اثنتا عشرة أطروحة وسؤالٌ أخير
لو أن الإنسان لم يكن يغلق عينيه غاية الإغلاق؛ فإنه كان سينتهي إلى عدم رؤية ما يستحقُّ النظر.
١
كلُّ ثقافة تتميز بما تتواضع على اعتباره واقعًا. إننا نسمِّي منذ قرن «أيديولوجيا» ذلك الإجماعَ الذي يشكِّل لُحمةَ مجموعةٍ بشرية منظَّمة. وهو إجماع غير مفكَّر فيه ولا هو أبدًا ذو طابعٍ واعٍ، ولا علاقةٍ وطيدة له بالأفكار. إنه بالأحرى «رؤيةٌ للعالم» تحمل كلُّ واحدةٍ معها نظامها الاعتقادي.
إنَّ ما يطرحه كلُّ عصرِ بصرٍ للرؤية؛ يُطرح بشكلٍ لا يمكن إنكاره. ففي نظام «الأصنام»، الذي يتطابق مع الثيوقراطيا، كان بإمكان المرء أن ينكر المظاهر المحسوسة، لكنه لم يكن قادرًا على إنكار وجودِ ما وراء المرئي، وضرورة توجيه البصيرة إليه. أما في نظام «الفن» الذي أعلن عن ولادةِ الإيديوقراطيات؛ فغدَا بإمكان المرء الشك في الآلهة والأصنام، لكنَّه لم يكن قادرًا على الشكِّ في الحقيقة وفي ضرورة الكشف عنها في كتابِ العالَم المفتوح، وذلك بإرجاع الظواهر المحسوسة للقوانين الغيبية. وفي نظام البصري أو الفيديوقراطية، صار بإمكان المرء تجاهُل خطابات الحقيقة والخلاص، وإنكار الكليَّات والمُثل؛ لكنه لم يعُد بإمكانه إنكارُ قيمةِ الصور، ففرضيته الثابتة غدَت المجالَ المشترك لعصرٍ بكامله. إنه نظامٌ يمارس قيادةً صارمة للعقول إلى درجةٍ لا يتمُّ التفكير فيه باعتباره كذلك. وكلُّ نظامِ سلطةٍ؛ يقوِّم نفسه على أنه بديهي. ما يرينا العالم هو أيضًا ما يعمينا عن النظر إليه؛ إنه «أيديولوجيتنا». فهذه الأخيرة التي لا تُبدي حدَّتها إلا في التخلُّص من الأفكار التي تسكِّن «بؤبؤ عيوننا». وهي لا تذهلنا بقدْر ما تجعل منا ميدوزاتٍ تحوِّل كلَّ ما نراه إلى أماكنَ عمومية.
٢
الصور، على عكس الكلمات، في متناول الجميع، بجميع اللغات وبدون حاجة إلى أيِّ تعليم. فالبرمجة المعلوماتية توحِّد طبقات بُرج بابل بكاملها من بكين إلى نيويورك، مرورًا برأسِ الرجاء الصالح. لكنْ، ما إنْ تطفأ الشاشة؛ حتى لا يبقى لنا سوى الوصولِ إلى البصائر التي تنظم كلَّ عالم مرئي. وهذا المدخل لا تفتحه سوى اللغة والترجمات الرمزية. والحال أنَّ التداول الشائع دوليًّا والتكريس العالمي للعين الناتج عنه؛ ليس فألًا حسنًا على التواصل العالمي للعقول كما نعتقد.
يمكننا نعتُ كلِّ الثقافات بهذا الحدِّ أو ذاك من الظَّلامية بما أنها لا تستطيع استكشاف مدى منظوريتها. كيف يمكننا رؤيةُ ما يُعمينا؟ لكنَّها كلَّها ثقافاتٌ تدعو إلى الفضيلة المادية والمعنوية للتبصُّر، ذلك أنَّ مثالها يكمن في رؤيةِ ما هو موجودٌ عبْر ما هو ظاهر (حتى ولو تطلَّب ذلك إنكار هذه الملَكة لعيوننا الجسمانية). من السهل تجاوُر الفلسفات والأفواه بالمقارنة مع الأنوار والعيون. والعقول قادرةٌ على التخاطب من هذا الطرف إلى ذاك من الأرض بواسطة المترجِمين؛ لكنْ، ليس ثمَّة معجمٌ للمرئي. «والعينُ تنصت»، لكنَّها لا تسمع عينَ الآخَر.
٣
إنَّ العماد الذي عليه ينهض بناءُ معتقداتنا وممارساتنا؛ لا يكمن في الاختيار العقلي للحقيقة، ولا في الاختيار الأخلاقي للقِيم. فقبل هذه العمليات المتعلقة بالمعرفة والأخلاق المحددة لها، والتي يمكن اعتبارها إلى حدٍّ ما ثانوية، ثمة الفرضية البصرية للوجود: كلُّ ما هو موجودٌ؛ يوجد. وبما أنَّ مبادئ رؤيتنا هي أيضًا مبادئ قسمة؛ فإن الباقي، أيْ كل ما ليس يصلح «للرؤية»، يغدو غيرَ موجودٍ؛ أيْ خيالًا ووهمًا. وما نعتبره نحن الواقع نفسه، يسميه البوذيون طبعًا «الفراغ» و«السونيتا». وما يعتبره البوذيون الواقع المكتمِل نعتبره ببساطة هراءً وسذاجة. البداهة الطبيعية لحضارةٍ ما، تعتبر وهْمًا لدى حضارةٍ أخرى؛ إذْ لكلِّ حضارةٍ المايا الخاصَّة بها. وهذه الرُّءوس ذات الذيول، تدعو إلى «حوار الثقافات». والحال أنَّ الواقع غدا مقولةً تقنية ثقافية، وهذه التقنية أصبحتْ عالمية. ما الذي سنتحدث عنه بيننا إذا كان الواقع هو نفسه لدى الكل؟ وإذا ما غدت اللغة وحيدةً؛ فهل ستبقى لنا الرغبة في الحديث من طرَف الأرض إلى الطرف الآخَر؟
٤
إنَّ المعاهدة المتعالية للنظرات، التي تحدِّد الثقافة الضمنية لمجتمعٍ ما، لا تنتُج عن عقدٍ اجتماعي ثم مناقشته بحرِّية بين ذواتٍ بلا موضوع ولا ماضٍ، ثم جمْعها في ساحة القرية للمداولة. إننا ورَثة مجدِّدون مُثقلون بالأساطير، لكننا أيضًا مسلَّحون بالأدوات، وثقافتنا معاملاتٌ يتمُّ التفاوض بشأنها كلَّ سنةٍ بين تراثنا الأساطيري ووسطنا التقني (الذي يخضع هو نفسه لحالةِ التطور العلمي). وفي هذا التراضي، تكبُر حصة الوساطات، وتكون بديهياتنا جاهزة، وإلى جنبها أيضًا انتفاضاتنا. فانتفاضة مايو ١٩٦٨م الطلابية مثلًا، مثلها مِثلُ ثورات القرن اﻟ ١٩، قد «صاغها» المسرح على الطريقة الإيطالية بحوامله ومنصاته ووضعيات التشخيص والحركات المؤكدة وشعاريته الرنَّانة، وبجمهوره المصفِّق للفرقة في الشارع، أي عبْر الطليعة الفاعلة والمتكلِّمة. ربما كان ذلك هو «الحصة الأخيرة» والتمثيلية المسرحية الأخيرة في تاريخنا (فالاستوديو التليفزيوني قد فرَضَ ديكوره وتمثيلياته على فضائنا العمومي منذ ذلك الحين). هل جاء دور الاستيلاء على مقصورات الإدارة التليفزيونية بعد الاستيلاء على مسرح الأوديون؟ إنَّ كل آلية من آليات الإرسال الجماعي تُعيد تنظيم أمكنتنا المشتركة، أعني تلك العناصر غير القابلة للإيصال التي تمكننا من التواصل. فالذات المؤمنة، مثلها في ذلك مثل الذات المدرِكة، هي ذات تقنية؛ لأنها قبل كلِّ شيء إنسانٌ متخيِّل. ونحن، عبْر المزيد من تَقْنَنَة المتخيل، سنتمكن أكثر من الزيادة في جمالية آلاتنا اللصيقة بنا وأخلاقها وسياستها. وبدون تقنيات اللقطة المكبَّرة والزُّوم، وغيرها، هل كنا سنعرف التألُّق الفوضوي للشذرة والشذري الذي يميز لحظتنا الثقافية؟
٥
ستحقِّق الوسائطيات هدفَها حين لا يخشى الناس، أمام أيِّ نقاش «أساسي» أو خصومة «جديَّة»، التخفيضَ من حدة النقاش، وذلك بوضع القضايا المالية على طاولة الحوار، تلك القضايا التي كان ذوو «العقول الكبرى» يتركونها، إلى يومنا هذا في الآخِر، في نهاية الورقة. لا مجال ﻟ «ماذا ولماذا»، وإنما السؤال هو: «من أين؟ وكيف؟» فالآلات، اليوم، أشبه بالسياسة فيما قبل. قد لا نهتمُّ نحن بها، لكنها هي التي تهتمُّ بنا آنذاك. ما الذي تريده آليات الرؤية والسماع، وهل تفكِّر في الشيء نفسه الذي أفكر فيه؟ إنه سؤالٌ لا يمكن تفاديه؛ بحيث إنَّ هامش حريتنا يضيق مع تزايد التدخل الوسائطي وتزايد الشبكات وتعقُّد المسارات. لقد كانت تكنولوجيا الإقناع موجودة دائمًا، منذ الساحة الإغريقية بل قَبْلها من دون شك. لكنَّ الحنجرة الجماعية، اليوم تطلب الكلمة العمومية؛ واليوم غدا واقعنا رؤيةً وسائطية للعالَم، أيْ جهازًا يتحكم فينا وله قوةٌ تكوينية عالمية.
هل يتعلَّق الأمر بنزع الطابع المادي عن الحوامل عبْر التسجيل الإلكترومغناطيسي؟ وبنزع الطابع الواقعي عن الواقع الخارجي، وتصغير الآليات والمكونات؟ هل يتعلَّق الأمر بتصغير الحروف الكبرى، واختزال الخطابات المنطقية في حكايات مصغَّرة؟ وبترتيب المعلومات الملائم للتمثيلي؟ لقطة كبرى عادية؟ تشخيصات عامة المجموعات؟ فورية الإرسالات الهرتزية؟ غياب عمق الزمن؟ تفكُّك الصورة إلى ذرَّات؟ تشذُّر لا نهائي للمعلومات؟ توليف قطعي أو متعدد؟ إنه انفصال منطقي للأحداث. لا شكَّ أنَّ ثقافة التفاصيل، والفُتات والمجزَّأ، وتفكُّك الجدليات القديمة للكليَّة، وتعويض الشامل بالجزئي في كلِّ شيء، وهو ما ينعت أحيانًا ﺑ «انهيار الحكايات الكبرى»، لا شكَّ أنَّ كلَّ هذا يَدين بعمق للتفسُّخ البصري للأشياء، ولتفسخ الأعمال الفنية بواسطة أجهزة التصوير والتوليف والسينما والزوم التليفزيوني، والنقرة المعلوماتية … إلخ. فكل عملية من هذه العمليات تقود إلى سلوك، وجِماع هذه السلوكات يشكِّل نمطًا معينًا للمدينة. ليس ثمَّة من عِلِّيَّة خطية، وإنما دائرة عامة محكَمة.
٦
ليس ثمَّة ما هو أصعب من العدِّ إلى حدود ثلاثة. فلقَدْ تطلَّب الانتقال من ثقافةٍ ثنائية إلى ثقافةٍ ثلاثية (وهي الأساس اللاهوتي للوسائطية) من المسيحية آلاف السنين. وسيكون من المؤسِف أن تقوم اللغة الثنائية للصورة، المكونة من «صفرٍ، وواحد» ومن «نَعَم، ولا»، غدًا وبشكلٍ خفي، بسَجْن التفكير في النعم/لا؛ فاستطلاعات الرأي والانتقال بين القنوات التليفزيونية وثنائية الصورة/اللاصورة، وطقس الصراع الثنائي التلفزي بين الأبطال (عادةً اثنان، ونادرًا ثلاثة)، والدورة الثانية للانتخابات، كلُّ هذا لم يترك أبدًا المكان لأولئك الذين ليسوا مع ولا ضد هذا أو ذاك، لا أبيض ولا أسود، فهُمْ خليط من هذا وذلك أو بالأحرى: لا هذا، ولا ذاك. إنَّ الثقافة ذات التفتيش الخارجي (أي التي تُخرج التفتيش إلى خارجها) لها كلُّ الحظوظ في تعذيب الاختلافات الطفيفة والتعقد والمزوج والاستدلال والافتراض، باعتبارها مكتسبات هشَّة وجديدة لحضارات الاستبطان والطَّوية المنحدرة من الكتابة.
٧
الاستعباد هو قلْب الإنسان للمتوسَّط إلى مباشر، أو إذا شئنا، قلْب ما هو تابعٌ له إلى ما هو مستقلٌّ عنه ويملك جبروته الخاصَّ. فالذات تتلقَّى ما هو اصطناعي وما بنتْه بأجهزتها الخاصة باعتباره شيئًا مستقلًّا وجبَّارًا. إنها تجعل ما تُدرَك به بشكلٍ نشيط موضوعًا لإدراكها السلبي. وهي بذلك تتجاهل نفسها باعتبارها ذاتًا مبدِعة ومصدرًا للصور (كما كانت الآلهة أو الحقيقة سابقًا). إنها «تسقط عليها من فوق» كحبَّات البرَد أو غيث العاصفة، فيما أنَّ «أصلها» هو نظام تمثُّلاتها هي نفسها. يتعلَّق الأمر بالآلية الكلاسيكية المعروفة بالاستلاب، وتحويل الحريَّة إلى أسطورة. لكنْ ما يتوجَّه نحو الخارج ويتنامى هنا، لا في فكرة الألوهية وإنما في تأليه الصورة، ليس هو وعيَ الذات وإنما آلية سوسيوتقنية.
٨
هي ذي معادلةُ العصر البصري: المرئي – الواقعي – الحقيقي. إنها أنطولوجيا استيهاميةٌ محكومة بالرغبة اللاشعورية. لكنها من جهةٍ أخرى رغبة غدتْ من القوة والاكتمال بحيث تنظِّم أعراضها في نظامٍ كامل الجدَّة.
نحن أول حضارة يمكنها، تبعًا لأجهزتها، أن تصدِّق ما تراه. إنها الحضارة الأُولى التي وضعَت الواقع والمرئي والحقيقة في مواقعَ متساوية. أمَّا الحضارات الأخرى، ومعها حضارتنا السابقة، فقَدْ كانت تعتبر أنَّ الصورة تمنع من الرؤية، وهو ما يتأكَّد حاليًّا. فما يتم تمثيله وتشخيصه يقدِّم نفسه على أنه غير قابل للإنكار. وإذن، بما أن السوق أصبح يحدِّد أكثر فأكثر طبيعة التمثيلات المحسوسة وحدودها، باعتبار أنها تُخلق بواسطة الصناعات، تحولت المعادلة المذكورة إلى: «ما لا يباع = لا واقعي، ومزيَّف، وغير صالح.» فما يقبل الذوبان والاندماج وحده له قيمة، ولا قيمة إلا لمَن يملك الزبائن. والمطابقة بين قيم الحقيقة وقيم الإعلام يوجِّه الأولى إلى مجال العرض والطلب؛ وبهذا، فإنَّ مَن يملك سوقًا هو مَن سيُعرف بأنه الحقيقي. وإذا ما نحن ترجمنا ذلك فسيعطينا ما يلي: «الجمهور قاضينا الوحيد.» وليس من المستبعَد أن تنشأ، بعد التجارة التسويقية (ماركتينغ) للحقيقي والخيِّر، تجارةٌ الواقع (مثل تجارة الأعضاء البشرية). هل سيغدو الواقع الحي مرتبطًا بالقدرة الشرائية؟ وهل سيتحكم «الثمن من أجل الرؤية» في نظرة الغد؟ وهل سيغدو الإدراك مرموزًا ويحتاج إلى فارزٍ خاص بالمشتركين؟ هكذا سيصبح الأغنياءُ المالكين الوحيدين للإحساسات الرقيقة، وربما سيحتكرون العالم المحسوس. وبما أنَّ القيمة السامية لثقافةٍ ما تكمن أيضًا فيما يجعل أفرادها يحلمون، فإننا كلَّنا نحلم منذ وقتٍ طويل، كثيرًا أو قليلًا، بحظِّ ربح لعبة اللوتو.
٩
سواءٌ تأكَّد هذا الانحراف نحو التجارة الكاسحة أم لا، فإن الرغبة تتزايد في الخلط بين «الهواء» وطابع الوقت، والمطابقة بين وجوب الوجود والوجود الحاضر، والطويل والقصير. ألَا يؤدي التعاقد بين الصورة ومرجعها في العالم الإلكتروني اليوم، والرقمي غدًا، إلى الخلط العسفي بين الحقيقي والجميل والخيِّر، وهو الخلط الذي ارتبط عميقًا باستيهامات الأنظمة الكليانية أمس؟ إنَّ هذا يعني كبْت الممكنات وتجميد الزمن، مصحوبة بتقليص حرية الانحراف والمعارضة والابتكار. هكذا سوف تصل الفيديوقراطية، من اليمين، إلى النقطة السوداء التي بلغتْها الإيديوقراطية من اليسار. صحيحٌ أن الحفلة السمعية البصرية توفِّر أضعاف أضعاف الصور التي كان يصنعها أعضاء المكتب السياسي في «الاشتراكية الفعلية» السابقة، غير أنها لا توفِّر أبدًا خيالًا اجتماعيًّا أكبر. فالخيال هو الوظيفة اللاتحقُّقية للوعي، وعبْرها يمكننا نفيُ الأشياء كما هي عليه. والحال أنَّ الصور المسجَّلة تضاعِف من سُلطة الواقعة عبْر إرهاب البداهة.
١٠
إنَّ اختفاء اللامرئيات لَشيءٌ مذهل، خاصة وأنَّ أدوات إعادة إنتاج المرئي جعلتْ ذاك الاختفاء نفسه لامرئيًّا.
لنلخِّص الآن. في عصر الخطاب، الذي جاء بعد ابتكار الكتابة، كان ما هو موجود فعلًا هو ما هو غائب. فقد كان الارتياب يختصُّ بالمرئي، هكذا كان الأمر مع الثقافة المصرية القديمة والإغريقية والبيزنطية والوسيطة، وذلك هو أمر الثقافة البوذية اليوم، ومعها الثقافة الهندوسية والإحيائية. فالربُّ لا جسمَ ولا وجه له في ديانتَين من الديانات التوحيدية الثلاثة. إنه كلمة، لذا فإن إعطاءه صورةً يعتبر جُرمًا وحمقًا. أما في الديانة الثالثة، أي المسيحية، على الأقل في صيغتها الكاثوليكية، فإنَّ الصورة المادية للإلهي ظلَّت قابلة للتفاوض.
ومع عصر الأشكال الذي تأسَّس على المطبعة، استعاد المرئي كرامته، لكنْ باعتباره عرَضًا مسكونًا ومنظَّمًا من قِبل ضرورةٍ يمكن التوصل إليها منطقيًّا عبْر الخطاب أو التجريد. يقول ديكارت بهذا الصدد: «إنَّ أفضل شخصٍ مؤهَّل لممارسة الهندسة هو الأعمى.» كان الاعتقاد سائدًا بأنَّ العالم يُفسر بما يُخفيه عنا. ففي هذا العصر، وكما يقول ليفي ستراوس، «تعيَّن الحقيقة نفسها بالجهد الذي تبذله في إخفاء نفسها عنا.»
أما في عصر الشاشة فيؤكِّد هذا الإخفاء ما هو خاطئ وهشٌّ ليتَّجه الشكُّ والارتياب جهةَ ما لا يقبل الملاحظة. ما لا يقبل الرؤية، لا يتمتع بأيِّ وجود. وبذلك تبخَّرت الكائنات اللفظية، تلك الأشياء التي لا توجد إلا بالقول، وتلك الأساطير الخالصة التي عليها تأسَّس الواقع القديم، أعني مثلًا: الأمة، والطبقة، والقانون، والجمهورية، والواجبات، والتقدم، والصالح العام، والكوني، والعدالة، والدولة … إلخ. إنها الأعمدة «المجردة» (التي كانت مع ذلك فعلية) للمحسوسات المزيفة التي تحيط بنا والتي لن «تظهر»، بالمقابل، على أيِّ شاشة. كلما فقدت حوامل الإرسال طابعها المادي؛ قلَّ حظُّ الروحانيات في الوجود في الحياة الاجتماعية. هل ستكون اللاماديات الوحيدة المباحة لنا ذات طابعٍ تقني؟ إنَّ شخصيتنا المعنوية بكاملها في حالةِ أزمة. «فرنسا، يا فَرَنْسايَ، إني أراكِ، فأنتِ تملئين الهواءَ كما الفتاة التي أعشقها …» إنه مثالٌ للبداهة المحسوسة سابقًا، وللبلاغة الأدبية اليوم. بإمكاني طبعًا أن أرى على صورة الْتقطها القمر الاصطناعي قطعةَ أرضٍ يابسة على الجانب الأيسر من آسيا تسمَّى اصطلاحًا فرنسا. لكني لن أستطيع أبدًا رؤية ألفِ عام من التاريخ التي تشكِّلُ من خلالها تلك البقعة الغمراء الخضراء ذات الأرضية السوداء هذا البلد المسمَّى فرنسا. فتلك خصوصية غير مادية وحاسمة.
١١
١٢
•••
بقي لنا فقط أن نطرح سؤالًا على الألفية الحالية: كيف ستنظرون جيدًا حواليكم من دون أن تقبلوا بوجود «أشياءَ لا مرئية» فوقكم أو تحتكم أو بجانبكم؟ وأنا لا أعني هنا فقط الملائكة أو الأجسام الكوكبية، وإنما أيضًا الوقائع المثالية، والأساطير أو المفاهيم، أو العموميات والكليات، الروحانيات أو الرموز التي لن تكون لها من ترجماتٍ ممكنة، سواءٌ كانت افتراضيةً أو في فضاء تحكُّمي. كيف يمكن وجود الْهُنَا من غير الْهُنَاك، والآن من غير الأمس وغدًا، ودائمًا من غير أبدًا …؟
•••