الفصل الثاني
(١) موت الظبية
وما زال الضعف والهزال يستوليان على أم عزة حتى حان حينها (هلاكها وموتها)، وانتهت أيامها من الدنيا، وأدركها الموت الذي لا يفلت منه كائن كان.
فسكنت حركاتها بالجملة وتعطلت جميع أفعالها.
فلما رآها الصبي على تلك الحال، جزع جزعًا شديدًا، وكادت نفسه تفيض (تذهب) أسفًا عليها.
فكان ينادي أم عزة بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشدّ ما يقدر عليه، فلا يرى لها عند ذلك حركة ولا تغيّرًا!
فكان ينظر إلى ذنبها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة بادية، ولا علة ظاهرة. وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة من الآفات، أو علة من العلل.
فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة (العلة)، ويهتدي إلى مكان العاهة التي عرضت لها، فمنعتها من الحركة.
وظل يبحث جاهدًا ليزيلها عنها، ويعيد إليها الحياة، فترجع إلى ما كانت عليه من الحركة والسعي والنشاط.
فلم يتأت له شيء من ذلك ولا استطاعة.
(٢) تأملات ابن يقظان
وكان الذي أرشده إلى البحث عن هذه الآفة، ما كان قد اعتبره في نفسه، ولحظه من أمره قبل ذلك. لأنه كان يرى أنه إذا أغمض عينيه أو حجبهما (سترهما) بشيء، فإنه يعجز حينئذ عن رؤية ما يحيط به؛ فلا يبصر شيئًا حتى يزول ذلك العائق (المانع).
وكذلك كان يرى أنه، إذا أدخل إصبعيه في أذنيه، وسدهما، لا يسمع شيئًا، حتى يزيل إصبعيه عنهما. وإذا أمسك أنفه بيده، لا يشم شيئًا من الروائح حتى يفتح أنفه، فيزول ذلك العائق.
فاعتقد من أجل ذلك أن جميع ما لهذه الظبية الهامدة (الساكنة الميتة التي لا حراك بها) من الإدراكات والأفعال، قد تكون لها عوائق تعوقها، ولا تمكنها من مواصلة أعمالها. فإذا اهتدى إلى مصدر هذه العوائق، ووفق إلى إزالتها عنها، عادت الظبية كما كانت قادرة على السعي والحركة وما إلى ذلك من ضروب الأفعال.
(٣) غاية البحث
فلما نظر إلى جميع أعضائها الظاهرة، وأطال التأمل فيها، والفحص (البحث) عنها، لم ير فيها آفة ظاهرة.
وكان يرى مع ذلك أن العطلة قد شملتها، ولم يختص بها عضو دون عضو.
وثمة (هناك) وقع في خاطره أن الآفة التي نزلت بهذه الظبية البارة الحنون، إنما هي في عضو مستور غائب عن العيان (مخفي عن المعاينة والرؤية بالبصر)، مستكنّ (محجوب مستتر) في باطن الجسد.
وقال ابن يقظان في نفسه: «لعل تعطيل ذلك العضو المستور عن العيان هو مصدر هذه الآفات، ومبعث هذه العلل. ولعل ذلك العضو الذي خفي عن عينيّ فلم أره هو أهم عضو في جسم هذه الظبية. ومن يدريني؟ فلعله باعث الحياة في جسمها. ولعله وحده هو الذي يحرك هذه الأعضاء الظاهرة كلها. فلما نزلت به الآفة، عمّت المضرة (أصبح الضرر عامًا)، وشملت المطلة»!
وطمع بأنه لو عثر على ذلك العضو، وأزال عنه ما نزل به، لاستقامت أحواله، وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الأفعال إلى ما كانت عليه.
(٤) أعضاء الحيوان
وكان قد شاهد قبل ذلك في الأشباح (الأشخاص) الميتة من الوحوش، أن جميع أعضائها لا تجويف (لا فراغ) فيها. فهي فيما يرى مصمتة (مجتمعة ممتلئة)، لا جوف لها (ليس فيها سعة ولا فراغ)، إلا الفخذ والصدر والبطن.
فوقع في نفسه (ثبت فيها) أن العضو الخطير الشأن (الرفيع القدر)، العظيم المنزلة، الذي يبحث عنه جاهدًا، ويتلمس العثور عليه، والذي له تلك الصفة، وذلك الخطر العظيم، لن يعدو أحد هذه المواضع الثلاثة، وهي: الفخذ والصدر والبطن.
وكان يغلب على ظنه غلبة قوية أن ذلك العضو لا بد أن يكون في الموضع المتوسط من هذه المواضع الثلاثة.
وقد دفعته غريزته، وهدته فطرته (طبيعته) إلى ذلك، لأنه كان قد استقر في نفسه أن جميع أعضاء الجسم لا تستغني عنه، وأنها محتاجة إليه دائمًا؛ لأنه يمد الجسم كله بالقوة والنشاط، ويوزع الحياة على جميع الأعضاء. ومن الطبيعي أن يكون مسكنه في الوسط، ليمد (يعطي ويبين) كل ما يتفرّع منه، بالحياة والقوة.
وكان إذا رجع إلى ذاته، شعر بدقات هذا العضو في صدره، وأحسّ أن له خطرًا أي خطر (قدرًا عظيمًا جدًا).
وقد كان ينظر إلى سائر أعضائه (باقيها): كاليد والرجل والأذن والأنف والعين والرأس؛ فيجد أنه يقدر على مفارقتها في أي وقت من الأوقات؛ ويخيّل إليه أن في استطاعته أن يستغني عنها، إذا سلبها وانتزعت منه، ويظن أنه لا يفقد الحياة بفقدانها.
فإذا فكر في ذلك الشيء الذي يدقّ في صدره تلك الدقات المنتظمة الدائمة، أيقن أنه لا يتأتى له الاستغناء عنه طرفة عين (مقدار حركة جفنيها).
وكذلك كان يرى عند محاربته الوحوش أن أكثر ما يتّقيه، وأخوف ما يخافه منهم، هو أن يصيبوا صدره بأي أذى لشعوره بذلك الشيء الذي فيه، وثقته بأنه باعث الحياة، ومصدر القوة.
فلما جزم (بت وقطع) الحكم بأن العضو الذي نزلت به الآفة إنما هو صدر الظبية، أجمع (عزم) على التنقيب والبحث عنه، لعله يظفر به ويرى آفته فيزيلها.
(٥) أمل ورجاء
ثم إنه خاف أن يكون نفس فعله هذا أعظم من تلك الآفة التي نزلت بتلك الظبية.
وقال في نفسه: «شدّ ما أخشى أن ينقلب عملي من الخير إلى الشر، وأن يكون سعيي لنجاة الظبية سببًا في القضاء عليها. ومن يدريني؟ لعلني إذا شققت صدرها، أهلكتها، وقطعت الأمل في حياتها»!
ثم إنه تفكر وأطال التأمل وأنعم النظر، وظل يسائل نفسه: «هل رأى من الوحوش وسواها من صار في مثل تلك الحال، ثم عاد إلى مثل حاله الأولى؟»
فلم يجد شيئًا. وثمة أيقن أنه إذا ترك الظبية على تلك الحال، فليس له من أمل في عودة الحياة إليها. وبقي له رجاء في رجوعها إلى الحياة كرة أخرى، إن هو وجد ذلك العضو واهتدى إلى مكمن الداء (موضعه الخفي)، وأنزل الآفة عنه.
(٦) تشريح الظبية
فعزم ابن يقظان على تشريح الظبية وتقطيعها. وقرّ رأيه على شق صدرها، والتفتيش عما فيه. ولم يتردد في إنفاذ عزمه لحظة بعد ذلك. فإتخذ من كسور الأحجار الصلبة (الأجزاء المكسورة منها)، ومن شقوق القضب اليابسة (قطعه المشقوقة من أنابيبه الفارغة الجوف)، أشباه السكاكين، وشق بها ما بين أضلاع الظبية، وقد إمتلأ قلبه أملًا ورجاءً بالنجاح في سعيه.
فلما قطع اللحم الذي بين الأضلاع، وأفضى (وصل) إلى الحجاب المستبطن للأضلاع (المتداخل فيها كالبطانة)، رآه قويًا.
وثمة قوى ظنه بأن مثل ذلك الحجاب القوي، لا يكون إلا لمثل ذلك العضو الذي يبعث الحياة في جميع أرجاء الجسم ونواحيه، وطمع بأنه إذا تجاوزه ظفر بطلبته وأدرك غايته التي يسعى إليها.
فحاول شق هذا الحجاب؛ فلم يستطع إلى ذلك سبيلًا.
وصعب (امتنع) عليه أن يحقق إربته (حاجته)، لعدم وجود الآلات التي تمكنه من ذلك. فلم يكن عنده من القواطع إلا الحجارة والقصب اليابس، كما حدثتك بذلك.
ولكن ابن يقظان آلى على نفسه (حلف وأقسم) أن يدرك غايته؛ فلم تعوزه (لم تنقصه) الحيلة، وبذل جهده حتى أجدّ تلك القواطع وأحدّها (شحذها وسنّها وسوّاها وصيّرها جديدة).
وتلطّف في خرق ذلك الحجاب، حتى إنخرق له، فأفضى إلى الرئة.
فظن أول أمره أن الرئة هي مطلوبة، وحسب أنها غايته. وما زال يقلبها، ويطلب موضع الآفة بها، لعله يزيلها، أو يرفع ما ألم بها من العوائق.
(٧) قلب الظبية
وكان أول ما وجده منها نصفها الذي هو في الجانب الواحد، فرآها مائلة إلى جهة واحدة. وكان قد إعتقد أن ذلك العضو الذي يبحث عنه جاهدًا، لا يكون إلا في الوسط في عرض البدن، كما هو في الوسط في طوله. فراح يفتش في وسط الصدر، حتى ألفى (وجد القلب). وهو مجلل بشغاف (مغطى وملبس بغلاف وحجاب) في غاية القوة، مربوط بعلائق (روابط)، في غاية الوثاقة (الإحكام) والرقة، وهي مطيفة (محيطة) به من الجهة التي بدأ بالشق منها.
فقال في نفسه: «إن كان لهذا العضو من الجهة الأخرى مثل ما له من هذه الجهة، فهو في حقيقة الوسط لا محالة (لا بد ولا ريب)، وهو بلا شك مطلوبي وغايتي التي أبحث عنها، لا سيما ما أرى له من حسن الوضع، وجمال الشكل، وقلة التشتت (قلة التفرق والتخلخل)، وقوة اللحم. وهو إلى ذلك محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم أر مثله شيئًا من الأعضاء.»
فبحث عن الجانب الآخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المتبطن للأضلاع، ووجد الرئة على مثل ما وجده من هذه الجهة؛ فحكم بأن ذلك العضو هو مطلوبه.
فحاول هتك حجابه، وشق شغافه (تمزيق الغلاف السائر له) ليظهر ما وراءه، ولكنه وجد مطلبه عسيرًا.
فلم يبال بالعقبات والمصاعب، واستطاع تحقيق رغبته، بعد كد واستكراه واستنفاذ للمجهود.
(٨) تشريح القلب
ثم جرّد قلب الظبية (فصله على حدة)، فرآه بادئ بدء مصمتًا من كل جهة، أعني: أنه لا تجويف فيه.
فنظر: هل يرى فيه آفة (علة) ظاهرة؟ فلم ير فيه شيئًا.
فشد يده على القلب، منعمًا (مدققًا) النظر، مطيلًا التفرس (التحديق)، فتبين له أن فيه تجويفًا!
فقال ابن يقظان في نفسه: «لعل مطلوبي الأقصى (الأبعد)، إنما هو في داخل هذا العضو، وأنا إلى الآن لم أصل إليه».
وما إن مر هذا الخاطر بخلده (بخاطره)، حتى أسرع بإنفاذه ليتكشف جلية الأمر (حقيقته). وشق ذلك القلب، فألفى فيه تجويفين اثنين: أحدهما من الجهة اليمنى، والآخر من الجهة اليسرى. فبحث ابن يقظان فاحصًا عن التجويف الأيمن؛ فرآه مملوءًا بقطع من الدم الغليظ الجامد. ثم فحص عن التجويف الأيسر؛ فرآه خاليًا لا شيء فيه.
فقال ابن يقظان: «لن يعدو (لن يفوت) مطلبي أن يكون مسكنه بين هذين البيتين»!
ثم إستأنف قائلًا: «أما هذا البيت الأيمن، فلا أرى فيه غير هذا الدم المنعقد (الجامد). ولا شك في أن هذا الدم لم ينعقد إلا بعد أن صار الجسم كله إلى هذا الحال.»
فأيقن ابن يقظان أنه لم يظفر بطلبته، ولم يدرك غايته. وقال في نفسه متعجبًا: «لقد طالما شاهدت أن الدماء كلها متى خرجت وسالت انعقدت، وجمدت وأصبحت في مثل هذا الدم. وهو فيما أرى كسائر الدماء التي تجري في جميع أعضاء الجسم بلا إستثناء، وليس يختص بها عضو دون عضو آخر. وليس مطلوبي بهذه الصفة؛ إنما أبحث عن سر الحياة في هذا الموضع الذي أجدني لا أستغني عنه طرفة عين؛ أعني هذا القلب النابض، الذي أشعر بأنه يبعث فيّ الحركة والنشاط. أما هذا الدم فلا خطر له، وليس هو سر الحياة. فكم مرة جرحتني الوحوش في أثناء حربي معها، فسال مني كثير من الدم، فما ضرني فقدانه، ولا أفقدني شيئًا من أفعالي. وعندي أن هذا البيت الأيمن ليس فيه طلبتي. أما البيت الأيسر، فإني أراه خاليًا لا شيء فيه. ولأمر ما، خلا هذا البيت مما كان فيه. وما أرى أن ذلك باطل. فإني رأيت أن كل عضو من الأعضاء إنما خلق لفعل ما يختص به. فكيف خلا هذا البيت وتعطل؟ لا شك أن القوة التي كانت تسكنه قد إرتحلت عنه؛ فتعطلت حركة الجسم كله بعده. وما أرى الجسم بعد أن إرتحلت عنه تلك القوة التي كانت تبعث فيه الحياة إلا خسيسًا تافهًا، لا قيمة له ولا خطر (والخطر: ارتفاع القدْر).»
وأطال التفكير والبحث؛ فأيقن أن أمه التي كانت تحبه وتعطف عليه ليست في هذا الجسد الميت؛ وإنما هي في تلك القوة الخفية التي كانت تحرك هذا الجسد الهامد!
وعرف ابن يقظان أن الجسد الحيواني، إنما هو بجملته أشبه شيء بآلة تحركها الروح، أو هو كالعصا التي يتخذها الإنسان لقتال الوحوش.
(٩) دفن الجثة
وفي خلال ذلك نتن الجسم، وفاحت منه روائح كريهة. فزاد نفور ابن يقظان منه وود (أحب) ألا يراه.
وحار ابن يقظان في أمره؛ فلم يدرك كيف يواري (لم يعرف كيف يخفي) ذلك الجسم؟
وإنه لحائر، لا يدري كيف يصنع، إذ رأى غرابين يقتتلان؛ فوقف يتأمل برهة، حتى رأى أحدهما يلقي الآخر ميتًا.
ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة؛ فوارى فيها ذلك الميت بالتراب.
فقال ابن يقظان في نفسه: «ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه (إخفاء جثته)! وإن كان قد أساء في قتله إياه. فما كان أجدرني بالإهتداء إلى هذا الفعل! وما أشد غباوتي حين تحيرت في دفن أمي.»
ثم أسرع ابن يقظان فحفر حفرة في الأرض، وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليه التراب (رفعه بيده وأهاله، أعني: رماه عليه).