الفصل الثاني

التواتر الرمزي

ولم يفُه الفنان التشكيلي في آخر الأمر بكلمة، واكتفى بالصمت. وأنا أفضِّل كثيرًا هذا.

فينسينت فان جوخ

إننا نتكلم في عالم ونبصر في عالم آخَر. فالصورة رمزية غيرَ أنها لا تملك الخصائص الدلالية للغة؛ إنها طفولة العلامة. ولا يخفى أن هذه الأصالة تمنحها قدرةً على الإيصال لا مثيل لها. فالصورة ذات فضلٍ؛ لأنها أداة ربط. لكنْ بدون مجموعة بشرية متماسكة، تنتفي الحيوية الرمزية. إن خوصصة النظرة الحديثة تقف وراء فقر الدم الذي أصيب به عالَم الصورة.

•••

يواجه النُّصب التذكاري المصري المنصوب على رأس اللَّحد الفرعوني المدفون، موطنَ غروب الشمس؛ لأنَّ الموتى يرتحلون معها. النُّصب له شكلُ بابٍ مشرع، ذلك أن وِجهته تكمن في جعل الأحياء والأموات في حالة تواصُل. إنه باب مزيَّف، لكنَّ التواصل الذي يقوم به فعليٌّ وأكيد، ذلك أن شاهدة القبر مزوَّدة بمنقارٍ يسيل بالماء القرباني نحو قاعة الموتى. بإمكاننا أن نرى في هذه العملية السينوغرافية تعبيرًا عن نذرٍ مكتوب منذ البداية في قلب الصورة. يتمثل ذاك النذر في فتحِ مَسربٍ بين المرئي واللامرئي، والمرعِب والآمن. ولأنَّ الصورة مجال تلاقي السماء والأرض، والوسيط بين الإنسان وآلهته، فإنَّ لها وظيفةً علائقية؛ فهي تربط بين الأطراف المتناقضة. وبتوفيرها للتواتر (المعنى والنعمة والطاقة)، فإنها تخلق منطقةَ تلاحُم. إن هذه الوظيفة المسماة رمزية، أو دينية بالمعنى الحرفي، ليست خاصية للصورة ولا هي خاصيتها الوحيدة، غير أنها الأولى التي تقوم الوسائطيات باستكشافها.

الكلام الصامت

إنَّ إعادة إدماج الصورة في شبكة التواصلات الرمزية سوف يزعج، لا محالةَ، الفنانين والجماليين وأُناسًا آخرين. ألَا نرفض نحن عفويًّا، لتمرير معنًى ما، فكرةَ استخدام الأشكال باعتبارها فكرةً بذيئة تقرِّب من التدنيس؟ فما له قيمة هو ما لا يصلح لأيِّ شيء، هذا هو المثل السائر. ورفضُ التواصل هو أبجديةُ الجماليات القوية، كما أكَّد على ذلك بول فاليري في «شعريته» في صيغٍ قوية الدلالة. وإذا كان الفنان، كما يُقال لنا، قد اختار ألَّا يصبح بالضبط صحفيًّا أو كاتبًا أو فيلسوفًا؛ فذلك لأنه ليس مهيَّأ ليحمل رسالات. لهذا كتب الشاعر: «لم أرغب أبدًا في الإفصاح والقول، وإنما رغبت في العمل.»

ومهما كان ضيقُ أفقِ الوسائطي؛ فإنه لا يجهل أنَّ «أيَّ عملٍ فنِّي لا يلزم أن يخضع للوصف والتفسير بمقولاتِ التواصل.» كما يذكِّر بذلك أدورنو. والفنُّ، إن لم يكن قادرًا على التواصل؛ فقَدِ اهتمَّ دائمًا بالتوصيل (إذ الشاعر ينشر دواوينه، والرسَّام يقيم المعارض، والمهندس المعماري، يمارس البناء). إضافةً إلى ذلك، لنذكِّر سدنةَ اللُّغز الجمالي بأنَّ الترميز والرمزية لا يحتاجان لاستعمالِ اللغة؛ ففي الطيف الواسع لوسائل التوصيل، لا تحتلُّ اللغة سوى شريطٍ قصير (ومتأخِّر زمنًا).

يظلُّ أولئك الذين يرغبون في زحزحة وصاية الفكرة على الصورة وسلطة المثقفين على الفنانين، مشدودين بحقٍّ إلى الدفاع عن فكرة العطاء المجاني (ها نحن لا نستطيع التخلِّي عن الفكرة!) والهبة المحسوسة التي تستدعي من الهاوي تلقِّيًا لحضورٍ خالص. لكنْ أليس هؤلاء ضحايا الوهم الذي يشجبونه؟ إننا نخشى أن يخلطوا بين الوظيفة التوسطية médiumnique والاستعمال الوسائطي السمعي البصري médiatique، وذلك بردِّ التواتر transmission الرمزي إلى الأُنموذج الباهت للتواصل الهاتفي بخُطاطاته الاستعمالية من نوع: «باث – رسالة – متلقي»، أو «التشفير – الرسالة – حل الشفرة». ولأنهم مخدوعون بهالةٍ صوتية مزعجة؛ فإنهم يقرءون الوسائط السمعية البصرية تحت الوسيط (إلى درجة أنهم يتوهمون أن الوسائطيات علم اجتماع للوسائط الجماهيرية!). إن مصالح البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية لا تملك احتكار نقل المعنى، ولا احتكار الكلام والمكتوب. وأيضًا، هل الكلمات وحدها التي تصنع المعنى؟ فالإنسان يبثُّ ويتلقى الدلالات بجسمه، وبالإشارات الحركية وبالنظرة واللمس والشم والصراخ والرقص والحركات الصامتة، وكل أعضائه الجسمية يمكنها أن تغدو أعضاءً للبث والتوصيل والتواتر. ألمْ ينشئ فرويد، على الأقل في انتظار أنْ يغدو والحلم موضوعًا للعلم التجريبي، أساطيريات mythologies خصبة حول فكرة أنَّ الحالم يفكر بالصور، وأنَّ هذه الصور ليست غير ذات معنًى، وهي الفرضية التي اعتُبرت ضربًا من الجنون لمدة طويلة من قِبل رجال الفكر؟ فبعد سيمونيد، الذي كان يعتبر التشكيلَ «شِعرًا صامتًا» والشِّعر «تشكيلًا صائتًا»؛ حدَّد بوسان عمله «كفنٍّ يشتغل على الأشياء الصامتة.» ألَا يمكننا قول الشيء نفسَه عن اللاوعي الفرويدي، الذي يستدعي صمته الثرثار مزيجًا مضطربًا من التأويل والمقْمَقة، يتمثل فيما نسميه محللًا نفسانيًّا؟ صحيحٌ أنَّ الحيوان الناطق يعيش «صمتَ الإعجاب» أمام صورةٍ جميلة، وأنه لن يكفَّ عن الفشل في إيصال إدراكه، كما هو، بالكلمات وإنطاق تأثُّره الفوري. لكنْ إذا لم تكن تلك الصورة قد أفضتْ إليه بشيءٍ ما؛ فإنه لن يظلَّ مذهولًا أمامها. بالمقابل، فإننا فقط بالحفاظ على خصوصية المرئي إزاء المقروء، والصورة إزاء العلامة، يمكننا أن ننقذ وظيفتها التوصيلية. فبمقدارِ ما أنَّ المهنة ليست لدى الفنان عدوًّا للذكاء، كذلك ليس عمق المعنى والكثافة الحسية متعارضَين. فالتفكير في الصورة، يستدعي في المقام الأول ألَّا نخلط بين الفكر واللغة؛ بما أنَّ الصورة تدعو إلى التفكير بطريقةٍ أخرى غير التأليف بين العلامات.
لماذا يلزم إذن، حسب ما قاله بول فاليري عن كورو، «الاعتذار عن الحديث في التشكيل»؟ لأنه ليس ثمَّة من مقابلٍ لغوي لإحساس ملون. فنحن نمارس إحساسنا في عالم ونمارس تسمية الأشياء في آخر، هكذا تأسَّف مارسيل بروست. اللون سابق على الكلمة بزمن غير يسير، وبدون شك ببضعة مئات الآلاف من السنوات. ما هو وزن «صرخة مكتوبة» مقابل صرخة شفهية تعبِّر عن التلف أو الفرح الخالص في امتلائهما ومباشرتهما؟ فمقابل صانع الكلمات، يشتغل صانع الهلوسات الحقيقية مباشرةً على جسد العالَم. إنه يتمتع بهذه الحظوة الفريدة المتمثلة في صنع الطبيعي. ومهما فعَلَ، وهو يجمع بين فُتات الأشياء، فإنه سيظلُّ في الجانب الحقيقي من العالم، باعتباره صمتَه الصباحي. إنها الطبيعة مقابل الاصطناع، والمحاكاة مقابل الحكي، والحساسية مقابل الرمز. إنَّ ما قبل العلامة هو ما يتجاوز الكاتبُ، أيْ أنها فردوسه المفقود أكثر من أرضه الموعودة. فالسِّحر الذي لا حدَّ له، يجعل من إنسان الصورة أكثر تفوقًا بشكل لا نهائي على إنسان الكلمة، هذا المعوق تجاه العاطفة والخاسر الأبدي في سِباقِ الأداء الشخصي. إن الشقاء الوراثي للمعوقين في الفن الخالص، الذين هم الكتَّاب، قد تمَّ تكثيفه وتخليده وإعطاؤه طابعًا مجازيًّا من لدُن مارسيل بروست في مشهدٍ مشهور عن موت بيركوت، نظيره، في رواية «البحث عن الزمن الضائع».

لقد مات بيركوت عشقًا للتشكيل الهولندي. والشقُّ النادر في الجدار الأصفر قد أخذ بلبِّه في متحف جودوبوم في أحد صباحات ١٩٢١م. أما «منظر ديلفت» في مرآة الفنان فرمير، فإنه يجعل حياة الشاعر الرقيق ذي الشعر الأبيض، تتسلسل كاملةً أمام عيونه بفراغ عمله الشخصي، وربما أيضًا بالعجز الكئيب للكلمات على تصوير سماء أو سكون المدينة صباحًا. لذا يصرح الراوي: «هكذا كان عليَّ أن أكتب …» فأمام هذا التدرُّج اللوني الهوائي من الوردي السوموني إلى الأزرق الغامق، الذي يصعقه كما يومَ البعث، يأتيه هذا الإلهام: إنَّ الأدب الذي كتبه، لم يكن له الوزن الذي توقعه. لذا «تدحرج من فوق الكنبة إلى الأرض، وباتجاهه هروَلَ كلُّ الزوار والحراس.» لقد مرَّ زمن طويل على نملِ الكلمة وهو يسير تحت عربةِ حرب المخترعين البصريين، الذين يمكن القول عنهم بأن الانتصار مأمولٌ فيهم. فأمام الخلود الصامت «للوحةِ الأجمل في العالَم»؛ كان برغوت قد انهزم أصلًا، وغدا موتُه اعترافًا بالعجز عن أن يبثَّ لنا «مباشرةً» حالةً حسيَّة للعالم.

يقول فان جوخ: «تمتعوا بالإنصات إلى إميل زولا وهو يتحدث عن الفن، إنه بنفس مقدار أهميةِ مشهدٍ رسَمَه رسَّام بورتريهات.» فان جوخ فنانٌ، وزولا كاتبٌ. والكاتب، لكي يمسك بالمملكة السرية الهاربة للعاطفة البصرية خارج كل استدلال أو تسلسل، يعتبر بالتأكيد أكثر حظًّا من المنظِّر؛ لأن الكاتب يُتقن المجازات (أو فنَّ نقل عالَم إلى آخَر)، فيما يهرب المنِّظرُ منه ويتفاداه. لقد تفاهَمَ التشكيليون دائمًا مع الشعراء أكثرَ من تفاهمهم مع الفلاسفة، هؤلاء النشطون بلا جدوى. فروني شار «وحلفاؤه الجوهريون»، وأندريه بروتون وحاشيته الرائعة من العرَّافين، وأراغون وماتيس، قد تمكَّنوا في كلِّ الأحوال من التفاهم عن بُعد إلى حدٍّ بعيد. لكنَّ دولاكروا ورافيسون ورونوار وبرغسون وفلاميك وبرانشفيك قد تحاوَرُوا دائمًا حوارَ الصُّم. المخيخ الأيمن يتحدث للمخيخ الأيمن، لكنه ليس في حالة تواؤمٍ طبيعي مع الجانب الآخَر من المخ. والتعليق والعاطفة لا يُثيران نفس الأعصاب والرمز والإشارة indice ينظر أحدهما للآخَر نظرةَ ارتياب، ما دامَت العاطفةُ تبدأ حيثما ينتهي الخطاب.
لكنْ أعلينا أن نصدِّق رفضَ القول الذي يتشبَّث به دعاة الجسد بالكثير من البهجة والكبرياء؟ إنهم يُشْهِدون الكونَ على براءتهم الدالَّة ويطالبون بفاتورة الحساب ضدَّ الإرسالية message. هكذا يقوم الشيء باحتقارِ الانعكاس. والفنان يمدح نفسه كصانعٍ في مواجهة المثقف، وينحاز للعمل ضدَّ اللغة. وبالنسبة لهذا الشخص، لا تعبِّر اللوحة عن شيء ما؛ إنها توجد فقط. فسواءٌ كانت اللوحةُ مخمليةً أو فوتوغرافية أو هوائية؛ فإنها ليست قناةً لتمرير أيِّ شيء، ولا عمادًا أو أداةً لأيِّ شيء غير نفسها؛ فهي لا تُحيل إلا على ألوانها وأبعادها وموادها. «إنَّ لوحة جيدة، كما يذكر كليمون روسي في حديثه عن سولاج، تقول بأنها لا تطالب إلا بأن تُرى.»١ ويلحُّ سولاج سيد الألوان السوداء والأضواء بنفسه، بولعه بالنكهة الرفيعة، وبكلامٍ دافئ ودقيق:

«ليس للتشكيل من معنًى يبثُّه؛ إنه يشكِّل بذاته معنًى لدى الرائي حسب ما هو عليه.» كيف إذن لا نشارك سولاج الرأيَ من الوهلة الأُولى، بما أنَّ «الرائي هو الذي يصنع اللوحة»؟ و«حسب ما هو عليه» تعني أنَّ الفنان لا يملك المفاتيح، وأنني أنا المتفرِّج الذي يفتح ويغلق أبوابَ العمل الفني. فما حفز الفنان على عملِ تلك اللوحة بإمكانه أن يصلني منها معكوسًا. فان جوخ، وهو يرسم غرفته بمدينة آرل، كان يرغب في الإفصاح عن صفائه. أمَّا أنا، فإني أدركها كقلقٍ عارم، ثم أخلد للصمت. والصورة النابعة من أعماق الجسد تبدأ دائمًا بفرض الصمت عليَّ. إن لوحة جيدة تعلِّمنا في المقام الأول أن ننسى الكلام لتعلِّمنا من جديد فنَّ النظر. إنها تعلمنا كيف نزن وكيف نضع العناصر، وكيف نميِّز بالعين المجردة بين اللوحة المحبَّبة واللوحة ذات الألياف، والسطح الخشِن من السطح القليل الخشونة، والخشِن من الشفَّاف نصفيًّا، وتعلِّمنا كيف نُرجع في أنفسنا صدى القوة الصامتة لمَا بعدَ البحر، واللعبة المتغيِّرة للأشعة البرَّاقة على سطحٍ مبرنَق، وأنَّ البهوَ العازل الذي يوفِّر بعض الظُّلمة، داخل بيت في الشتاء، ليس هو الحيطان الصقيلة اللامعة لتلك القصور المفتوحة على الصيف الشاسع. كان بونار سيسخر (ونحن نتفهَّم السببَ) من «أنَّ الفن التشكيلي لم يُلهِم أبدًا رجالاتِ الأدب.» إنها لامبالاة وعيبُ أولئك الذين لا يعرفون القراءة. الأمر يتعلَّق بمرض الإهمال، ذلك العيب الذي يصيب أولئك الذين يهملون النظر لفرط القراءة والكتابة. ثمَّة عمقٌ مشاغب يكمن في عدم التعبير عن أي شيء، ومن ثَم في استنهاض كلِّ واحد من سُباته الحسِّي عبْرَ خلخلة عاداته وتوقعاته. إننا نتفهَّم جيدًا فرح سولاج بالصمت. فهو فرحٌ يدفعنا إلى التفكير عبر تجْلية مرايانا.

تلك كانت هي اللحظة الأولى … وثمَّة لحظةٌ ثانية تتعلق بصعود الكلمات فينا. فينا ولدى الفنانين أنفسِهم، من دولاكروا إلى ماتيس، وفان جوخ وكاندانسكي وبول كلي ومئات من الفنانين الآخرين الذين كتبوا بفنِّهم وعن الفن. فعلى خلافِ المصور الوسيطي أو مولِّف الصور، نادرًا ما يعمد الفنان إلى استعمال صورةٍ ما ﻟ «تمرير» فكرة معينة. فهذا العمد والإصرار المسبَق لصيقٌ اليومَ بالإشهاريِّ أو الدعائي، وكان أمسِ صفةً لصانعي القصص الأمثولية allégories. هناك أيضًا عددٌ من اللوحات الكلاسيكية (كأوريون الأعمى لبوسان، التي تجد مصدرها في نصٍّ لِلوسيان) التي يمكن اعتبارها تصويرًا لأعمالٍ أدبية أو أساطيرَ مكتوبةٍ سابقة عليها في الوجود. ومن الأكيد أنَّ هذا هو ما يمنح لفنانين، من قَبيل بوسان وبوتتشيلي وتيتيان، قيمتَهم التشكيلية. إنَّ تلك القيمة لا تنبع من نقلٍ حرفي لها، وإنما من تحويلٍ تكون الصورةُ فيه فائضًا على الفكرة، وتأتي لتحتلَّ مكانَها وتُذيبها في الآنِ نفسه، في تناغُمٍ بصري مستقل تتطلبه الوسائل التشكيلية وحدها.
ومن الأفضل والأجدى أن يكون التشكيلي مسكونًا بالأسطورة؛ ذلك أنه إذا ما عرف ما سيقوم به معرفةً بالغة، فإنه سوف يهدم صنيعَه لا محالة. فاللاوعي الذي يشتغل بالصور والتداعيات الحرَّة يقوم بالتبليغ أفضلَ من الوعي الذي يختار الكلمات. إنَّ معنى لوحةٍ حيَّة لا يكون سابقًا عليها إلا في الفنِّ الأكاديمي. فالاثنان ينصاغان معًا؛ وحين تكتشف اللوحة المعنى، فإن الصورة تكون في أوجِ فعاليتها. بهذا المعنى ليس للفنان ما يقوله. والدليل على ذلك أنه يرسم عوضَ أن يكتب أو يتحدث. بيْدَ أنَّ ما يُرينا إيَّاه «يتحدَّث» إلينا ويمنحنا، نحن المصابين بالتَّعْتعة، الرغبةَ في التعبير. فمن المحسوس إلى المعقول، ثمَّة نوعٌ من التباري. والكلمات بإمكانها أن تترجِم حرفيًّا الصورةَ وآثارها وصداها وانحرافاتها فينا، إنْ هي لم تستطِع أن تعيد خلقَ السِّحر الذي تنتجه، وهو ما قام به الكتَّاب والشعراء الإغريق واللاتينيون الكلاسيكيون إزاء الجداريات واللوحات، في زمنٍ لم يكن فيه وصفُ المناظر الطبيعة معروفًا في الأدب.
العينُ تتربَّى بالكلمات؛ ذلك أن أسماءَ الألوان ومِلْونةً palette كاملة من الكلمات والأوصاف تقودنا إلى التمييز أفضلَ بين النبرات. إنَّ الشعراء الجيدين يدربوننا على النظر أفضلَ بالرغم من أنَّ كلماتهم عمياء. فالأحمر الأرجواني لا لونَ له، كما أنَّ مفهوم الكلب لا ينبح. لكن لماذا قام بركوت (بطل بروست)، هو الذي يعاني من تمازُج الدم بالبولة، ببرحِ منزله للذهاب إلى اللوكسمبورغ؟ لأنه قرأ أمس مقالًا مفصلًا كتَبَه أحد نقَّاد الفن عن الفنان الهولندي فرمير. فبدون هذا النص، لم يكن بإمكانه أن يرى الجدار الأصفر الذي لم يعُد يتذكره قطعًا. وهل نرى نحن اليوم أعمال فرمير بالنظرة نفسها، بدون الحكاية البروستية؟ فكما أنَّ الذكاء «يطوِّر» الأحاسيس، كذلك تسعى اللغة إلى إظهار الصورة بالرغم من أنها لا تملك قدراتها التأثيرية. هكذا يتحقَّق المرئي إذن في المقروء. وذلك هو ما يسمَّى أدبًا.

إنَّ ما يدفعه الفنان ثمنًا لذلك، عبارة عن اعتراف غير إرادي. يتلفن لك شخصٌ مزعِج فلا ترغب في مخاطبته، لأن ليس لك ما تقوله. غير أن صوتك سوف يتحدث عنك، ويقول له الأساسي، أي معنى ذاك اللاشيء. أنت لم تقُم بتشفير أي شيء، ومع ذلك تمَّ إبلاغ شيء ما. فأن يخون المرءَ لسانُه أو ملامحه، يعني أن يُبلِّغَ شيئًا ما بدون قوله، ويبثَّ الرسالةَ رغمًا عنه. ويسمَّى أثرَ المعنى غير المقصود تعبيريًّا أو إيحائيًّا، وذلك حين يصبح سلوكٌ ما خبرًا، أو يغدو الجسم بكامله كلمةً. بإمكانِ فنانٍ أن يرفض الحكاية والسيكولوجيا ويظلَّ بعيدًا، لكنه لا يستطيع تفادي أن يضع نفسه، بالرغم عنه، على لوحته. لقد أرادتْ لوحاتُ سيزان أن تكون غير شخصية؛ غيرَ أنَّ شخصيتها تكمُن كلُّها في زُهدها البصري وتصلُّبها الحادِّ.

من الواضح أن الفنان نقيضٌ للأيديولوجي. لكنْ، لعلَّ بإمكاننا الدفاع عن كون «الفن مُعادِيًا لكل أيديولوجيا.» (كما يدَّعي مارك لوبو) إذا ما نحن تذكَّرنا أنَّ الأساطيريات والديانات السماوية غدَت الأشكالَ الأُولى، وبدون شكٍّ الأشكال الأكثر تعبيرًا عمَّا نسميه «أيديولوجيا»، فقط منذ القرن السابق. وقبل دستوت دو تراسي De Tracy، مبتكِر كلمة «الأيديولوجيا»، وماركس الذي أشاعها، ألمْ يكن للفنِّ علاقةٌ بالخرافات والكتب المقدَّسة والتراتُبيات والعلاقات الاجتماعية ومع السلاطين والقديسين والملائكة والباباوات؟ أبإمكاننا فعلًا التصريحُ بأنَّ «الفنَّ تدميرٌ رمزي لكلِّ السُّلَط»، إذا نحن تذكَّرنا أنَّ أول سلطة وأكثرها مقاومةً هي السلطة الرمزية التي ظلَّ الفنُّ، لمدةٍ طويلة، يشكِّل تجسيدها الوحيد؟ والفنُّ الوحيد الذي اختار ألَّا يحكي غيرَ تاريخه الماديَّ الخاص هو فنُّ زمننا، وهو لم يتجاوز بعدُ قرنًا من الزمن، وهو لا يبدو في حالةٍ جيدة.

خلال آلاف السنين أدخلت الصورُ الناسَ في نسقٍ من المقابلات الرمزية بين النظام الكوني والنظام الاجتماعي، قبل أن تأتي الكتابة لتصفِّف شعر الأحاسيس والرءوس. هكذا كان حال التصاوير الأسطورية وشارات التنبيه في العصر الحجري، حين لم يكن أحدٌ يعرف «القراءة والكتابة». وذلك كان حال المصريين والإغريق بعد ابتكار الكتابة. فزُجاجيات الكنائس والمنحوتات الجدارية والتماثيل قد أبلغَت المسيحيةَ لشعوبٍ من الجاهلين بالقراءة والكتابة. وهؤلاء لم يكونوا بحاجةٍ لشفرة قراءةٍ صورية للإمساك «بالدلالات الثانوية» و«القيم الرمزية» للركوع والصَّلب أو الثالوث المقدَّس. لقد أثَّرت هذه الصور، والطقوس التي ارتبطت بها، في التمثُّلات الذاتية للذين تفرَّجوا عليها، وساهمتْ بذلك في تكوين وضعيتهم في العالم والحفاظ عليها وتطويرها؛ ذلك أنَّ تبليغ مذهبٍ ما لا يكمُن فقط في جعلِ القِيم شعبيةً وقولبةِ السلوكيات وتأسيس أسلوبٍ في الوجود، فصور التقوى تلك لم تكن إرسالياتٍ لغوية، غير أنَّ فعلها في الناس كان كبيرًا. لقد كانت إذن عملياتٍ رمزية، وبالمعنى الكامل للكلمة.

المرئي ليس مقروءًا

ثمَّة مزيةٌ في أن يلعب التشكيلي أو السينمائي أو المصوِّر الفوتوغرافي دورَ الشخص الفظِّ والعامل اليدوي أو الصانع، ويرفض الإلحاح في طلب العمق بالاحتماء بالكثافة المادية «لصنيعه». إنَّ ذلك يشكِّل سباحةً ضد التيار. وهو ما يمثِّل حظوةَ العلامة الفعلية التي تسعى أن تحصل عليها كلُّ الصور. فلا كرامةَ ولا تسامٍ لمَن يرغب في استعراض شيء ما للرؤية، سواءٌ كان فنانًا أو مصوِّر فيديو أو بهلوانًا، إذا هو لم ينطق على الأقلِّ بدوالٍّ وبكتابةٍ وبنحْوٍ. اللاهوت هو العِلم النبيل في باريس القرن ١٢، وفي ظلِّه سعى الخطاب إلى تعظيم شأن «المصوِّر». أمَّا في نهاية القرن العشرين، فإن لاهوتنا يسمَّى السيميولوجيا، واللسانيات باعتبارها العِلمَ الطليعيَّ الآن، وهي تمارس نفوذها في التفكير والتأمل على التشكيليِّ المشهور كما على أكثر صانعي السجاد العاديين. يقول الفنان الفرنسي المعاصر كلود فيالا وهو يعرض مساحاته الإسفنجية الزرقاء ذات الأرضية البرتقالية: «لم يعُد التشكيلي مضطرًّا لتبرير معرفةٍ ما؛ إنه ليس صانعَ أوهامٍ وخيالات أو عارضَ استيهامات أو صانعَ صور. فعليه، داخل لغةٍ خصوصية معيَّنة، أن يتكلم لغةً أخرى ويضع معجمها المباشِر وإمكاناتِ التواصل التي تفترضها.» (كتالوج سند/مساحة ١٩٧٠م). كما أنَّ هذا المبدع «للسجاد المعاصر» أو ذاك، سيفقد شرفه إذا هو لم يعبِّر عن «ثقافة مكوَّنة من العلامات عبرَ اختلاقِ لغةٍ لونيَّة ذات نبراتٍ نادرة وشعرية.» أيُّ تشكيلي لا يبتهج، أو بالأحرى لا يحظى باعتبار نقَّاده، لأنه «يشكِّل جملًا بصرية» ويبتكر «لغةً تشكيلية» تتطلب «قراءة صارمة»؟ فبالتأكيد كلما قلَّ اعتماد الصورة على وسائلها الخاصة في فرض نفسها؛ زادت حاجتها للمؤوِّلين كي يجعلوها تتكلم، أي «لكي يجعلوها تقول ما لا تقوله، وما لا يجب أو لا تستطيع قوله.» (كما ترى آن ماري كارلين)؛ أو كما يقال في أمريكا بحق: «كلما قلَّ ما تراه؛ زاد ما عليك قوله.» لقد تحوَّل النقد الفني من نقدٍ أدبي وشعري في بدايات القرن، إلى نقدٍ مفاهيمي وفلسفي. وتفسِّر العقول المنطقية الكئيبة هذا التطورَ بالشكل التالي: إنَّ عصرًا أخصب بالمتاحف منها بالأعمال الفنية؛ يكون لنفس الأسباب أغنى بالسيميولوجيين وعلماء الاجتماع والوسائطيين منه بكشافي الينابيع. لنكتفِ بهذه المعاينة: لقد تزامن شيوع الكلِّ الرمزي في العلوم الاجتماعية مع انتفاء الرمزية من الفنون البصرية. وأحد الأمرين جاء لتعويض الآخَر. اللهفة مقابل القحط الدلالي. والنقد الفني لم يتحدث أبدًا بهذه الحدة عن المعجم، والتركيب والسُّنن والكتابة … إلخ، إلا عندما فقدت هذه الكلمات الجامِعة كلَّ ما في جعبتها. مع اختفاء الرِّبرتْوارات الأسطورية المسننة والقابلة للتعيين، كانت الصورة قد استكملت انتقالها من التحفيز إلى الاعتباطية (بالمعنى الذي تمنحه اللسانيات لهذه المصطلحات)؛ آنذاك أصبح من الضروري تنظيم الاعتباطية التشخيصية على مثال الاعتباطية اللسانية.

إنَّ هذا الوهم، إذ يتعلق الأمرُ بوهمٍ، يملك الكثيرَ من المبررات، وأولها من نمطٍ تواصلي؛ فنمطُ بثِّ الصور عبر النَّسْخ قد أفرغ النحت من طابعه المادي، وفصل التشكيل عن جسده بل والصورة الفوتوغرافية كذلك. ولا تعمل الألبومات والكتالوجات والكتب الفنية إلا على نزع الأشكال والألوان عن سندها ومواقعها ومحيطها؛ وذلك بتحطيم عنصر السُّمك والأبعاد الواقعية، وبالأخصِّ القِيَم اللمسية. إنَّ الجمع أو المجاورة بين الأعمال الأكثر تباعدًا فيما بينها، في شكل صورة فوتوغرافية خادعة وهلامية ولا هوية لها، وتساوي بين التباينات في الموادِّ وعلاقات الحجم والانتماء؛ يسهِّل تكوين مُتونٍ تخييليةٍ وتصنيفات لا حدَّ لها. فهذه الصور الورقية القابلة للاستعمال السهل تمكِّن من التداول اليسير لا للأشياء وإنما لوحداتٍ مجردة يمكن بسهولة إدماجها في أنساقٍ من التكافؤات أو التعارضات. هكذا تسلَّل إلى المتخيل، باعتباره المدينةَ العالمية، «والمدونة الكونية للصور، منطقٌ للهوية أيْ شيء شبيه بالطابع المجهول للعلامات الرياضية. فعندما كان العمل الفني وحيدًا، كان يتمتع بفرادةٍ كلية، وحين تعدَّد غدا علامة.»٢ إنَّ صيرورة الصورةِ علامةً قد منَحَ لصيرورة اليد الصانعة رُوحًا. أيُّ فوسيون يغامر اليوم بكتابةِ مديح لليد؟ فالتخفيف من مادية الشيء والموضوع غدا اليوم سِباقًا لا نهايةَ له. وحتى في عصر الصورة الفوتوغرافية على الورق المصقول، لدى إيلي فور وأندريه مالرو، كانت خبرة الحركة وصدفة الصنعة والاشتغال على مادة فريدة، تُقصى لصالح دراماتورجيا روحية موحدة. فقَدْ غدت صنعةُ الصورة الحسية فعلًا ذهنيًّا وقرارًا للفعل. وفي عصر الوسائط المتعددة التفاعلية والمجموعات الرقمية على الشاشة، يبشِّر تبخُّر الأنسجة والتضاريس والملونات بمستقبلٍ زاهر لتحويل الصور إلى إيديوجرامات.
ومع ذلك، فليس هذا سوى مجازٍ تنقصه المتانة، وتحوُّلٍ لا جوهرَ له. إنَّ المنزع الأكاديمي الجديد للدالِّ، مثله في ذلك مثل إلحاقِ المرئي بالمقروء، والصورة الفوتوغرافية بالكتابة، والسينما بلغةٍ عالمية؛ يخطِّئ الخصائص الملازمة للنسق الشكلي الذي تمثِّله كل لغة. أمَّا محاولات منْهَجَة الصورة السينمائية وتنسيقها على غِرار الأُنموذج اللساني؛ فإنها لم تبلغ أبدًا نتائجَ مقنعة، سواءٌ تعلَّق الأمرُ بإلحاق اللقطة بالكلمة، أو المقطع بالجملة كما لدى إيزنشتاين، أو بابتكار وحدات سينمائية cinèmes، أو لقطات-مونيمات دلالية كما لدى بازوليني.٣
إنَّ لغةً هجائية ما، هي نسقٌ يُقال عنه بأنه ذو تمفصُلٍ مزدوج، يُنتج المعنى من خلال القيمة الاختلافية التي تلتصق بكلِّ وحداته. ويتم اختيار الوحدات الصوتية الأولية، أو المونيمات التي تتوفر على مدلولاتٍ في قائمةٍ نهائية من الرموز. أمَّا الوحدات ذات التمفصل الثاني، أو الفونيمات التي لا مدلولَ لها، فإنها تنتظم في مقاطع. ولا يخفى أنَّ الصورة المتحركة ومعها الصورة الثابتة تنفلت من هاتين الخاصيتَين المكوِّنتَين للنظام اللغوي: التمفصل المزدوج، وثنائية المركب/الإبدال. فليس للصورة مرادِف من الوحدات الخفية المحدودة العدد السابقة في الوجود على تشكيلها. اللوحة والصورة واللقطة لا تتجزأ إلى مقاطع أو أجزاء أو خطوط قابلةٍ للمقارنة مع الكلمات والأصوات، ولا تكتسب معنى بلعبة تعارضاتها. والتغيرات التي تعيشها «المادة الخام» الفضائية، خارج الصور المسننة (كعلامات المرور، والشارات والأعلام وكل ما ينحدر من شعار النسب blason الوسيطي) هي تغيراتٌ مستمرة ومتجاوِرة ولا نهائية.

صحيحٌ أن الألوان تأخذ قيمتها ودلالتها في علاقة بعضها بالبعض. وتأليفها يمكن أن يلعب بعلاقاتها ومفارقاتها، تبعًا لسَننٍ تقريبي (لون دافئ/لون بارد/لون فاتح/لون غامق). وقد حاول كاندانسكي، بإضفائه على الألوان خصائصَ موسيقية، تحليلَها كطبقاتٍ صوتية، مضفيًا عليها مبدأ الضرورة الداخلية. قد نتفق على أنَّ «المنطق» الذي يربط بين المثلث واللون الأصفر وبين المربع والأسود والمربع والأحمر، يعود إلى الاعتباطية الفردية، وإلى حساسيةٍ حميمة غير قابلة للتزوير والعولمة. وإذن، فإنه ليس منطقًا.

لو كانت الصورة لغةً؛ لكانت قابلةً للترجمة إلى كلمات، وتلك الكلمات بدورها إلى صور أخرى؛ ذلك أنَّ خاصية لغةٍ ما، هي أن تكون منذورةً للترجمة. ولو كانت الصورة لغةً، فستكون «منطوقةً» وملفوظة من قِبَل مجموعةٍ بشريةٍ ما؛ ذلك أنَّ اللغة لكي تكون في حاجة إلى المجموعة البشرية (ولكي يكون ثمَّة مجموعة بشرية)، لا بد من الرمز. إنَّ فردنة الإنتاج الفني (وفردنة زبائنه، ومتلقيه أكثر من الإنتاج نفسه) تؤكِّد، بالضبط، ضعفَ الوظيفة الدالة للأعمال البصرية. فالتشكيل يمنح المعنى للرائي، حسب ما هو عليه، كما قال سولاج. وعلينا بالأحرى القول: «للرائين حسب ما هم عليه.» ذلك أنَّ المعنى لا يتصرَّف في المفرد. وكلُّ مأساتنا كامنةٌ هنا، في كيفية تصريف الفردية والدلالة والوحدة والتجاوز. أن يكون شيءٌ ما ذا معنى؛ يعني التعبير عن هويةِ مجموعةٍ بشرية، بحيث تنشأ علاقةٌ معينة بين الطابع الدائري أو الحضري لنسق العلامات وقيمة التعبيرية. إنَّ التواصل بالعلامات يؤدي إلى الطرد الضمني، من مجال التواصل الحيِّ، للمجموعة المجاورة التي تكون بالنسبة لها تلك العلامات حروفًا ميتة أو لعبةَ صورٍ مجانية.

لم يكن المرء يجد نفسه وحيدًا أمام أيقونة بيزنطية، كما أنه لم يكن يظلُّ سليمًا، وإنما كان يعيش اندماجًا كنَسيًّا وممارسة جماعية؛ ذلك أن الوظيفة الشعائرية كانت ذاتَ جوهرٍ جماعي. أمَّا أمام اللوحة المعاصرة فنحن نكون وحيدين، أو على الأقل لسنا مضطرين للمرور بتاريخٍ جماعي أو بتراكُم أساطيري مشترك كي نملك جوهره. ألَا تكمن خاصية الفنِّ الحديث في أنه لا «يتحدث» سوى مع الأفراد؟ كتَبَ ليفي ستراوس بهذا الصدد: «حالما يدخل عنصر الفرْدنة في الإنتاج الفني؛ فإن الوظيفة الدلالية للعمل الفني تنحو، بالضرورة وبشكلٍ آلي، نحوَ الانمحاء؛ لتختفي لصالح اقترابٍ حثيث من الأُنموذج الذي يتمُّ السعي نحو محاكاته، وليس فقط التعبير عنه.»٤ ويضيف مستنتجًا: إن الفنَّ «قد فقَدَ أيَّ ارتباط بالوظيفة الدلالية في فنِّ التماثيل الإغريقية؛ ليُعيد فقدانه في التشكيل النهضوي.» لكنْ، من غير أن نساير ستراوس في تحليله، من الأكيد أنَّ الانشقاق الفرداني لصانعي الصور، سواءٌ كانت يدوية أم صناعية، قد بلغ أوجَه في منتهى الحداثة.

يمكننا بدون شك، أن نتحدث دائمًا «لغةَ الألوان» كما نتحدث عن الزهور، مواضعةً ولُطفًا منا، أو كما يتحدث بعض الشعراء عن «كتابة الحجر» مجازًا. يبقى أنَّ القدرة التعبيرية والتوصيلية لصورةٍ تمرُّ بطُرق أخرى غير طريق اللغة، طبيعيةً كانت أم اصطناعية؛ فعرْض الشيء وتقديمه لن يكون أبدًا هو قوله.

لنوضِّح الأمر وندقِّق النظرَ فيه. الصورة علامةٌ لها ميزةٌ تكمن في أنها تمنح نفسها للتأويل وتدعو إلى ضرورته، غير أنها لا يمكن أن تُقرأ. بإمكاننا الحديث عن كلِّ صورة بل علينا ذلك، غير أن الصورة نفسها لا يمكن أن تقوم بهذا. أفلا يعني «تعلُّم «قراءة» صورة فوتوغرافية» أولًا تعلُّمَ احترامِ صمتها؟ فاللغة التي تتكلمها الصورةُ التي تتحدث من بطنها؛ هي لغة رائيها. وكلُّ عصر في الغرب عرَفَ طريقةً معينة لقراءة صور مريم العذراء والمسيح، كما كان له طريقته في أسْلبتها. وهذه القراءات تفيدنا أكثرَ في فهمِ العصر المعنيِّ منه في فهم اللوحات نفسها. إنها عبارة عن أعراض بمقدارِ ما هي تحاليل. ترسل لنا الصور دائمًا بالإشارات، لكنْ لن يكون ثمة، ولم يكن أبدًا لا في السينما ولا في غيرها، «دالٌّ متخيل». إذا كان لسلسلة الكلمات من معنى؛ فإن مقطعًا من الصور له ألف معنى. وإذا كان لكلمةِ حقيبةٍ عمقٌ مزدوج أو ثلاثي؛ فإن لبسه ذاك ينكشف في أيِّ معجم. وبإمكاننا تحديدُ عدد مدلولاته، والوصول إلى نهاية اللغز. إنَّ صورةً ما تظلُّ مُلْغِزةً إلى الأبد وبشكلٍ نهائي، ولا تقدِّم أيَّ «درسٍ جيد» ممكِن، إنها تملك خمسَ مليارات من التلاوين والترجمات (بمقدار الكائنات الإنسانية)، ولا إحداها تقدِّم نفسها على أنها الأصلُ الوحيد (سواء نسخة المؤلف، أو نسخة أخرى). إنها تعددية المعنى الذي لا ينضب مَعينه. ليس بإمكاننا أن نقوِّل نصًّا كلَّ ما نرغب في قوله، أما الصورة فنَعَم. وهذا يعني أننا لا نستطيع اتهامها أو مكافأتها بأيِّ ملفوظٍ محدَّد. إن هذه البراءة الدلالية (باعتبارها الوجهَ الآخَر لخصوبةٍ رائعة هي الإيحاء) تنطبق أكثرَ على الصورة الأمارة (الصورة الفوتوغرافية أو الفيلم) منه على الصورة الأيقونة، بما أن التمثيل المتطور والمتحرر، التوافقي والمسنَّن، العالِم والمشابه، ذلك الذي جعل منه إرفين بانوفسكي (بالرغم من بعض النظرات العابرة على السينما الصامتة) المرمى الحصريَّ لهدفه؛ أي الأيقونيات (الإيكونولوجيا).

وللاختصار، علينا الإمساك بطرفَي السلسلة، والمرور بين النقيضين. لا، ليس ثمَّة من إدراك من دون تأويل؛ ولا من درجة صفر للنظر (ولا بالتالي من صورة في حالةٍ خامٍ). ليس ثمَّة من فرشةٍ وثائقية محضة يمكن لقراءة ترميزية أن تلتصق بها في لحظةٍ ثانية. فكلُّ وثيقة بصرية تخييلٌ كلية ولمرَّة واحدة (وفلاهِرتي أو مورناو، وهما وثائقيان في مجالهما، هما مخرجان للمعنى ومخرجان بالمعنى العام للكلمة). في التليفزيون تندرج أكثر الأفلام وثائقيةً وحدثية في سيناريو ذاتي، يكون في غالب الأحيان ضمنيًّا ومسكوتًا عنه؛ فنحن لا نرى أبدًا جريدة متلفزة أو استطلاعًا كبيرًا عن العراق أو فيتنام كما هو أصلًا، ذلك أننا نقرأ سيناريو دراميًّا من خلال الصور المباشرة وغير المنظَّمة. إنه سيناريو لا يوجد على الشاشة، أو بالصوت الخارجي (حيث يمكنه في حالاتٍ خاصة أن يجِدَ موطنًا له)، وإنَّما في ذهني. ففي مأوى المرئي، كلُّ واحد يحمل خَيِّره وشرِّيره. لذا، ففي كل إدراك ثمَّة الذكاء. وعلماء الأركيولوجيا، لهم كاملُ الحقِّ في افتراض أن التخطيطات الأُولى للإنسان كانت ترافق أناشيدَ لغوية، وأنَّ الصورة والكلمة ظهَرَا معًا في تاريخ الجنس الإنساني. وقد برهَنَ علماءُ النفس على ذلك لدى الإنسان؛ فاكتساب الطفل للُّغة، يتمُّ في الوقت نفسه الذي يبدأ فيه في فهْمِ الصورة المرئية.

ومع ذلك لا؛ فالصورة ليست هي اللغة المنطوقة لأطفالنا، فهي لا تملك لا تركيبًا ولا نحوًا. الصورة ليست لا صادقة ولا كاذبة، ولا متناقضة ولا مستحيلة. وبما أنها ليست حِجاجًا أو استدلالًا؛ فإنها غير قابلة للتفنيد أو الإنكار. والسُّنن التي تستطيع تحريكها أولًا، هي فقط سُنن القراءة والتأويل. إن صباها الصامت هو ما يشكِّل بالضبط كامل قوتها؛ فالتصوير، لأنه أكثر «عضوية» من اللغة، وينتمي إلى عنصرٍ كوني مغاير؛ فهو لا حدودَ لفتنة مُغايرته. فكما هو حال ثالاسا في سريانها حول الأرخبيلات البارزة للمعنى، تُلامس أمواج الصور شُطآن اللغوي من جميع الجهات، من غير أن تنتمي إليها. إن «بلاغة الصور ليست لحدِّ الآن سوى صورةٍ بلاغية (أدبية).» ودائمًا يُقال عنها إنها بلاغةٌ يلزم «تأسيسها»، ولهم الحقُّ في ذلك، فالمهامُّ المستحيلة تكون لا نهائية.

الإرسال والتعالي

ما هي شروط إمكان إرسال صامت؟ لماذا يكون تداول الرمزي ممكنًا بين الناس؟ كان الرمز (symbolon وأصله من symballein ويعني في الإغريقية: جمَع، رمى بشيئين أو أكثر معًا؛ جاوَر، قارب بين الأشياء) يعيِّن في الأصل تذكار ضيافة ما، أيْ قطعة من قدح أو قصْعة تقسم نصفَين بين المُضيف والضَّيف، اللذَين يتركان القطعتَين لأبنائهما حتى يستطيعوا في يومٍ ما أن يستعيدوا علاقاتِ الثقة نفسها بوضع القسمَين الواحد مع الآخر. لقد كان الرمز علامةَ اعترافٍ بالجميل، له وظيفة درْء الانفصال أو تجاوُز مسافةٍ ما. فالرمز شيءٌ متواضَع عليه، وعلَّة وجوده تكمُن في توافقِ النفوس والجمع بين الأشخاص. إنه ليس فقط شيئًا ماديًّا، بل هو عمليةٌ وطقس احتفالي لا يتعلق بالوداع وإنما باللقاء (بين أصدقاء قدامى غابوا عن بعضهم البعض). لذا، فإن كلمتَي رمزي وأخوي مترادفتان، ذلك أنَّ المرء لا يعيش علاقةَ الأخوة من غير قِسْمة، ولا يُمارس الرمزَ من غير التوحيد بين ما كان غريبًا الواحد عن الآخر. أمَّا نقيض الرمز بالإغريقية فهو الشيطان، أي لغة ما يفرِّق. فالشيطاني لغةً هو كل ما يفرق، والرمزي ما يقرِّب بين المتباعد.
الصورة ذات فضائل لأنها رمزية، أيْ أنها تُعيد لحْم وتكوين المشتَّت. لكنْ، لكي يجسِّد الرمزُ أو يعيد التجسيد؛ عليه، بالرغم من الآلية المنطقية للاكتمال، أن يحتسب في لعبته حضورَ شريكٍ خفي. فمَن يوحِّد يكون قد أحسن فعلًا. لكنْ، وحدها الإحالة على البعيد أيْ على طرفٍ ثالث ترميزي؛ تمكِّن صورةً ما من إقامة علاقةٍ معينة مع رائيها، وبطريقةٍ غير مباشرة بين الرائين أنفسهم.

بكلماتٍ أخرى، ليس ثمة من إرسال بدون تعالٍ، ولا طاقة من غير فارقِ الارتفاع؛ فبنية التعالي والتجاوز والارتفاع (باعتبارها تنتمي لصُلب المجموعة البشرية بحُكم عدم اكتمالها) تفسِّر وتمنح الإمكانية للترابط والتعالق. ولأنَّ هناك فوق المجموعة غيابَ أساس يلزم إصلاحه؛ فإن الصورة والكلمة تشتغلان كعاملَي ربطٍ ووصل. لكنَّ الشيء المعتمد (أكان صورةً أم كلمة) لا يخلق أثرَ الغياب الذي نسميه معنى، بل إنه يستلزمه. لهذا ليس بإمكاننا الاهتمام بوقائع التبليغ من غير أن نجد أنفسنا مهتمين بالواقعة الدينية. إنَّ خطأ وقتنا الحالي يكمن في الاعتقاد بإمكان خلقِ مجتمعٍ ما بالتواصلات، أو ثقافةٍ ما «بتجهيزات ثقافية». ومن ثمَّة جاءت تلك الأنابيب بدون ماء، وأُطُر السيارات بدون محرِّك، أي تلك الوسائل التي لا غايات لها، والتي تشكِّل الألعاب المؤثثة للوقت الفارغ في العالم المعاصر. إننا نفكر في التواصل خارجَ كل دلالة ونضع اللِّجام قبل الفرَس. ولذا فإن الوسائطيات تفضِّل الحديث عن الإرسال؛ لأن المهم في هذا المصطلح هو انطواؤه على العبور، أي المحرك الحقيقي للانتقال. روحوا للنظر إذن أبعد، فالوقائع تحدث هناك.

ليس الرمزي كنزًا مخزونًا؛ إنه سَفَر. فثمَّة صور تأخذنا للسفر، وأخرى لا. لذا فإن الصور الأُولى تسمَّى أحيانًا «مقدَّسة». يوجد المقدَّس، في نظرنا حيثما تنفتح الصورة باتجاه شيءٍ آخَر غير نفسها. أمَّا الصورة باعتبارها إنكارًا للآخَر، بل وحتى للواقع، فقد ظهرت بقوة في عصر «البصري»، هذا الذي نزع عن الصورة طابعها المقدَّس متظاهرًا بأنه يكرِّسها. إنَّ انفتاح الصورة خلال عصر الفن، ظلَّ يعرضنا مع ذلك للتعالي، ونحن نعني بهذه الكلمة الشَّرَك، لا أكثر ولا أقل، أي استقلال العنصر الفني والاعتراف الحرَّ الذي يلقاه من الفنان أولًا وقبل كل شيء، وبعد ذلك من قِبَل عينِ المتفرِّج. لا، ليس كلُّ شيء متعلقًا بي. فثمَّة دائمًا حضورُ الآخر وهو يسبقني في الوجود. وهو سابق عليَّ كثيرًا، وعليَّ الإسراع كثيرًا، وإن كنتُ في العمق لن ألحق به. يعني التعالي ببساطة: البرَّانية، لا الماوراء وإنما ما يوجد خارجًا. إنه المقابل الفعلي للمقصد والمَرمى المثالي، سواءٌ كان واقعيًّا أو غير واقعي، وللسهم باعتباره رمزَ الفنِّ حسب بول كلي. وقد يكون هو اللحظة لدى بونار، والألم لدى دولاكروا أو الشعب لدى كوربي، والجسد لدى رونوار، والبؤس لدى بولتانسكي، وصمت الكائنات لدى بالثوس. وقد يكون بكلِّ بساطة هو احترام المصور الاستطلاعي للكائن الذي يسدِّد إليه عدسةَ آلته.

إنَّ الأمراء الإيطاليين الذين جمَّدتهم ريشة فيجنباوم Feigenbaum في قصرهم الروماني، يملكون الكثير من الكهنوتية؛ لكن القليل من القداسة التي تملكها الصورة الفورية السرِّية لحمَّالٍ صيني في زُقاق من مدينة شنغهاي، التي الْتقطها المصوِّر الفرنسي كارتييه بروسون؛ لأننا نحسُّ بأن الأول يعتبر نفسه أسمى أو على الأقل نِدًّا لموديلاته في علوِّ شأنها، فيما ليس الأمر كذلك مع الثاني. الإلهي يدعو إلى غضِّ البصر، فيما يدعو المقدَّس إلى رفع الرأس. فالنظرة القداسية أو السحرية التي تنبثق من مجالٍ اختلافي، ليس لها من شرط للوجود سوى مصدرَين متمايزَين: الناظر، والمنظور له. وبدونهما لا يمكن لأيِّ علاقة ولا لأيِّ «عودة للأُنموذج» أنْ تتم. إنَّ النزاع الأكاديمي بين فلورنسا والبندقية، وبين الخط واللون، وبين الرُّوحي والشبقي، لم يقابل أبدًا بين الروحانيِّين والملحدين؛ وإنما بين مجموعة من المؤمنين وأخرى. فاللون قد يكون إيمانًا والأجسام أيضًا. ليس الفن الديني سوى تعبيرٍ من ضمن تعبيراتٍ أخرى عن «الفن المقدَّس»، الذي يلزمنا أنْ نعرف أنَّه لم يكن مجرَّد حشو. أيُّ صورةٍ مكثَّفة لم تكن مقدَّسة؟ المقدس يتجاوز الديني، كما يتجاوز المتعالي الخارق. وفي التشكيل الذي عرفه هذا القرن، بإمكان جياكوميتي الطموح إلى المقدس، مثله في ذلك مثل شاغال وروول Rouault. فالإله لا يملك احتكار الآخر المطلق.

نحن نتساءل أمام كلِّ صورة، سواءٌ كانت فوتوغرافية أو لوحة أو تصميمًا: نحْوَ ماذا رفَعَ صاحبها رأسه؟ هل صوِّر من فوق أم من تحت؟ هل حاول أن يخرج، أن يأخذ اتجاهًا، أن يجابه؟ فيمَ يعتقد هذا الرجل وتلك المرأة، وما الذي يكنُّون له الاحترام ويتشبثون به؟ إنَّ الجواب ﺑ «لا شيء» أو «في ذاته» — ومن المحتمَل أن يكون الاثنان مترادفَين في آخر المطاف — لا ينبِئ عن شيءٍ إيجابي لصالح مستقبل هذه الصورة؛ فلن يوجد لذاته إلا ما لم يكن فقط لذاته.

المقدس كلمة علمانية وعقلانية، لكنها ليست مقبولةً لدى اللاأدريين (فأمام فرجةٍ رائعة يبدو لنا القول: «إنه عملُ ساحر.» أقلَّ مجازفةً وأقلَّ إثارةً للسخرية من قولنا بأنَّ «هذا العمل يتضمَّن نفحةً من المقدس»). والحال أننا لا نفلت من المقدس لأننا نقرِّر ذلك، أو لأننا نحذر من الكلمات الطنَّانة. وإذا ما حاولتم إدارة الظهر له؛ فإنه سيسبِّب لكم المتاعب تلوَ الأخرى.

هذه «الهالة»، التي أسفَ والتر بنيامين على ضياعها نظرًا لذيوع «النَّسْخ التقني» للأعمال الفنية، لم تتبخر كما اعتقد هو ذلك؛ وإنما أخذتْ طابعًا شخصيًّا. من ثَم فإن الناس سوف يكفُّون عن تبجيل الأعمال الفنية لتبجيل الفنانين. والعالم الرمزي نفسه يكره الفراغ، فحين ينغلق العمل الفني على نفسه كمحار، يغدو الفنان هيروغليفيًّا متجوِّلًا، وحاملًا للأسرار الثقيلة للحياة التي لم يتمَّ الكشف عنها أبدًا بصورةٍ واضحة. إن بويز وإيف كلين وويرول، من دون أن نشير للمصوِّرين الفاعلين في زمننا كأورسون ويلز وفليني والآخرين؛ هم حَمَلة مفاتيح، تائهون على مدى البصر في ردهاتٍ محاطة بالأبواب الموصدة. فنزع الطابع المقدَّس عن الصورة رافقه تقديس صانع الصور، وذلك طوال القرن اﻟ ٢٠. بهذا المعنى فإن المقدس المتغوِّل هو الغول المقدس. إنَّ «اللغز بيكاسو» كان لا يزال صبيًّا صغيرًا أمام الشامانات ما بعد الحداثيين الارتيابيين والعرَّافين، الذين يُضفون على ظهورهم طابعًا طقوسيًّا ويصفُّون إشراقاتهم. لم يكن فرمير شخصية، كما أن رمبراندت لم يكن شخصيةً من أعيان زمنه. فنجوم الصورة المقدسون يبدون بجانبهما اليوم أصنامًا عالمية.

إن الأمر يتعلق بقاعدةٍ وسائطية ثابتة: فكلما قلَّ الطابع التوسُّطي للصورة، زاد طابعها الوسائطي الإعلامي. وبصفةٍ عامة، فإن فنًّا ما كلما ضعفتْ وظيفته الإرسالية غلب عليه طابعُ «التواصل». الشخصنة في الجماليات كما في السياسة رهينةٌ بنزع الطابع الرمزي عن العمل الفني. والفنان الذي يظلُّ عمله مرآة له، عليه أن يسعى إلى جعل حياته درامية بنفس الحدَّة. بالمقابل، كلما زاد الطابع الرمزي للعمل الفني استطاع الفنان الغيابَ عن الساحة. لكنْ، كلما قلَّ سحر العمل الفني كان على الفنان أن يثير فينا الرَّعشة، ويغلِّف وجوده بالطابع الباطني المسرحي الذي لا ينبعث من عمله. وهكذا هي الأواني المتصلة للعبور الذي يفترضه الإرسال.
«CxI = ثابت»، ذلك هو قانون ماريوت Mariotte الذي يعيِّن العنصر الرمزي. فكلما كانت الصور فقيرة، كان جانبها التواصلي المصاحِب ملازمًا لها؛ ذلك أن الصورة كلما قلَّت دلالتها أرادت لنفسها أن تكون لغة. يقول الإشهاري: «إذا لم تكن تقوم بالترميز؛ فعليك بالشخصنة أكثر. فكلما قلَّ كلام العمل إلينا كان عليكم الكلام وجَعْل الآخرين يتكلمون.» إنه لمِن الصحيح أننا لا نتخلص بسهولة من فكرة العبقرية؛ فحين لا نعثر عليها في اللوحة المعروضة، فإننا نبحث عنها في الكواليس والإشاعات. إنه انتقال من الفعل إلى الوجود، أي عودة إلى المنطلق؛ إلى هيفايسطوس ساحر القبيلة. وبيكاسو يُعتبر هنا أيضًا أنموذجيًّا؛ فهو قبل سالفادور دالي الأول الذي أدرك في تلاشي فكرة المسيح المنتظَر وسيادة وسائل الاتصال؛ تواطُؤًا من أجل صعود الأفراد ذوي التأثير الجماهيري الذين تتتبَّع المجلاتُ أقوالهم وحركاتهم كلَّ أسبوع. «فما يهمُّ ليس ما يقوم به الفنان؛ وإنما مَن هو» (تكريم كرستيان زيرفوس).
إنها مُزْحَة أضحكتْ هيجل في لَحْده. وهو سيكون قد فهمها بالتأكيد باعتبارها النهايةَ الحزينة والرومانسية للمسيرة اللامادية التي انطلقتْ في مصر: مرآة الذات هي الذات نفسها، والرُّوح تتعرف على الروح مباشرةً، ولا حاجة بينهما لتقويمٍ ملوَّن أو ثقيل. لقد كان بيكاسو قد بدأ هناك نزولًا من الفعل نحو الوجود، ثم نحو قولِ الوجود ووجود القول الوحيد، الذي قاد بعضَ ورثةِ رفضِ الشيء البصري إلى الفراغ الصارم للفنِّ «التصوُّري»، أيْ إلى صنع قصةٍ طويلة، أي مقطع مارسيل دواشان — كاندانسكي — فونتانا — سول لويت Sol Lewitt. إنه، في النهاية، انتصار للسخرية الرومانسية: لا تقوموا بأيِّ شيء، كونوا شخصًا ما وفي الأخير تفوَّهوا بجملةٍ واحدة ونحن نتكلَّف بالكتالوج.
بإمكاننا النظر إلى هذه الآلية التعويضية (فالأمور الحسنة لا تأتي وحدها) باعتبارها جواب الازدهار المفاجئ على الاكتئاب والملحق الذي كتبه الدَّلَّال لوالتر بنيامين (الذي كان مكتئبًا إلى حدِّ الانتحار). نعم، معكم الحق، فالصناعة تنسخ كلَّ شيء، وثمَّة كليشيهات في كلِّ مكان. فهل نقل اختراع نيبسي Niepce الصورةَ من النُّدرة إلى الوفرة؟ إن ذلك في حدِّ ذاته يعمل على تخفيض قيمة الأعمال وثمَنها. كيف إذن نُعيد، في هذه الشروط، تأسيس الندرة والتميز في عالمٍ فائض بالبصمات، انحطَّت فيه القيم التقليدية المتعلقة بالوحدانية والأصل والأصالة، من غير أن نبتكر أنصافَ آلهةٍ جديدة وأشْباهًا لميكل أنجلو يكونون أيضًا أشباهًا لموسى؟ أليست الندرة الأخيرة الممكنة، في الكمِّ المادي الهائل للأشياء، هي الكيان الروحي للذات، وللفنان نفسه؟ إنَّ كلَّ تجَّار التشكيل يرفضون الإشهار التجاري، الذي قد يحطُّ من قيمة العمل الفنِّي ويجعل منه بضاعةً ويحوِّل هذه التجارة الأرستقراطية إلى تجارةٍ شعبية. كيف يمكن إعادة خلْقِ الانزياح عن القاعدة؟ لا بامتداح الطابع الفريد لهذه اللوحة أو تلك، وإنما بامتداح الطابع الفريد للفنان نفسه. فالفنان العظيم له حواريُّوه وكهَنوته وتابعوه ورواقيُّوه وجمَّاعو أعماله وهُواته، وذلك في تراتبيةٍ واضحة. والدعاية الجيدة للفن لا تدفع إلى اقتناء عملٍ فني عبر النَّسْخ الفوتوغرافي لعملٍ أصلي فتَّان. إنها تقترح الخلاص عبْرَ وعْد سرِّ القربان المقدَّس، مستعملةً في ذلك التمويلَ اللازم. انظروا، هذه اللوحة هي جسمه هو، وهذا اللون دمه هو. وبامتلاكها؛ أنتم تتوحَّدون بالنظرة، وفي كلِّ لحظة، مع هذا الكيان الذي لا مثيل له. وفي العمق، فإن الصورة الذهنية لشخصٍ ما متفرِّدٍ لا يحكي ولا يرى، هي التي تنفث فينا الرغبةَ في اقتناء الصور المادية والمُعْدية، التي صنعها بيده والتي يودِعها رُوحه. إنَّ سوق الفن لن يكون ذا مردوديةٍ إذا هو لم يستخدِم السِّحر.

«الاستقلال» القَدَري للفن

إنَّ الإرسال القوي لا يمكن أن يتمَّ إلا بالخضوع لقيمةٍ معينة. وإذا كان المقدَّس يعني «التبعية ﻟ»، و«الانتظام ﺑ»؛ فإننا ندرك أن الفنَّ الحي ليس دائمًا مرادفًا للفن المستقل. فالصورة التي تقوم بوظيفتها كاملة، لها كلُّ الحظوظ في أن تكون طفيليةً، وتكون عبارةً عن رسمِ كهوفٍ بدائي. وهو أمرٌ بديهي بالنسبة للفنِّ المسيحي في زمنه، الذي كان مرتبطًا بجسمه الصوفي ارتباطَ مثوى القديس برُفاته، ورافدة المذبح بالمذبح الكنَسِي، والرسم الجداري بالأروقة الجانبية في الكنائس، والجثَّة باللحد، والسماط الذهبي بحلَّة القدَّاس التي يرتديها القسُّ. والأمر بديهيٌّ أيضًا بالنسبة للفنون البدائية قبل ولادة الآلهة؛ فالشيء الذي يصنعه الأهالي هو في الآنِ نفسه وظيفيٌّ وتزييني. وعلى الشاطئ الشمالي الشرقي الأمريكي، «ليست المزهرية والصندوق والجدار أشياءَ مستقلةً وموجودةً سلفًا، ويلزم تزيينها وتزويقها بعد ذلك؛ فهي لا تملك وجودها النهائي إلا بالدمج بين الوظيفة التزيينية والوظيفة الاستعمالية. هكذا، فالصناديق ليست فقط أواني مزخَرفة بصورةٍ حيوانية مرسومة أو منحوتة. إنها الحيوان نفسه …»٥ وقد كانت إرادة بول كلي تتمثل في ألَّا يكون الفنان لا خادمًا ولا سيدًا؛ وإنما محض وسيطٍ بين «الأرض والكون» كما قال، وبين الأحياء والأموات كما كان هو. لكنْ يبدو أنَّ دورَ الوسيط هذا لا يتحقَّق بدون انتماءٍ معيَّن وإحساسٍ غامض بالنقص. إنَّ الزهو بما هو «خالص» — الشعر الخالص والرؤية الخالصة — لا تلائمه أبدًا، فعليه أن يختلط بما هو أقوى منه. وقد جازَفَ أندريه جيدْ فعلًا حين أكَّد أنَّ «العمل الفنيَّ مطالبٌ بأن يجد في ذاته اكتفاءه وغايته وعلَّته الكاملة.» (لكنَّ بقاءَ مذكراته، لا كتاب كوريدون، شاهدٌ بالأحرى على العكس، فيما يخصُّ خلقه هو.) لقد كان أندري جيدْ بالتأكيد يتحدَّث بالأدب. بيْدَ أنَّ تفحُّص الإنتاجات التشكيلية سيقترح علينا بالأحرى الأثرَ المعاكِس، كما لو أنَّ النحو باتجاه الاكتفاء الذاتي يكون في أصل فنٍّ غير مضياف وبارد أو هارب، فنٍّ لا يمكننا التحالف معه باعتباره خاليًا من التأثير ولا صدى له فينا. ومجموع المرتادين لقاعات الفن المعاصر الأخيرة، مثلًا للمتحف الوطني للفن المعاصر بوبورغ بباريس، لا يمكنهم إلا أن يدخلوا البهجة على قلوب أولئك الذين قرَّروا أن يخيِّبوا الطلب القديم للألفة والتشارك العاطفي أو الفكري. وهنا لا ملجأ للسنن الخارجي؛ لأنه لا مصدرَ يوجد في العلياء. تقوم الطهارة الرمزية بتعقيم النظرات، مسهلةً بذلك عرضَ الأعمال الصالحة لكلِّ مكان وكذلك هروب المتجوِّلين فقط. وقد قال نوفاليس: «حيثما لا توجد الآلهة يكون الأمر بيَدِ الأشباح.» فالفنُّ اكتُسب ضدًّا على الاستلاب، ونما في حضن الاستقلال الذاتي ومات في المرجعية الذاتية. وهو الأمر الذي يسري على هذا الفن أو ذاك من الفنون التي يُعلَن انحطاطُها في التفكير الذي تقوم به في ذاتها، وتجد نهايتها في النزع العام للأوهام عن الذات بنفسها. وقد تكون نقطة الانحدار في المنحنى، الواقعة بالضبط بين الاستقلال الذاتي والمرجعية الذاتية، هي الاستشهاد الذاتي. وعلينا التعامل معها بحذر، ذلك أنها تنقل كلَّ فن من مرحلة النضج إلى المهارة. إنَّ المرآة وسط المرآة تقود في النهاية إلى إفراغِ القاعات من الروَّاد. فتشكيل التشكيل كما مسرح المسرح، وسينما السينما، ورقص الرقص، وإشهار الإشهار؛ يبدأ بالابتسامة لينتهي بالتجهُّم. الصورة حياة؛ وهي لذلك سذاجة. والكثير من السخرية، قد يقضي عليها. ونرسيس كائن الغروب، والنرجسية عيب جنائزي. فالتقعير mise en abîme يشكِّل حتْفَ مَن يبالغ في ممارسته.
قال بودلير لإدوارد ماني: «لستُ سوى الأول في تداعي فنِّكم.» وفي التشكيل الحديث كان الحماس للمرجعية الذاتية مع صاحب الأولمبيا، بالرغم أنه — ولو تبنينا المزحة الجميلة لأندريه مالرو — قد رسم أيضًا صورةً شخصية لكليمونصو، لا صورته هو.٦ والتشكيل الحديث قد انتهى ربما مع الاحتفال الساخر الذي عمِلَ به مفترس المرئي، أكبر الوحوش المصطادة للأشكال، على نقل التشكيل الغربي من الاستقلال الذاتي إلى الْتهام الذات. فمعه يبدو أنَّ الدرجة الثانية والثالثة قد أصابت مقتلًا من الدرجة الأُولى، وذلك على غِرار «الإنسان الذي يستهلك أفضل فأفضل، وبطريقة لا تعوَّض، مادته نفسها، أي ما يأتيه من الوسط الطبيعي» (لوروا غوران). ألم يبذل بيكاسو ما في وسعه، وعلى سبيل اللعب، لاستهلاك المخزون التشخيصي للغرب وما حواليه، الذي متحه من صلب وسطه الثقافي؟ إنها عودة لامعة إلى الذات لما يعضُّ ذيله، ويلفُّ حول نفسه مرةً أخرى ثعبان الفنِّ، بالشكل نفسه الذي بسط به الكواطروشنطو الفلورنسي حلقاته الأُولى، على طريقة غول الأرض، ذلك الحيوان الخرافي القديم الذي كان يلتهم نفسه.
إنَّ سَفرًا إلى الشرق الأقصى في هذه النقطة من استقصاء الصور التشكيلية في الغرب، لن يكون عديم الفائدة؛ ففي هذه البلدان ذات التواضع الباسم كان الرسَّامون — وأنا أفكِّر هنا في اليابانيين — يعتبرون التشكيل تسليةً، وحاملًا بسيطًا للأحلام المادية والروحية في ترابطهما القوي. فطيساي مثلًا، كان يخطِّط على المناظر الطبيعية التي يرسمها أشعارًا أو إيحاءات بوذية (كما كان الصناع الإغريق يملئون بالتخطيطات تماثيلهم). كما أنَّ سَفرًا إلى بيزنطة يكفينا لنعرف أنَّ الفن، مثله مثل إله جان لوك ماريون، «يتقدَّم في انحساره»، وينحسر في مجده.٧ لكنْ، مَن يعطي أهمية لبيزنطة في التاريخ اللاتيني الذي أصابه العماء عن مصادره نفسها. «لقد كان الفن الياباني أقرب إلينا تاريخيًّا من بلاد الأيقونات (بيزنطة). فهل ضاع درسه اليوم؟ ولو كان ذلك قد تمَّ»، فإننا سنجد جوهره البهيج في الكتاب الرائع: استطرادات عن الفن في اليابان لموريس بانجي؛ حيث يحكي تشبُّعه البطيء بالفضاء الساكن والمحتشم والسِّري للصور الشخصية والحواجز والحدائق والمنحوتات والبيوت اليابانية٨ ولامبالاتها غير الظاهرة، وتحفُّظها. فهذا الفنُّ «لا يعرض نفسه في الشوارع كمآثر عمومية؛ إنه يتطلَّب الخلوة الظليلة، وحميمية التلال أو المنزل والاحتماء ببناءٍ أو سقف ما.» ويستنتج المؤلف: «لا شيءَ بالفعل يهدِّد الفنَّ أكثر من وعيٍ حصري بالذات؛ فهو مطالَب بأنْ يظلَّ غير مبالٍ بقوته، غير منتبِه لطابعه الفاتن أو الصاعق، وغير مهتمٍّ أصلًا بالعمل الفني، مثله في ذلك مثل أورفيوس. فمن المستحسَن أن تأتي عقيدة أو علم ليُزيحاه عن جوهره الخاص الذي قد يتبعه، وليوفِّرا له شيئًا آخر يحبُّه غير نفسه. ومن ثَم تنبع العظمة الخالدة للأعمال الدينية، بما هي أقوى ضد الزمن من الآلهة التي تخدمها.» إذا كان ثمَّة دائمًا في الفن العبقري شيءٌ أكبر من مجرد عبقريةٍ شكلية، فمن الأكيد أن هذه العبقرية الشكلية لازمة أيضًا. وكما أن المهارة لا تكفي لإثارة العواطف؛ فإن أساطيريةً ورعة، كما تلك التي تتمتع بها المجتمعات المنصهرة، لا تولِّد وحدها صورًا رمزيةً أو حيَّة. إن صورةً ما تصبح فنيةً بمجرد ما تتجاوز صانعَها، وهو ما لا يعني أن قيمة التجاوز هذه تكفي لتؤمِّن لها صلاحيتها التشكيلية. وسيكون من غير المُجدي آنذاك الاعتراض بأن صورَ كنيسةِ السِّكستين (لمايكل أنجلو)، أو السان سولبيس بباريس، تندرج في هذا الإطار باعتبارها «سهامًا» ووجهاتٍ للرِّفعة. وكل واحدٍ يعرف بأنهما ليستا متعاليتين من ناحية المساواة الشعائرية حتى في نظر المسيحي الأقل وعيًا. لنقُلْ إذن إن الفن ينبثق في تقاطع الصنعة والعقيدة، والتفوق التقني والتواضع الأخلاقي. والجمال ليس سوى اللقاء، بين كبرياء كبيرة وخنوع أكبر في نقطةٍ ما من سلسلةٍ حرفية معينة.

المعنى والجماعة

ثمَّة أمنيةٌ ثابتة لصيقة بعصرنا ما بعد الحداثي تتمثل في «هدم الحدود بين الفن والحياة»، وجعل التمثيل عرضًا وتقديمًا للحياة، والحياة مصوَّرة بذاتها. فبواسطة الرِّيدي ميد (فن الجاهز) كما الهابِّنينغ (فن الحدث) يتمُّ الجَهْد للصعود إلى ما فوق الشرخ الذي يفصل بين المتوحش والمتمدِّن. إنَّ تجاوز «القطيعة السيميائية» (كما قال دانييل بونيو) هو ما تصدُر عنه، مثلًا: إرادةُ إلغاءِ التعارض بين الداخل والخارج ومَحْو الأنوار لوضع المتفرِّج على خشبة المسرح، وووضع المسرح في القاعة، وإدخال الرائي في المنحوتةِ القابلة للولوج (دوبيفي أو سوتُّو)، وأيضًا الرسم بالجسد أو إنتاج البصمة الخالصة (الأكشين بانتين، التشكيل الفعل) والبودي آرت (الفن الجسدي)، ووضع أحجار أوكُوَم من التراب على الخشبة (آرت بوفيرا، الفن الفقير)، والرقص خفاء من دون إخفاء الجهد والعرَق والكبوات والسقوط، وتصوير الأفلام في الشارع والكاميرا على الكتف، أحيانًا بدون ممثِّلين أو سيناريو أو حوار مكتوب، أي بترصُّد الأعراض حيَّة، وهو ما قامت به «الموجة الجديدة» و«الحقيقة السينمائية»؛ وابتكار مسرحٍ سابق على الكلمة، على شاكلة قسوة أنطونان أرطو؛ وتعويض الإخراج باعتباره وضعًا على الخشبة بوضعٍ في الفضاء، كما في الأروقة الفنية حيث يتراجع تعليق اللوحات أمام حضور المنشآت؛ وتحطيم إطار اللوحة، بل اللوحة نفسها باعتبارها مساحة مميزة؛ والخروج من المتحف لإخراجه إلى المدينة، وإخراج الفنان إلى الشارع، بما أن المتحف نفسه لم يعُد، طبعًا، مجالًا للعرض وإنما «مجالًا للحياة» (حيث يتسلَّى الكل من ٧ سنين إلى ٧٧ سنة).

في ميدان التشكيل، بدأت الرغبة في ولوج الأشياء بدل إعادة عرضها، في زرع الإشارة في قلب الأيقونة. لقد تم أول كولاج سنة ١٩٠٧م، كما أنَّ لصق أيِّ مقطع من الواقع الخام — سواءٌ كان علبةَ سجائر أو صحيفةً أو قطعةَ ستار شفَّاف — على صورة، يبدو كوضعِ حفنة حلم في خطاب ما. نعم، هذا غليون فعليٌّ، هذا لا يشبه واقعًا خارجيًّا، ولا يبدو أنه يشبهه. هذا شيء يوجد في ذاته. يحلم الفنانون بالمطابقة بين الشيء وعلامته، والصهر بين الأرض والخريطة؛ وبين المتفرج والحدث (الهابنينغ)؛ وبين النظر الطبيعي واللوحة (لاند آرت، الفن الأرضي)، الشيء الموجود سلفًا، والموضوع الفني (التعليب، كما لدى كريستو)؛ وبين اللوحة العلامة والهيكل الشيء (السناد/المساحة). إنَّ هذه الملاحقة المتشنِّجة والمنهجية في الآنِ نفسه لمَا هو فوري تخلق الهذيان بضربٍ من العودة إلى الرَّحم وإلى المحيطات الأُولى. إنه صعود من البارد إلى الساخن، ومن المتقَن الصنع إلى الإشارة باللسان، ومن العلامة إلى الحركة. فالسحر البدائي هو الذي لا يحتوي على أيِّ تمييز بين الجزء والكل والصورة والشيء والذات والموضوع.

فهل يملك سحرنا المؤجَّل أيَّ فاعلية؟ أبدًا، لنعترفْ بذلك. لماذا تتركنا هذه «الأعمال الفنية» المعاصرة، التي تريد لنفسها بالأحرى أن تكون صرخات أو مداعبات، كثيري البرود؟ ربما لأنها تتابع الحلم المستحيل المتمثل في أنها تضفي طابعًا مؤسسيًّا ذاتيًّا على المتخيَّل (باعتبار هذا الطابع النظير الجمالي لهذه اللامعقولية الأخرى المتمثلة في المَأسَسة الذاتية للمجتمع).

ثمَّة العديد من التشكيليين الذين يَجْرون الآن باتجاه الطرفَين النقيضَين للتواصل، بعضهم باتجاه الإشارة/الدليل باعتباره مقطعًا مشتقًّا من الشيء (بولوك ودو بيفي) والآخرون نحو الرمز باعتباره علامةً اعتباطية لا علاقة لها مع الشيء (موندريان أو مالفيتش). لكنَّهم عادةً ما يرفضون الاختيار بين الأمرين. والمأساة أنَّ بعضهم يُلغي البعض الآخَر. فهل يمكننا أن نربح على مستوى اللوحتَين معًا: لوحة الجهد الفكري الأقلِّ، أي الدليل/الإشارة المغناطيسة، ولوحة الجهد الفكري الأكبر، أي الرمز الباطني؟ فيكون لنا الإشعاع وفكُّ الرموز كجزاء، أي الشاشة، زيادةً على المكتوب؟ إنَّ هذا ضَربٌ من البدائية المُترفة، مثله مثل «الأكل» و«الشرب» على شواطئ نوادي البحر الأبيض المتوسط. فالبدائي مُكرَه على الدلالة على العالَم في صوره، بما أنه لا يستطيع نسخه وإعادة إنتاجه. وهو لا يملك من اختيارٍ آخَر غير اختيار المعنى؛ ذلك أنَّ عدم طواعية المواد ومعوقاته التقنية لا تمكِّنه من أنْ «يلعب دور المحسوس» بتشخيصه في حُلَّة متوحشة. يرغب العقل المعاصر في أن «توجد العين في الحالة المتوحشة» (كما دعا لذلك أندريه بروتون). لكنه يرغب في الآنِ نفسه في معرفة تفكيك الصورة الخام باعتبارها مقطعًا من خطابٍ عن عاقبة الإنسان. إنها لقضيةٌ عجيبة أن يمنح الفنانُ لنفسه البصمةَ سواءٌ كانت دفقةً أو حكَّةً أو لطخةً أو وشمًا أو لصقًا، أي الطفولة البكماء للعلامة، عاملًا في الآنِ نفسه على أن تشتغل هذه التنهيدات الأُولى ككلماتٍ ووحداتٍ خفيَّة من نسقٍ منطوق. فخلف المشروع البيِّن للفن، المتمثل في أن «الفن مساوٍ للحياة»؛ يثْوي ذلك الطموح المتناقض والمفرط، أعني الجمع بين حُظْوات الإحساس وحُظْوات اللغة، وبين العودة إلى النسيج والتفسير النصِّي. إن صبياننا الشائخين — بما أنَّ كلَّ فنَّان طفلٌ صغير — يحلمون بالجمع بين عاطفة الصرخة الأولية والتأويل المفاهيمي لصرختهم. ثمَّة الصدمة والمهارة، التَّماس الجسمي والتأويل النظري، ونزق النشوة في الرواق والمقدمة التي كتَبَها جاك دريدا للكتالوج. إنه لَمشروعُ أطفالٍ مدلَّلين أنْ يتمَّ منْحُ «الريدي-ميد» وظيفةَ «نسق هجائي تصويري». إن هذا الفن التراجعي والمتقدِّم في الآنِ نفسه يمكنه أن يعتبر نفسه واقعًا سيِّئَ النية بالمعنى السارتري، أي أنه ما ليس هو، وليس هو ما هو. فحين تحدِّثه في «الحرفة» يجيبك في المعنى. وحين تكلمه في اللغة والدلالة يحدثك هو في المادة والتقنية. تقول له: «رسْمُك بالغُ الاختصار.» فيجيب: «المهم التصور، أليس كذلك؟ فالبُلهاء وحدهم يرتبطون بالمساحات …» تسأل: «أليس تصورك فقيرًا بعض الشيء؟» فيجيب: «أنا لست فيلسوفًا وإنما فنان. أنا أشتغل في مجال الإحساسات والماهيات، أنا أيها السيد.»

إنه حوارٌ مستحيل، محجوز ومكبوت ليس فقط من قِبَل مواضعات اللياقة والأدب وإنما من قِبَل وضعيةٍ ذهبية. فمنحوتة اليوم الأكثر اختزالًا والأكثر اختصارًا هي في حمًى من هذه التهورات، وهي حماية يقوم بها نقدٌ فني يُبعد كلَّ عتابٍ ممكِن يتهمه بعدم الفهم الذي قد تطلقه الأجيال القادمة الساخرة، مسخرًا في ذلك إدراكًا مبالغًا فيه فوريًّا وورعًا. بل إنها ليست فقط كذلك وإنما هي مبدئيًّا لا تقبل التهجم؛ نظرًا لغياب معيارٍ خارجي أو منظومةٍ معرفية أو قانونٍ يمكِّن من إطلاق حُكم معين. فقد غدا لكلِّ إبداع بصري متفرِّد مرجعيته المعيارية الخاصة. وكل إبداع يسكُّ نقوده ويزعم أنَّ لها قيمةً تداولية مشروعة. لكل منها شفرته وكل شفرة تدَّعي أنها صالحة. لكنْ، من الناحية المبدئية لا تتجاوز السُّنن الفردية اللغات الفردية؛ فلتكون اللغةُ لغةً، يلزم أن يتحدثها أكثرُ من شخصٍ واحد. كما أن سُننًا أو شفرةً ما لا توجد؛ إذا ما هي ظلَّت محصورةً في فرد أو ذاتية. فاللعبة الرمزية رياضةٌ جماعية.

وقد قال بول كلي بهذا الصدد: «من اللازم وجود أرضية مشتركة بين الفنان والإنسان العادي، أي نقطة لقاء لا يُظهر منها الفنان حتمًا حالةَ هامشيته وإنما أخًا شبيهًا لك، رُمي به بدون استشارته في عالم متعدِّد الأشكال، ويكون، مثلك أنت، مضطرًّا لأن يهتدي فيه برغم كل شيء.»

بيْدَ أنَّ الناس لم تعُد تهتدي فيه؛ فمصائب الإبداع الفني المعاصر ليست بالتأكيد راجعةً للفنانين أنفسهم. نحن كلنا نتقاسم تلك المسئولية. لقد فقدت صورنا حيويتها ورمزيتها (وهما كلمتان مترادفتان)؛ لأن نظرتنا خضعتْ للخوصصة (وهي فردنة تُحيل بدورها إلى مجموع الصيرورة الاجتماعية). نحن لم نعُد نجِد أرضيةً مشتركة بين هؤلاء الفنانين وبيننا نحن الناس العاديون، وهم أنفسهم يعيشون «كحالاتٍ هامشية». لم نعُد للأسف إخوانًا مشابهين بعضنا البعض؛ نظرًا لغياب معنًى مشترك بيننا. صحيحٌ أننا بإمكاننا أن نجعل من عدم اللقاء أيضًا مبدأً للتقارب والتواطؤ بين الهابي فيو (القليل المرح)، ونزعةِ تباهٍ snobisme للاعتباطية، وسلسلة من المواضعات تخضع للمراجعة والتعويض السنوي بدون مبرر مقنع. بيْدَ أنَّ الخوصصة الكاملة للنظرة، التي تشكِّل بالتأكيد خطرًا قاتلًا لسحر الصور، تشكِّل في نهاية المطاف الخطرَ نفسه، للفنِّ بالتحديد.
١  Clément Rousset, L’Objet pictural. Notes sur Pierre Soulages, Lyon, Musée Saint Pierre, 1987.
٢  Raoul Ergmann, “Le Miroir en miettes”, Diogène, NU 68, 1969.
٣  أحيل في هذه النقطة على البرهنة المتقنة ﻟ: Pierre Lévy, L’Idéographie dynamique, Vers une imagination artificielle, Paris, La Découverte, 1991.
٤  Georges Charbonnier, Entretiens avec Claude Lévi-Strauss, Paris, Les Lettres nouvelles, 1959, p. 66.
٥  Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, Paris, Plon, p. 287.
٦  «لكي يستطيع ماني رسمَ صورةٍ شخصية لكليمونصو، عليه أن يقرر التخلِّي عن أن يكون فيها هو كل شيء وكليمونصو لا شيء.» انظر بهذا الصدد: Le Musée imaginaire, Paris, Gallimard, édition de 1956, p. 38.
٧  Jean-Luc Marion, La Croisée de l’invisible, Paris, La Différence, 1991.
٨  France-Asie, no. 182, janvier-mars 1964.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤