرح باراك لهما أنه لا يملك مالًا ولم يحصل على شهادةٍ من المدرسة الثانوية، لكنهما قالتا له إنهما سترتِّبان له كلَّ شيءٍ فيدرس عن طريق المراسَلة ويحصل على الشهادة التي يحتاجها. وأضافتا أنهما ستحاولان مساعدته في الالتحاق بأية جامعة في أمريكا إن أثبت نجاحه.
تحمَّس باراك للغاية وأرسل على الفور طلبَ التحاق بالدراسة عن طريق المراسلة. ولأول مرة في حياته عمِل بجِد. وكل ليلة وحتى أثناء تناوله غداءه كان يُذاكر في كُتبه ويحل واجباته المدرسية. وبعد بضعة أشهُر امتحن في مقر السفارة الأمريكية. استغرق الأمر شهورًا طويلة قبل أن تظهر النتيجة، وخلال هذه الفترة كان باراك غايةً في العصبية ونادرًا ما يأكل. الأمر الذي أدَّى به إلى النحافة البالغة لدرجةِ أننا اعتقدنا أنه سيموت. وذات يومٍ تسلَّم الخطاب. ولم أكن هناك لرؤيته وهو يفتحه، لكنه كان لا يزال يصيح من الفرحة بأعلى صوته عندما قال لي هذه الأخبار. وضحكتُ معه لأن الموقف مماثل لما كان يحدث منذ سنوات كثيرة عندما يأتي إلى المنزل متفاخرًا بدرجاته العالية.
كان باراك لا يزال مُفتقرًا إلى المال، ولم تكن أية جامعة قد وافقت بالفعل على قبوله. وعندما رأى أونيانجو أن ابنه أصبح أكثرَ شعورًا بالمسئولية لانَ تجاهه، لكنه لم يستطِع توفير المال الكافي لدفع مصروفات الجامعة والانتقال خارج البلاد. كان الكثيرون في القرية على استعدادٍ لمدِّ يدِ المساعدة، لكنَّ العديد منهم كانوا خائفين من ألا يرَوا باراك مرةً أخرى إن رحل بأموالهم. لذا فإن باراك راسل الجامعات في أمريكا مرارًا وتكرارًا. وأخيرًا ردَّت عليه جامعة في هاواي بأن الجامعة ستُقدِّم له منحةً دراسية. لم يعرف أحد وقتئذٍ أين يقع هذا المكان، لكنَّ باراك لم يبالِ. وأخذ ابنه وزوجته الحامل وتركهما عندي ورحل في أقل من شهر.
لا أستطيع أن أقول لكم ما حدث في أمريكا. لكنني أعرف أنه بعد أقلِّ من عامَين تلقَّينا خطابًا من باراك يقول لنا فيه إنه قابل فتاة أمريكية اسمها آن وإنه يريد الزواج منها. والآن يا باري لقد سمعتَ أن جَدك عارض هذه الزيجة. هذا صحيح، لكنَّ هذه المعارضة لم تكن للأسباب التي قُلتها. إن أونيانجو كما رأيتَ لم يعتقد أن والدك يتصرف بمسئولية. لذا فإنه ردَّ على خطاب باراك وقال له: «كيف تتزوَّج من هذه السيدة البيضاء ولدَيك مسئوليات أخرى هنا؟ هل ستعود معك هذه السيدة وتعيش هنا كسيدة من قبيلة لوو؟ وهل ستقبل بوجود زوجة وطفلَين؟ إنني لم أسمع قطُّ عن بِيض يتفهَّمون هذه الأشياء؛ فنساؤهم تُعميهن الغيرة وهنَّ اعتدنَ التدليل. لكن إن كنتُ مخطئًا فيما قلتُه فاجعل والد الفتاة يحضر هنا إلى كوخي لنُناقش الأمر بصورة ملائمة. ذلك لأن مناقشة هذه الأمور من شأن الكبار وليس الصغار.» بالإضافة إلى أنه كتب أيضًا خطابًا إلى جَدك ستانلي وذكر له في الخطاب الكثير من هذه الأشياء نفسها أيضًا.
استمر أبوك — كما تعلم — في إتمام الزواج ولم يُخبِر أونيانجو بما حدث إلا بعد ولادتك. إننا جميعًا سعداء بهذه الزيجة لأننا لولاها لم نكن لنراك هنا معنا الآن. لكنَّ جَدك غضب غضبًا عارمًا عندئذٍ وهدَّد بأن يجعل السلطات تُلغي تأشيرة سفر باراك. ولأنه عاش مع البِيض بالفعل، ربما كان على درايةٍ بعادات البِيض أكثر من باراك. ومن ثَم عندما عاد باراك في نهاية المطاف إلى كينيا اكتشفنا أنك وأُمك بقيتما حيث أنتما، تمامًا كما حذَّر أونيانجو.
بعد أن عاد باراك بوقتٍ وجيز وصلت إلى كيزيمو سيدةٌ بيضاء تبحث عنه. وفي البداية اعتقدنا أن هذه السيدة لا بد أنها أمُّك آن. لكنَّ باراك أوضح لنا أنها سيدة أخرى تُدعى روث. وقال إنه قابلها في هارفارد وإنها تبِعَتْه إلى كينيا دون معرفته بالأمر. لم يُصدِّق جَدك هذه القصة واعتقد مرةً أخرى أن باراك خرج عن طاعته. لكنني لم أكن متأكدة لأن باراك بدا مُترددًا في الزواج من روث في البداية. ولستُ متأكدة من السبب الذي حمله في النهاية على الاقتناع بالزواج منها. ربما شعر أن روث كانت مناسبةً أكثر لحياته الجديدة. وربما يكون قد سمع إشاعات عن أن كيزيا فعلت ما يحلو لها في أثناء غيابه مع أنني أخبرته أن هذه الشائعات ليست صحيحة. وربما يكون قد أُعجِب بروث أكثرَ مما أحبَّ أن يُظهِر.
أيًّا كان السبب، فأنا أعرف أنه بمجرد أن قرَّر باراك الزواج من روث فإنها لم تستطِع تقبُّل كيزيا زوجةً أخرى. وبهذا ذهب الطفلان ليعيشا مع والدهما وزوجته الجديدة في نيروبي. وعندما أحضر باراك أوما وروي لزيارتنا رفضت روث مصاحبة زوجها ولم تسمح له بأن يُحضِر ديفيد أو مارك. لم يناقِش أونيانجو هذا الأمر مباشرةً مع باراك. لكنه قال لأصدقائه بطريقةٍ ما لجعل باراك يسمعه: «إن ابني رجل مهم، لكنه عندما يرجع إلى بلده لا بد أن تُعِدَّ له والدته وليس زوجته الطعامَ.»
هناك مَن أخبرك بالطبع بما حدث لوالدك في نيروبي. لقد كنا نراه نادرًا ولم يكن يظل في المعتاد إلا وقتًا وجيزًا، وكلما جاء أحضر لنا هدايا غالية الثمن وأموالًا وذُهِلَ الناس جميعًا بسيارته الكبيرة وملابسه الأنيقة. لكنَّ جَدك استمرَّ في التحدُّث معه بقسوة كما لو كان صبيًّا. وفي هذه الأثناء كان أونيانجو طاعنًا في السن. كان يمشي بالتوكؤ على عصًا وأعمى تقريبًا، بالإضافة إلى أنه لم يكن يستحمَّ إلا بمساعدتي، وهو الأمر الذي سبَّب له في اعتقادي الشعور بالخجل. لكنَّ شيخوخته لم تُخفِّف من حدة طباعه.
عندما فقد باراك سلطته فيما بعدُ حاول إخفاء مشكلاته عن أبيه. فاستمر في إحضار الهدايا التي لم يَعُد قادرًا على دفع ثَمنها مع أننا لاحظنا أنه يأتي في سيارة أجرة وليس في سيارته الخاصة. ولم يكن يثِق بأحدٍ سواي لإخباره عن تعاسته وشعوره بالإحباط. وأخبرتُه بأنه عنيد إلى حدٍّ بعيد في تعامُله مع الحكومة. وتحدَّث معي عن مبادئه، فقلتُ له إن هذه المبادئ تؤثِّر سلبًا على أطفاله. لكنه قال إنني لا أفهم الموقف مثلما قال لي والده. لذا توقفتُ عن إسداء النصيحة وأصبحتُ أستمع فقط.
أعتقد أن هذا هو أقصى ما كان باراك يحتاجه؛ أيْ شخص يستمع إليه. حتى بعد أن تحسَّنَت الأحوال من جديد وبنى هذا المنزل لنا، ظل حزينًا. وفيما يخص أطفاله فإنه كان يُعاملهم بالطريقة نفسِها التي عامله أونيانجو بها. وكان يعلم أنه يُبعِدهم عنه لكنه لم يكن بوسعه فعْل شيء. كان باراك لا يزال محبًّا للتفاخُر والضحك وشُرْب الخمر مع الآخرين. لكنَّ ضحكاته لم تكن من قلبه. إنني أتذكَّر آخِر مرة زار أونيانجو قبل أن تُدركه المنية. جلس الاثنان على كرسيين، أحدهما في وجه الآخر، يأكلان الطعام دون كلمةٍ واحدة. وبعد ذلك بأشهُرٍ عندما مات أونيانجو ولحِق بأسلافه عاد باراك إلى الوطن لتنفيذ الإجراءات. كان قليل الكلام وقتئذٍ وكان نحيفًا للغاية ولم أرَه يبكي إلا بعد أن أنعم النظر إلى مُقتنيات أبيه.
وقفَت الجَدة ونظَّفَت ثوبها من العشب. في هذه الأثناء خيَّم على الفناء الصمت الذي لم يقطعه سوى شدو طائرٍ قلِق. وقالت: «إن السماء ستُمطر»، فجمعنا الحصائر والأكواب وحملناها جميعًا إلى داخل المنزل.
بمجرد أن دخلنا سألتُ الجَدة هل كانت تحتفظ بأي شيء من مُقتنيات أبينا أو جَدنا. دخلَت غرفة نومها وأنعمَت النظر إلى محتويات حقيبة قديمة من الجلد. ثم خرجت بعد دقائق ومعها كتاب أحمر اللون في حجم جواز السفر إلى جانب بعض الأوراق المختلفة الألوان المُثبتة معًا والمتآكِلة من إحدى الزوايا.
وقالت لأوما: «إنني آسفة، لم أستطِع العثورَ إلا على هذا.» وتابعت: «لقد وصلتِ الفئران إلى الأوراق قبل أن تتسنَّى لي الفرصة لوضعها في المكان المناسب.»
جلستُ أنا وأوما ووضعنا الكتاب والأوراق على المنضدة المنخفِضة أمامنا. كان تجليد الكتاب الأحمر مُفكَّك الأجزاء مع أن الغلاف لا يزال مقروءًا ومكتوبًا عليه «السجل الشخصي للخادم المنزلي» وبخطٍّ أصغر «أُصدِر بموجب قانون تسجيل الخدم المنزلي، ١٩٢٨، مُستعمرة ومحمية كينيا.» وفي الصفحة الأولى وجدْنا طابعًا بقيمة شلنَين أعلى بصمتَي إبهام أونيانجو اليُمنى واليسرى. وكانت دوائر البصمتَين لا تزال واضحةً مثل طبعات المرجان المتروكة على الصخر. وكان مُربَّع الصورة — الذي اشتمل عليها فيما سبق — فارغًا.
ذُكر في الجملة الافتتاحية للكتاب: «الهدف من هذا القانون هو منْح كل شخصٍ يعمل في الخدمة المنزلية سجلًا لهذه الوظيفة، وحماية مصالحه/مصالحها إلى جانب حماية أصحاب العمل من توظيف أشخاصٍ أثبتوا أنهم غير مُناسِبين لهذا العمل.»
عُرِّفَت كلمة خادم بأنه كل: «طاهٍ، خادم منزلي، نادل، كبير خدم، مرضعة، خادم خصوصي، مساعد ساقي خمر، خادم لفتح أبواب السيارات والوقوف على الموائد، أو سائق، أو عامل لغسل الملابس وكَيِّها.» أمَّا عن القواعد التي تفرض حمْل هذه السجلات فإنها تتمثل في أن الخدم المضبوطين وهم يعملون دون حمْل هذه الكتب، أو يهملون فيها بطريقةٍ أو بأخرى «يُصبحون مسئولين قانونيًّا عن دفع غرامة لا تزيد عن ١٠٠ شلن أو السجن لمدة لا تزيد عن ستة أشهر أو كلتا العقوبتَين.» ومن ثم فإن البيانات التفصيلية للخادم المُسجَّل المشار إليه آنفًا مُلئت بخطِّ اليد بأسلوبٍ مُتأنِّق كتبَه أحد الموظفين بتأنٍّ:
-
الاسم: حسين الثاني أونيانجو.
-
رقم قانون التسجيل القومي: Rwl A NBI 0976717.
-
العِرق أو القبيلة: لوو.
-
محل الإقامة في حالة عدم العمل: كيزيمو.
-
الجنس: ذكر.
-
العمر: ٣٥ عامًا.
-
الطول وبنية الجسم: ٦ أقدام، متوسط البنية.
-
البشرة: داكنة.
-
الأنف: أفطس.
-
الفم: كبير.
-
الشعر: مجعَّد.
-
الأسنان: ست أسنان مفقودة.
-
آثار جروح، أو علامات قبلية مميزة، أو مميزات أخرى: لا يُوجَد.
بالقرب من نهاية الكتاب وجدنا بيانات التوظيف مُوقَّعة ومُصدَّقًا عليها من قِبل أصحاب عمل مُختلفين. قال القبطان سي هارفورد وهو عضو في دار الحكومة في نيروبي إن أونيانجو «نَفَّذَ ما كُلِّف به بصفته خادمًا شخصيًّا بجِدٍّ واجتهاد.» بالإضافة إلى أن السيد إيه جي ديكسون ذكر أن طهوَه ممتاز وقال إنه «يستطيع القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية وطهو كافة أنواع الأطعمة … وبصرف النظر عن الأشياء الأخرى فإن المعجنات التي يصنعها ممتازة.» لكنه لم يَعُد في حاجةٍ إلى خدمات أونيانجو؛ إذ «لم أعُدْ أخرج في رحلات سفاري.» أما دكتور إتش شيري فقال إن أونيانجو «طاهٍ بارع لكنَّ هذه الوظيفة لا يراها أونيانجو مهمةً بالقدرِ الكافي.» مع أن السيد آرثر دبليو إتش كول الموظَّف بشركة «إيست أفركا سيرفاي جروب» قال إن أونيانجو بعد العمل «لمدة أسبوع في الوظيفة وُجِد أنه غير كفء، ولا يستحقُّ بكل تأكيدٍ أن يتقاضى أجرًا قدره ٦٠ شلنًا شهريًّا.»
انتقلْنا بعد ذلك إلى تصفُّح مجموعة الخطابات. كان قد كتبَها أبونا وكانت مرسلةً إلى جامعاتٍ مختلفة في الولايات المتحدة. وكان أكثر من ٣٠ خطابًا منها موجَّهًا إلى رؤساء جامعة مورجان، ومعهد سانتا باربرا، وجامعة ولاية سان فرانسيسكو.
بدأ أحد الخطابات بعبارة «سيدي كالون رئيس الكلية». ثم كان نصُّه كالتالي: «لقد سمعت عن كُليتكم من السيدة هيلين روبرتس من مدينة بالو ألتو بكاليفورنيا والتي تقطن الآن هنا في نيروبي، ولمعرفتها بقدرِ رغبتي في استكمال دراساتي في الولايات المتحدة الأمريكية نصحتني السيدة روبرتس بأن أرسل طلب التحاقي بكليتكم الجديرة بالاحترام. وبناءً عليه فإنني سأسعد كثيرًا إذا ما تكرَّمتم وأرسلتم لي استمارة طلب الالتحاق والمعلومات الخاصة بإمكانية الحصول على مِنَحٍ دراسية طبقًا لمعرفتكم.» أُلحِقَت بخطاباتٍ كثيرة تزكيات من الآنسة إليزابيث مووني، وهي مُدرِّسة من ولاية ميريلاند. كان مكتوبًا فيها: «من غير الممكن استخراج شهادات مدرسية للسيد أوباما لأنه تخرَّج في المدرسة منذ سنوات.» لكنها عبَّرت عن ثِقتِها بمواهب والِدِنا وكتبت أنها لاحظتْهُ وهو «يستخدِم الجبر والهندسة.» وأضافت أن كينيا في حاجةٍ ماسَّة إلى مُدرِّسين بارعين مُتفانين في العمل وأنه «يجب إعطاء السيد أوباما الفرصة ربما لمدة عامٍ واحد طبقًا لرغبته في خدمة بلده.»
فكَّرتُ بيني وبين نفسي أن هذا هو ما عليه الحال. هذا هو إرثي. رتَّبتُ الخطابات أحدَها فوق الآخر بطريقةٍ منظمة ووضعتُها أسفل كتاب تسجيل الوظائف. ثم خرجتُ إلى الفناء الخلفي ووقفتُ أمام القبرَين، وعندئذٍ شعرتُ بأن كلَّ ما حولي — حقول الذرة وشجرة المانجو والسماء — يقترب مِني ويُحيط بي إلى أن أصبحتُ بمفردي مع سلسلة صورٍ ذهنية ونَبَضت قصص الجَدة بالحياة.
رأيتُ جَدي واقفًا أمام كوخ أبيه، رأيته صبيًّا نحيفًا مُتجهِّم الوجه ويبدو مضحكًا ببنطلونه الكبير وقميصه الخالي من الأزرار. وشاهدتُ أباه وهو يُدير ظهره إليه وسمعتُ إخوته وهم يضحكون. وشعرتُ بالسخونة المتصاعِدة من جبينه وتوتُّر عضلات أطرافه ونبضات قلبه القوية المفاجئة. وعندما استدار وبدأ يشقُّ طريق الرجوع على الأرض الحمراء أدركتُ أن مسار حياته الآن قد تغيَّر بصورةٍ كاملة على نحوٍ لا يمكن إرجاعه.
سيُضطَر جَدي إلى أن يغيِّر من نفسه تمامًا في هذا المكان القاحل المنعزل. وبقوة الإرادة سيخلق حياةً مِن فتاتِ عالمٍ مجهول وذكريات عالمٍ بات مهجورًا. ومع ذلك فإنني أعرف أنه، وهو جالس بمفرده في كوخه النظيف؛ أبٌ ابيضَّت عيناه، لا يزال يسمع أباه وإخوته يضحكون من وراء ظهره. ويسمع صوت القبطان البريطاني المتقطِّع، وهو يُوضح للمرة الثالثة والأخيرة النسبة الصحيحة للتونيك إلى سائل الجِن الكحولي. فتتوتَّر أعصاب رقبتِهِ وغضبه يحتدم ويمسك بعصاه لتحطيم شيء، أي شيء. إلى أن تخرَّ قواه في النهاية بإدراكه أنه برغم القوة التي يمتلكها وقوة الإرادة فإن ضحِكه وتوبيخه لن يئولا إلى زوالٍ بعد مماته. يضعُف الجسد ولا يقوى على النهوض من على مقعده ويعلم الجَد أنه لن يعيش أطولَ من قدَرِه الساخر وينتظر الموت وحيدًا.
تلاشت هذه الصورة وحلَّت محلَّها صورة صبيٍّ في التاسعة من عمره … هو أبي. جوعانُ، متعبٌ، مُتشبثٌ بيد أُخته، يبحث عن الأم التي فقدَها. يتضوَّر جوعًا ويقتله التعَب إلى أن ينقطع الحبل الرفيع الذي يربطه بأمِّه ويُرسِل صورتها لتُحلِّق بعيدًا في الفراغ. وبعدها يبكي ويُحرِّر يدَه من قبضة يد أخته. ويريد العودة إلى الوطن، يصرخ للعودة إلى منزل أبيه. وهناك سيجد أمًّا جديدة. وينغمس في الألعاب ويكتشف قوة عقلِه.
لكنه لن ينسى اليأس الذي شعر به ذاك اليوم وبعد ١٢ عامًا سيرفع عينَيه عن الملفات وهو جالس خلف مكتبه الضيق لينظر إلى السماء المتقلِّبة ويشعر بالخوف نفسه يعود إليه. وسيُضطر أيضًا إلى تغيير نفسه. ورئيسه خارج المكتب يُنحِّي الملفات جانبًا ويُخرج قائمة عناوين من خزانة الملفات القديمة. ويجذب الآلة الكاتبة تجاهه ويبدأ الكتابة — حرفًا تلوَ الآخر — ويكتب على الأظرُف ثم يُغلقها بإحكام، مثل الرسائل داخل الزجاجات ويُلقيها في مُحيطٍ واسع وربما تسمح له بالهرب من جزيرة الخزي الذي ألحقَه بأبيه.
كم شعر أنه محظوظ عندما رست سفينته وبدأت تؤتي ثمار رحلتها! لا بد أنه عرف عندما تسلَّم الخطاب من هاواي أنه اختير رغم أي شيء؛ وأنه حلَّت عليه بركةُ اسمه الذي يعني بركةَ الرب. وبحصوله على الشهادة وارتدائه رابطة العنق وزواجه من امرأة أمريكية وامتلاكه سيارة وتحدُّثه بكلماتٍ مُنتقاة ومعرفته الحساب وحمله محفظة جيب ومعرفته نسبة التونيك إلى الجن وتعامُله بكِياسة وثقته بنفسه والحرص على كمال كل شيء وتلقائيته وتركه عشوائيةَ ماضيه وإهماله … تُرى ما الذي سيقف في طريقه؟
لقد نجح إلى حدٍّ ما بطريقةٍ لم يأمُل فيها والده إطلاقًا. وبعدئذٍ، بعد أن سافر كما بدا إلى أماكنَ بعيدةٍ اكتشف أنه لم يستطِع الهرب في النهاية! اكتشف أنه ظل حبيسًا في جزيرة أبيه بكلِّ ما تشتمل عليه من جراح غضب وشكٍّ وهزيمة وأن هذه الأحاسيس لا تزال موجودة تحت السطح، لا تزال عنيفة ومتوهجة وحية، وأُمُّه بعيدة عنه …
ارتميتُ على الأرض ومسحت بيدي على بلاط القبر الأصفر الناعم. وبكيت: أبتاه! ليس هناك ما يدعوك إلى الخزي من حيرتك. مثلما لا يُوجَد ما يدعو أباك من قبلك إلى الخزي من حيرته. ليس هناك خزيٌ في شعوره بالخوف أو شعور أبيه من قبله. وإنما في الصمت المتمخِّض عن الخوف. الصمت الذي خاننا. الصمت الذي لولا وجوده لكان جَدك سيقول لأبيك إنه لن يستطيع إطلاقًا الهرب من نفسه أو تغيير نفسه بمفرده. وكان سيُعلِّمك أبوك هذه الدروس نفسها. وكنتَ ستُعْلِم أباك أن هذا العالم الجديد الذي جذبكم جميعًا اشتمل على أشياءَ تجاوزت السكك الحديدية والحمَّامات الداخلية في المنازل وقنوات الري والفونوغراف؛ تلك الوسائل غير النابضة بالحياة التي أصبحت جزءًا من الأساليب القديمة. ربما كنتَ ستُخبِره أن هذه الوسائل اشتملت على قوةٍ خطيرة وأنها تطلَّبت أسلوبًا مختلفًا لرؤية العالم. ربما كنت ستُخبره أن هذه القوة كان من الممكن استيعابها جنبًا إلى جنب مع إيمانٍ خلَّفته الصِّعاب؛ إيمان لم يكن جديدًا، لم يكن أسود أو أبيض أو مسيحيًّا أو مسلمًا، بل إيمان نبض في قلب أول قرية أفريقية وأول مُستعمرة في كانساس، كان إيمانًا في أناسٍ آخرين.
قتل الصمت إيمانك. ونظرًا لنقص الإيمان لدَيك تشبَّثت بالاثنين كثيرًا وقليلًا جدًّا بماضيك. تشبَّثت كثيرًا بصرامته وشكوكه وقسوته الذكورية. وتشبَّث قليلًا جدًّا بالضحكة في صوت الجَدة والابتهاج بالصحبة وقت رعي الماعز، وهمهمة السوق، والقصص حول حلقات النار. الولاء الذي يمكن أن يعوِّض عن عدم وجود الطائرات أو البنادق. كلمات التشجيع. الاحتواء والحب الصادق القوي. ومع امتلاك جميع مواهبك — سرعة البديهة ومهارات التركيز والجاذبية — فإنك لم تستطِع إطلاقًا صُنْع نفسك بالتخلِّي عن هذه الأشياء …
جلست وقتًا طويلًا بين القبرَين وبكيت. وعندما انهمرت دموعي في النهاية انتابني شعورٌ قوي بالسكينة والطمأنينة على حين غِرة. وشعرت بأن الدائرة أخيرًا أُغلقت. وأدركت حينئذٍ أن ماهيتي واهتماماتي لم تَعُد مجرد أشياء لها علاقة بالذكاء أو المسئولية ولم تَعُد مجرد كلمات. ورأيت أن حياتي في أمريكا — بين السود وبين البِيض، وشعوري بأنني جرى التخلي عني وأنا صبي، والإحباط والأمل اللذين شعرتُ بهما في شيكاغو — مرتبطة بكلِّ ما فيها بهذه الأرض الصغيرة السحيقة، ووجدتها مُرتبطة بأكثرَ من مصادفةِ رسمي بهذا الاسم أو لون بشرتي. وكان الألم الذي شعرتُ به ألم أبي. ومشكلاتي مشكلات إخوتي. وكفاحهم حق مولدي.
بدأت السماء تمطر مطرًا خفيفًا ونزلَت قطراتها على أوراق الشجر. وعندما أوشكتُ على إشعال سيجارة شعرت بيدٍ على ذراعي. واستدرتُ لأجد بيرنارد جالسًا القرفصاء بجواري محاولًا أن تشملنا معًا مظلة قديمة مُنثنية.
قال لي: «طلبوا مني أن أطمئن عليك.»
ابتسمت. وقلت: «أنا بخير.»
أومأ برأسه وحدَّق بعينَين شبه مُغمضتَين في السُّحب. ثم استدار لي وقال: «أعطني سيجارة وسأجلس وأُدخِّن معك.»
نظرتُ إلى وجهه الداكن الناعم وأعدت السيجارة إلى علبتها. وقلت له: «أريد الإقلاع عن التدخين.» وتابعت: «هيا، دعنا نتمشَّى.»
نهضنا واتجهنا نحو مدخل المجمع السكني. وكان جودفري واقفًا بجوار كوخ إعداد الطعام متكئًا بإحدى ساقَيه على الجدار الطيني. بدا مثل طائر الغرنوق. فنظر إلينا وابتسم بتحفُّظ.
قال بيرنارد وهو يلوِّح للصبي: «تعالَ!» وتابع: «فلتَسِر معنا.» وهكذا مشى ثلاثتنا على الطريق الممتدِّ غير المُعَبَّد محاوِلين لمسَ أوراق الشجر المزروعة بطول الطريق ونحن نشاهد الأمطار تُغرِق أوديةً كثيرة.