الفصل السابع
عام ١٩٨٣م قرَّرت أن أُصبح منظمًا للمجتمع الأهلي.
في واقع الأمر لم أكن ملمًّا بالكثير من التفاصيل بخصوص هذه الفكرة؛ حيث لم تتسنَّ لي معرفة أيِّ شخصٍ يعمل بهذه الوظيفة ويكسِب قُوتَه منها. وعندما كان زملائي في الجامعة يسألونني عن مهامِّ وظيفة مُنظِّم المجتمع الأهلي لم أكن أستطيع الإجابة بصورة مباشرة. إنما كنتُ أعبِّر عن الحاجة إلى إجراء تغيير. تغيير في البيت الأبيض حيثما كان ينفِّذ ريجان وأتباعه أفعالهم القذرة. وتغيير في الكونجرس الفاسد والمقهور. وتغيير في الحالة العامة للبلاد حيث الولع الزائد بالأشياء والأنانية والتمركز حول الذات. بالإضافة إلى ذلك كنتُ أقول إن التغيير لا يحدث من القمة إلى القاع. بل ينبع من القاعدة الشعبية المنظمة.
وهذا هو ما سأقوم به بالفعل. حيث سأُنظِّم السُّود على مستوى القاعدة الشعبية. وذلك بهدف إجراء التغيير.
كان أصدقائي — البِيض والسُّود على حدٍّ سواء — يُطرون عليَّ بشدة بسبب أفكاري المثالية قبل التوجُّه إلى مكتب البريد لإرسال طلبات الالتحاق بالدراسات العُليا بالجامعة.
لم أستطِع بكلِّ تأكيدٍ إلقاء اللَّوم عليهم لشعورهم بالشك. فالآن بفضل إدراكي المتأخر للأمور أستطيع تحديدَ منطقٍ معيَّن لاتخاذي هذا القرار، وتوضيح كيف كان قراري — لأن أصبح منظِّمًا — جزءًا من القصة الكبرى التي تبدأ بوالدي ووالده من قبله، وأمي ووالديها، وذكرياتي عن إندونيسيا بمتسوِّليها وفلاحيها، وخضوع لولو أمام القوة، مرورًا براي وفرانك وماركوس وريجينا، وانتهاءً بانتقالي للعيش في نيويورك ووفاة والدي. بالإضافة إلى ذلك باستطاعتي أن أرى أن اختياراتي لم تكن أبدًا لي وحدي، وأن هذا الأمر بعينِه هو الذي كان من المفترَض أن يحدُث لأنني لو كنتُ تصرَّفت عكس ذلك للهثتُ خلف نمطٍ من الحرية يُرْثى له.
لكنَّ إدراكي هذا لم يأتني إلا فيما بعد. وعند اقتراب تخرُّجي في الجامعة كانت دوافعي هي التي تُحركني بصفةٍ أساسية، تمامًا مثل سمكة السلمون التي تسبح بتهوُّر ضد التيار لتصِل لمبتغاها عند مواضع تكاثرها. وكنتُ أُخبِّئ دوافعي هذه في المحاضرات والندوات المختلفة وراء الشعارات والنظريات التي اكتشفتها في الكتب، معتقدًا — خطأ — أن هذه الشعارات لها مغزًى وأنها جعلت شعوري السابق، إلى حدٍّ ما، قابلًا للإثبات بالدليل. وعلى النقيض من ذلك فإنني ليلًا كنتُ أُنحي هذه الشعارات جانبًا وأنا مُستلقٍ على الفِراش لتحلَّ محلَّها سلسلة متتابعة من الصور الرومانسية لماضٍ لم أعرفه من قبل.
كانت هذه الصور لحركة الحقوق المدنية، وفي الأغلب لمشاهدَ من الأفلام الأبيض والأسود غير الواضحة التي كانت تُعرض في شهر فبراير من كل عام خلال شهر التاريخ الأفريقي القومي، وهي الصور نفسها التي كانت أُمي ترسمها لي عندما كنتُ طفلًا. وصورة اثنين من زملاء الجامعة من ذوي الشَّعر القصير والقامات المستقيمة وهما يطلبان الطعام في المطاعم ويوشِكان أن يُحدِثا شغْبًا. وصورة العامِلين في لجنة تنسيق تحالُفات الطلاب غير العنيفة وهم واقفون عند مدخل أحد المباني عند بقعةٍ راكدة في نهر الميسيسيبي، محاولِين إقناع عائلة من المزارِعين المستأجرين بتسجيل أسمائهم حتى يمكنهم الإدلاء بأصواتهم الانتخابية. وأخيرًا صورة الإصلاحيات المكتظة بأطفالٍ مُتشابكي الأيدي يُنشِدون أغاني الحرية.
أصبحَتْ هذه الصور تُلازمني طوال الوقت، فترفع من روحي المعنوية، وتُشبِع رغباتي بطريقةٍ لا يمكن للكلمات أن تُحاكيها. وكانت هذه الصور تُخبرني أنني لم أكن بمفردي في هذا الكفاح (ومع أن فهْم هذا الأمر يمكن أن يكون قد تراءى لي فيما بعدُ فلم يكن صحيحًا مائة في المائة) وأن المجتمعات لم تكن أبدًا حقيقة مُسلَّمًا بها في هذا البلد، على الأقل للسُّود. فالمجتمعات لا بد من أن تُنشأ، ويُحارب من أجلها، وأن يُعتنى بها كما يَعتني المرء ببُستانه. فهي تتوسَّع أو تنكمش طبقًا لأحلام رجالها، وفي حركة الحقوق المدنية كانت هذه الأحلام كبيرة. أما في حالات الاعتصام والمظاهرات واعتراضات السجناء فكنتُ أرى أن المجتمع الأفروأمريكي أصبح أكثر من مجرد مكانٍ وُلِدتُ فيه أو منزلًا ترعرعتُ بين جدرانه. وعن طريق العمل التنظيمي والتضحية المشتركة أمكن الحصول على العضوية؛ ولهذا السبب (لأن هذا المجتمع الذي تخيلته كان لا يزال في مرحلة الإعداد وكان مؤسَّسًا على الوعد بأن المجتمع الأمريكي الأكبر — الأسود والأبيض والأسمر — يمكنه إلى حدٍّ ما إعادة تعريف نفسه)، آمنتُ بأن هذا المجتمع مع الوقت ربما يعترف بأن حياتي ذات طبيعة متفرِّدة.
كانت تلك هي فكرتي عن التنظيم، وكانت وعدًا بالإصلاح.
ولذا فإنني في الشهور التي سبقت تخرُّجي، أرسلتُ خطاباتٍ لكلِّ منظمة حقوقٍ مدنية خطرت ببالي، ولكل مسئولٍ أسود مُنتخَب في الدولة يعمل طبقًا لبرنامج عملٍ تقدُّمي، ولمجالس الأحياء وجماعات حقوق المستأجِرِين. وعندما لم تَرُدَّ عليَّ أية جهة لم يُحبطني هذا ولم يُثبِّط هِمَّتي. فقررتُ أن أبحث عن عملٍ تقليدي لمدة عامٍ لسداد قروضي الدراسية وتوفير بعض الأموال القليلة. وكنتُ أقول لنفسي إنني سأحتاج إلى النقود فيما بعد. حيث إن المنظِّمين لم يكن باستطاعتِهم توفير أي أموالٍ وكان فقرُهم دليلًا على استقامتهم والتزامهم بالمبادئ الأخلاقية.
في النهاية وافق مكتبٌ استشاري يُقدِّم خدماته للشركات المتعدِّدة الجنسيات على تعييني مساعدَ أبحاث. كنتُ في هذه الوظيفة — تمامًا كجاسوسٍ خلف صفوف الأعداء — أصل يوميًّا إلى مكتبي في وسط مانهاتن، وأجلس أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بي، وأُراجع الآلة التي تنقل الأخبار التي تبثُّها وكالة «رويترز» وهي تومِض برسائلَ تأتي من كل أنحاء العالَم ذات لونٍ أخضر زمرُّدي. وعلى حدِّ معلوماتي كنتُ الرجل الأسود الوحيد في الشركة، ومع أنه كان سببًا لشعوري بالخِزي فإنه كان مَدعاةً للفخر لسكرتيرات الشركة. فهؤلاء السيدات السوداوات عاملْنَني وكأنني ابن لهنَّ، وأخبرنني أنهنَّ يتوقَّعن أن أُدير الشركة يومًا ما. وفي بعض الأحيان كنتُ أخبرهنَّ بعد الغداء عن كل خُططي التنظيمية الرائعة وكنَّ يبتسِمنَ ويقُلن لي: «هذا عمل طيب يا باراك.» لكنَّ النظرة التي كانت تملأ أعينهنَّ كانت تُخبرني سرًّا بشعورهنَّ بالإحباط. لم يكن هناك سوى آيك — ضابط الأمن الأسود الفظ — هو الوحيد الذي كان دومًا على استعدادٍ ليأتي ويُخبرني بكل صراحة أنني على خطأ.
«تخطيط؟ تبدو هذه الكلمة وكأنها أمرٌ من أمور السياسة نوعًا ما، أليس كذلك؟ لماذا تريد أن تفعل شيئًا كهذا؟»
حاولتُ أن أشرح آرائي السياسية، وأهمية تنظيم الفقراء، وردِّ الجميل للمجتمع. لكنَّ آيك هز رأسه وقال: «إنني أتمنى يا سيد باراك ألا يكون لدَيك مانع في أن أُسدي إليك نصيحة. إنك لستَ في حاجة إلى أن تَسمعني الآن لكنني على أية حال سأُسديها إليك. حاوِل أن تغضَّ الطرْف عن فكرة التنظيم هذه، واشرع في فعل شيءٍ يجني لك بعض المال. واعلم أن كلامي هذا لا يعني أن تكون جشعًا فأنت تفهمني. إنني أقصد أن تجني من المال ما يكفيك. إنني أخبرك بذلك لأنني أرى أنك تمتلك إمكانياتٍ جيدة. فشابٌّ مثلك يتمتع بصوتٍ عذْب من الطبيعي أن يكون واحدًا من مُذيعي التليفزيون أو موظفًا في مجال المبيعات … إن لي ابنَ أخٍ في عمرك تقريبًا يعمل في هذا المجال ويجني أموالًا كثيرة. وهذا بالفعل هو ما نحتاج إليه. فأنت لا تستطيع مساعدة القاعدة الشعبية في أن يصبحوا أكثر نظامًا لأنهم لن يتمكنوا من فعْل ذلك على الإطلاق، بالإضافة إلى أنهم لن يُقدِّروا محاولاتك، حيث إن مَن يريدون فعْل ذلك سيجدون بأنفسهم الطريقَ لفعل ذلك. كم يبلُغ عمرك الآن على أية حال؟»
«اثنان وعشرون.»
«حاوِل أن تفهم كلامي. لا تُضيِّع شبابك هباءً يا سيد باراك. ذلك لأنك ستستيقِظ في صباح أحد الأيام لتجد نفسك رجلًا عجوزًا مِثلي وكلُّ ما ستَجنيه هو التعب والإرهاق دون تحقيق أي نتيجة.»
•••
في الواقع لم أُعِر آيك الكثير من الانتباه آنذاك، وفكَّرتُ حينها أنه يُشبه جَديَّ إلى حدٍّ بعيد. ومع ذلك فقد شعرتُ بمرور الأشهر أن فكرة أن أُصبح منظمًا بدأت تتبخَّر. وجاء الوقت الذي فيه ترقَّيتُ في الشركة إلى منصبِ كاتبِ مقالاتٍ اقتصادية، وكان لي مكتبي الخاص وسكرتارية خاصة، إلى جانب حسابٍ في البنك به قدْرٌ من المال. وفي بعض الأحيان، عندما كنتُ أخرج من اجتماعٍ مع رجالِ مال يابانيين أو مُتعامِلين ألمان في السندات، كنتُ أنظر إلى نفسي في مرآة المصعد — وأنا أرتدي الحُلة ورابطة العنق وأحمل حقيبةً في يدي — وأتخيل نفسي للحظةٍ رائدًا من رواد الصناعة يُلقي الأوامر بحسمٍ شديد ويعقِد الاتفاقيات، كان كل ذلك يحدث قبل أن أتذكَّر الشخصَ الذي كنتُ قد أخبرتُ نفسي من قبل بأنني أريد أن أكونَه، وقبل أن أشعر بألم الشعور بالذنب لعدم قُدرتي على اتخاذ قرارات حاسمة.
في أحد الأيام وأنا جالس على جهاز الكمبيوتر في المكتب لكتابةِ مقالٍ حول مقايضات أسعار الفائدة، حدث شيءٌ غيرُ مُتوقَّع؛ هاتفتني أوما.
إنني لم أُقابل أوما — وهي أُختي غير الشقيقة — من قبلُ على الإطلاق؛ فقد كنا نتراسَل من حينٍ لآخر فقط. وقد علمتُ أنها غادرت كينيا لتدرُس في ألمانيا، وفي خطاباتنا ذكَرْنا احتمالية ذهابي لزيارتها أو حضورها هي إلى الولايات المتحدة لتزورني. لكنَّ هذه الخطط كانت تُترك دائمًا هكذا دون تحديد وقتٍ لتنفيذها، ولأن كلَينا لم يكن يملك المال كنَّا نقول إننا قد نتقابل في العام المقبل. واحتفظتْ مراسلاتُنا بعلاقات ودٍّ مُتحفظة.
والآن فجأةً سمعتُ صوتها لأول مرة. كان رقيقًا وبدا أنه لامرأةٍ سوداء اصطبغت لهجتُها بنبرةٍ استعمارية. ولبضع لحظاتٍ لم أستطِع فَهْم ما تقوله، فلم أكن أسمع إلا صوتًا بدا لي مألوفًا للغاية، كنتُ قد فقدتُه لكنني لم أنسَه. ذكرت لي في هذه المكالمة أنها ستحضُر إلى أمريكا في رحلةٍ مع بعض الأصدقاء، وسألتني: «هل يمكنني زيارتُك في نيويورك؟»
ودون تردُّد قلتُ لها: «بالطبع.» وتابعت: «كما أنك ستُقيمين معي؛ إنني مُتلهِّف لرؤيتك.» ضحكَتْ عندما قلتُ لها ذلك وأنا أيضًا ضحكت، وبعد ذلك ساد الصمت بيننا ولم نَعُد نسمع إلا صوت أنفاسنا وصوتَ التشويش على الإرسال التليفوني. وقالت لي: «حسنًا، لا أستطيع أن أتحدَّث طويلًا لأن المكالمات تُكلفني الكثير. وها هي ذي بيانات رحلتي الجوية»؛ لذا أغلقنا الخط سريعًا بعد ذلك كما لو كنَّا سندفع تكلفة هذا الاتصال مناصفةً بيني وبينها.
قضيتُ الأسابيع القليلة التالية وأنا أستعدُّ بسرعةٍ بالِغة لحضورِ أوما، حيث اشتريتُ ملاءاتٍ جديدة للأريكة التي ستنام عليها، وأطباقًا ومناشف إضافية، إلى جانب فرشاة تنظيف لحوض الاستحمام. لكن قبل موعد حضورها المقرَّر بيومَين، اتصلت مرةً أخرى وكان صوتها غير واضح أكثر من المرة السابقة، ولم أسمع منها إلا همسًا.
قالت لي في هذه المكالمة: «لن أستطيع الحضور.» وتابعت: «أحد إخوتنا، ديفيد … قُتل في حادث دراجة بخارية. إنني لا أعرف أكثرَ من ذلك.» وبدأت تبكي. قالت: «أوه، باراك. لماذا يحدث لنا كل هذا؟»
حاولتُ أن أُهدِّئ من روعها قدْر استطاعتي. وسألتها عما يمكن أن أفعله لأجلِها. كما أخبرتُها أننا دون شكٍّ ستُتاح لنا الفرصة لنلتقي. وأخيرًا هدأ صوتها، وقالت إنها يجب أن تذهب الآن لتحجز تذكرة الطيران للعودة إلى بلدها.
«حسنًا باراك. أراك من جديد. صحِبتك السلامة.»
بعد أن أغلقتُ الخط أخبرتُ السكرتيرة أنني سأقضي بقيةَ اليوم خارج المكتب ثم خرجت. وأخذتُ أتجوَّل ساعات في شوارع مانهاتن، وصوت أوما يتردَّد في ذهني مِرارًا وتَكرارًا. ففي قارةٍ أخرى هناك امرأة تصرخ. فقد سقط في طريقٍ مُظلم ومُغطًّى بالتراب طفل صغير بعد أن انزلقت دراجتُه البخارية وفشل في السيطرة عليها ليسقط مُرتطمًا بالأرض الصلبة، وأخذت العجلات تدور حتى أصابها الصمت. سألتُ نفسي مَن هؤلاء الغرباء الذين تجري في عروقهم نفس الدماء التي تجري في عروقي؟ وما الذي يمكن أن يَشفي هذه السيدة من حزنها؟ وأي أحلام مُثيرة وغير معلنة كانت تراود هذا الولد المسكين؟
مَن أنا، وكيف لا أذرف دمعةً واحدة على فقدان أخي؟
•••
لا أزال أتساءل في بعض الأحيان كيف تغيَّرت حياتي بعد أول مكالمةٍ هاتفية لي مع أوما. وفي الواقع لم تكن المكالمة ذاتها هي التي غيَّرتني بصفةٍ أساسية (هذا الاتصال الذي شعرت في البداية أنه غيَّرني وتغيَّرتُ في النهاية بسببه) أو خبر وفاة ديفيد (فمن الصحيح أنني لم أكن أعرفه وهذا كافٍ)، إن ما غيَّرني بالفعل هو وقت اتصالها، والتسلسُل العجيب للأحداث، والتوقُّعات التي يملؤها الأمل، ثم انهيار الآمال وتحطُّمها، وهي أمورٌ جميعها حدثت في وقتٍ كانت فيه فكرة أن أكون مُنظِّمًا مجرد فكرةٍ في مخيلتي وصراع غامض في قلبي.
ربما لم يكن لكلِّ ما سبق أدنى تأثير. وربما كنتُ قد التزمتُ بالفعل آنذاك بالعمل التنظيمي، وساعدَني صوت أوما فقط في أن أتذكَّر أنني لا أزال أُعاني جروحًا لم تلتئم بعدُ وأنني لم أستطِع مداواتها بنفسي. وإن لم يكن ديفيد قد مات، وأتت أوما إلى نيويورك كما اتفقنا في البداية، وعرفتُ منها حينئذٍ عن كينيا وعن والدنا ما عرفته بعد ذلك، ربما خَفَّت بعض الضغوط التي تراكمَت بداخلي لتُقدِّم لي فكرةً مختلفة عن المجتمع، وتسمح لطموحاتي أن تسير في طريقٍ أكثر خصوصيةً وضيقًا، حتى ينتهيَ بي الأمر مُتقبلًا نصيحة صديقي آيك، ومكرسًا نفسي للسندات والأسهم والرغبة في اكتساب احترام الآخرين.
لا أعرف، ولكنَّ الأمر المؤكَّد هو أنني بعد بضعةِ أشهرٍ من مكالمة أوما الهاتفية قدَّمتُ استقالتي من المكتب الاستشاري، وبدأتُ أبحث جديًّا عن وظيفةٍ تنظيمية. ومرةً أخرى لم يَصلني ردٌّ على معظم خطاباتي، لكن بعد شهرٍ أو ما يقرُب من ذلك اتصل بي مدير مؤسسة حقوق مدنية شهيرة في المدينة لتحديد موعد للمقابلة. كان هذا الرجل طويل القامة، وسيمًا، وأسود اللون، وكان يرتدي قميصًا أبيض اللون ورابطة عنق مزركشة وحمَّالة بنطلون حمراء. وكان مكتبه مشتملًا على كراسيَّ إيطالية الصنع، وبارٍ مبنيٍّ بالطوب غير المطلي، والمكان كله مُزيَّن بأعمال النحت الأفريقي. ومن خلال نافذة طويلة بالمكتب تتدفَّق أشعة الشمس على تمثالٍ نِصفيٍّ للدكتور كينج.
بعد أن ألقى المدير نظرةً سريعة على سيرتي الذاتية، قال: «إنني مُعجب بسيرتك الذاتية.» وتابع قائلًا: «وبالأخصِّ خبرتك في مجال المؤسَّسات. فهذا هو العمل الحقيقي لأيةِ مؤسَّسة لحقوق الإنسان في أيامِنا هذه. حيث إن الاحتجاجات والإضرابات لم تَعُد تُجدي في شيء. وحتى تؤتي هذه الوظيفة ثمارها، علينا أن نُشيِّد جسورًا بين أنشطتنا والحكومة والأحياء الفقيرة في المدن.» بعد ذلك تشابَكَت يداه معًا قبل أن يُريَني تقريرًا سنويًّا ذا ورقٍ مصقول، مفتوحًا على صفحةٍ بها أسماء أعضاء مجلس الإدارة في المؤسَّسة، منهم وزير أسود و١٠ تنفيذيِّين بيض. وبعدها قال المدير: «أترى؟» ثم تابع: «علاقات شراكة عامة-خاصة. إنها نافذتنا على المستقبل. وهنا يكون عمل الشباب من أمثالك. المتعلِّمين. الواثقين بأنفسهم. الذين يُقدِّمون المساعدة في اجتماعات مجلس الإدارة. كنتُ في الأسبوع الماضي أناقش هذه المشكلة مع جاك، سكرتير وزارة الإسكان والتنمية الحضرية، في عشاءٍ في البيت الأبيض. ويا له من رجلٍ رائع، جاك. كم سيتحمَّس لمقابلة رجل مثلك! صحيح أنني عضو في الحزب الديمقراطي لكننا لا بدَّ أن نتعلَّم كيف نتعامَل مع ذوي السلطة، أيًّا كانوا …»
وعلى الفور عرض عليَّ الوظيفة التي تشتمل مهام العمل فيها على تنظيم المؤتمرات حول مشكلاتِ المخدِّرات والبطالة والإسكان. وقد أسماها «تسهيل الحوار». لكنني في الواقع رفضتُ عرضَه السخيَّ، مُقررًا وقتها أنني في حاجةٍ إلى وظيفةٍ تسمح لي بالاحتكاك بالشارع. فعملت لمدة ثلاثة شهور في أحد مكاتب رالف نادر في هارلم، محاولًا إقناع الأقلية من الطلاب في سيتي كوليدج بأهمية التغيير. بعد ذلك عملتُ أسبوعًا كاملًا في توزيع النشرات الإعلانية لأحد المرشَّحين في انتخاباتٍ عُقِدت في بروكلين، وخسر المرشَّح ولم أتقاضَ أجري.
بعد ذلك بستة أشهر، أصبحتُ مفلسًا وعاطلًا، واعتدتُ شربَ الحساء المعلَّب. وسعيًا وراء حصولي على بعض الأفكار الملهمة، ذهبتُ لسماع كوامي توري الذي كان اسمه فيما مضى ستوكلي كارميشيل، والذي كان ذا صيتٍ في لجنة تنسيق تحالفات الطلاب غير العنيفة وفي حركة القوة السوداء، وهو يتحدَّث في خطابٍ له في جامعة كولومبيا. وفي مدخل قاعة الاستماع كانت هناك امرأتان، إحداهما سوداء والأخرى آسيوية، تبيعان كتبًا عن الأدب الماركسي، وتتناقشان معًا بخصوص مكانة تروتسكي في التاريخ. وداخل القاعة اقترح توري برنامجًا لإقامة روابط اقتصادية بين أفريقيا وهارلم لتجنُّب الإمبريالية الرأسمالية البيضاء. وفي نهاية محاضرته سألته شابَّة نحيفة ترتدي نظارةً هل هذا البرنامج عملي في ظل الاقتصادات الأفريقية والاحتياجات العاجلة التي تُواجِه الأمريكيين السود. فقاطعها توري قبل أن تُكمل سؤالها. قال: «إن عملية غسيل المخ التي أُجريت لكِ هي التي تجعل هذا البرنامج غير عملي يا أُختاه.» وفي ذلك الحين توهَّجَت عينا توري وهو يتحدَّث كما لو كان مجنونًا أو قديسًا. وظلَّت السيدة واقفةً في مكانها لعدة دقائق بينما كان توري يوبِّخها بقسوةٍ بسبب موقفها البورجوازي. بعد ذلك بدأ الحاضرون يُغادرون القاعة. وفي الخارج كانت السيدتان الماركسيتان تصرخان بأعلى صوتهما:
«خنزيرة مُتَّبِعةٌ مذهبَ ستالين!»
«عاهرة متَّبعةٌ المذهبَ الإصلاحي!»
بدا هذا الموقف لي وكأنه كابوس مُزعج. وبعدَه سِرتُ هائمًا على وجهي في برودواي، متخيلًا نفسي واقفًا على حافة لينكولن ميموريال وأنا أنظر إلى إحدى المقصورات الفارغة والحطام يتطاير من حولي في الهواء. لقد ماتت الحركة منذ أعوامٍ وتمزَّقت ألفَ قطعة. وكل سبيل للتغيير خُضناه، وكل استراتيجيةٍ نفَّذناها. وعقب كل هزيمة قد يئول الحال حتى بالحركات التي تحمل أصدق النوايا إلى الابتعاد عن طريق كفاح مَن يدَّعون رغبتهم في تقديم الخدمات.
ربما كان هذا نوعًا من الجنون الصريح. لقد أدركتُ فجأةً أنني كنتُ أُكلِّم نفسي في منتصف الشارع. الناس في طريقهم للعودة من العمل كانوا يتجنَّبون السير بجواري. واعتقدتُ وقتها أنني رأيتُ اثنين من زملاء جامعة كولومبيا في الزحام — كانت سُترتاهما مُلقاتَين للخلف على أكتافهما — وهما يحاولان تجنُّب رؤيتي لهما.
•••
وبينما أصبحتُ قابَ قوسَين أو أدنى من التخلي عن مشروعي التنظيمي، تلقيتُ اتصالًا هاتفيًّا من مارتي كوفمان. شرح لي أنه سيبدأ حملةً تنظيمية في شيكاغو، وأعلن عن حاجته لتعيين شخصٍ تحت التدريب. كان كوفمان سيُغادر إلى نيويورك الأسبوع المقبل؛ ولذا اقترح أن نتقابل في أحد مقاهي ليكسينجتون.
في حقيقة الأمر لم يكن مظهره ليولِّد شعوري بالثقة البالِغة تجاهه. فقد كان رجلًا أبيض، متوسط الطول، ممتلئ الجسم، ويرتدي حُلة مجعَّدة. كان وجهه يبدو مكتئبًا بذقنه الذي لم يُحلق منذ يومَين. وبدت عينا الرجل وكأنهما شِبه مغمضتَين وهما تسكنان خلف عدستَي نظارته السميكتَين الدائريَّتَين. وعندما نهض من على المنضدة ليُصافحني أوقع بعض الشاي على قميصه.
قال مارتي وهو يحاول تنظيف المائدة بمنديلٍ ورقي: «حسنًا.» وتابع: «لماذا يريد شخصٌ من هاواي أن يعمل في مهنة التنظيم؟»
جلستُ وذكرتُ له أشياءَ مختصرة عن نفسي.
«إممم.» أومأ مارتي برأسه وهو يُسجِّل ملحوظاتٍ على مذكرةٍ مُسطَّرة صفحاتها مطوية الزوايا.
«يبدو أن هناك شيئًا يُغضبك.»
«ماذا تقصد بذلك؟»
هزَّ كتفَيه. وقال: «لا أعرف بالضبط طبيعة هذا الشيء. لكنه قد يكون أيَّ شيء. لا أريدك أن تسيء فهمي، فالغضب مَطلب أساسي لهذه الوظيفة. فهو السبب الوحيد لأي شخصٍ يُقرِّر أن يُصبح منظمًا. أما عن الآخرين الذين يستطيعون التعامُل مع المشكلات دون انفعالٍ فيعملون في وظائف أكثرَ بعثًا على الراحة والاسترخاء.»
طلب المزيد من الماء الساخن وحدثني عن نفسه؛ كان يهوديًّا في أواخر الثلاثينيات من عمره ترعرع في نيويورك. بالإضافة إلى ذلك، كان قد بدأ عمله التنظيمي في ستينيات القرن العشرين مع احتجاجات الطلاب، وظلَّ مُستمرًّا في هذا العمل لمدة ١٥ عامًا. فعمل مع المزارِعين في نبراسكا. ومع السود في فيلادلفيا. ومع المكسيكيين في شيكاغو. وحاول جمْع شتات سُود المدن وبِيض الضواحي معًا وإشراكهم في خطةٍ لتوفيرِ فرصِ عملٍ في مجال التصنيع في مدينة شيكاغو الكبيرة. وقال إنه بحاجةٍ إلى شخصٍ يعمل معه. شريطةَ أن يكون من ذوي البشرة السوداء.
قال مارتي: «معظم عملنا مع الكنائس.» وتابع: «وإذا كان الفقراء وأفراد الطبقة العاملة يريدون أن تُصبح لهم سلطة حقيقية، فلا بدَّ من أن يكون لديهم قاعدة مؤسَّسية. وفي ظل الاتحادات على هيئتها التي هي عليها الآن تُعَد الكنائس هي الخيار الوحيد. ففيها يتواجَد الناس والقِيَم حتى وإن طغى عليها الهُراء والزيف. ولكنَّ الكنائس لن تُساعدك من منطلق طيبة قلوب مسئوليها. حيث يتمثَّل دورهم في التحدُّث بكلامٍ مُقنع مُوجَز سواء في عظات أيام الآحاد أو عند تقديم عروضٍ خاصة للمشرَّدين. ولكن عندما يَجِدُّ الجِد لن يتحرَّك هؤلاء المسئولون إلا إذا استطعتَ أن تشرح لهم كيف سيُساعدهم تحرُّكهم هذا في توفير المال لسداد فواتير التدفئة.»
صبَّ مارتي كوفمان المزيد من الماء الساخن لنفسه. وسألني: «ماذا تعرف عن شيكاغو؟»
فكَّرتُ في الإجابة للحظة. ثم قلتُ في النهاية: «مجزر اللحوم للعالم.»
هزَّ مارتي رأسه. وقال: «لقد أُغلِقَت المجازر منذ زمن.»
«وفريق «شيكاغو كابس» للبيسبول لم يفُز قط.»
«هذا صحيح.»
قلتُ له: «إن شيكاغو هي أكثر مدن أمريكا ممارسةً للفصل العنصري. وتابعت: «بالإضافة إلى أن هارولد واشنطن — وهو رجل أسود — قد انتُخِب لتوِّه ليصبح عمدتها، وذوو البشرة البيضاء لا يُحبونه.»
قال مارتي: «إذن فأنتَ تُتابع ما يُحرِزه هارولد في حياته العملية.» وتابع: «إنني أتعجَّب من عدم عملك معه.»
«لقد حاولت. لكنني لم أحصل على أيِّ ردٍّ من مكتبه.»
ابتسم مارتي وخلع نظارتَه ونظَّف العدسات بطرَف رابطة العنق. وقال: «حسنًا، فهذا هو ما يجب عليك فعْله إذا كنتَ شابًّا وأسودَ، إلى جانب اهتمامك بالقضايا الاجتماعية، أليس كذلك؟ حاول أن تعثر على حملةٍ سياسية للعمل فيها. ابحث عن راعٍ ذي سلطة يمكن أن يساعدك في حياتك العملية، ولا شكَّ في أن هارولد ذو سلطة ورجلٌ له جاذبيته. بالإضافة إلى امتلاكه تأييدًا واسع النطاق في المجتمع الأسود. وما يقرُب من نصف الهيسبانيين وحفنة من البِيض الأحرار. في الواقع إنك على حقٍّ في شيءٍ واحد. وهو أن الجو العام للمدينة مُنقسِم إلى طرفَين نقيضَين، سيرك كبير لوسائل الإعلام. ولا يُنجز الكثير من الأعمال.»
حينما ذكر كل هذه الأمور اتكأتُ للخلف على الكرسي. قلت: «ومَن المسئول عن كلِّ ذلك؟»
ارتدى مارتي نظارتَهُ مرةً أخرى وحدَّق النظر إليَّ. وقال: «ليس الأمر متعلقًا بمن المسئول.» وتابع: «لكنه مُتعلِّق بما إذا كان يمكن أن يُقدِّم أيُّ سياسيٍّ أو أي شخصٍ في نبوغ هارولد الكثيرَ من أجل كسرِ هذه الدائرة المغلقة. كما أن المدينة المنقسِمة إلى نقيضَين ليست بالضرورة شيئًا سيئًا للسياسي. سواء أكان أبيضَ أم أسود.»
عرض مارتي عليَّ أن أبدأ العمل براتب ١٠ آلاف دولار في السنة الأولى، بالإضافة إلى بدل سفرٍ يُقدَّر بألفَي دولار لشراء سيارة، وفي حالة تحسُّن الأحوال سيزداد الراتب. بعد أن رحل سلكتُ الطريق الأطول للعودة إلى المنزل وهو كورنيش نهر إيست ريفر، وحاولت أن أسبر غور هذا الرجل. وفي النهاية توصَّلتُ إلى أنه رجلٌ ذكي ويبدو مُلتزمًا تجاه عمله. لكن ظل هناك شيء يجعلني أشعر بالتحفُّظ تجاهه. ربما كان هذا الشيء هو ثقته المفرِطة أو لعلَّه لونه الأبيض. وقد قال هو نفسه إن لونه هذا كان مشكلةً له.
أُضيئت مصابيح الأعمدة المزخرفة القديمة، وبدأ قارب طويل بُني اللون في شقِّ طريقه خلال المياه الرمادية في اتجاه البحر. جلستُ على مقعدٍ للتفكير في الخيارات المتاحة أمامي، ورأيتُ سيدة سوداء وابنها الصغير يقتربان منِّي. جذب الولد أُمَّه تجاه سور الكورنيش المعدني إلى أن أصبحا يقِف أحدهما بجانب الآخر، ولفَّ ذراعه حول ساقها فكوَّنا ظلًّا عكسه الشفق على الأرض. وفي آخر الأمر رفع الطفل عُنقَه لأعلى وبدا كأنه يسأل أمَّه سؤالًا. استجابت السيدة بهزِّ كتفَيها وتقدَّم الطفل بخطواتٍ قليلةٍ تجاهي.
صاح الولد: «عذرًا سيدي.» وتابع: «أتعرف لماذا في بعض الأحيان يتدفَّق النهر في هذا الاتجاه، ثم يتدفَّق في الاتجاه الآخر في أحايينَ أخرى؟»
ابتسمت السيدة وهزَّت رأسها، قلتُ إنه من المحتمل تعلُّق هذا الأمر بالمد، وبدا الولد راضيًا عن هذه الإجابة، ثم عاد إلى أُمِّه. وبينما شاهدتهما وهما يختفيان من أمام عينَيَّ في الظلام أدركتُ أنني لم ألحظ مُطلقًا أيَّ طريقٍ يتدفَّق النهر فيه.
بعد ذلك بأسبوع ملأتُ سيارتي بالوقود واتجهتُ إلى شيكاغو.