الفصل الأول
الولادة بالموت
علينا حتمًا في يومٍ ما، أن نفتح بوابة الظِّل ونتقدَّم نحو الأدراج الأُولى؛
لنبحث عن نورٍ يمكِّننا من التعرُّف على أنفُسنا في ظلماتٍ شديدة القِدم، تعودتْ
عليها الأبدان المُهانة.
ميشيل سير
لولادة الصورة علاقةٌ وطيدة بالموت. لكن، إذا كانت الصورة العتيقة تنبثق من
القبور، فذلك رفضٌ منها للعدم، وضمان لاستمرار الحياة. الصورة التشكيلية رعبٌ
مروَّض، وما ينجم عن ذلك هو أن الموت كلما انمحى من الحياة الاجتماعية غدَت الصورةُ
أقلَّ حيوية، وغدَتْ معها حاجتنا للصور أقلَّ مصيرية.
•••
لماذا عمد أبناء جنسي، منذ زمنٍ بعيد، إلى أن يتركوا وراءهم صورًا مرئية مرسومة على
مساحات صُلبة، ملساءَ ومحدودة (بالرغم من أنَّ الجدران في العصر الحجري الأوليِّ كانت
محدَّبة وبدون تُخوم، وأن إطار اللوحة شيءٌ حديث العهد)؟ لماذا تلك الخطوط والنقوش
والرسوم على الصخور? لمَ تلك الأحجام المنشأة ودوائر دلْمن والأنصاب والأعمدة والتماثيل
النصفية، والأصنام أو التماثيل الإنسية؟ لماذا، عمومًا، توجد الصورة عوض ألَّا توجد؟
لنقبلْ لِلحظةٍ بأننا نجهل عن الأمر كلَّ شيء ولنلجْ بوابةَ الظِّل.
الجذور
المصدر ليس هو الجوهر، والصيرورة مهمَّة جدًّا. لكنَّ كلَّ شيء مظلِم يستنير
بماضيه العتيق. العتاقة في الإغريقية تعني، في الآنِ نفسِه، علةَ الحياة والبداية.
فكلُّ مَن يصعد الزمنَ تتعمَّق معارفُه.
لنبدأ رحلتنا هذه لمصادر الصورة بوسائلنا الخاصة، أيْ بعيوننا وكلماتنا.
حوالي ١٥٠٠٠ سنة ق.م.: قبور ولحود تنتمي للعصر الحجري الأول، وخضاب صلصالي على
عظام الموتى. عام ٣٠٠٠٠ق.م.: تأليفات مشعَّة لمغارة لاسكو؛ إنسان مقلوب له رأسُ
طائر وبقر وحشي صريع، إضافة إلى جياد هاربة تتابعها السهام. خلال آلاف السنين، ثمة
عودة ملحَّة للرمزية المتصلة بالخصوبة والموت معًا. حوالي ٥٠٠٠ سنة ق.م.: الرمح
القضيب مقابل الجرح الفرج. الجثت المبرقشة المنتمية للعصر البرونزي التي حفظتْها
برودة تربة الألتاي Altai، الجماجم ذات المحاجر
التي يغطيها الهيماتيت. حوالي ٢٠٠٠ سنة ق.م.: القبور الفرعونية لمومفيس والنواويس
المكتشفة في مصر العليا بتوابيتها ذات العيون الكبيرة المصبوغة، وعلى الجدران قوارب
الآخِرة والهبات العينية. حوالي ١٥٠٠ عام ق.م.: القبور الملكية في مدينة مينيسيا
بعلاماتها الجنائزية الذهبية. حوالي ٨٠٠ سنة ق.م.: الجداريات المليئة حياة في
المقابر الأترورية. مواكب النائحات التي يجسدها الخزف الإغريقي الأوليُّ في الفترة
الزمنية نفسها. جدارية بلوتون وبيرسيفون في قبر فليب ملك مقدونية. حوالي ٣٥٠ق.م.:
المنحوتات الجدارية للقبور الرومانية؛ سراديب القبور المسيحية. مدن الموتى
الميروفنجية في القرن السادس بمشابكها المحشوة ذهبًا في صور طيور. صناديق عِظام
الموتى ومخلفات القديسين وذخائرهم العائدة للعصور الوسطى. الشواهد المجسمة
البرونزية من القرن الحادي عشر، والأقنعة النحاسية المذهَّبة من القرن الثالث عشر،
وشواهد القبور والتماثيل الجنائزية لمنطقة بلانش الشمبانيا، والباباوات والقديسون
الساجدون، في قبور عصر النهضة. ولْنختصر لائحة الكليشيهات؛ فمن البداهة أنَّ الفن
يولد جنائزيًّا، ويُبعث بعد موته بحافز من الموت. فشرف القبر يُطلق، من مكانٍ لآخر،
جماح المخيِّلة التشكيلية، ومدافن العظماء كانت هي أُولى متاحفنا، والموتى أنفسهم
هم أوائل جمَّاعي التحف الفنية؛ ذلك أنَّ تلك الكنوز، من أسلحة وأوانٍ وأوعية،
وتيجان وصناديق ذهبية وتماثيل نصفية من المرمر، وأثاث من الخشب النادر، لم تكن
معروضةً لأنظار الأحياء. كما أنها لم تُراكَم في الجثَوات أو الأهرام. وأقباء
القبور، كان يُمنع ولوجها في الغالب الأعمِّ، مع العلم أنها مليئةٌ بالنفائس. أمَّا
نحن، أُناس العصور الحديثة، فإنَّ خزانات صورنا معروضةٌ للرؤية. يا لها من دورةٍ
غريبة لمساكن الذاكرة! فبما أنَّ القبور كانت متاحف الحضارات التي لم تعُد تعرف كيف
تشيد المقابر، ألَا تملك الحضارات الحديثة، البذخ العمراني، والسطوة، والحماية
اليقظة المحكمة والعزلة الطقوسية في الفضاء المدني، اللازمة لذلك؟ بيْدَ أنَّ الصور
المخزونة بعيدًا عن الأنظار، في مصر وميسينا وكورنثيا، كانت مخصَّصة لمساعدةِ
الموتى على متابعة نشاطاتهم العادية، بينما علينا نحن أن نوقف أنشطتنا لزيارة
أضرحتنا. لقد أوقفْنا، بشكلٍ متأخِّر، الهمَّ العملي
للتعلُّق بالحياة وعمَّدناه باسم الجماليات.
وبعد تصفحنا للألبوم، لنعد الآن للمعجم. فإذا كانت الإتيمولوجيا ليست موثوقة؛
فإنها على الأقل تشير علينا بالمعنى. لنبدأ بالأصل اللاتيني
simulacrum؛ إنه الشبح. وماذا عن
imago؟ إنها كلمةٌ تعني القناع الشمعي الذي
يوضع على وجوه الموتى، والذي يضعه القاضي في الجنازة ليُحتفظ به في صناديق الفناء
فوق الرفِّ بعيدًا عن كل العيون. فالدين الذي ينهض على تقدُّس الأجداد، كان يتطلَّب
أن يعيش هؤلاء من خلال الصورة. لقد كان للنبلاء الحقُّ وحدهم في عرضِ نظير للسلف
على العموم.
١ إنَّ اﻟ
homo multarum imaginum لدى
كايوس ساليستوس، هو شخصٌ له أسلافٌ كثيرون من الشرفاء والأعيان، وإذن له الكثير من
التماثيل الجنائزية في الخارج، التي تُرفع عاليًا … وكلمة
Figura؟ إنها تعني، أولًا، الشبحَ، ثم الصورة
والوجه. فهل سنرى في ذلك تسويدًا محزنًا وجنائزيًّا للحياة المضيئة لهيلاديا؟
لنيمِّمْ وجهنا إذنْ نحو اليونان، تلك الثقافة المُشمِسة العاشقة للحياة وللرؤية
إلى حدِّ عدم التفريق بينهما. فالحياة لدى الإغريقي القديم ليست، كما هي لدينا،
مرتبِطةً بالتنفس، وإنما بالرؤية والموت وفقدان البصر. نحن الفرنسيون نقول عن
الميت: لَفظَ نفَسَه الأخير، أمَّا الإغريق فيقولون: «أطلق نظرته الأخيرة.» إنَّ
خِصَى العدو أهون عليه من فقء عينَيه. إنه سيغدو أوديب الحي الميت. ها نحن إذن أمام
جماليات حيوية. إنها بالتأكيد أكثر حيويةً من
الجماليات المصرية. والمفاجأة تكمن في أن الموت يتحكم هنا أيضًا في كل شيء.
أما كلمة
idole (صنم) فإنها مشتقة من
eidôlon، التي تعني خيال الموتى وشبحهم،
والطيف؛ ثم فيما بعد فقط أصبحت تعني الصورة والصورة الشخصية. كان الإيدولون القديم
يعين روح الموتى التي تخرج من الجثَّة في شكل خيال لا يقدر أحد على الإمساك به. إنه
نظير الجسد، الذي يسهِّل طابعه الدقيق، الذي لا زال جسمانيًّا، تصويره تشكيليًّا.
الصورة إذن هي الخيال والظل. والظل هو الاسم العام للنظير
double. لذا، وكما ذكر ذلك جان بيير فرنان،
لهذا الاسم ثلاثة معانٍ مترادفة ومتجاوِرة: «صورة الحلم»
(
onar)، «شبح ترسله الآلهة»
(
phasma)، و«شبح الميت»
(
psyché).
٢ هكذا كان الأمر مع باتروكل المسكين حين ظهر لأخيلوس في المنام. إنه إذن
مصطلح مأساوي ومعروف لدى كتَّاب التراجيديات؛ فقد قال إسخيلوس: «النُّعرة القاتلة
التي تلاحق إيو ليست غير شبحِ وصورةِ أرغوس نفسه.» ويسوق يوريبدوس الاصطلاح نفسه في
مسرحية ألْسِسْت، على لسان زوج هذه الأخيرة الأرمل أدْميت، وهو يتوسل إلى النحاتين
لإعادة زوجته إليه حية: «إنَّ جسدك المشخَّص بأيادي مصوِّرين مهَرة سيكون ممدَّدًا
على سريري، وجنبه سأستلقي، وحين أعانقه مناديًا إياك باسمك، سأخال زوجتي العزيزة
بين يديَّ رغم غيابك، وهي ستكون شهوةً باردة بالتأكيد …»
٣ الخزفيون الأثينيون يمثِّلون لولادة الصورة أحيانًا بمحارب مصغَّر يخرج
من قبرِ محارب هلَك في المعركة ومات أحسنَ ميتة.
٤ هكذا تؤكِّد الصورة انتصار الحياة، غير أنه انتصار منتزَع من الموت
ومستحَق منها. وليس لنا أن نعتقد، ثمَّة، أن نظام الرمز ذو مصدر أكثر خلوصًا من
المصدر الفظِّ للمتخيَّل
imaginen؛ فالجثة تشكِّل
تربتهما الخصبة المشتركة. لقد اشتُقَّت كلمة علامة
signe من
séna
أيْ شاهد القبر. وعبارة
séma chéein لدى هوميروس
تعني تشييد قبر. إنَّ العلامة، التي نعرف لها لَحدًا، تؤسِّس علامة المشابهة. لذا
فإن الموت، باعتباره دلالة أصلًا، يبدو بعيدًا كلَّ البعد عن السيميولوجيا وعلم
الدلالة الحديثَين، لكنْ يكفيكم أن تكشطوا بعضَ الشيء عِلمَ العلامات؛ كي ينكشف
الخزف والصلصال المنحوت والقناع الذهبي. والتمثال، تلك الجثَّة الثابتة، الواقفة
تُحيِّي من بعيد المارَّة، تشير إلينا بإشارتنا وعلامتنا الأُولى. تحت الكلمات تثوي
الأحجار،
ولكي تغدو السيميولوجيا مفهومةً، هل سيكون عليها في
يومٍ ما أن تُرجِع وقائع اللغة لوقائع الصور أيْ للجثَّة
الآدمية؟
في اللغة الشعائرية، يعني «التشخيص والتمثيل»: «تابوتًا فارغًا يغطَّى بكفن لحظةَ
الجنازة.» ويُضيف معجم لتري: «كما كان يعني، في القرون الوسطى، صورة
figure مقولبة ومصبوغة تمثِّل الميت خلال
الجنازة.» يتعلَّق الأمر هنا بأحد المعاني الأولى للمصطلح؛ ولا يخفى أنَّ فن
استعمال الموتى للصالح العام هذا، يُدخلنا مجال السياسة من بابه الواسع. فبين وفاة
شارل السادس وهنري الرابع، ملِكَي فرنسا، كانت طقوس جنائز ملوك فرنسا تشخِّص
الفضائل الرمزية مقدارَ تشخيصها للفضائل العملية للصورة البدائية، كبدلٍ حي للشخص
المتوفى. كانت جثَّة الملك تظل معروضة للعموم لمدة أربعين يومًا.
٥ لكنَّ التعفن، بالرغم من تقنيات التحنيط، يسير بوتيرةٍ أسرع من المدة
المطلوبة لعَرض الجثَّة ونقلها إلى سان دونيس (خاصة بالنسبة لمَن قتلوا منهم في
بقاعٍ نائية) والتنظيم الرسمي للمأتم. من ثَم تنبع أهمية القيام بإنشاء صورة
تمثالية مطابِقة حقًّا لذكرى الغائب (فقد صنع الفنان الفرنسي فرانسوا كلوي بنفسه
تمثالَ فرانسوا الأول). وحين يتمُّ تزيين التمثال وتزويده بشاراتِ السُّلطة، يقوم
مقامَ الملكِ الهالك بترَؤُّس المأدُبات والحفلات في القصر لمدة أربعين يومًا.
ووحدها الصورة تتلقى التأبينات والتعازي؛ وما دامت معروضةً فإن الملك الذي سيعتلي
العرش يظلُّ مختفيًا. هكذا، من بين جسدَي الملك، الفاني والخالد، يكون الثاني هو
الذي يوضع في تمثاله الشمعي المصبوغ، إذ في النسخة يوجد أكثر ممَّا يوجد في
الأصل.
إنَّ العادة الفرنسية المتعلقة «بالتشخيص» تستعيد، بوعي منها أو بدون وعي،
التقليد الروماني في هذا المضمار. ففي روما الإمبراطورية، وبعد الإمبراطور أنطونان
الورع، أصبح
le finus imaginarium — الذي يتمثل فيه
تقديس الإمبراطور بعد وفاته — يُضعَّف دفن رماد الجثة بإحراق نظيرها في أبهة كبرى،
بعد أن توضع على سرير جنائزي، وبعد أن تكون قد عاشت مدة سبعة أيام من الاحتضار
محفوفة بالأطباء والنائحات.
الصورة إذن ليست حيلة أو نسخة
كاذبة، كما أن جنازتها ليست تخييلًا؛ ذلك أن تمثال الميت الشمعي هو
عبارة عن جثة (إلى درجة أنهم وضعوا عبدًا للسهر على طرد الذُّباب عن تمثال
بيرتيناكس بمروحة). إن هذه الصورة جسدٌ مطلق ونشط، عمومي وإشعاعي، سينطلق رماده
دُخانًا في السماء للالتحاق بالآلهة في موطنها العلوي (فيما تكون البقايا الفعلية
قد دُفنت في الأرض)، ولتفتح لها بالتالي بوابات التأليه.
٦ يصعد الإمبراطور من المحرقة إلى السماء في شكلِ صورة أي بشكلٍ شخصي.
هكذا تسقط الأجسام، فيما تصعد النظائر نحو السماء. فكما هو حال المجد بالنسبة للبطل
الإغريقي أو التأليه بالنسبة للإمبراطور الروماني والقداسة بالنسبة للبابا المسيحي
(وكما هو الأمر بالنسبة لداماز، الذي غدا مقدَّسًا بفعل صورةٍ شخصية على كأسٍ ذهبية
موضوعة في محراب المعبد)، فإن
فضائل الغرب تأتيه من عمليات
التصوير؛ لأن صورته هي جانبه الأفضل، أي أَنَاه المُحصَّنة المحفوظة
في مكان آمِن. يمسك الحي بالميت بالصورة. وفي الأُنموذج المسيحي، تجد الشياطين
وإتلاف الأجسام في قعر المدافن وأقباء الأموات ما هو أقوى منها. إن «الحياة
الحقيقية» تكمن في الصورة التخييلية لا في الجسم الواقعي؛ فالأقنعة الجنائزية في
روما القديمة لها عيونٌ مفتوحة وخدود ممتلئة. ومع أن التماثيل القوطية مطروحةٌ
أرضًا؛ فإنها لا تُفصح عن أيِّ طابعٍ جثماني، بل إنَّ لها وضعيةَ أجسام مبعوثة،
وشكلَ أجسام مجيدة ليومِ القيامة تقوم بخُطبها الوعظية؛ كما لو أنَّ الحجر المنحوت
يستنشق نفَس الأشخاص الهالكين. ثمَّة، فعلًا، تناسُخُ أرواحٍ بين الجسم المشخَّص
وتمثاله. فهذا الأخير ليس فقط مجازًا من الحجر للفقيد، وإنما هو كنايةٌ واقعية
واستمرارٌ متسامٍ لا يزال يحتفظ بالخصائص الجسمية لبدنه. الصورة هي الكائن الحي في
أجود حالاته، وقد استنعش بالفيتامينات كي لا يصدأ. إنها في النهاية كائنٌ يُعتدُّ
به.
ظلَّ التصوير والتحوير، لمدةٍ طويلة إذن، عمليةً واحدة. وخزَّان القوة هذا،
الكامن في الصورة العتيقة، وفائض الجلال والعظمة الذي كانت تمنحه للفرد — ولمدة
طويلة لأن الصورة تحافظ على نفسها طويلًا — هو ما جعل من التمثيل والتشخيص حظوة
اجتماعية وخطرًا عموميًّا. لم يكن من الممكن توزيع شرف التصوير اعتباطًا؛ ذلك أن
الصورة الشخصية لها علَّاتها وآثارها ونتائجها. ففي روما، وإلى حدود انهيار
الإمبراطورية، ظلَّ عرض الصور الشخصية على العموم محدودًا وخاضعًا للمراقبة. الأمر
يتعلق إذن برهان سُلطة خطير جدًّا. والذين كان لهم الحق في امتلاك تمثال جنائزي هم
الأموات من الأعيان؛ لأنهم بطبيعتهم ذوو نفوذٍ وسطوة، وبعدهم يأتي العظماء من
الأحياء، ولا حقَّ أبدًا للإناث في ذلك. ولم تظهر الصور الشخصية والتماثيل النصفية
للنساء في روما إلا في وقتٍ متأخر على صور الرجال. أما الحقُّ في الصورة للمواطنين
من العموم، والذي كان حكرًا على الموتى من النبلاء، فلم يظهر إلا في نهاية المرحلة
الجمهورية.
الصورة قبل الفكرة
يقول باشلار: «الموت هو — أولًا وقبل كل شيء — صورة، وسيظل كذلك صورة.»
٧ إن فكرة الموت، باعتباره بعثًا أو سفرًا ومرورًا، فكرةٌ متأخرة في
الزمن وثانوية؛ فتصاوير الخلود (بما أن الموتى في الغرب لم يعودوا يموتون فعلًا إلا
في زمننا) قد سبقتْ مذاهب التعلُّق بالحياة. أين ظهَرَ فنُّ التصوير المسيحي في
القرن الرابع، وهو الذي لم يكن في حسبان رهبان الكنيسة؟ على التوابيت، وفي سراديب
المقابر. وما الذي تحكيه هذه التمثيلات التي كانت آنذاك مجرَّدة؟ انتصار الإيمان
على الموت، وبعث المسيح، وبقاء الشهداء على قيد الحياة. لقد كانت أُولى الصور في
هذه العقيدة، التي كانت تزعم رفضَ الصور، واقعةً تحت تأثير الأساطير التوراتية عن
خلود الروح.
ليست فكرة الخلود فكرةً ثابتة كما هو الأمر بخصوص فكرة الروح. والفكرتان معًا لم
تترابطا دائمًا (فالبقاء على قيد الحياة قبل الثورة المسيحية، كان أولًا قضيةَ حياة
الجسم). وعلينا ألَّا نخلط بين البدو الرُّحَّل الذين كانوا يحرقون أمواتهم كيْ
يمنحوهم للريح والنجوم أو البحر، والمتمدِّنين الذين كانوا يدفنونهم في وضعية
الجنين كي يعيدوهم لأمِّهم الأرضِ التي ستتكفل ببعثهم أحياء. كل حضارة تتعامل مع
أمواتها بطريقتها الخاصة، وبذلك فهي تختلف عن الحضارات الأخرى في كل شيء، ولكل
حضارة أشكالُ قبورها. لكن، لن تكون الحضارةُ حضارةً إذا ما هي لم تخصِّص لهم
تعاملًا خاصًّا (ولعل ضَعف العمران الجنائزي هو الذي جعل حداثتنا قريبةً من
الهمجية). لذا فإن الحضارات التي جعلتْ من الموت نواتها التنظيمية، ليست لها نفس
المآثر؛ لأنها ليس لها الآخِرة نفسها. والقبر المصري الذي لا يُرى من الخارج يُدير
وجهه للداخل نحو رُوح الميت. لقد كانوا يدفنون فيه العطايا والهبات؛ كي يضمنوا
غذاءً جيدًا لتلك الرُّوح، وليرافقوها في بقائها على قيد الحياة. أمَّا القبر
اليوناني الموجَّه نحو الخارج؛ فهو يحاوِر الأحياء مباشرةً. يتمُّ إنشاء نُصب
تذكاري يُرى من بعيد؛ لتخليد ذكرى معيَّنة. وفي الحالين معًا، يكون فضاء القبر،
باعتباره مسكنَ الميت، مميَّزًا عن فضاء المعبد، مسكن الآلهة. لقد كانت الثقافة
المسيحية الأُولى التي أدخلَت الرفات الجسماني لفضاء المقدس. بدأ ذلك بالقديسين
والشهداء ثم بالأساقف والأمراء. ولا مقارنةَ بين اللحد المصري والصفيحة الحجرية
للقبر، وبين المنحوتات الوسيطية الخشبية المتآكلة التي تمثل البطل راكعًا أمام
قديس، وبين الفارس النهضوي الماثل بكبرياء على قبره المرمري. لكنْ، سواءٌ تعلَّق
الأمر بقبرٍ في قاعة أو بئر أو قبَّة أو جثوة، وسواءٌ كان مرتفعًا أو منحوتًا في
الصخر، ثمة دائمًا مأثرة عمرانية. وإذا ما نحن ترجمنا ذلك حرفيًّا، فإن الأمر
يتعلَّق بالإنذارِ بضرورة تذكُّر الموتى. وسواء تعلَّق الأمر بحورس أو غورغونيا أو
ديونيزوس أو المسيح، ومهما كانت طبيعة الأسطورة الإلهية، فإنها تُنتج الصورة.
الآخرة تتطلَّب توسُّط الدنيا. وبدون عمق من اللامرئي، لا وجود لشكلٍ مرئي. وبدون
قلقِ العرَضي، لا حاجة لمَا هو سحيق. الخالدون لا يأخذون لبعضهم البعض صورًا. الله
نور، ووحده الإنسان مصوِّر فوتوغرافي؛ ذلك أنَّ الذي يمرُّ وهو يعرف أنه فقط عابِر
يرغب في البقاء. فالإنسان يأخذ الكثير من الصور الفوتوغرافية ويصوِّر الكثير من
الأفلام للأشياء التي يعرف أنها مهدَّدة بالانقراض، من نباتات وحيوانات بَحرِيَّة
وبَوادٍ وأحياء عتيقة وثرواتِ أعماق البحار. مع قلقِ التأجيل، يكبر الهوس الوثائقي
ويتعمَّق.
بمجرد ما تنسلخ الصورة البدائية عن جدران المغارة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا
بالعِظام والقرون وجلد الحيوان، أي بكل العناصر التي يتم الحصول عليها بالقتل. لقد
ظلَّت الجثَّة تعتبر أكثرَ من كونها فضاءً أو ذريعةً للحِداد لتغدو مادته الأولية.
لذا فأولُ عملٍ فني يمكن اعتباره كذلك هو المومياء المصرية، وأول لوحةٍ هي الكفن
المصوَّر القبطي. وأول محافِظ هو المحنِّط. أمَّا أولُ قطعة في مجال فنِّ الديكور
فهي آنيةُ حفظِ رمادِ الموتى وخابية الأموات والمرمدة ورقِّ الخمر وصندوق الحلي.
وحتى أتباع المسيح أنفسهم، لم يستطيعوا مقاومةَ إلزام المتخيَّل هذا، في الوقت الذي
جعلوا من التحريم المتعدِّد شريعتهم كي يتميَّزوا في قلب العالَم الروماني الوثني.
ومن أقباء المقابر إلى الكاتدرائية، ثم إلى الكنيسة الوسيطية، بوصفها «قاعات لرُفات
القديسين» (حسب المؤرخ الفرنسي جورج دوبي Duby)،
أصبحنا نرى الرُّفات «تخرج» من الأقباء وترتقي في العلو والمجد، وذلك من خلال
تتابُعٍ للتداخلات. فعِظام القديس أو الشهيد المحلي أو أحشاؤهما الجافَّة تتطلَّب
صندوقًا لحفظ الرُّفات، ومن ثَمَّة كنيسة أو ضريحًا، وهو ما يتطلب بدوره الحج وما
يليه؛ أي النذور الذهبية والمذبح، واللوحة المزدوجة (الدِّبتيك) والجدارية ثم
أخيرًا اللوحة. هكذا يتمُّ المرور بشكلٍ لاشعوري من حُب العظام إلى حُب الفن، ومن
بقايا الجسم إلى ما يُحتفظ به من لباس القديس، ومن ثَمَّة إلى العمل الفني الرائع.
«الفن المسيحي»، باعتباره تصريفًا دقيقًا للأسمال والخِرق، قد تطور عبر النسخ، من
الحجم الصغير إلى الحجم الكبير. هكذا يتمُّ تشييد مذبحٍ على أول معظمة، ثم يغطَّى
بعد ذلك بسقف. ولكي يتم تصغير الهيكل المقدَّس صنَعَ فنان العاجيات الباريسي، وهو
من حاشية شارل السادس، لوحةً ثنائية محمولة؛ وصنَعَ الصائغ حليةً يمكن للعابد أن
يعلِّقها في عنقه لصْقَ بشرته.
مرحلة المرآة
يقول فوستيل دو كولانج
F. De Coulanges: «ربما
جاءت الإنسانَ فكرةُ الخارق لأول مرة عند رؤيته للموت، تائقًا إلى آخرةٍ ممكنة لما
يراه. لقد كان الموت اللغز الأول الذي حيَّر الإنسان، وهو الذي وضعه على طريق
الألغاز والعجائب الأخرى؛ فقَدْ سَمَا بتفكيره من المرئي إلى اللامرئي، ومن العابر
إلى الخالد، ومن الإنساني إلى الإلهي.» إذن، قد يغدو الحيوان في يوم من الأيام
إنسانًا عند رؤيته لكائن ميت؛ ذلك أن أنثى من الثدييات الرئيسية، كأمِّ شامبانزي
مثلًا، تستمرُّ في اللعب مع صغيرها الذي مات كما لو كان نائمًا وحيًّا. وحين تدرك
أنه لم يعُد يتحرك؛ تتركه وراءها كما لو كان شيئًا من بين الأشياء الأخرى. وهي تبدو
كما لو أنها نسيتْه للتوِّ. والحقيقة أنَّ جثَّةً إنسانيةً، لا تتعرض لدينا للتعامل
ذاته؛ فهي ليست كائنًا حيًّا، لكنها مع ذلك ليست شيئًا. إنها حضور وغياب في الآنِ
نفسه، أي هي أنا نفسي وقد غدوتُ شيئًا، وهي كياني نفْسُه، لكنْ، وقد استحال إلى
موضوع. «يا موتًا مشوهًا ومقيتًا عند النظر …» من الممكن إذن
الاعتقاد بأنَّ أول تجربة ميتافيزيقية للحيوان الإنساني، كانت ذات طابع جمالي
وديني معًا، وكانت تتمثَّل في هذا اللغز المحير مشهدَ إنسان ينتقل
إلى حالة هلام غير متعيِّن.
٨ وربما كانت مرحلةُ المرآة الإنسانية الحقيقية تتمثل في تأمُّل الذات في
النظير أو الشبيه، ورؤية ما هو مغاير للمرئي في المرئي القريب. أمَّا العدم في
ذاته، فهو «ما لا أدريه، وما ليس له اسمٌ في أيِّ لغة.» إنها لرَضَّةٌ صاعقة؛ حتى
نسمِّي هكذا هذا الإجراءَ المضاد: أن يصنع المرءُ صورةً لمَا لا يسمَّى، أيْ نظيرًا
للفقيد؛ كيْ يتمَّ إبقاؤه على قيد الحياة. وبالمقابل، ألَا يرى ما لا يدري في ذاته؛
ألَا يرى نفسه باعتباره شبهَ لا شيء. إنها ميزةٌ ذات دلالة، وإضفاءٌ للطابع
الشعائري على الهاوية عبر التضعيف المرآوي. «لا الشمس، ولا الموت، يمكن أن يريا
مباشرةً.» لقد عَمدَ بيرسي، في الأسطورة اليونانية، إلى استعمال مِرآة لقطع رأس
ميدوزا؛ فالصورة، أيُّ صورةٍ، هي بالتأكيد هذه الحيلة غير المباشرة، وتلك المرآة
حيث يمسك الظِّل بفريسته. إن عمل الحداد يمرُّ، هكذا، بصناعة صورة للآخَر يكون فيها
الخلاص. وإذا كان هذا التطور صحيحًا؛ فإن الذهول الذي يحصل إزاءَ جثمان الميت،
باعتباره الشعلةَ المؤسِّسة للإنسانية، قد حمل معه الانطلاقَ الديني والتشكيلي
معًا، أو إذا شِئنا، الاهتمامَ بالقبر والاشتغالَ على الجثمان. وهما معًا مترابطان.
فكما أن الرضيع يستجمع أعضاءه وهو ينظر للمرة الأُولى في مِرآة، نقابل نحن التفسُّخ
الناتج عن الموت بإعادة التكوين بالصورة.
وإذن، فإن الصورة تأتي ممَّا وراء القبور، بالمعنى الحرفي للأمر. إنها تشبه
التمثال الصغير الفانجي fang الجاثم على غطاءِ
صندوق الرفات الذي يحوي عِظام الجد (ﻓ imago (صورة)
وossa (عظام)؛ غالبًا ما يكونان مترادفَين في
اللغة اللاتينية). إنها تخرج منه حتى يظلَّ السلف هناك مستقرًّا ومنضبطًا، وكذا
لمنعه من العودة لإزعاجنا، وحبس روحه الطائرة في مكانٍ أكيد. ليس بالإمكان التخلص
من النظير من دون إضفاء الطابع المادي عليه. وكل القارات تساهم في صياغة هذا
المنطق. وكلمة double (نظير، صورة، نسخة) لها
مرادفات في كل اللغات (رافاييم في العبرية و«كا» في المصرية القديمة
وgénius في الرومانية … إلخ). نعم، حتى في
الثقافة اليهودية؛ ففي الأضرحة اليهودية للعصر الهيليني عُثر على ما يشكِّل خرقًا
للمحظورات اللاوية lévitiques، أعني اللحود
التشخيصية (بيت شعاريم)؛ كما لو أن الوصية الكبرى الثانية أباحَت التصوير في حالة
قصوى للضرورة، وكما لو أن الحاجة العاطفية للبقاء على قيد الحياة كان لها من القوة
بحيث خرقَت القرار الثقافي للكتاب.
لتفسُّخ الأجسام شكلان: بالرطوبة والجفاف، وبالتمييع أو الإحراق. بيْدَ أنَّ أفظع
شيء يمكن أن يراه الإنسان هو القذارة والأشياء الهلامية، أي تلك الكتلة المتعفِّنة
المشوَّهة. إنها الدنَس الذي لا يمكن إصلاحه. فالصورة المادية، باعتبارها النظير
المضعَّف، تحميني من تلك الفظاعة ومن المشهد الصاعق للتعفن. يقوم الحجر بإخفاء
المتعفِّن بالصلابة ويتسامى عن الحقارة بالرخام والحجر الزجاجي. أما النُّصب فإنه
يهذِّب الشرَّ بحضوره المشهدي. إنه تطهير بصري. وفي وسط جمهورٍ مرسوم جانبيًّا، كما
تقدَّم ذلك، الخزفيات الإغريقية؛ تظهر غورغونيا (ومعها ديونيزوس) مرسومةً من الأمام
على عتبة مملكة بيرسفون. هكذا يتمُّ التمكُّن من الهيئة الشريرة ذات العيون القاتلة
بالصورة، التي تمنح للرؤية بالمواجهة قيمةً وقائية. العين المرسومة تطرد العين
الشريرة. وعلى الصور ذات الوجوه الحمراء، والتي رُسم فيها كل المحاربين من الجانب،
وحده المحارب المحتضر، وقد انسلخ عن العالَم، يملك حظوةَ منحِ نفسه للرؤية من
الأمام، كما لو أنه بذلك يطلب انتباهَ المشاهد.
٩
إنَّ ابتكار الصورة التمثالية، هذا التحويل المضاد لمَا لا شكلَ له إلى شيءٍ ذي
شكلٍ معيَّن، وللرخو إلى الصُّلب؛ يمكِّن من الحفاظ على المصالح الحيوية للجنس
البشري. ولقد نشأت الصورة الشخصية الدنيوية المجهولة المرجِع، والتي لا هدف طقوسي
لها في مصر وبالضبط في الفيوم، من الحاجة إلى دمقرطة البقاء على قيد الحياة. فلكلِّ
امرئ زادُ سفره وجوازُ سفره نحو الشمس. وأن يتمَّ الفصل بين النظير والجثمان؛ هو في
حدِّ ذاته عملية تأمين للسلامة العمومية، بقصد وضع الحدود بين الطاهر والنجس وسط
المجموعة البشرية، باعتبار أن الأسوأ هو النجس الناجم عن الخلط بين الاثنَين.
أفليست طمأنينة الأحياء رهينةً براحة الأموات؟ إنها أيضًا محاولةُ سيطرة على
العرَضي العابر، ودليلٌ رائع على الرغبة في الحياة. فكما هو حال الدِّين لدى
برغسون، يمكِّن التشخيص من تأمين استمرار الغريزة: «باعتباره ردَّ فعلٍ دفاعي
للطبيعة ضد التمثيل بالذكاء لجبرية الموت.» إنها الحيلة الحيوانية نفسها؛ إلا أنَّ
«الدِّفاع» هنا لا يتمثل في السير مع ما هو متحرك وإنما في وضع الزمن في شِراك
الفضاء. وإذا كانت «الحياة هي مجموع القوى التي تقاوم الموت»؛ فإن الحلْية تعتبر
قوةً حيوية باعتبارها أولَ استعراضٍ ضد الموت. فكلُّ صورة تلعب دورَ تمديدِ الحياة.
لهذا، فإننا نُصاب بالوجوم كلما سمعنا عقولًا ساذجة تُنكر الجنيالوجية الجنائزية
للصورة كما لو أنها مرتبطةٌ بالحِداد والكآبة؛ فيما أنَّ الفن حيويةٌ ومرحٌ وإفراطٌ
فيهما. والحال أن هذا يفسِّر بالضبط ذاك.
لقد جاءت الصورة لتدبير مسرَّات الحياة في المقابر؛ ففي مصر القديمة، يعتبر علماء
الآثار أنَّ «فن المقابر» أكثرُ حيويةً ونصاعة في الألوان وأقلُّ تحجُّرًا من «فن
المعابد». لا يوجد ما هو ألطفُ وأكثرُ أناقةً من تحليق الطيور المزدهية الألوان،
ومن الراقصات ولاعبي الناي في المقابر الأترورية لتركينيا
Tarquinies. وهل ثمَّة ما هو أكثرُ إثارةً
للشهوة من اللوحات المثبتة فوق الأَسرَّة الجنائزية الرومانية؟ مَن قال بأنَّ بلاد
الظلمات جنائزية؟ مَن لم يرَ في مدينة الأموات بالقاهرة الفتيان الأريبين يلعبون
بالكرة بين المقابر؟ أمَّا الموائد الأكثر شهيَّةً؛ فإنها تكون بعد مراسيم الدفن،
كما يتجاور الكرنفال والصيام. نعم، إنَّ الصورة تغرق في المأساة، غير أنَّ المأساوي
يتعامل مع ديونيزوس أكثرَ من تعامُله مع زحل. ففي جدارية كامبوسانتو بيزا (الآتية
من عمق ظلام القرن اﻟ ١٤م)، وبالرغم من طابعها المأتمي، تقابل حديقة الحب صورة
انتصار الموت.
الاستغاثة السِّحرية
لنتذكرْ أنَّ مجتمعاتنا، إلى يومنا هذا، كانت مكونة واقعيًّا من الأموات أكثر من
الأحياء. فخلال آلاف السنين، ظلَّ الماضي والغور في الزمن طافحًا ومهدِّدًا الحقلَ
البصري، وظلَّ المختفي يمنح للظاهر قيمتَه. فقد كان القريب والمرئي في نظر أسلافنا
أرخبيلًا من بحر اللامرئي الذي له كشَّافوه وتكهُّناته التي تصلح لتمثيله؛ ذلك أن
اللامرئي، أو ما بعد الطبيعة، كان مجالًا للخارق (فهو المكان الذي منه تأتي الأشياء
وإليه تعود). لذا، كان من مصلحة الإنسان التصالح مع اللامرئي بجعله مرئيًّا،
والتفاوض معه وتمثيله وتشخيصه. أما الصورة فإنها تشكِّل هنا، لا الرهان وإنما عماد
التبادل والمقايضة، في هذا التعامل الدائم بين الرائي واللامرئي. أنا أعطيك صورة
ضمانة وبالمقابل تتكفَّل أنت بحمايتي. إنَّ ما نسميه بشكلٍ مجازي الأثرَ الفني
للمصريين أو الإغريق القدماء؛ يعود إلى عملية ردعٍ يقوم بها الضعيف إزاء القوي.
فأنا مرتهنٌ بقوًى عظيمة، لذا فإني سأستعمل أدوات الخطِّ والقطع؛ كي أرتهن بها أقل،
أو بالأحرى لأجبرها على التدخُّل لصالحي؛ ذلك أنَّ صورة الإله أو الفقيد تفترض
حضورها الفعليَّ إلى جانبي. إنها عمليةُ تمويه بين الصورة والكائن تمكِّنني من
توفير قواي وإمكاناتي؛ فعوض أنْ أُهدي دائمًا للإله الميت أُناسًا من لحم ودم،
سأهدِّئه بتماثيلَ من الطين. وعوض أن أضحِّي فيما بعد للصورة بثورٍ، يمكنني أن
أكتفي بثيران من الخزف … هكذا هو أمرُ النُّصب أو الكولوسوس، ذلك التمثال الصغير من
الحجر والبرونز في بلاد الإغريق القديمة، الذي لم يكن يملك من العظمة غير الاسم.
فقد كانت تلك التماثيل الصغيرة تستعمل بدلًا للإنسان في الشعائر الاستغفارية.
١٠
إنَّ التماثيل الإغريقية، المبرقَشة كما في السِّيرك، المثقَلة بالتزاويق
والتذهيبات وأنواع الأحجار الكريمة، هي أشخاصٌ حيَّة. فهي لم تُصنع لكي تشاهَد،
وإنما تظلُّ في الغالب مخبوءة، أمَّا الكشف عنها فيتطلب فعلًا طقوسيًّا، لكنْ لكي
تنظر إلينا وتحمينا. إنها تعيِّن نفسها بضمير المتكلم. هكذا يمكننا قراءة ما يلي
على هذا التمثال أو ذاك: «فلان قدَّمني هديةً.» فالاسم المنقوش على التمثال
الجنائزي أو النذري يكون دائمًا اسمَ صاحب الهدية لا اسم «الفنان». وتمثال أبولون،
عبارة عن عهد مقام بين صاحب القربان والإله، وهذا ما يبرِّر كتابةَ الإهداء.
«التمثال المنقوش يغدو بذلك ضمانةً أكثر إلزامًا للإله الذي عليه أن يكون قادرًا
على قراءة نصِّه، ولو في غياب أيِّ قارئ إنسي».
١١ وسيجد الإله متعةً في قراءة ما كُتب على فخذَيه، وسيشكر صاحب الهدية
على ذلك. بالشكل نفسه، يسجِّل صاحب الأُعْطية المسيحي اسمَه ويرسم هيئته على رافدة
المذبح قربَ القديس؛ كي يضاعف من حظوظ خَلاصِه.
بعد أن تُنحتَ الصورة ثم تُصبغَ؛ تغدو أصلًا، وتصبح بطبيعة وظيفتها وسيطًا بين
الأحياء والأموات والناس والآلهة، وبين المجموعة البشرية ونشأة الكون، كما بين
مجتمع من الذوات المرئية ومجتمع القوى الغيبية التي تتحكم فيها. هذه الصورة ليست
غايةً في ذاتها، وإنما وسيلة للتأليه والدفاع والفتنة والإشفاء والتعليم. فهي تُدخل
المدينة في النظام الطبيعي، والفرد في التراتبية الكونية. إنها «رُوح العالَم
وتناغم للكون.» وباختصارٍ، هي وسيلةٌ حقَّة للبقاء على قيد الحياة. إنَّ فضيلتها
الميتافيزيقية التي تجعل منها قائدةً للقوى الإلهية أو الغيبية هي التي تجعل منها
صالحةً للاستعمال وضرورية. فهي كيانٌ فعَّال، أيْ نقيض للترف. ولا يمكننا لذلك
المعارضة بين الأشياء حاملةِ المعنى «كالأعمال الفنية»، والأدوات اليومية بجميع
أنواعها. فما دام الشيء المصوَّر أداةً للإنسان من غير أدوات، ظلَّ لمدةٍ طويلة
أحدَ الخيرات التي تدخل في الحاجيات الأولية.
إنَّ كلمتَي
magie (سحر)
و
image (صورة) تتكونان من الحروف نفسها، ويا
لها من عدالة! إنه نداء استغاثة بالصورة، ونداء استغاثة بالسحر؛ فقَدْ كتَبَ إليفاس
ليفي: «ليس ثمَّةَ غيرُ معتقدٍ وحيد في السِّحر؛ هو أنَّ المرئي تمظهرٌ للامرئي.»
ولأنَّ السِّحر مُلزِمٌ إلزامًا مطلقًا في عملياته؛ فإنه أقلُّ تسامُحًا وليونةً من
الدِّين، إذ هو يؤكِّد الإرادة الحيوية والقرار الفعَّال، وهما الأمران اللذان لا
نجدهما في الأديان المتطوِّرة، الأقلِّ نشاطيةً والأكثرِ ميلًا نحو السِّلم
والتواضع. يقابل أندري بروتون، في كتابٍ جميل عن الفن السِّحري، بين العين المادية،
التي تدين بكلِّ شيء لإدراك الواقع، وعين الرُّوح أو البصيرة التي لا تنهل إلا من
نفسها، ويدافع بنوعٍ من التفاؤل عن كون عنوان كتابه ذاك فيه حشو.
١٢ صحيحٌ أنَّ هالة من السِّحر تغطِّي تقاليدنا التصويرية. اللاوعي
النفسي، بانفجارِ صوره المتحرِّرة من الزمن الذي يخلط بينها كلِّها، ليس معرَّضًا
للشيخوخة. إنَّ «سِحر الصورة» الشِّعرية، بهذا المعنى، شيء معطًى منذ القدم، وهو
أمر الصورة المَنامية نفسه. فالموتى لا يزالون يسكنون ليالينا، وليس عبثًا أن يكون
المؤرِّخ اليوناني هيزيود قد جعل من لينوس أخًا لثاناثوس. لقد استطاعَت السوريالية،
بتعظيمها للحُلم، أن تعثر على الدينامية الجوهرية والقلب الحيِّ للصورة؛ لكنَّ
الصورة، بما تتطلبه من إحيائيةٍ حقَّة، لا يمكن اعتبارها سِحرًا بالمعنى الحرفي إلا
في مرحلةِ الأوثان (كما سنحلِّل ذلك فيما بعد)؛ ذلك أنَّ
الفنَّ ارتبَطَ بالصورة حين انسحب منها السِّحر.
يبدو أنَّ أندريه بروتون يتعامل مع السِّحر باعتباره صفةً وقيمة لا باعتباره
علاقةً اجتماعية ذات موضوعٍ غير محدَّد أحيانًا؛ كما لو أن الفضيلة السحرية موجودة
في الصورة لا في ذلك الذي ينظر إليها. فهل سيكون لدرْقة أخيلوس، التي أصابَت
الأقزام بالرعب، التأثيرُ نفسه علينا؟ ورؤية الفيرونيكا — الصورة الحقيقية للمسيح —
هل يمكنها شفاؤنا؟ إنَّ قُدرة صورة ما على «إعادة إنتاج معيَّنة للسِّحر الذي نجمتْ
عنه»، لا يعود إليها؛ لأنَّ السحريَّ خاصيةُ النظرة لا الصورة. إنه مقولة ذهنية لا
مقولة جمالية. وفنُّ السِّحر لم يُنتج أسلوبًا كالكلاسيكية والباروكية يمكن ربطه
بالخارقية أو الحُلمية التي يمثِّل لها فنانون كجيروم بوش أو جوستاف مورو، أو مونسو
دي ديريو أو شيريكو. على العكس من ذلك، فإنَّ تبعيةَ النحت بشكلٍ جذري للعملي هو ما
يحدِّد اللحظةَ السحرية للصورة. فقُدور الساحرات، والغيلان ذات رءوس الطير، عاجزةٌ
عن ردِّها إلى الحياة باللاجدوى نفسها التي ستنتج عن الابتهال إلى سويدينبورع أو
لافاتير أو حتى نوفاليس. قال بودلير إن «الخيال يترابط مع اللامتناهي.» بالتأكيد،
شرط التذكير بأن الخيال لا يمتح تأثيره ونفوذه من نفسه، وإنما من اللامتناهي الذي
يرتكن إليه الإنسان المتخيل، أو بالأدق الذي يفرض عليه ضعفُه المادي أن يرتكن إليه؛
لأنه الاختيار الوحيد المطروح أمامه. وقد كان الفن المسمَّى سحريًّا في هذه الوضعية
يوجد بشكلٍ لا إرادي؛ والشخص الذي نحَتَ فينوس ومدينةَ ويللندروف أو ليسوغ، لم يكن
يقول لنفسه أبدًا بأن «الجميل يكون دائمًا غريبًا». فخصوبة نساء عشيرته، كانت تكفي
لتحقيق سعادته. إننا لا نُرجع السِّحر إلى مكانه الفعلي حين نجِدُه في المختصِّين
في لعبة أوراق التاروت والتنويم المغناطيسي. إننا بذلك نتجاهل إلى أي حدٍّ هي
عاديةٌ وضرورية، لأُناسٍ يعيشون الحرمان، تلك الأفعال التي تصلح لامتلاك قوة ما أو
الحصول على صيدٍ وفير أو ابنٍ من امرأة أو مقتلِ عدو.
هل ثمَّة صورةٌ آتية من قعر الزمن (أو، اليوم، من «عُمق أحشاء» فنَّان) لا تكون
نداءَ استغاثة؟ إنَّها لا ترغب في سحرِ الكون لمجرد المتعة، وإنما للتحرُّر منه.
فحيثما نرى الآن تعبيرًا عن النزوات أو الاستيهامات المجانية، كان ثمَّة فيما مضى
قلقٌ وعذاب. إنَّ التميمة البدائية التي نرى فيها اليوم «قصيدةً، شيئًا» ذات
اشتغالٍ رمزي، لا تشهد على حرية الفكر بقدْرِ ما تشهد على عبوديةِ أجدادنا لليل
بآلهته ووحوشه وهاماته، أيْ على كلِّ هؤلاء الغرماء المتعطِّشين لدماء دائنيهم
الأحياء.
الموت في خطر
لا وجود اليوم للمآثر الجنائزية، ولا للتماثيل أو الجداريات، في غرف الموتى.
فكلما قلَّت اللعنة قلَّ التضرع والابتهال. لقد راحت من مدننا الكرنفالات العمومية
والحفلات والمَسْخرات مع مراسيم الحِداد وطقوس الجنائز. لننزعْ عن رؤيتنا الهياكل
العظمية، فماذا يتبقى للعين؟ خضمٌّ من الصور بلا رهان أو نتائج، نستطيع تسميتها
«بصرية». «فموتُ الإله» لم يكن غير فصلٍ من فصول هذه الوضعية، أمَّا «موت الإنسان»
فإنه مرحلةٌ أخطر. وبما أنَّ الموت سليلُ الخطوتَين السابقتَين؛ فإن موتَ الموتِ
سيخصِّص للمخيِّلة الضربةَ القاضية. حين يُخفي الإنسان المعاصر الاحتضارَ في
المستشفى والرمادَ في مستودع رمادِ الموتى، ويواري الفظائعَ تحت الضوء الاصطناعي
ومساحيق الجنازة الشخصية، فإنه بذلك يضعف حاسته السادسة تجاه اللامرئي، ومعها
الحواس الخمس الأخرى؛ ذلك أنه حين لا يعودُ يرى اللامحتمَل، فإنه يضعف الجاذبية
الغامضة للظِّل، ومعها ضدَّه أيْ قيمة شعاع النور. إنَّ ترويض الواقع عبْرَ نمذجته
النظرية والتقنية، ومن غير إضرار بعصبات شبكية العين، يجعل من استعمالها أقلَّ
إلحاحًا وضرورة. لقد غدا الأمر أقلَّ حيويةً وأقلَّ لذة. وإذا ما نحن تجرَّدنا من
«الأشياء في ذاتها»؛ فإننا لن ننتظر سوى تخديرِ حواسنا. نهاية البعث، اختزال الموت
في الحادثة؛ ذبولُ ما نراه من مرح. هذا ما سيكون عليه غدًا تتابُع المخاطر. إن ما
يتبقى للنظرة التي تتمتع بحمايةٍ مبالَغ فيها هو الكآبة المجعَّدة للمرئي، حين يغيب
الهيكل العظمي والعفِن والمقزِّر والظليل من الأفق الصحي اليومي.
يقول رينان في كتابه «مستقبل العِلم»: «سيأتي يومٌ سيصبح فيه الفنان العظيم شيئًا
متجاوِزًا وقليلَ الأهمية.» إنَّ الإنسانية إذا كانت ذاتَ قوةٍ كبرى؛ فإنها قد لا
تحتاج في الحقيقة للفنانين، فحوالي ٣٠٠٠٠ق.م. أيْ في نهاية العصر الحجري، ظهرَت
الصورة في نقطةِ تماسٍّ بين لحظةِ ذُعرٍ ولحظةِ بدايةِ التقنية. ما دام الذُّعر
أقوى من التقنية؛ ينشأ السِّحر وانعكاسه المرئي، أي الصنم. وحين تتغلَّب الأسلحة
والأدوات التقنية على الذعر تدريجيًّا؛ وتغدو القدرات الإنسانية على التخفيف من
الآلام، وتكييف موادِّ العالم والتمكُّن من عمليات تصويرها، قادرةً على تجاوُز
الذُّعر أمام الكون وقوَّته؛ آنذاك نمرُّ من الصنم الديني إلى الصورة الفنية، أيْ
إلى نقطة التوازن في المحدودية الإنسانية. إننا نتمتع هنا بلحظةِ توازُن بين العجز
والإنجاز، بممرٍّ في قمَّة الجبل يسمح بالمرور من الطبيعة المرعِبة إلى الطبيعة
المتحكَّم فيها. «المتعة» الكلاسيكية كمتعةِ الرسَّام الفرنسي بوسان، هي انتصارٌ
على الرعب، وذلك هو ما يرفع من قيمتها. فالجمالُ دائمًا رعبٌ مدجن، وصفاءُ النتيجة
الفنية هو ثمرةُ عملٍ مادي عنيد على مادة فيزيقية. إنَّ قوة عمل فني ما تتطلب
مقاومة السديم الأولي والمادة الخام لليدِ العاملة. أمَّا اليوم فإنها لم تقاومْها.
فمع التطور القوي للأدوات الآلية، بإمكاننا إيقاف سطوة الأشياء ومداورة إلحاحها
والفعل فيها عن بُعْد. تستطيع العين الالتقاط والدوران على السطح لتمارس قراءةً
سريعة للخطوط والألوان. فمنذ أن ألحَقَ الإنسان العالم به — إلى درجةٍ أصبح بإمكانه
صُنع ما شاء من العوالم بواسطة الصورة التركيبية — أصبح يعاني من مهامِّ العيش،
وقلقِ الموت مساءً من الجوع أو المرض، ومن الحلول المُلْغِز لليل، وسيمفونية
الكواكب المذهلة. لقد أصبح مستعدًّا، وبشكلٍ اختياري، لحالةٍ من النرجسية لا نهاية
لها، فقط لنظراتٍ سريعة ملقاة «للرؤية»، وللَّاشيء.
يمكن القول بأن «السِّحر» ظلَّ سائدًا، ما دام الإنسان لا يملك التجهيزات
الضرورية، وتابعًا للقوى العجيبة التي تسحقه. ثم جاء «الفن» فيما بعد حينما أصبحَت
الأشياء المتعلِّقة بنا أكثرَ من تلك التي لا تتعلق بنا. أمَّا «المرئي»، فقَدْ بدأ
حينما حصَلْنا على تأثير كافٍ على الفضاء والزمن والأجسام؛ بحيث لم نعُد نخشى
المتعالي، أيْ حين غدونا قادرين على اللعب بإدراكنا من دون أيِّ خوفٍ من العوامل
الغيبية. لقد كان «الفنانون» الأوائل مهندسين وعلماء وميكانيكيين، كليوناردو
دافنتشي الذي كان يحفر الجبال بالأنابيب وكان وراء اختراع الرجل الطائر والآلات
النارية. حين نتمكَّن من شراء فضل الطبيعة ونفعها بالإنجازات التقنية، كما هو حال
الغرب اليوم، فإن وضعية الأمان هذه تقلِّل الحاجة إلى الوسيط. وكمثالٍ على هذا
الرونق الضائع، فإنَّ المسيحيين أنفسَهم ينسون أن قربان القدَّاس يحتفي بحدثٍ مهول،
أيْ قتل المسيح، وأن تناوُل القربان يتمثل، تبعًا للغز القرباني، في تناول الدم
«الواقعي» واللحم «الحقيقي». وثمَّة ما هو أسوأ من فعلِ أكل اللحم البشري هذا؛ هو
أكل لحم الإله (المسيح). كيف لنا إذن أن نُفاجأ حين نجد أن أنفسنا في عصرٍ يتناسى
تمامًا القساوة الدموية لأساطيره الأصلية ويدخِل الصورة، باعتبارها إسرافًا باذخًا
في مجال «الثقافة»؟ وهل تتطلب الحاجة الماسَّة للتشخيص الخوفَ الإنساني؟ هذا الخوف
الذي هو أمُّ الإنسانية وفضائلها المتمثِّلة في الحاجة إلى العلم والمعرفة،
وبمساوِئها المتمثِّلة في الحاجة إلى السُّلطة.
أنَّ نقوم بالتمثيل والتشخيص يعني أنْ نجعل الغائب حاضرًا
وماثلًا أمامنا. إنَّ الأمر لا يتعلَّق فقط باستحضارٍ وإنما
باستبدال، كما لو أنَّ دور الصورة يكمُن في سدِّ نقصٍ ما أو التخفيف من حُزنٍ معين.
وقد روى بلينيوس القديم
Pline أن «مبدأ النحت يكمن
في أنْ يخطَّ الرسامُ حدودَ الصورة الإنسانية تبعًا للخطوط.»
١٣ وهو مصدر القولبة نفسه، كما يذكُر ذلك فيما بعد. فقد عمدت فتاة تهوى
شابًّا يعتزم الرحيل إلى الخارج، وهي ابنة خزَّاف من مدينة سكيونة، «إلى إحاطة ظلِّ
وجه المحبوب الذي يعكسه المصباح على الحائط بخط. فوضع أبوها الطينَ على الخطاطة
وصنَعَ منه صورةً ناتئة وضعَهَا في الفرن مع خزفيَّاته حتى تصبح صُلبة.»
١٤ هكذا، فالصورة، سواءٌ كانت مرسومةً أو منحوتةً، هي سليلةُ
الحنين.
هل «مجتمع رخاء» لا يعاني من النقص في أي شيء لأنه يملك وسائلَ توفِّر له الحفاظ
على أثرِ كلِّ شيء، حتى على الأشخاص العازمين على السفر، يرغب دائمًا في الصور؟ أو
لنعكسِ الأمرَ، هل يكون لهذا المجتمع خوفٌ منها؟ إنه لَبْس الرؤية كما هو ملتبسٌ
الفارماكوس الإغريقي الذي يعتبر دواء وسمًّا في الآنِ نفسه. النظير في المرآة يثير
الذعر والابتهاج معًا. إنني أحمي نفسي من موتِ الآخَر ومن موتي الخاصِّ بالانفصام،
لكنِّي لست متأكدًا من قدرتي على الانفصال عن النظير وقد غدا صورة. فما يُستعمل
لدرء القلق يغدو بدوره مقلِقًا. والحضور/الغياب للميت، أو الإله في تمثالهما، تلك
الإشارة الموجَّهة للمرئي من اللامرئي، قد تصيبني أنا أيضًا. فالصور الآتية من
الآخِرة هي تلك التي لها تأثير. إنها تتميز عن الصور الأخرى، تلك التي تنتمي للبصري
العادي، بقدرتها على فرض الصمت على الناس وهم إزاءها، أو على الأقل إلزامهم بخفض
أصواتهم. ثمَّة — لذلك دائمًا — اختبارٌ ذو دلالة: هل سيتوقف الحديث أم لا؟ ففي
ليالي الأسبوع المقدس المليئة بالضوضاء، تتقدم أمهاتنا العذراوات من بعيد مشعَّاتٍ
بالشموع والأحجارُ الكريمة محمولةٌ على ظهور الرجال، متأرجِحاتٍ تأرجُحَ المركبِ في
اليمِّ. يكون الناس منغمرين في الضحكات والمزاح، لكنْ ما إن يقترب الموكب المثقَل
بالذهب والفضة، فإنَّ ما يبدو ليس تمثالًا مصورًا من الخشب المذهب، وإنما يبدو أشبه
بأمِّ المسيح مشخَّصة، تشقُّ طريقها وسطَ الحشود الإشبيلية تتسربل في قوقعةِ صمتٍ
ثابت.
العوْدُ الأبدي
يجعل الصنمُ اللامتناهي ظاهرًا للعيان، فيما يُظهر الفن المُتناهي، أما البصري
فيمنح للرؤية محيطًا خاضعًا للمراقبة والتحكم. لكنْ مع ذلك يظلُّ ثمَّة ما ينفلتُ
من المراقبة والضبط. وإذا كان المستهلك الغربي يسيطر على فضائه، فإنه لم يتحكم بعدُ
في زمنه الحميم ولا في تدهور حالة أعصابه. لقد تزايد مستوى معدل الحياة لدينا، ونحن
نبني أفضلَ فأفضل، وبشكلٍ جماعي، معطياتنا وأرضنا. لكن هذه النَّحْنُ المفخَّمة
تترك لحُسن الحظِّ شروخًا بادية من الحيرة. إنَّ التطور التقني، بل والتطور نفسه،
يخدم مصالح الجنس أكثر من خدمته مصالح العيِّنة البشرية؛ فالفرد يستفيد منه، خلال
الفترة القصيرة التي يحياها، بشكلٍ أقل من البشرية. ولحسن الحظ، فإنَّ الأشخاص لا
زالوا يتعرَّضون للموت، أعني أنت وأنا، ودائمًا قبل الأوان. فلا يزال ثمَّة مكان
لأُناس من قبيل باكون أو بالتوس أو كريمونيني، أو روبير برسون أو ستانلي كوبريك.
وكلهم مصورون يرغبون في ربح السِّباق ضد القوالب. ما دام، ثمَّة، موت فهناك أملٌ
جمالي.
إن عنادنا في الارتباط بهذا العائق سيعود علينا بالكثير من التمزق في الملذات
العادية للبصريِّ، والكثير من الصمت العمودي في الضجيج الأفقي للتواصل. وبالرغم من
أن العِرافة بدأتْ تُخلي المكان شيئًا فشيئًا للرؤية العينية، فإن الموت، هذا الداء
الذي لا دواء له، جعل انبثاق اللامتوقع هنا وهناك مستساغًا. لذلك، فإن «إرجاع الفن
إلى وظيفته» الأصل ليس متعلقًا بنا؛ لأن تلك الوظيفة قادرةٌ في المستقبل على منح
نفسها أعضاءً جديدة وأعضاء مصطنَعة. وقد شكَّلتْ لوحة غرنيكا في وقتها رمزًا لذلك.
ما العمل الفني المرسوم أو المنحوت الذي يمكنه، بعد خمسين عامًا، أن يسمو إلى
التحويل الأسطوري لمَا نملكه؟
إن شكل V لطائر أبي منجل وهو يحصد مياه النيل؛ لا
عمرَ له. إننا نرى فيه رعشةَ السماء والمياه نفسَها التي كان يتأملها أخناتون. وهي
رعشةٌ ستدوم دوام الجنس الإنساني والهواء؛ وحوار الإنسان مع الحياة، الذي يشكِّل
الموت محرِّكَه الثابت، لن ينقطع أبدًا. إنه فقط يملك أكثر من «فن»، و«وسيط» في
جعبته. لكنْ ليس أكيدًا، مثلًا، أن يستمر الفن التشكيلي في البقاء (على الأقل كفنٍّ
رئيس). فليس هناك من تقنيةٍ لتمثيل العالم تكون خالدة. والذي يكون خالدًا هو الحاجة
إلى تخليده بتثبيتِ ما ليس ثابتًا.
إن مَن يقول: «هذا جميل.» يعترف بالمقدرة على اختراق الزمن وعلى إحداث وقعٍ
معيَّن على آخرين غيري. ﻓ «هذا جميل» هو، إضافةً إلى كونه ضمانًا للجودة، شهادةٌ
على الخلود. وهذا يعني أن ذلك الشيء يوجد وجودًا، ومتينٌ متانةً كبرى، ويقف على
رجليه. إنه يتشكَّل في علامة ونقطة ارتكاز. وثمَّة تكمُن «معجزة الفن»، أيْ في محو
المسافات. و«المعجزة» تعني هنا ببساطة: خلود العرَضي وامتداد الأصل ليشمل
التاريخ.
وإذا كان الموت موجودًا في البدء، فإننا ندرك أن الصورة لا غايةَ لها ولا منتهى.
فأكثر أصنام جزيرة كريت غوصًا في الزمن قد تهمس في أذننا: «أنصتْ لنبضات قلبك؛
فستفهم ما يجمعنا.» ولا شك أن ثمَّة إعادة قولبة للحضارات، بما أننا لا نموت بالشكل
نفسه في القرن العاشر قبل المسيح وفي القرن العشرين بعده. فتاريخ البصر قد لا يكون
سوى فصلٍ من تاريخ الموت في الغرب أو ملحقٍ له. بيْدَ أنه لا تاريخ البصر، ولا
تاريخ الموت، سينفصلان انطلاقًا من هذه الديمومة الطبيعية، باعتبارها النتاجَ الأول
للتناهي، لكي يُضيعا هويتهما. فهذه الطبقة المائية الباطنة، التي تربط الحضارات
والعصور المتباعدة كلَّ التباعد بينها، من الخارج ومن تحت، تجعل منا، بمعنًى ما،
معاصِرين لكل الصور التي ابتكرها الإنسان؛ ذلك أنَّ كلَّ صورة منها تنفلت بشكلٍ
عجيب من زمنها ومكانها. ثمَّة «تاريخٌ للفن»، لكنْ لا تاريخ للفن في دواخلنا.
فالصورة المصنوعة لها تأريخها، لكنَّ تلقِّيها مؤرَّخ أيضًا. وما هو خالدٌ هو
الملكة التي تتمتع بها والتي تجعلها تعبيريةً حتى بالنسبة لأولئك الذين لا يمتلكون
سُننها. إنَّ صورةً من الماضي لا تكون أبدًا متجاوزة؛ لأنَّ الموت هو ما لا نستطيع
تجاوُزه، ولأنَّ اللاوعي الديني لا عمرَ له.
لذا، فإن صورةً ما تظلُّ حديثةً نظرًا لعتاقتها. على العكس من ذلك، فإن الصور
الآلية التي يتمُّ الإشادة ﺑ «جِدتها»، والتي للأسف، لا نشكُّ في جِدتها، ستجد
صعوبةً كبرى في البقاء وفي تمثيل شيءٍ ما، وكذا في مقاومةِ بُطْلان تقنيات صناعتها.
وبما أنها لا تملك أيَّ قيمةٍ عاطفية؛ فإنها لن تحافظ لنفسها إلا على قيمةٍ
وثائقية. وبما أنها لا تتحدَّث إلا إلى زمنها فقط، منجرِفةً مع اللُّجة السمعية
البصرية؛ فإنها ستفشل إلى حدٍّ ما في أن تصبح مفارقةً للزمن، وهي الحظوة التي تتمتع
بها الصور التي ننعتها بالفنية؛ لأنها توصلنا بالرعشة الأصل للوجود (أو بنكهةِ
ضياعنا، التي لا يزال المخ الهامي يحتفظ بها في ذاكرته).
إنه وقوف عند الصورة إذن وإيقافٌ للزمن الصالح من بين كلِّ الأزمنة. ثمَّة تأريخٌ
للأساليب والتقنيات والأعراق والسلالات، يفسِّر كيف تتوصل كلُّ ثقافة إلى إيقاف
التيار، أو تعليق أسرار صناعة المعجزات. بيْدَ أنَّ ثبات الموت ليس له لا بداية ولا
نهاية بالنسبة للكائنات الفانية. إنَّ ربطَ الزمن السائر بالزمن الثابت، والصنعة
بالمعجزة، والصورة المبثوثة بالصورة المتلقَّاة، هو التحدي المطروح أمام تاريخ
الخلود الذي ستجد وسائطيةُ الفن نفْسَها يومًا ملزَمةً بإنتاجه.
•••
ليس مرمانا هنا التأريخَ الوصفي للازمني. فحديثنا ينطلق من «الصورة» باعتبارها
دوامًا يقبل التعرف ولا يقبل الإنكار، ولا ينطلق من «الفن»؛ لأنه ينبني على قرار
ظرفي قابلٍ للنقض. إنَّ دراسة تحولات المرئي تفترض نقطةً ثابتة في الأعلى. فما كان
صورةً سيظلُّ كذلك على امتداد القرون (إلا في حالة التدمير المادي) وفي كلِّ بقاع
العالَم. أمَّا «الأثر المعتبَر فنيًّا» اليوم؛ فإنه لم يكن يعتبر كذلك البارحة،
وسوف تنتفي عنه تلك الصفة غدًا. ففنُّ الصياغة، مثلًا، الذي كان الفنَّ الرئيس
للشعب السيتي وللميروفنجيين وأيضًا لساكنة مدينة مينيسا اليونانية في بداية القرون
الوسطى، لم يعُد يدخل في التحديد القانوني للشيء الفني في فرنسا (كما هو حال الحلية
والأثاث المنزلي). بيْدَ أن الصورة الشمسية وفنَّ السجاد (المحدود النسخ) أصبح
يعتبر شيئًا فنيًّا. هل يتعلق الأمر بخطأٍ لا يتجاوز قرنًا ومحيطًا أم بحقيقة
تتجاوزهما؟ حين يصل إلى باريس سجادٌ إيراني أو آنيةٌ خزفية صينية أو دبوسٌ أقيانوسي
أو قناعٌ دوغوني؛ فهل نوجِّهها لمتحف اللوفر أم إلى متحف الإنسان أم إلى متحف
الفنون والتقاليد الشعبية؟ كلُّ عصر كان له جوابه (كما كانت له تراتبية فنونه
الكبرى والشعبية)، لكنْ لا عصرَ استطاع الاستغناء عن الأشياء التشخيصية.
ليس للنظرة طريقةُ كشفٍ أكيدةٌ للزمن الطويل سوى الصورة المصنوعة، أي الصورة ذات
البعدَين أو الأبعاد الثلاثة. وكلُّ مَن يتحدث بصفةٍ عامة عن الفن، هذا المنتوج
الجِهوي لتاريخ الأفكار، هو أيديولوجي غير واعٍ بذلك. ونحن لن نتفادى دائمًا شِراك
اللغة هذه؛ ذلك أنه ليس بإمكاننا تنظيف كلماتها كلِّها، ولا تفكيك لغتنا الطبيعية
في مجموعها. بيْدَ أنَّ حدودنا لن تكون ذهنيةً أو طبيعية، ولن تكون صورَ أحلامٍ أو
انعكاساتٍ على صفحة الماء، وإنما ستكون كلَّ الصور التي أنتجتْ ماديًّا بالنشاط
الإنساني اليدوي أو الآلي، وذلك من الصور الأندر إلى الصور الأتفه، ومن المغارة
البدائية إلى الأنبوب الكاثودي (باعتباره المصدر الأول لصور عصرنا). من دون شك، ليس
ثمة سوى علاقةِ جناس بين الصورة المقدَّسة المخلِّصة والصورة الترفيهية، كما بين
الجامد الذي يُشرب والعارض الذي يُزْدرد، بالنظر إلى معانيها ووظائفها. لكنْ بالرغم
من أنهما من طبيعةٍ واحدة؛ فإنهما يحافظان على هذه الخاصية المشتركة المتمثلة في
أنهما يصعقان النظر من الخارج.
إنه مشروعٌ أقلُّ وأكثر طموحًا من أي جماليات فلسفية. أقل، لأنَّ حوافر المفهوم
ستخرِّب شرائطَ الذوق التي لا تقبل سوى قوائم الحمام. لكنه ربما أكثر طموحًا، إذا
ما كنا نستهدف، فيما وراء تلاشي الفتنة القاسية للصور، ذكاءً أفضل للعين المعاصرة
ولذَّاتها وشرفها.
قد يكون القارئ قد أدرك أنَّ الأمر لا يتعلَّق بالصورة باعتبارها مادةً فريدة
جامدة وقارَّة، في جانب، وبالنظر باعتباره شعاعًا من شمسٍ متحركة، تكمن مهمَّته في
تنشيط صفحة كتاب مشرَع، في جانب آخَر. فأن ننظر ليس معناه التلقي وإنما ترتيب
المرئي وتنظيم التجربة. إن
الصورة تمتح معناها من النظرة،
كما يمتح المكتوب معناه من القراءة، وهذا المعنى ليس تأمليًّا، وإنما هو معنًى
عملي. وكما أن تحليل النصوص «في نظام الكتب» (كما يسمِّيه روجي
شارتييه) قد ترك المجال لدراسة الممارسات القرائية، كذلك في مدينة الصور، يتوجب على
تاريخ الاستعمالات واجتماعية النظرة أن يعيدا النظر في تاريخ الفن بشكلٍ نافع. إن
النظرة الشعائرية تختلف عن النظرة الاحتفالية أو العائلية، وعن النظرة الداخلية
الخصوصية التي نمارسها في بيوتنا ونحن نتصفح ألبومًا من صور الأعمال الفنية. لكنَّ
ثقافات البصر ليست، بالمقابل، معزولةً عن الثورات التقنية التي تغيِّر، في كل عصر،
شكلَ وموادَّ وكمية الصور التي يحوز عليها كلُّ مجتمع. وكما أن مصنَّفًا نادرًا
وضخمًا وثقيلًا لم يكن يُقرأ في القرن الثالث عشر كما يُقرأ كتاب الجيب في القرن
العشرين، كذلك فإنَّ رافدةَ مذبحٍ في كنيسة قوطية تتطلَّب نظرةً مغايرة للنظرة التي
يتطلبها ملصقُ شريطٍ سينمائي. وسوف تقودنا التطورات المشتركة في مجال التقنيات
والمعتقدات إلى التعرف على ثلاث لحظات في تاريخ المرئي: النظرة السحرية، والنظرة
الجمالية، والنظرة الاقتصادية. فقد استلزمت الأُولى الصنم، والثانية الفن، فيما
تطلبت الثالثة البصري. إن هذه اللحظات تتجاوز كونها مجرد رؤى، إنها بالأحرى تنظيمٌ
للعالَم (انظر الجدول
٤-١).