الفصل الثالث
استغرقتُ بعض الوقت حتى تعرفتُ عليهما في الزحام. في البداية عندما انفتحت الأبواب الجرَّارة كان كلُّ ما استطعت أن أُميزه هو صورة غير واضحة لوجوهٍ مبتسمة متلهفة تنظر باتجاه الحاجز. ثم التقطت عيناي في النهاية رجلًا طويلَ القامة يميل شعره إلى اللون الأبيض يقف في آخر الزحام، ومعه سيدة قصيرة لا تكاد تظهر وهي تقف إلى جواره ذات وجهٍ دائري وترتدي نظارةً دائرية. بدأ الاثنان يلوِّحان لي، لكن قبل أن ألوِّح لهما اختفيا وراء زجاجٍ نصف شفاف.
نظرتُ إلى مقدمة الصف فرأيت عائلةً صينية يبدو أنها تواجه بعض المشكلات مع مسئولي الجمارك. كانت رفقة تلك الأسرة ممتعة طوال الرحلة من هونج كونج، فكان الأب يخلع حذاءه ويسير جَيئةً وذهابًا في الممرات، والأطفال يصعدون فوق المقاعد، والأم والجدة تجمعان الوسائد والأغطية وتثرثران معًا دون توقُّف. وفي تلك اللحظة كانت العائلة تقف ساكنة تمامًا، تحاول أن تختفي عن الأنظار، وعيونهم تتابع بصمتٍ الأيديَ التي تقلِّب في جوازات سفرهم وأمتعتهم بهدوءٍ يثير الخوف. وكان الأب يذكِّرني بلولو بشكلٍ ما، فنظرتُ إلى القناع الخشبي الذي كنتُ أحمله في يدي والذي أهداني إياه صديقُ أُمي مساعد الطيار الإندونيسي الذي اصطحبني في حين وقفت هي ولولو وأختي الجديدة مايا على البوابة. أغلقت عينيَّ ووضعتُ القناع على وجهي. كانت تنبعث من الخشب رائحةُ جوز الهند والقرفة، وشعرت بنفسي أنجرف عبر المحيطات وفوق السُّحب إلى الأفق البنفسجي عائدًا إلى المكان الذي كنت فيه يومًا ما …
صاح أحدٌ باسمي. فسقط القناع إلى جانبي ومعه حلم يقظتي، ورأيت مرةً أخرى جَديَّ يقفان يلوِّحان لي بحماس. هذه المرة لوَّحتُ لهما، ثم دون أن أفكِّر أعدتُ القناع على وجهي مرة أخرى، وجعلتُ رأسي يتمايل في رقصةٍ قصيرة غريبة. ضحك جَدَّاي وأشارا إليَّ ولوَّحا مرة أخرى حتى ربَّت مسئول الجمارك على كتفي وسألني هل أنت أمريكي، فأومأتُ له بالإيجاب وسلَّمته جواز سفري.
فقال لي: «تفضَّل» ثم طلب من العائلة الصينية أن تتنحى جانبًا.
أغلقتُ الأبواب الجرارة خلفي. واحتضنتني جَدتي ووضعَتْ حول رقبتي عِقدًا من الحلوى واللبان. وألقى جَدي ذراعه حول كتفي وقال إن القناع تحسَّن لا جدال فيه. واصطحباني إلى السيارة الجديدة التي اشترياها، وعلَّمني جَدي كيف أُشغل جهاز التكييف. قُدنا السيارة في الطريق السريع، ومررنا بمطاعم الوجبات السريعة، والنُّزل الرخيصة التكلفة، وأسواقٍ لبيع السيارات المستعملة محاطة بسياجٍ مُزيَّن. وأخذتُ أحدِّثهم عن الرحلة وعن كل شخصٍ تركته في جاكرتا. وأخبرني جَدي بما خطَّطاه لحفل عشاء الترحيب بعودتي. وقالت جَدتي إنني سأحتاج إلى ملابس جديدة للمدرسة.
ثم فجأة، توقَّف الحوار. فأدركتُ أنني سأعيش مع غريبَين عني.
لم تبدُ الترتيبات الجديدة سيئةً عندما شرحَتْها لي أمي في البداية. فقالت إنه حان الوقت كي ألتحق بمدرسةٍ أمريكية، وإني سأراجع سريعًا جميع دروس المنهج الذي درسته بالمراسلة. وقالت إنها ومايا ستلحقان بي في هاواي قريبًا للغاية — عام على الأكثر — وإنها ستحاول أن تأتي في الكريسماس. وذكَّرتني كم كان الوقت الذي قضيتُه مع جديَّ الصيف السابق ممتعًا؛ الآيس كريم وأفلام الكرتون والأيام التي أمضيناها على الشاطئ. وقالت: «لن يكون عليك أن تستيقظ في الرابعة صباحًا»، وهو أمرٌ وجدتُ أنه أكثرُ جاذبية لي.
لم أُدرك أن جديَّ تغيرَا كثيرًا إلا في ذلك الوقت عندما بدأتُ أتكيف في الحياة معهما لفترةٍ غير محدَّدة ورأيتُ كيف تسير حياتهما. فبعد أن رحلتُ أنا وأمي باعا المنزل الكبير القديم الذي كان قريبًا من الجامعة، واستأجرا شقةً صغيرة بها غرفتان للنوم في مبنًى شاهق الارتفاع في شارع بيريتانيا. وترك جَدي عمله في تجارة الأثاث ليعمل وسيطًا في مجال بيع بوالص التأمين على الحياة، ونظرًا لأنه لم يكن قادرًا على إقناع نفسه بأن الناسَ تحتاج ما يحاول بيعه لهم، ولكونه حسَّاسًا تجاه الرفض، لم يَسِر العمل على ما يُرام. ومساء كل يوم أحد، كنتُ أشاهِده وهو يُصبح أكثرَ عصبيةً عندما يمسك بحقيبته، ويضع منضدةً قابلةً للطي أمام مقعده، ويلاحِق أيَّ شيءٍ قد يشتِّت انتباهه حتى يدفعنا في النهاية للخروج من غرفة المعيشة، ويحاول أن يحدِّد مواعيد مع عملاء مُحتمَلين عبر الهاتف. وفي بعض الأحيان عندما كنت أتسلَّل على أطراف أصابعي إلى المطبخ كي أُحضِر زجاجةَ مياه غازية، كنت أسمع اليأس وهو يتسلَّل إلى صوته، وفترة الصمت التي تتبع هذا اليأس عندما يفسِّر له الشخص على الطرَف الآخر من الهاتف لماذا يوم الخميس غير مناسب والثلاثاء ليس أفضل كثيرًا، ثم أسمع تنهيدةَ جَدي العميقة بعد أن يضع سماعة الهاتف، ويده تتحسَّس الملفات على حِجره باضطرابٍ مثل لاعب الورق الذي يواجه ورطةً كبيرة.
وفي النهاية، يرقُّ بعض الناس، فيذهب عنه الألم، ثم يدخل جَدي إلى غرفتي ليحكي لي قصصًا عن شبابه أو الدعابة الجديدة التي قرأها في مجلة «ريدرز دايجست». وإذا كانت المكالمات التي أجراها سارت على ما يرام في تلك الليلة فقد يُناقش معي بعضَ الأمور التي لا يزال يُفكِّر فيها؛ مثل ديوان الشعر الذي بدأ يكتبه، والرسم التخطيطي الذي يوشك أن يتحوَّل إلى لوحة، ومخططات المساقط الأفقية لمنزل أحلامه المتكامل الذي تُتاح فيه وسائل الراحة والرفاهية التي سيحصل عليها بضغطة زر، وسيحتوي على حديقةٍ خلَّابة. ورأيتُ كيف أن خططه كلما ابتعدت عن نطاق إمكانية تحقيقها ازدادت جرأة، لكني رأيتُ فيها بعضًا من حماسه القديم، وكنتُ أحاول عادةً أن أبتكر أسئلةً مُشجِّعة تساعد على إبقاء حالته النفسية جيدة. ثم عند نقطةٍ ما أثناء حديثه، نلاحظ نحن الاثنين أن جَدتي تقف في الرَّدهة خارج غرفتي، ورأسها يميل جانبًا في انتقاد.
«ماذا تريدين يا مادلين؟»
«هل انتهيتَ من مكالماتك الهاتفية يا حبيبي؟»
«نعم يا مادلين. انتهيتُ من مكالماتي الهاتفية. إنها العاشرة مساءً!»
«لا داعي للصراخ يا ستانلي. لقد أردتُ فقط أن أعرف هل بإمكاني الذهاب إلى المطبخ.»
«أنا لا أصرخ! يا إلهي، لا أفهم لماذا …» وقبل أن ينتهي من عبارته تكون جَدتي قد انسحبت إلى غرفةِ نومهما، فيترك جَدي غرفتي ونظرةُ الاكتئاب والغضب ترتسِم على وجهه.
أصبحَت مثل هذه الأحاديث أمرًا معتادًا لي؛ إذ كانت المناقشات بين جَدي وجَدتي تسير بنمطٍ روتيني يتكرَّر كثيرًا، نمط نشأ نتيجة الحقيقة التي نادرًا ما تُذكر وهي أن دخلَ جَدتي كان أعلى من جَدي. وقد أثبتت أنها رائدة في مجال عملها إلى حدٍّ ما؛ فقد كانت أول سيدة تعمل نائبةَ رئيس بنكٍ محلي، ومع أن جَدي كان يُحب دائمًا أن يقول إنه كان يُشجِّعها لتتقدَّم في عملها، فقد أصبح عملها موضوعًا حسَّاسًا ومريرًا بينهما؛ فالعمولات التي كان يتلقَّاها كانت لا تُسدِّد سوى أقلِّ القليل من فواتير الأسرة.
لم تكن جَدتي تتوقَّع تحقيقَ هذا النجاح. فنظرًا لأنها لم تكن حاصلةً على درجةٍ جامعية فقد بدأت العملَ سكرتيرةً للمساعدة في تحمُّل نفقات مجيئي غير المتوقَّع إلى الدنيا. ولكنها كانت سريعة البديهة وسديدة الرأي ولديها القدرة على العمل المتواصِل. وأخذت تتقدَّم في عملها ببطء، وكانت تتصرَّف مع مَن حولها بأمانةٍ وشرف حتى وصلت إلى بابٍ لم تكن الكفاءة كافية لاجتيازه. وظلت في وظيفتها ٢٠ عامًا، نادرًا ما تحصل على إجازات وتشاهد نظراءها من الرجال وهم يُواصِلون الصعود على درجات السُّلَّم الوظيفي، ويلجئون للغش قليلًا باستخدام معلوماتٍ تتسرَّب أثناء لعب الجولف وأثناء الطريق إلى مبنى النادي، ويُصبحون رجالًا أثرياء.
وأكثر من مرة، قالت أمي لجَدتي إنه لا ينبغي أن يفلت البنك من العقاب على سياسة التفرقة الجنسية الصارخة التي يتَّبعها. لكن جَدتي كانت تستخفُّ بملاحظات أُمي وتقول إن كل شخصٍ بإمكانه أن يجد سببًا للشكوى من شيءٍ مُعيَّن. ولم تشتكِ جَدتي قط، وكل صباح كانت تستيقظ في الخامسة صباحًا، وتبدِّل الموو موو — رداء النساء التقليدي في هاواي — غيرَ المهندم الذي كانت ترتديه في المنزل، وترتدي بذلتها الأنيقة وحذاءً عاليَ الكعب. وتضع المساحيق على وجهها، وترتدي مشدًّا للوسط (كورسيه)، وتُزين شعرها الخفيف ثم تستقل حافلةَ السادسة والنصف صباحًا لتصل إلى مكتبها في وسط المدينة قبل الجميع. ومن حينٍ لآخر، كان يأخذها التفاخُر بعملها رغمًا عنها وتستمتع بإخبارنا بالقصة الخفية وراء الأخبار المالية المحلية. وعندما كبرتُ أسرَّت إليَّ بأنها لم تتوقَّف قط عن الحلم بمنزلٍ له سياج خشبي أبيض، وقضاء الأيام وهي تخبز أو تلعب البريدج أو تعمل متطوعةً في المكتبة المحلية. وقد فاجأني هذا الاعتراف؛ إذ إنها نادرًا ما كانت تُعبِّر عن أُمنياتها أو الأشياء التي تندم عليها. قد يكون صحيحًا، أو لا يكون، أنها كانت ستفضِّل الحياةَ البديلة التي تخيلَتْها لنفسها، لكني أصبحتُ أفهم أن حياتها المهنية كانت في وقتٍ لم يكن فيه عملُ الزوجة خارج منزلها مصدرًا للتباهي، سواء لها أو لجَدي، وأنه لم يكن يمثِّل إلا سنوات تضيع، ووعودًا تتحطم. والشيء الذي كانت جَدتي تعتقد أنه يجعلها قادرةً على الاستمرار هو احتياجات أحفادها، والجَلَد الذي كان يتميَّز به أجدادها.
فقد قالت أكثرَ من مرة: «المهم حقًّا يا باري، هو أنكم بخير أيها الأولاد.»
هكذا أصبح جَدي وجَدتي يعيشان. كانا لا يزالان يُعِدَّان طبق الساشيمي للضيوف الذين أصبحوا قليلي التردُّد على منزلهما. وكان جَدي لا يزال يرتدي قميص هاواي عند ذَهابه إلى المكتب، وكانت جَدتي لا تزال تصرُّ على أن نخاطبها بلقب «توت». ولكن فيما عدا ذلك، فقد جفَّ نبع الطموح الذي حملاه معهما إلى هاواي، حتى أصبح الانتظام — انتظام المواعيد والتسلية والطقس — هو العزاء الوحيد لهما. وكانا يتذمَّران من حينٍ لآخر من أن اليابانيين قد استولوا على الجزر، وكيف تحكَّم الصينيون في الموارد المالية للجزيرة. وفي أثناء جلسات استماع قضية ووترجيت، انتزعت أُمي منهما اعترافًا بأنهما انتخبا نيكسون، مرشح القانون والنظام، في انتخابات عام ١٩٦٨م. ولم نَعُد نذهب إلى الشاطئ أو نتنزَّه معًا، وفي المساء كان جَدي يشاهد التليفزيون في حين كانت جَدتي تجلس في غرفتها تقرأ قصص ألغاز جرائم القتل. وأصبح مصدر الإثارة في حياتهما هو شراء ستائر جديدة أو مُجمد منفصل. لقد بدا كما لو أنهما تجنَّبا تلك القناعة التي تأتي في منتصف العمر؛ أي التقاء النضج النابع من الخبرة الحياتية بما تبقى من العمر، والتقاء طاقة الإنسان بما هو متاح له من وسائل، والاعتراف بالإنجازات التي تحرِّر الروح. لقد قرَّرا في وقتٍ ما أثناء غيابي أن يُقلِّلا من خسائرهما ويقبلا مجرد البقاء. ولم يعودا يريان أية غاية يتمنَّيان تحقيقها.
•••
وعندما اقترب الصيف من نهايته، تزايد شوقي لبدء الدراسة. وكان اهتمامي الرئيسي هو أن أجد رفاقًا في مثل عمري، ومن وجهة نظر جَدي كان قبولي في «أكاديمية بوناهو» إعلانًا ببداية شيءٍ عظيم وسموًّا في مكانة العائلة حتى إنهما لم يدَّخِرا جهدًا كي يجعلا الجميع يعلم بهذا. فقد أصبحت أكاديمية بوناهو، بعد أن أسَّستها البعثات التبشيرية عام ١٨٤١م، مدرسةً إعدادية لها مكانتها، مكانًا يدرُس فيه أبناء عِلية القوم في الجزيرة. وقد ساعدت سُمعتها في إثناء أُمي عن قرار إرسالي إلى إحدى الولايات الأمريكية. فقد أخبرها جَدي وجَدتي أن التحاقي بها لم يكن أمرًا سهلًا؛ إذ كانت هناك قائمة انتظار طويلة، ولم أحظَ بفرصة القبول إلا بعد تدخُّل رئيس جَدي في العمل الذي كان أحد خريجي الأكاديمية (يبدو أن أول تجربةٍ لي مع سياسة التمييز الإيجابي لم يكن لها علاقة بالعِرق).
كنتُ قد أجريتُ عدةَ مقابلات شخصية مع المسئولة عن القبول في أكاديمية بوناهو الصيف السابق. وكانت سيدة مُفعمة بالحيوية وتبدو شخصًا كفئًا لم يزعجها أن قدميَّ لا تكادان تلمسان الأرض وهي تسألني بإلحاحٍ عن أهدافي المهنية. وبعد المقابلة أرسلتني السيدة أنا وجَدي في جولةٍ في حرم المدرسة، الذي كان مجمعًا يمتدُّ لعدة أفدنة من الحقول الوافرة الخضرة والأشجار الظليلة، ومبانٍ مدرسية قديمة مبنية بالحجارة وأخرى حديثة من المعدن والزجاج. وكانت هناك ملاعب تنس وحمامات سباحة واستديوهات تصوير. وفي أثناء الجولة تخلفنا قليلًا عن المرشد، وأمسك جَدي ذراعي وهمس.
قال: «اللعنة يا باري، هذه ليست مدرسة. إنها جنة. يمكنك أن تجعلني أعود مرةً أخرى لصفوف الدراسة معك.»
وصل مع خطاب القبول مظروفٌ سميك يحتوي على المعلومات وضعتْه جَدتي جانبًا لنقرأه بتأنٍّ بعد ظُهر أحد أيام السبت. وجاء في الخطاب: «مرحبًا بك في عائلة بوناهو.» وجاء فيه أنه خُصِّصت لي خزانة، وأُدرج اسمي في برنامج تناول الوجبة إلا إذا وضعْنا علامة في المربع المخصَّص لغير ذلك، وكانت هناك قائمة بالأشياء التي ينبغي لي شراؤها؛ زي مُوحَّد للتربية البدنية، ومقص ومسطرة وأقلام رصاص رقم ٢، وآلة حاسبة (اختياري). قضى جَدي المساء يقرأ كتاب المدرسة الإرشادي بالكامل وهو كتاب كبير يوضِّح التقدُّم المتوقَّع لي خلال السنوات السبع القادمة؛ مناهج المدرسة الإعدادية، والأنشطة خارج المقرَّر، وأسلوب تحقيق التفوُّق الشامل في عدة مجالات. ومع كل نقطة جديدة يزداد حماس جَدي؛ فقد نهض عدة مرات وهو يضع إبهامه حيث توقَّف ويتجه إلى الغرفة حيث كانت جَدتي تقرأ ويقول لها وصوته مليء بالدهشة: «ألقي نظرةً على هذا يا مادلين.»
ولهذا صحبني جَدي بحماسٍ شديد في يومي الأول في المدرسة. وأصرَّ على أن نصل مبكرًا، ولم يكن مبنى «كاسل هول» المخصَّص للطلاب في الصفَّين الخامس والسادس قد فتح أبوابه بعد. ولم يصل سوى حفنة من الأطفال، وكانوا منشغِلين بمعرفة أخبارِ ما حدث في الصيف. جلسْنا إلى جوار صبيٍّ صيني رشيق يضع جهازًا ضخمًا لتقويم الأسنان يلتف بشرائط حول عنقه.
قال جَدي للصبي: «مرحبًا بك.» وتابع: «هذا باري. وأنا جَدُّ باري. يمكنك أن تخاطبني جَدي.» وصافح الصبي الذي كان اسمه فريدريك. وقال له: «باري جديد هنا.»
فقال فريدريك: «وأنا أيضًا»، واشتركا معًا في حوارٍ شائق. وجلستُ وأنا أشعر بالخجل حتى فُتحت الأبواب أخيرًا وصعدنا السُّلَّم إلى الفصل. وعند الباب، ربَّت جَدي على ظهر كِلَينا.
وقال وقد ارتسمت على شفتَيه ابتسامةٌ عريضة: «لا تفعلا أيَّ شيءٍ كنت سأفعله أنا.»
وقال فريدريك وهو يشاهد جَدي يقدِّم نفسه للآنسة هيفتي مدرِّسة الفصل: «إن جَدك خفيف الظل.»
«نعم، إنه كذلك.»
جلسنا إلى الطاولة ومعنا أربعة أطفال وبدأت الآنسة هيفتي، وهي سيدة متوسطة العمر مفعمة بالحيوية لها شعر رمادي قصير، تُسجِّل الحضور. وعندما قرأت اسمي بالكامل، سمعتُ ضحكاتٍ مكتومة تتردَّد في أرجاء الغرفة، وانحنى فريدريك عليَّ.
قال: «ظننت أن اسمك هو باري.»
وسألتني الآنسة هيفتي: «هل تُفضِّل أن نُناديك باسم باري؟» وتابعت: «إن باراك اسم جميل للغاية. يقول جَدك إن أباك كيني الجنسية. لقد كنتُ أعيش في كينيا. أُدرِّس لأطفالٍ في مثل عمرك تقريبًا. وإنه لبلدٌ رائع حقًّا. هل تعلم إلى أية قبيلة ينتمي والدك؟»
أثار سؤالها المزيد من الضحكات، وظللتُ أنا صامتًا دون أن أتفوَّه بكلمة لدقيقة. وعندما قلت في النهاية «لوو»، أعاد صبي أشقر الشعر يجلس خلفي الاسم بصيحة استهزاء عالية مقلدًا صوت القرد. ولم يستطِع الأطفال بعد ذلك السيطرةَ على أنفسهم، وتطلَّب الأمرُ من الآنسة هيفتي أن تُوبِّخ الفصل بقوةٍ حتى يهدأ وانتقلنا، رحمةً بي، إلى الشخص التالي في قائمة أسماء التلاميذ.
قضيتُ باقي اليوم حائرًا، وطلبَتْ مني فتاةٌ حمراء الشعر أن تلمس شعري، وكان من الواضح أن رفضي قد آلمها. وسألني ولدٌ أحمر الوجه عما إذا كان أبي من آكلي لحوم البشر. وعندما عُدت إلى المنزل كان جَدي مستغرقًا في إعداد العشاء.
«كيف كان الحال؟ أليس من الرائع أن الآنسة هيفتي كانت تعيش في كينيا؟ أراهن أن هذا جعل اليوم الأول في المدرسة أسهل.»
ذهبتُ إلى غرفتي وأغلقت الباب.
وسرعان ما اعتاد الأطفال الآخرون على وجودي في الفصل، ومع ذلك فقد استمر شعوري بأنني لا أنتمي إلى المكان يزداد. وكانت الملابس التي اخترتُها أنا وجَدي قديمةَ الطراز للغاية، وبدا مظهر الصندل الإندونيسي مُزريًا بعد أن كان جيدًا للغاية في جاكرتا. وكان معظم زملائي في الفصل معًا منذ الحضانة، ويعيشون في مناطقَ متجاورة في منازلَ من طابقين بها حمَّامات سباحة، وآباؤهم درَّبوا الفِرق نفسَها التي تلعب في مسابقة البيسبول التي تُنظِّمها «ليتل ليج»، وأمهاتهم ممن يدعمنَ أنشطة بيع المخبوزات لجمع التبرعات. ولم يكن أيٌّ منهم يلعب كرة القدم أو كرة الريشة أو الشطرنج، وأنا لم تكن لدي أدنى فكرة عن كيفية إلقاء الكرة بشكلٍ حلزوني أو الحفاظ على توازني وأنا على لوح التزلج.
كان الأمر بمنزلةِ كابوسٍ لطفل في العاشرة من عمره. إلا أنه مع عدم ارتياحي في الشهر الأول، فلم أكن أسوأ من الأطفال الآخرين المستبعَدين الذين يصنَّفون في فئةِ مَن لا يمكن تقبُّلهم بسهولة؛ وقد ضمَّت هذه الفئة الفتيات اللائي كن شديدات الطول أو الخجل، والصبي الذي كان نشيطًا شيئًا ما، والأطفال الذين منعتهم إصابتهم بالربو من حضور فصول التربية البدنية.
ومع ذلك فكانت هناك طفلة أخرى في فصلي تُذكِّرني بألمٍ من نوع آخر. اسمها كوريتا، وقبل وصولي كانت هي الفتاة السوداء الوحيدة في الصف. كانت ممتلئة الجسد وسوداء البشرة ولا يبدو أن لدَيها أصدقاء كثيرين. ومنذ اليوم الأول كلٌّ منا تجنَّب الآخر لكنه راقَبَه من بعيد، كما لو أن أيَّ اتصالٍ مباشر بيننا سيذكِّرنا بشدة بعُزلتنا.
وفي النهاية في أثناء فترة الفسحة في يومٍ حارٍّ سماؤه صافية من الغيوم وجدنا نفسينا في الركن نفسِه من الفِناء. لا أذكر ما دار بيننا من حديث، لكني أذكر أنها فجأة كانت تركض خلفي عبر القضبان الأُفقية والعمودية التي يستعملها التلاميذ في اللعب. وكانت تضحك بسعادةٍ وكنتُ أنا أغيظها وأراوغ بالركض بين تلك القضبان، حتى أمسكتني في النهاية وسقطنا على الأرض لا نستطيع التقاطَ أنفاسنا. وعندما نظرتُ لأعلى رأيتُ مجموعةً من الأطفال لم أرَ وجوههم بوضوحٍ أمام وهج الشمس يشيرون إلينا.
قالوا: «كوريتا لديها حبيب! كوريتا لديها حبيب!»
ارتفع صوت الغناء عندما التفَّ حولنا أولاد آخرون.
تمتمت: «إنها ليست حبيبتي.» ونظرتُ إلى كوريتا أنتظر منها الدعم، لكنها كانت تقف مكانها تنظر إلى الأرض.
«كوريتا لديها حبيب! لماذا لا تمنحها قُبلة أيها الحبيب؟»
فصرخت: «أنا لست حبيبها.» وركضتُ باتجاه كوريتا ودفعتُها برفقٍ، فترنَّحت إلى الخلف ونظرَت إليَّ دون أن تقول شيئًا. فصرختُ أنا مرة أخرى: «دعيني وشأني!» وفجأة أطلقت كوريتا ساقيها للريح وأخذت تركض أسرعَ فأسرع حتى اختفت عن الأنظار. وتصاعدت ضحكات السعادة من حولي. ثم دقَّ جرس انتهاء الفسحة، وظهر المدرسون ليعيدونا إلى الفصول.
ظلت تلك النظرة التي ارتسمت على وجه كوريتا قبل أن تركض تُطاردني فيما تبقَّى من ظهيرة ذلك اليوم؛ نظرةُ خيبةِ الأمل والاتهام. وأردتُ أن أشرح لها بطريقةٍ ما أن المسألة ليست شخصية؛ كلُّ ما في الأمر أنه لم تكن لديَّ حبيبة قط ولا أرى حاجة لأن تكون لدي واحدة الآن. لكني لم أعرف حتى هل كان ذلك صحيحًا، كلُّ ما كنتُ أعرفه هو أن وقت التفسير قد فات، وأنني تعرضتُ للاختبار، وكانت النتيجة أنني غير كفء، وكلما اختلستُ النظر إلى مقعد كوريتا رأيتها ورأسها ينحني على كتبها تبدو كما لو أن شيئًا لم يحدث، منطوية على نفسها ولا تطلب عطفًا من أحد.
خلقتْ خيانتي هذه مسافةً بيني وبين الأطفال الآخرين، وعلى غرارِ كوريتا تركوني وشأني تقريبًا. كان لديَّ عدد قليل من الأصدقاء وتعلمتُ ألا أتحدَّث كثيرًا في الفصل، وتعلمتُ أن أُلقيَ بكرةٍ متذبذبة. لكن منذ ذلك اليوم شعرتُ أن جزءًا مني قد سُحق ودُمِّر، ووجدت ملاذًا في الحياة التي كان جَداي يحييانها. فبعد انتهاء اليوم الدراسي كنتُ أسير مسافةَ المجمعات السكنية الخمسة التي تفصل المدرسة عن منزلنا، وإذا كان في جيبي نقود أتوقَّف في بعض الأحيان عند كشك صحفٍ يُديره رجلٌ أعمى كان يدَعُني أعرف المجلات المصورة الجديدة التي ظهرت في الأسواق. وكان جَدي يبقى في المنزل ليفتح لي الباب، وعندما ينام بعد الظهر أشاهد أفلام الكرتون ومسلسلات كوميديا الموقف أثناء إعادة عرْضها. وفي الرابعة والنصف أوقظ جَدي ونأخذ السيارة إلى وسط المدينة كي نُقِلَّ جَدتي. وأؤدي واجبي المنزلي وقت العشاء الذي كنا نتناوله ونحن نشاهد التليفزيون. وأقضي باقي الأمسية أتفاوض مع جَدي على البرامج التي سنشاهدها، ونتناول أحدث الوجبات الخفيفة التي عثر عليها في المتجر. وفي العاشرة مساءً أذهب إلى غرفتي (فبرنامج جوني كارسون يُذاع في ذلك الوقت ومشاهدة هذا البرنامج لا تخضع للمناقشة)، وأخلد إلى النوم على أنغام موسيقى البرنامج الإذاعي «توب فورتي».
شعرت بالأمان وأنا في حضن الثقافة الأمريكية الاستهلاكية الناعم المتسامح، كان الأمر كما لو أني سقطتُ في مرحلةِ سباتٍ عميق. وفي بعض الأحيان أتساءل كم من الوقت كنتُ سأظلُّ في هذه المرحلة إذا لم تكن جَدتي وجدَتْ ذلك التلغراف في صندوق البريد في أحد الأيام.
فقد قالت: «والدك سيأتي لرؤيتك.» وتابعت: «هذا سيكون الشهر القادم. بعد أسبوعَين من وصول والدتك. سيظلَّان هنا حتى نهاية الاحتفال برأس السنة.»
طوت جَدتي الورقةَ بعنايةٍ ووضعتها في أحد أدراج المطبخ. وظلَّت هي وجَدي صامِتَين بالطريقة نفسِها التي أتخيَّل أنها ردُّ فعلِ مَن يخبره الطبيب أنه يعاني مرضًا عضالًا ولكن يمكن علاجه. ولدقيقةٍ خيَّم علينا الصمت في الغرفة، ووقفنا مُتسمِّرين غارقِين في أفكارنا.
وفي النهاية قالت جَدتي: «حسنًا، أظن أنه من الأفضل أن نبدأ في البحث عن مكانٍ يمكنه الإقامة فيه.»
خلع جَدي نظارته ومسح عينَيه.
وقال: «لا بد أنه سيكون رأس سنة زاخرًا بالأحداث.»
•••
في أثناء فترة الغداء شرحتُ لمجموعةٍ من الصبية أن والدي أمير.
«جَدي هو الزعيم؛ أي رئيس القبيلة. مثل الهنود كما تعرفون. وهذا يجعل أبي أميرًا. وهو سيتولى الحكمَ عندما يموت جَدي.»
وسألني أحد أصدقائي ونحن نفرغ أطباقنا في سلة المهملات: «وماذا بعد ذلك؟» وتابع: «أعني، هل ستعود إلى هناك وتصبح أميرًا؟»
«حسنًا … يمكنني إذا أردتُ هذا. إنها مسألة معقَّدة نوعًا ما لأن القبيلة مليئة بالمحاربين. مثل أوباما … الذي يعني «الحربة المحترقة». فكل رجل في قبيلتنا يريد أن يُصبح هو الزعيم؛ لذا فعلى أبي أن يُنهي هذه العداءات قبل أن أذهب.»
عندما خرجَتْ هذه الكلمات من بين شفتي وشعرتُ بسلوك الأطفال يتغيَّر تجاهي وأصبحوا أكثر فضولًا وألفةً معي ونحن يصطدم بعضنا ببعض في الصف عائدِين إلى الفصل، بدأ جزء مني يصدِّق هذه القصة. لكنَّ جزءًا آخر منِّي كان يعرف أن ما أقوله مجرَّد كذبة؛ شيء اختلقتُه من فتات المعلومات التي عرفتُها من أمي. وبعد أسبوع من لقاء أبي بلحمِهِ ودمِه رأيتُ أني أُفضِّل صورته البعيدة، تلك الصورة التي كان بإمكاني تغييرها كما أشاء، أو أتجاهلها عندما يكون ذلك مناسبًا. وإذا لم يكن أبي قد خيَّب أملي بالضبط فقد ظل شيئًا لا أعرفه، شيئًا مؤقتًا، ومُخيفًا بصورةٍ غامضة.
أحسَّت أُمي بخوفي في الأيام المتبقِّية على وصوله، وأظن أنها كانت تعكس خوفها؛ ولهذا كان من بين مجهوداتها لإعداد الشقة — التي أجَّرناها من الباطن له — محاولتها أن تطمئِنَني أن اللقاء العائلي سيمرُّ بسلام. وقالت إنها كانت تُراسِله طوال الفترة التي قضيناها في إندونيسيا وإنه يعرف كل شيءٍ عني. وكان أبي، على غرار أمي، قد تزوَّج مرة أخرى وأصبح لديَّ خمسة إخوة وأخت يعيشون في كينيا. وقد تعرَّض لحادثِ سيارة شديد، وكانت تلك الرحلة جزءًا من فترة النقاهة بعد أن مكث في المستشفى وقتًا طويلًا.
وقالت: «ستُصبِحان صديقَين رائعَين.»
وإلى جانب إخباري بأشياءَ عن أبي بدأتْ أمي تحشوني بمعلوماتٍ عن كينيا وتاريخها، وقد اختلست اسم «الحربة المحترقة» من كتاب عن جومو كينياتا أول رئيس لكينيا. ولكن لم ينجح شيءٌ مما أخبرتني به أُمي في التخفيف من شكوكي، ولم أحتفظ إلا بالقليل من المعلومات التي أخبرتني بها. ولم تنجح في إثارة اهتمامي حقًّا سوى مرةٍ واحدة عندما أخبرتني أن قبيلة أبي «لوو» شعب نيلي هاجر إلى كينيا من موطنه الأصلي على ضفاف أطول أنهار العالم. بدا هذا واعدًا. وكان جَدي لا يزال يحتفظ برسمٍ رسمَه ذات مرة هو صورةٌ طبْق الأصل للوحة فنية أصلية لمصريين نحفاء باللون البرونزي يركبون مركبةً ذهبية تجرُّها جياد مرمرية. وكانت لدي فكرة عن مصر القديمة، والممالك العظيمة التي قرأتُ عنها، والأهرامات، والفراعنة، ونفرتيتي، وكليوباترا.
وفي أحد أيام السبت ذهبتُ إلى المكتبة العامة بالقُرب من شقتِنا، وبمساعدة أمين المكتبة العجوز صاحب الصوت المبحوح الذي تفهَّم مدى جِدِّيتي وجدتُ كتابًا عن شرق أفريقيا. ولكن لم يكن به أي ذكْر للأهرامات. وفي الحقيقة، لم يكن هناك سوى فقرة قصيرة عن قبيلة «لوو». واتضح أن الشعوب النيلية مصطلح يصفُ عددًا من القبائل المتنقلة التي نشأت أصلًا في السودان على ضفاف نهر النيل الأبيض في أقصى جنوب الإمبراطوريات المصرية. وكانت قبيلة «لوو» ترعى الماشية، وتعيش في أكواخٍ طينية، وتأكل وجباتٍ من الذرة واليام — وهو من فصيلة البطاطا — وطعامًا آخر يُسمَّى حبوب الدخن. وكان زيها التقليدي شريطًا من القماش يُغطي منطقةَ العورة يتدلى من حزامٍ جلدي يحيط بالخَصر. تركتُ الكتاب مفتوحًا على الطاولة، وخرجتُ دون أن أشكر أمين المكتبة.
وأخيرًا جاء اليوم الموعود، وتركتني الآنسة هيفتي أخرج مبكرًا من الفصل وهي تتمنى لي حظًّا سعيدًا. تركتُ مبنى المدرسة مثل شخصٍ محكوم عليه بالإعدام. كانت قدماي ثقيلتَين ومع كل خطوةٍ تُقرِّبني من منزل جَدي يعلو صوت خفقات قلبي. وعندما دلفتُ إلى المصعد وقفتُ دون أن أضغط الزر. فانغلق الباب ثم فُتح مرةً أخرى، ودلف رجل فلبيني عجوز يقطن الطابَق الرابع.
قال الرجل بسعادة: «جدُّك يقول إن والدك قادم لزيارتك اليوم.» وتابع: «لا بد أنك تطير فرحًا.»
وعندما لم أستطِع التفكير في أي مهْرب، بعد أن وقفتُ أمام باب الشقة ومددتُ بصري نحو أفق هونولولو فشاهدت سفينةً بعيدة، ثم نظرتُ إلى السماء بعينٍ شبه مغمضة لأرى العصافير تدور في الهواء. دققتُ الجرس. وفتحت جَدتي الباب.
«ها هو ذا! تعالَ يا باري … تعالَ قابِل والدك.»
وهناك في مدخل الشقة غير المضاء رأيته: رجل طويل أسود يعرج قليلًا وهو يسير. وجثم على ركبتيه وطوَّقني بذراعَيه وتركتُ أنا ذراعيَّ تنخفضان إلى جانبي. وخلفه كانت أُمي تقِف يرتجف ذقنها كالعادة.
قال أبي: «حسنًا يا باري.» وتابع: «من الجميل أن أراك بعد كل هذا الوقت. بل من الرائع جدًّا.»
وأمسك بيدي وأدخلني غرفةَ المعيشة، وجلسنا جميعًا معًا.
وقال: «أخبرتني جَدتك أن أداءك ممتاز في المدرسة.»
فهززت كتفي.
فقالت جَدتي: «أظنُّ أنه يشعر بشيءٍ من الخجل.» ثم ابتسمت ومسحت على رأسي.
فقال أبي: «حسنًا، لا يُوجَد ما يدعو لأن تخجل من أن أداءك ممتاز. هل أخبرتك أن إخوتك وأختك متفوقون أيضًا في دراستهم؟ أظن أن هذا الأمر يجري في دمائكم»، قالها ضاحكًا.
راقبتُه بحرصٍ عندما بدءوا جميعًا يتحدثون؛ كان أنحفَ كثيرًا مما توقَّعت، وكانت عظام ركبتَيه تكسر سيقان البنطلون في زوايا حادة، ولم أستطِع أن أتخيَّله يرفع أيًّا منهما من على الأرض. وإلى جواره كانت هناك عصًا لها رأس عاجية غير مُدبَّبة تستند إلى الحائط. وكان يرتدي سترةً زرقاء اللون، وقميصًا أبيض، وربطة عنقٍ قرمزية اللون. ونظارته بارزة الحواف تعكس ضوء المصباح فلم أرَ عينَيه بوضوح، لكن عندما نزع النظارة ليحكَّ قصبة أنفه رأيت أنهما تميلان إلى اللون الأصفر قليلًا كعينَي شخصٍ أُصيب بالملاريا أكثر من مرة. ورأيتُ أن جسده ضعيف، وكان حذرًا عندما كان يُشعل سيجارة أو يمد يدَه إلى كوب الجِعَة. وبعد ساعةٍ تقريبًا رأت والدتي أنه يبدو متعبًا ويحتاج إلى أن ينال قسطًا من الراحة، وقد وافقها على ذلك. فالتقط حقيبة سفره ثم توقَّف في منتصف خطوته الواسعة، وبدأ يبحث في الحقيبة حتى أخرج منها في النهاية ثلاثة تماثيل خشبية، أسد وفيل ورجل فاحم السواد يرتدي ملابس قبلية ويقرع طبلة، وأعطاني إيَّاها.
فقالت أمي: «قُل شكرًا يا باري.»
فغمغمت: «شكرًا.»
نظرتُ أنا ووالدي إلى التماثيل المنحوتة وهي جامدة دون حياة في يدي، ولمس كتفي.
وقال برفق: «إنها أشياء صغيرة.» ثم أومأ لجَدي وأخذا حقائبَه معًا وهبطا إلى الشقة الأخرى.
•••
شهر. هذه هي الفترة التي قضيناها معًا، معظم الأمسيات كنا نقضيها نحن الخمسة في غرفة معيشة شقة جَدي، وكنا نقضي النهار في جولاتٍ بالسيارة حول الجزيرة أو في نزهاتٍ قصيرة إلى أماكن لها علامات مميزة في حياة عائلتي: الأرض التي كانت تُوجَد عليها شقة والدي يومًا ما، والمستشفى الذي ولدتُ فيه والذي أُعيد بناؤه، وأول منزل لجَدي في هاواي، قبل أن يُقيما في منزلهما بشارع يونيفرستي أفينيو، وهو منزلٌ لم أعرفه قط. كان هناك الكثير من الأشياء التي عليه أن يُخبرني بها في ذلك الشهر، والكثير من التفسيرات أيضًا؛ ومع ذلك فعندما أحاول أن أعصر ذاكرتي لأتذكَّر الكلمات التي قالها أبي، الحوارات والمواقف القليلة التي قد تكون دارت بيننا، أجد أنها ذهبت بلا رجعة. ربما تكون مطبوعةً في أعماق ذاكرتي، وصوته — الذي يُعَد بذرةَ جميع المناقشات المتشابكة التي أحملها مع نفسي — لا يمكنني الوصول إليه الآن بالضبط مثل نمط جيناتي؛ لذا فإن كلَّ ما أستطيع فهْمه هو الإطار الخارجي الممزَّق. تُقدِّم زوجتي تفسيرًا أبسطَ لهذا وهو أن الأبناء والآباء لا يكون لديهم الكثير دائمًا ليتحدثوا عنه معًا إلا إذا تولَّدت بينهم الثقة، وقد يكون هذا أقرب إلى الحقيقة؛ إذ كنتُ دائمًا ما أقف أمامه دون أن أتفوَّه بكلمةٍ واحدة، وهو لم يدفعني قط للحديث. وتركني وكلُّ ما لديَّ صورٌ تظهر وتخبو في ذهني مثل الأصوات البعيدة؛ كأن أتذكَّره ورأسه يرجع للوراء وهو يضحك على واحدة من دعابات جَدي وأنا ووالدتي نعلِّق زينةَ عيد الميلاد، وقبضته على كتفي وهو يُقدِّمني إلى أحد أصدقائه القدامى من الجامعة، وضِيق حدقَتَي عينيه وتمرير أصابعه في لحيته الصغيرة المتناثرة وهو يقرأ كتبه المهمة.
كلُّ ما أتذكَّره هو صوره وتأثيره على الآخرين. فكلما تحدَّث — وإحدى ساقيه فوق الأخرى ويداه الضخمتان ممتدتان لتوجيه الانتباه إلى شيء معيَّن أو تشتيته، وصوته العميق الواثق المقنع الضاحك — رأيت تغيرًا مفاجئًا في العائلة. فقد أصبح جَدي أكثرَ نشاطًا وأعمق فكرًا، ووالدتي أكثر حياءً، وحتى جَدتي خرجت من جحرها في غرفة النوم وبدأت في مجادلته في أخبار السياسة والمال وهي تضرب الهواء بيدَيها ذات العروق الزرقاء لتوضِّح وجهةَ نظرها. كان الأمر كما لو أن وجوده استدعى روح الأيام القديمة وسمح لكلٍّ منهم أن يعود ليُمارس دوره القديم؛ بدا الأمر وكأن الدكتور كينج لم يلقَ حتفه قط بعد إطلاق النار عليه، واستمر أنصار كينيدي في دعم الأمة، ولم تكن الحرب والشغب والمجاعة أكثرَ من مجرَّد نكسات مؤقتة، ولم يكن هناك شيء يخافون منه إلا الخوف نفسه.
وقد أذهلتْني هذه القوة الغريبة، ولأول مرة بدأتُ أفكِّر في أبي على أنه شيء حقيقي وقريب، بل حتى دائم. ومع ذلك فبعد بضعة أسابيع شعرتُ ببدء التوتُّر من حولي. بدأ جَدي يشكو من أن أبي يجلس في مقعده. وتذمَّرت جَدتي وهي تغسل الأطباق قائلة إنها ليست خادمة أحد. وكانت والدتي تضغط على شفتَيها وهي تحاول أن تتجنَّب عينَي والدَيها ونحن نتناول العشاء. وفي إحدى الليالي أدرتُ التليفزيون لأُشاهد فيلم كارتون خاصًّا اسمه «كيف سرق جرينش رأس السنة» (هاو ذا جرينش ستول كريسماس)، وفجأة تحوَّلت الهمسات إلى صياح.
قال أبي: «باري، لقد شاهدتَ التليفزيون بما يكفي الليلة.» وتابع: ادخل إلى غرفتك وذاكر، ودعِ الكبار يتحدَّثون.»
فوقفت جَدتي وأطفأت التليفزيون. وقالت: «لماذا لا تُشاهد البرنامج في غرفة النوم يا باري؟»
فقال أبي: «كلَّا يا مادلين، ليس هذا ما أعنيه.» وتابع: «لقد ظلَّ يشاهد هذا الجهاز طوال الوقت والآن حان الوقت كي يُذاكر.»
حاولت أُمي أن تشرح له أننا في إجازة الكريسماس وأن هذا الكارتون هو المفضَّل في الكريسماس، وأنني كنتُ أنتظره طوال الأسبوع. وقالت: «لن يستمر طويلًا.»
«هذا هراء يا آنا. إذا كان الصبيُّ قد فرغ من عمل الغد، فيُمكنه أن يبدأ في واجبات اليوم التالي. أو حتى الواجبات التي ستُفرَض عليه عندما يعود من الإجازة.» ثم التفت إليَّ وقال لي: «أنا أقول لك يا باري إنك لا تُذاكر بالجِد الذي من المفترض أن تُذاكر به. اذهب الآن قبل أن أغضب.»
دخلتُ إلى غرفتي وأغلقتُ الباب بعنفٍ وأنا أسمع الأصوات تعلو من خلفي، فكان جَدي يصرُّ على أن هذا المنزل منزله وجَدتي تقول إن أبي ليس لدَيه حق في أن يأتي ويفرض رأيه على الجميع، بما في ذلك أنا، بعد أن رحل عنَّا كل تلك الفترة. وسمعتُ والدي يقول إنهم يُدللونني، وإنني أحتاج إلى حزمٍ في التعامل، وسمعتُ والدتي تقول لوالدَيها إن شيئًا لم يتغيَّر بهما. وقفنا جميعًا في موقف الاتهام، وحتى بعد أن غادر أبي وجاءت جَدتي لتقول إنه يمكنني مشاهدة آخِر خمس دقائق في البرنامج، شعرتُ أن شيئًا قد تصدَّع بيننا جميعًا، عفاريت انطلقت من مخبأ قديمٍ مغلَق. وعندما شاهدتُ على شاشة التليفزيون الكائن جرينش وهو يعتزم تدمير رأس السنة ثم يتحوَّل في النهاية بفضل إيمان المخلوقات ذات العيون الكبيرة السوداء الطيبة التي تسكن مدينة هوفيل، رأيته على حقيقته؛ مجرَّد كذبة. وبدأت أعُدُّ الأيام الباقية حتى يرحل أبي ويعود كل شيءٍ إلى ما كان عليه.
في اليوم التالي أرسلتني جَدتي إلى الشقة بالأسفل حيث كان يقطن أبي لأرى هل لدَيه ملابس بحاجة إلى الغسيل. طرقتُ الباب وفتح لي أبي وهو عاري الصدر. وبالداخل رأيتُ أُمي تكوي بعض ملابسه. كان شعرها معقوصًا خلف رأسِها وعيناها مُترقرقتَين حزينتين كما لو أنها كانت تبكي. طلب منِّي أبي أن أجلس إلى جواره على الفراش، لكني أخبرته أن جَدتي تحتاج إليَّ لأساعدها وغادرتُ بعد أن أخبرتُه بالرسالة التي جئتُ بها. عُدت لأعلى وكنتُ قد بدأت في تنظيف غرفتي عندما دخلَتْ أمي.
«ينبغي ألا تغضب من والدك يا باري. إنه يحبك كثيرًا، لكنه يصرُّ على رأيه في بعض الأحيان.»
فقلتُ دون أن أنظر إليها: «حسنًا.» وشعرت بعينَيها تتبعانني في أرجاء الغرفة حتى أطلقتُ في النهاية زفيرًا بطيئًا واتجهتُ إلى الباب.
قالت: «أعلم أن هذا الأمر كلَّه مُحيِّر لك.» وتابعت: «وهو كذلك لي أنا أيضًا. فقط حاول أن تتذكَّر ما قلتُه لك، اتفقنا؟» ووضعت يدَها على مقبض الباب. ثم سألت: «هل تريدني أن أغلق الباب؟»
فأومأتُ لها بالإيجاب، لكن بعد أن غادرَتْ بدقيقةٍ واحدة عادت فأدخلت رأسها في الغرفة.
وقالت: «بالمناسبة، لقد نسيتُ أن أخبرك أن الآنسة هيفتي دعت والدك ليذهب إلى المدرسة يوم الخميس. وتريد منه أن يتحدَّث إلى الفصل.»
لم يكن بوسعي تخيُّل أخبارٍ أسوأ من هذه. وقضيتُ تلك الليلة واليوم الذي تلاها أحاول أن أقمع ما يُراودني من أفكارٍ حولَ ما لا يمكن تجنُّبه: وجوه زملائي في الفصل عندما يسمعون عن الأكواخ الطينية، وفضْح جميع أكاذيبي، والدعابات الموجعة التي سأسمعها بعد ذلك. وفي كل مرةٍ أتذكَّر فيها يتلوَّى جسدي كما لو أنه تلقَّى ضربةً عنيفة في الصميم.
كنتُ لا أزال أحاول إيجاد طريقةٍ لتبرير نفسي عندما دخل أبي إلى الفصل في اليوم التالي. رحَّبَت الآنسة هيفتي به بقوة، وعندما اتخذتُ مقعدي سمعتُ العديد من الأطفال يتساءلون ماذا يحدث. وأصبحتُ أكثرَ يأسًا عندما تبِعه دخول مدرس الرياضيات الضخم من سكان هاواي السيد إيلدريدج الذي لا يقبل الهراء ومعه ٣٠ طالبًا من الفصل المجاور لنا، ترتسِم الحيرة على وجوههم.
بدأت الآنسة هيفتي الحوار قائلة: «لدَينا دعوة خاصة لكم اليوم.» وتابعت: «والد باري أوباما هنا اليوم، وقد قطع كلَّ هذه المسافة من كينيا في أفريقيا ليُخبرنا عن بلده.»
نظر الأطفال إليَّ عندما وقف والدي، ورفعتُ أنا رأسي بعنادٍ أحاول أن أركِّز على نقطةٍ خاوية على السبورة خلفه. وعندما استطعتُ في النهاية أن أعود بنفسي إلى أرض الواقع كان قد بدأ هو الحديث منذ فترة. كان ينحني على مكتب الآنسة هيفتي السميك المصنوع من خشب البلوط ويصف الصدعَ العميق في الأرض حيث ظهر الجنس البشري لأول مرة. وتحدَّث عن الحيوانات المفترسة التي لا تزال تجول السهول، والقبائل التي لا تزال تطلب من الصبي الصغير أن يقتُل أسدًا كي يُثبت رجولته. وتحدَّث عن عادات قبيلة «لوو» وكيف يُعامَل الكبار بأقصى درجات الاحترام ويَسنُّون القوانين التي يتَّبعها الجميع أسفل أشجار ضخمة. وأخبرنا عن صراع كينيا لتنال حريَّتها وكيف أراد البريطانيون أن يبقوا بها ويحكموا أهلها ظلمًا كما فعلوا في أمريكا، وكيف رزح الكثيرون تحت قيد العبودية بسبب لون بشرتهم فحسب مثلما حدث في أمريكا، ولكن الكينيين، مثل جميع مَن في الغرفة، كانوا يتوقون للحرية وتطوير أنفسهم عبْر العمل الجاد والتضحية.
وعندما انتهى من حديثه كانت الآنسة هيفتي تشعُّ فخرًا. وجميع زملائي في الفصل يصفِّقون بحرارة، وقليل منهم استجمع شجاعته ليطرح أسئلةً بدا أبي يفكِّر فيها جيدًا قبل الإجابة عليها. وانطلق جرس الغداء، فجاء السيد إيلدريدج إليَّ.
وقال: «إن والدك مُثير للإعجاب حقًّا.»
وقال الصبي ذو الوجه الأحمر الذي سألني عن آكلي لحوم البشر: «والدك لطيف حقًّا.»
وفي أحد الجوانب رأيتُ كوريتا تشاهد أبي وهو يودِّع بعض الأطفال. وبدت عاقدة العزم على ألا تبتسِم، ولم يبدُ على وجهها سوى نظرة رضًا.
•••
وبعد أسبوعَين رحل أبي. وفي ذلك الوقت وقفنا معًا أمام شجرة الكريسماس لنلتقِط بعض الصور، وهي الصور الوحيدة التي أحتفظ بها وتضمنا معًا، وأنا أحمل كرة سلة برتقالية اللون وهي هديتُه لي، وهو يستعرض رابطة العنق التي اشتريتُها له (وقال لي وقتَها: «سيعرف الناس أنني رجلٌ مهم للغاية لأني أرتدي رابطة العنق هذه.») وفي حفلٍ موسيقيٍّ ﻟ «ديف بروبيك» جاهدتُ كي أجلس بهدوء في القاعة المظلِمة إلى جواره، وأنا لا أستطيع أن أتابع المعادلات الصوتية التي كان العازفون يقومون بها، وحرصتُ على أن أصفِّق وقتما يُصفِّق. ولأوقاتٍ قصيرةٍ في اليوم كنتُ أستلقي إلى جواره ونحن الاثنان وحدَنا في الشقة المؤجَّرة من الباطن من سيدةٍ عجوز متقاعِدة لا أذكر اسمها، والمكان مليء بالألحفة ومناديل المائدة وأغطية المقاعد المنسوجة من عُقَد من الخيط، وكنتُ أقرأ كتابي وهو يقرأ كتابه. وظل غامضًا في نظري؛ كِيان حاضر إلى جواري، وعندما كنتُ أقلِّد إيماءاته أو عباراته لا أعرف أصلها أو نتائجها، ولا أرى كيف تموت بمرور الوقت. لكني أصبحتُ معتادًا على رفقته.
وفي يوم رحيله وبينما كنتُ أساعده أنا وأُمي كي يحزم حقائبه أخرجَ أسطوانتَين، من تلك المصمَّمة لتدور ٤٥ دورة في الدقيقة، في غلافٍ بُني باهت.
وقال: «باري، انظر هنا لقد نسيتُ أني أحضرتُ لك هذه. إنها صوت قارتك.»
استغرق بعض الوقت ليعرف كيف يتعامل مع جهاز تسجيل جَدي العتيق، ولكن في النهاية بدأت الأسطوانة تعمل، ووضع هو بحذرٍ شديد الإبرة في مكانها. ثم بدأ ينبعث صوت موسيقى جيتار عالية النغمة، ثم أبواق حادة، وإيقاع قرع طبول، ثم الجيتار مرة أخرى ثم الأصوات واضحة ومليئة بالسعادة وهي تعلو فوق الإيقاع في الخلفية وتشجِّعنا.
قال والدي: «تعالَ يا باري.» وتابع: «ستتعلم من الأستاذ.» وفجأة بدأ جسده النحيل يتمايل إلى الأمام وإلى الخلف، وكان الصوت يرتفع، وذراعاه تتمايلان وكأنهما تغزلان شبكةً غير مرئية، وقدماه تتحرَّكان على الأرض في حركةٍ غير عادية، وساقه المصابة ثابتة لكن رِدفه كان عاليًا ورأسه إلى الخلف، ووركاه يتحرَّكان في دائرة ضيقة. وتسارعت الأنغام، ودوَّى صوت الأبواق، وأغلق هو عينَيه ليُتابع استمتاعه، ثم فتح إحدى عينَيه ليلقي نظرةً عليَّ، وارتسمت ابتسامةٌ ساذَجة على وجهه الوقور، وابتسمت والدتي وجاء جَدَّاي ليريا ما هذه الضوضاء. خطوتُ أولى خطواتي التجريبية وعيناي مغمضتان وذراعاي تتمايلان إلى الأسفل ثم إلى الأعلى، والأصوات تعلو. وكنتُ لا أزال أسمعه. فعندما كنت أتابع خطواته على أنغام الموسيقى أطلق أبي صيحةً سريعة مرحة وعالية؛ صيحةً تترك الكثير خلفنا وتتوق للمزيد، صيحةً تتوق للضحك.