الفصل السادس
(١) فضل الشرائع
وظل حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه. فجعل أسال يصف له شأن جزيرته، وما فيها من العالم، وكيف كانت سيرهم وأخبار حياتهم السالفة، وشؤونهم الماضية، قبل وصول الدين إليهم، وكيف هي الآن بعد أن إهتدوا بنور الدين. ووصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحساب والميزان، والصراط. ففهم حي بن يقظان ذلك كله، ولم ير فيه شيئًا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم! فعلم أن الذي جاء بذلك الدين القيم نبي أمين، ذو قوة عند ذي العرش مكين. وأيقن أنه محق في وصفه صادق في قوله، وأنه رسول من عند ربه. فآمن به وصدقه، وشهد برسالته، وأقر بنبوته وأصبح في عداد الصالحين الأخيار.
ثم جعل ابن يقظان يسأل صاحبه أسال عما جاء به من الفرائض، وما فرضه على الناس من العبادات. فوصف له صاحبه أسال الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبهها؛ وشرح له حكمة هذه الفروض والواجبات. فتلقى ذلك وإلتزمه، وأخذ نفسه بأدائه؛ إمتثالًا للأمر الذي صح عنده صدق قائله.
(٢) آراء ابن يقظان
ولكن بقي في نفس ابن يقظان أمر كان يتعجب منه، ولا يدري وجه الحكمة فيه. وذلك أنه فيما فهمه من أسال رأى الناس يستبيحون لأنفسهم إقتناء الأموال، والتوسع في المآكل؛ حتى تفرعوا للباطل بالباطل، وأعرضوا عن الحق. وكان رأيه هو ألا يتناول أحد شيئًا إلا ما يقيم به الرمق، ويمسك الحياة. وأما الأموال فلم تكن عنده بمعنى.
وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال كالزكاة وتشعبها والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب ذلك كله، ويراه مفهومًا بالبداهة. ويقول إن الناس لو فهموا الأمر على حقيقته، لأعرضوا عن أباطيلهم، وأقبلوا على الحق، وزهدوا في المال، ولم يدخروه، ولم يتكالبوا عليه (لم يقبلوا ولم يحرصوا)، ولم يحتاجوا إلى من يرشدهم إلى واجب إخراج الزكاة منه. ولم يقدم السارقون على سرقته فتقطع أيديهم. وكان الذي أوقعه في ذلك، ظنه أن الناس كلهم ذوو فطرة (طبيعة) فائقة، وأذهان ثاقبة (نافذة متقدة)، ونفوس حازمة (آخذة بما تثق به). ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة، والنقص وسوء الرأي، وضعف العزم، وأنهم كالأنعام (كالإبل والبقر والغنم)؛ بل هم أضل سبيلًا.
(٣) مفاوضة أسال
فلما اشتد إشفاق ابن يقظان على الناس، وطمع أن تكون نجاتهم على يديه، حدثت له نية في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبيينه. ففاوض في ذلك صاحبه أسال وسأله: هل تمكنه حيلة في الوصول إلى تلك الجزيرة؛ ليرشد الناس إلى طريق النجاة، ويهديهم إلى سواء السبيل؟ فأعلمه أسال بما عليه سواد الناس (عامتهم وكثرتهم)، من نقص الفطرة والإعراض عن أمر الله؛ فلم يتأت لابن يقظان فهم ذلك وبقي في نفسه تعلق بما كان قد أمله.
(٤) على ساحل البحر
ثم طمع أسال أن يهدي الله على يدي ابن يقظان طائفة من معارفه المريدين، الذين كانوا أقرب إلى الإخلاص من سواهم. فساعده على رأيه، وأقره على إقتراحه، ودعا الله أن يحقق أمله، ويظفره بأمنيته.
ورأيا أن يلتزما ساحل البحر، ولا يفارقاه ليلًا ولا نهارًا؛ لعل الله يسنى (يسهل وييسر) لهما عبور البحر. فالتزما ذلك، وإبتهلا إلى الله تعالى بالدعاء أن يهيء لهما من أمرهما رشدًا.
(٥) في المركب
وكان من أمر الله عز وجل أن سفينة في البحر ضلت مسلكها، ودفعتها الرياح وتلاطم الأمواج إلى ساحل جزيرتهما. فلما رقت هذه السفينة من البر، رأى أهلها أسال وابن يقظان على الشاطئ؛ فدنوا منهما. فكلمهم أسال وسألهم أن يحملوهما معهم؛ فأجابوهما إلى ذلك، وأدخلوهما السفينة. فأرسل الله إليهم ريحًا رخاءً (خفيفة هينة لينة)، حملت السفينة في أقصر مدة إلى الجزيرة التي قصداها.
(٦) سواد الخاصة
فنزلا بها، ودخلا مدينتها، وإجتمع أصحاب أسال به، فعرفهم شأن حي بن يقظان؛ فاشتملوا عليه اشتمالًا شديدًا، والتفوا حوله وأحاطوا به من كل جانب، وأكبروا أمره، وإجتمعوا إليه، وأعظموه وبجّلوه. وأعلمه أسال أن تلك الطائفة: هم سواد الخاصة من عقلاء الجزيرة، وأنهم لذلك أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وأنه إن عجز عن تعليم هؤلاء الخاصة العقلاء فهو عن تعليم الجمهور أعجز. وكان رأس تلك الجزيرة وكبيرها: سلامان وهو صاحب أسال الذي ذكرناه آنفًا.
وكان كما أسلفنا يرى ملازمة الجماعة وينفر من العزلة.
(٧) السخط بعد الرضا
فشرع ابن يقظان في تعليم جمهرة الناس وإرشادهم، وبث أسرار الحكمة فيهم. ثم ترقى بهم قليلًا، وشرع في نشر آرائه ومبادئه الجديدة بينهم، فإجترأ على مصارحتهم بالحق، وتوخى (قصد وتعمد وتطلب) إرشادهم إلى الطريق القويم، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وتحذيرهم من تلك البدع (الأشياء المستحدثة) الممقوتة التي ألصقها الجهلاء بالدين؛ فشوهت من جماله، وبدلت من محاسنه ومزاياه. وما هو إلا أن أقدم على ذلك، حتى جعلوا ينفضون عنه، وتشمئز نفوسهم مما يأتي به، ويتسخطون (يغضبون ويكرهون) في قلوبهم وإن أظهروا له الرضا في وجهه؛ إكرامًا لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم أسال.
(٨) خيبة أمل يقظان
على أن حي بن يقظان لم يدبّ اليأس (لم يمش) إلى قلبه، بادئ الأمر. وما زال يتلطف لهم ليلًا ونهارًا، ويبين لهم الحق سرًا وجهارًا؛ فلا يزيدهم ذلك إلا نفورًا وإصرارًا، ولا يلقى منهم على نصيحته إلا عتوًا واستكبارًا. مع أنهم كانوا محبين في الخير، راغبين في الحق؛ إلا أنهم كانوا لنقص فطرتهم، وضيق عقلهم وقصر نظرهم لا يطلبون الحق من طريقه، ولا يأخذونه بجهة تحقيقه، ولا يلتمسونه من بابه، ولا يريدون معرفته من طريق أربابه. فلما رأى ابن يقظان من عنادهم وإصرارهم ما رأى يئس من إصلاحهم، وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم.
(٩) ضلال الناس
وتصفح ابن يقظان (تعرف وتأمل) بعد ذلك طبقات الناس؛ فوجد من إختلاف آرائهم، وتعدد مذاهبهم، وولوعهم بالجدل العقيم والمناقشات التي لا تثمر، ما زهده في لقائهم. وزاد يأسه من هدايتهم، إذ رأى أن كل حزب بما لديهم فرحون، ورأى من غفلتهم عن الآخرة وتفانيهم في جمع حطام الدنيا الفانية (جمع ما فيها من الأموال) ما حيره، وبلبل خاطره. فقد ألهاهم التكاثر، حتى زاروا المقابر. ولم تنجع (لم تجد ولم تنفع) فيهم الموعظة الحسنة، ولم تعمل فيهم الكلمة الطيبة، ولم يزدادوا بالجدال إلا اصرارًا وعنادًا. ولم تجد الحكمة إلى قلوبهم سبيلًا، بعد أن غمرتهم الجهالة، وران (غلب وإشتد) على قلوبهم ما كانوا يكسبون؛ وجعل الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة (غطاء) ولهم عذاب عظيم.
(١٠) ظلمات الجهل
فلما رأى ابن يقظان أن سرادق العذاب (دخانه) قد أحاط بهم، وظلمات الحجب قد تغشتهم (غطتهم)، وأن جميعهم إلا اليسير لا يتمسكون من دينهم إلا بالدنيا، وقد نبذوا أحكامه وسننه، وتركوها على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمنًا قليلًا، وألهاهم عن ذكر الله تعالى بيعهم وتجارتهم، ولم يخافوا يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار: بان له (تحقق) على القطع أن مخاطبتهم لا غناء فيها (لا جدوى ولا فائدة)، وأن تقويم إعوجاجهم لا يتفق، وأن حظ أكثر الجمهور من الإنقطاع بالشريعة إنما هو في حياتهم الدنيا؛ ليستقيم لهم معاشهم، ولا يتعدى أحد منهم على سواه فيما اختص به.
(١١) طريق النجاة وطريق الهلاك
ورأى ابن يقظان أن الفائزين بالسعادة الأخروية أقل من القليل وأنه لا يظفر إلا الشاذ النادر؛ وهو من أراد حرث الآخرة (العمل لها)، وسعى لها سعيها. وأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى. وأي تعب أدهى وأعظم وشقاوة أطم (أكثر وأغلب) وأعم وأكبر، ممن إذا تصفحت أعماله طول يومه من وقت انتباهه من نومه، إلى حين رجوعه إلى الكرى، واستسلامه للنوم، لا ترى له همًا يشغل باله ويؤرق نومه، إلا أعراض الحياة الزائلة: من مال يجمعه أو دنيا يصيبها، أو لذة ينالها، أو كيد يتشفى به، أو جاه يحرزه، أو عمل من أعمال الشرع يتزين به، أو تقوى يتظاهر بها رئاء الناس (تظاهرًا بغير حقيقة). وهي كلها ظلمات في بحر لجّيّ (عظيم الموج) بعضها فوق بعض.
(١٢) خاتمة القصة
فلما فهم ابن يقظان أحوال الناس، أدرك أن أكثرهم بمنزل الحيوان غير الناطق، وأن لكل عمل رجالًا، وأن كلًا ميسر لما خلق له. فإنصرف ابن يقظان إلى سلامان وأصحابه؛ فإعتذر لهم عما تكلم به معهم، وأعلمهم أنه قد رأى مثل رأيهم، واهتدى بمثل هديهم، وأوصاهم بالخير والبر، والإقتداء بالسلف الصالح.
ثم ودعهم ابن يقظان وأسال وتلطفا في العودة إلى جزيرتهما، حتى يسر الله عز وجل لهما العبور.
وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم، على النحو الذي طلبه أولًا؛ حتى عاد إليه. وإقتدى به أسال حتى ساواه أو كاد.
وما زالا يعبدان الله في تلك الجزيرة، حتى أتاهما اليقين (الموت).
وهكذا عاشا عيشة النساك الزاهدين، وماتا ميتة الأبرار المقربين، وكتبت لهما السعادة في الدنيا والآخرة.