عبقرية المسيحية
إذا ما نحن حذفنا الصورة، فلن ينمحي المسيح وحده، بل معه الكون بكامله.
تلقَّى الغرب التوحيدي إباحةَ التصوير من بيزنطة، عبْرَ معتقدِ تجسُّد المسيح. وبما أنَّ الكنيسة المسيحية لها تجربتها التبشيرية الخاصة وتشبُّعها بالاعتقاد في الطبيعة المزدوجة للمسيح؛ فقد كانت وحدها القادرةَ على فهْمِ الْتباس الصورة، باعتبارها قوةً إضافية وكشفًا للروح في الآن نفسه. ومن ثَم يأتي موقفها الغامض من الأيقونة والرسم، كما موقفها اليوم من السمعي البصري. أليس هذا التأرجُح ضربًا من الحكمة؟ فأمام الصورة لن يكون اللاأدري أبدًا مسيحيًّا بالكامل.
•••
لقد امتلك الغرب عبقريةَ الصور؛ لأن طائفة هرطقية يهودية ظهرتْ في فلسطين منذ عشرين قرنًا خلت، وكانت تملك عبقرية الوساطات. فقد وضعت بين الله والآثمين حدًّا أوسط هو معتقد التجسُّد. وهذا يعني أن بدنًا أصبح، ويا للفضيحة، «مظلةَ الروح القدُس». وبما أن الجسم الإلهي كان بدوره مادةً، فمن المنطقي أن تنجم عنه الصورة المادية. إن هوليود تنبع من هنا، أيْ عبر الأيقونة والباروكية.
كل الديانات التوحيدية بطبيعتها معاديةٌ للصورة ومحاربةٌ لها في بعض الأحيان. فالصورة في نظرها فائضُ زينة، وإيحائية في أحسن حالاتها، ودائمًا خارج الجوهري.
بيْدَ أنَّ سيد الرسَّامين ونموذجهم الأول يسمَّى القديس لوقا. لقد أرسَت المسيحية أُسسَ المجال التوحيدي الوحيد؛ حيث لم يُعتبر مشروعُ جعْلِ الصور في خدمة الحياة الداخلية عملًا أهبلَ أو تدنيسًا في أصله، أي المجال الوحيد الذي تمسُّ فيه الصورة صميم جوهر الرب والبَشَر. لكنَّ هذه المعجزة لقيتْ مشكلاتٍ في طريقها، وظلَّت ملتبسة. ولقد كادت محاربةُ التصوير في بيزنطة (أو بعدها بثمانية قرون وإن بحدَّةٍ أقل، الكالفينية) أنْ تُعيد الشاةَ التائهة إلى القطيع والاستثناء إلى القاعدة. ولو أن «الطريقة الإغريقية العتيقة»، التي اعتبرها فاساري اللاتيني باحتقارٍ «فظةً ووَقِحةً ومسطَّحةً»، كانت قد تلاشت أمام تلك الحرب؛ لمَا كان بالإمكان تصور وجود فنانين كسيمابو وجيوتو؛ والحال أنه بدون سلالتهما لم يكن للغرب أن يغزو العالَم.
الكتاب المقدَّس وتحريم الصورة
قال يهْوه يومًا: «لنخلُق الإنسانَ على صورتنا.» لكنْ، ما إن انتهى من ذلك حتى قال للإنسان: «لن تصنع أصنامًا» (الهجرة، ٢٠: ٤). وأضاف قائلًا لموسى: «لن تستطيع النظر في وجهي، فما من مخلوقٍ ينظر إليَّ إلا ويصيبه الهلاك» (نفسه، ٣٠: ٢٠). فالربُّ الحقيقي الذي تتحدث عنه الكتابات يُكتب اسمه بلا صوامت، وهذا الاسم العسير النطق لا يقبل النظر. «وليكرم اسمه» لا صوره. وحين ظهر يهْوه لشعبه، كان ذلك من وراء حُجب الضباب والدُّخان. وقد كان ذلك أيضًا في المنام، كما حدث ذلك لإبراهيم وإسحاق. إنه يتفادى النور ونظر بني البشر. فاللاهوت التوراتي ليس مذهبًا إشراقيًّا، و«عصر الأصنام» لم يتقاطع مع اليهودية التي يظلُّ معتنقوها قومًا انعزاليين. إن وسائط الرب اليهودي تتمثل في الكلمة، والرؤى الحلمية في العهد القديم تجد قيمتها في الشريط الصوتي، فيما أنها تظلُّ صامتةً في العهد الجديد، حيث الصورة لا تحتاج إلى الكلمة وتملك معناها في ذاتها. والرؤيا لدى أهل الكتاب الأرثوذكسيين لا تخصُّ إلا الأشياء العابرة والقابلة للفساد، أي الأصنام والآلهة المزيَّفة؛ إذ يمكن التعرف على هؤلاء بكونهم قابلين للرؤية والملمس، مثلهم مثل قِطَع الخشب. والهزء كل الهزء أنَّ الأمر يتعلق بالتمثال المقدَّس. أيُّ إله هذا الذي يمكننا كسره والرمي به أرضًا؟ أيُّ كيان لا نهائي يقبل بحصره في حجم معين؟ فالمعبد فارغ مثله مثل سفينة نوح. وإذا كان المتنبِّئون يملئونه بالدُّمى؛ فإن الأنبياء الحقيقيين يعلنون دينهم بدون تعيين. وحدها الكلمة قادرةٌ على قول الحقيقة، أمَّا الرؤيا فهي تعبِّر عن قوة المزيف. وإذا كانت العين الإغريقية مرحةً؛ فإن العين اليهودية ليست عضوًا زاهيًا، وإنما نحسٌ لا يبشِّر بالخير (فالعين كانت في القبر، وكانت تنظر إلى قابيل). في الصحراء التوحيدية، قد يصبح الأعمى ملكًا، لكنَّ ملكًا إغريقيًّا فاقدًا للبصر يفقد معه تاجه. العين هي العضو التوراتي للخداع واليقين الخادع، والذي يتمُّ بسببه عبادة المخلوق عوض الخالق وتجاهُل الغيرية الجذرية للرب، الذي يتم اختزاله في عنصرٍ من العناصر المشتركة للفساد، كان طائرًا أم إنسانًا أم مخلوقًا زاحفًا أو بقوائم؛ فالكافر يبتغي الحياة الدنيا بالعين، أمَّا المؤمن فإنه مملوك بعينه. ألَا تشكل الرؤى بلاءً ابتُلي به حامي الشعب المختار المصريين؟
مع ذلك، فإن التوراة تزاوج بوضوحٍ بين الرؤية والخطيئة. فقد جاء في سِفر التكوين: «وقد رأت المرأةُ أنَّ الشجرة ذاتُ طيبٍ وأنها ممتعةٌ للنظر.» صدَّقت حواء عينَيها، ووقعت تحت فتنة الحية؛ فانصاعتْ لرغبتها. حذارِ من الشرك! إنها صورة الفرج المسنن. كلُّ خطيئة للصورة هي خطيئةٌ جسدية، فإذا كان الانفلات من النظام يتمُّ بالعينَين؛ فأصيخوا السمع إذن كي تكون طاعتكم كاملة. البصري عنصرُ خطيئة؛ فهو فتنةٌ وشهوةٌ ولعنةٌ للغافلين. لا تركعوا أمام الصور الغرائزية والمشاغبة والساخنة. فمدينةُ بابل المومس تعجُّ بالاستفزاز السمعي البصري للحقيقة الباردة للكتاب المقدَّس. والساحرة تسحر بالإيقاع في الشرك، إنها تمتصُّ مثل المِحجم، وتدهن وتعجن العلامة الذكورية والمجردة في انحدارٍ لطيف. الصورة بشر، ومادة مثلها مثل حواء. وهي خيالٌ وعذراء وهوجاء. كما أنها سيدةُ الخطأ والزيف. إنها شيطان يلزم استخراج الشرِّ منه، بل إنها أنشودة حورية البحر. وكما كان يقال في الأوساط اليهودية ذات الثقافة الهيلينية في القرن الأول: «كانت فكرة صُنع الأصنام في أصل المضاجعة.»
ثمَّة الصوت والبصر والمعنى والحواس. واللغة نابعة من الأب كالقانون؛ فهي يدوية وصواتية وبعيدة، والإله المجرد لإسرائيل خالص من المظاهر، وهو كلمة خالصة. وستكون الكنيسة اليهودية ذات الأبواب القوطية امرأةً معصوبة العينَين. أمَّا الصورة الأكثر همجية، فإنها تأتينا من الإلهة الأم باعتبارها تناظرية وصوتية ومحسوسة. وإذا كان المسيحي يتَّجه إلى ابن الإنسان عبْرَ الأمِّ ونحو المعنى بالبصر، أو إذا شئنا، إلى اللوغوس بالأيقونة؛ فإنَّ يهْوه يتوارى كليةً خلف الكتاب باعتباره الغرفةَ السوداء للرمزي. أمَّا يسوع والعذراء مريم؛ فإنهما يلمعان في خلفية الإصطبل، تدَغْدِغ هيئتهما شمعةٌ، بحيث يقدِّمان نفسَيهما في منظرٍ مضيء ومُعتِم لنظرات الجيران، فيما يطلُّ الملوك المجوس على الطفل الرباني؛ هذه الكلمة المعروضة منذ ذاك الحين لكل أدران التصوير.
ديانة التوحيد المنشقَّة
أمَّا الأرثوذكسي فإنه يُجيب بأنَّ الجسم والصورة إذا اجتمعا كان ذلك حشوًا. فكلُّ شيء يأتي أو يُرفض بالمرة. والصورة بوصفها وساطةً لوسيط وحيد، وهي علائقيةٌ مثله، تنبع من تجسُّد المسيح من غير أن تحطَّ من شرِّها. إنها حيلةٌ من الرب، مثله مثل الابن، الذي يمنح الربَّ من خلاله نفسه للرؤية لهؤلاء المبصرين التعساء. إنَّ طيبوبة الربِّ تضاهي الجيد وطيبوبة الصورة أيضًا، أي استعمال نظرة البشَر وضعفهم كي يتحقَّق خلاصهم بشكلٍ أفضل، وهو ما يجعل من الرب المسيحي أكرمَ وأخصب من نظيره اليهودي. فالمسيح لم يحظَ بالتصوير في حياته، ولم يكن له سوى أن يمثِّل نفْسَه بنفسه وذلك بوضع بصمته على الثوب. وكلُّ الصور التي صُنعت للمسيح حيًّا ليست من صُنع يدٍ آدمية. لكنْ بعد البعث أصبح كلُّ واحد حرًّا في الاستمرار لحسابه الخاص في إطالة السلسلة المحاكاتية للصور والأجسام. ولأنَّ تجسُّد المسيح هو الرَّحم الأول لوساطات اللامرئي في المرئي؛ فإنه يؤسس توالُدًا لانهائيًّا للصور من الصور، لا يكون حشوًا أو تحصيلَ حاصل أبدًا، وإنما تنافسيًّا وتحفيزيًّا. العذراء ولدت المسيح، باعتباره «صورة الرب» (وهو تعبير يطلق على الضمير الثاني من الثالوث المقدَّس)، وعن المسيح صدرت الكنيسة بوصفها صورة المسيح، والكنيسة أنتجت الأيقونات، هذه الصور التي توقظ بدورها الصورة الباطنة لابن الرب في قلوب أولئك الذين يستنيرون بهديها.
الرحمُ التجسُّد
فيمَ يُعتبر شخصُ المسيح رمزًا لكلِّ تمثيل؟ في كونه اثنَين: إنسانًا وإلهًا، وكلمةً وبدنًا. وذلك هو حال الصورة المرسومة؛ إنها بدن مؤلَّه أو مادة متسامية. فالخالد تحول إلى واقعة كما يغدو الرب عبر زجاجيات الكنائس لونًا. إن الحدث الأول، باعتباره السنة الصفر لعصرنا، فريدٌ، لكنه يتقافز في كلِّ لعب للضوء والمواد، وذلك منذ المجمع الديني بكالكيدونيا الذي أقر سُنَّة تجسُّد المسيح (سنة ٤٥١م) حتى متحف الفن الحديث بوبورغ. لم تتغير الصيغة اللاهوتية للرسم: «الوحدة الأقنومية»، أو «طبيعتان مختلفتان وشخصٌ واحد». للمسيح خصائص الإنسان كلُّها وخصائص الرب بأتمِّها، وهي الخصائص التي تنصهر ببعضها البعض من غير تشوُّه. إن لوحةً ما تمتلك كافَّة خصائص المادة وكافَّة خصائص الرُّوح؛ ومن ثَم، ذلك التناوب المزعِج. فأنا مادة بالنظر إلى السناد والمساحة، وأنا رُوح بالنظر إلى دلالاتي التي تتجاوز المواد المستعملة. فأي جهة نختار؟ وأي اتجاه نأخذه في مجال الفن، الاتجاه المادي أم الروحي؟
إنه مجازٌ فعلي غدا معياريًّا. والمذاهب المسيحية التي تقبل أو لا تقبل الحضور الواقعي للمسيح في الخبز القرباني على المذبح، تقبل بالرسم المقدَّس أو لا تقبل به. ويكمن الخط الفاصل بين الأمرَين في الإصلاح الديني. فلوثر يقبل بقربانِ العشاء الأخير بالرغم من أنه يعوض استحالة القربان بالوحدة الجوهرية بين المادة والرُّوح. إنه يُدين أيضًا محاربي الصورة، مثله مثل منافِسه كارلشتاط، الذي يقوم — برفضه القاطع لقربان القدَّاس — برفضِ دخولِ أيِّ صورةٍ للمعبد. أمَّا كالفين، الذي جعل من العشاء الأخير رمزًا خالصًا، فقد اعتبر أنَّ استحالة القربان تشكِّل لعبةً مُشينة؛ وإدانته للصور أكثر صرامةً من إدانة لوثر. إنه يمقتُ رُفاتَ الأولياء ويشبِّه العذراوات المُبرقَشات بالحكايات والأقوال الماجنة. كلُّ صورة مجسَّمة للمسيح في نظره صنمٌ؛ والفنُّ كما يقول، لا يمكنه أن يعلِّمنا شيئًا بتاتًا «يخصُّ اللامرئي؛ إذ عليه ألَّا يُظهر إلا الأشياء التي تُرى بالبصر.»
لمَ لا نلاحظ أنَّ الرسَّامين في غالبيتهم طبَّاخون ماهرون، وربما كانوا عشَّاقًا أفضلَ من المؤلفين الموسيقيين؟ إنها حساسية التشكيل مقابل الطابع الذهني للموسيقى. والبصر أذكى من اللمس لكنه أقلُّ ذكاءً من السمع. من ثَم فإن النحَّات سيكون أقلَّ «مثقفيَّةً» من الرسَّام، وهذا الأخير أكثر «يدوية» من الموسيقي. ففي الصعود الروحاني تُحرَّر العين من اللمس، الموجود أسفل، لكنَّ هذا العضو الذي لا يزال حيوانيًّا والمرتبط بالمادة؛ يتم إبعاده بالأذن، عضو الرُّوح الطائرة. وفي الطابق الأخير نجِدُ الملائكة الذين يستعملون العُود أو الكمان، لا الريشة أو الإزميل. وبما أنهم عادةً موسيقيون؛ فإنهم يساعدون الرسَّامين في عملهم. لكننا لا نرى أبدًا ملكًا أمام مرسام اللوحات ولم نعرف أبدًا ملكًا نحَّاتًا. ومن الأفضل للمرء أن يستضيفه رسَّام لا موسيقي للعشاء، كما من الأفضل احتساءُ حساء مع الشيطان على أن يكون ذلك مع المَلَك الأكبر، ذلك أنَّ الملائكة والموسيقيين لا يوسِّخون أيديهم.
فتنة السلطة
لقد ظلَّت التقاليد المُوسويَّة من القوة بمكانٍ بين مبتكري فكرةِ تجسُّد المسيح ولمدَّةٍ طويلة، بحيث حرَّموا الصورة. لقد اكتفوا، حتى بداية القرن الثالث للميلاد، بمجموعةٍ محدودة من الرموز المخطوطة شبيهةٍ بالوريدات والوريقات والكروم اليهودية (رمز الخصوبة). وقد ساروا بهذا المجاز حتى حدود السيادة الحيوانية، فجاءت السمكة (حيث تتشكل الصورة من الحرف)، والطاووس رمز الخلود، والشاة رمز الوفاء، والواقعية التشخيصية مع الرفض المطلق للنحت. وقد عملَت العبادات الإمبراطورية على تدنيس النحت بل شيطنته، فالتأليه ونحت التماثيل أمرانِ مترادِفان. ولقد كانت التماثيل تعني، لدى الإمبراطور، التقسيمَ التربيعي المثالي للبلاد. فبما أنها تمكِّن من مضاعفة حضور الإمبراطور؛ فإنها تمكِّن من بثِّ عيونه في كلِّ مكان وفرضِ عبادته في كلِّ بقاع الإمبراطورية. لكنَّ الأباطرة البيزنطيين، نظرًا لديانتهم المسيحية، سوف يؤبِّدون طيلةَ قرنٍ من الزمن تحريمَ النحت التصويري (ومعه المسرح). كان حصر التصوير في الصورة ذات البعدَين (ومن ضمنها فنُّ الفسيفساء) يشكِّل مع القدسيَّة المختزلة للتمثيل شيئًا واحدًا. ولأنَّ الراهب الأفريقي تيرطوليان (١٦٠–٢٤٠م) خَشيَ من فتور هذا التحريم، فقد أدان مهنتي النحات والفلكي، وطالَبَ بتحويل الرسَّامين إلى صبَّاغي مبانٍ. والدساتير الرسولية التي تحدِّد الشعائر المسيحية سنة ٣٨٠م، تستثني من الكنيسة المومِسات ومسيِّري المواخير والرسَّامين وصانعي التماثيل. وحتى في القرن الرابع، اندهش الأسقف أوزيب، واعتبر أن التمثال المعجِز للمسيح، الذي تم نصبه في قيصرية بفلسطين، أشبه برواسبَ وثنية. ومع ذلك، لم تلبث الصورة أن تسربتْ للشعب المسيحي من الأسفل (عبر الاعتقاد في اللحود) ومن الأعلى (عبر المصلحة السياسية). لقد دخلَت الصورة من النافذة، أيْ عبْرَ الزينة الجنائزية الخصوصية، والصياغة والزجاجة، وكان الأمر في البداية انسياقًا أكثرَ منه قرارًا. فالبيئة المحيطة كانت مؤثِّرة، وآثار الإمبراطور تمحو آثار السيد الإقطاعي، مثلما أنَّ هرمس (حامل الشياه) يتصور في هيئة الراعي الطيِّب. هكذا توالَت البوادر العفويَّة على مذابح الكنائس لتمجيد الشهداء، وتم تحويل التحريم التوحيدي بواسطة الرمزية.
وبمقدار ما تعاقدَت الكنيسة مع القرون المتوالية بمقدارِ ما تصالحتْ مع الصورة. وبمقدار ما تنتشر الكنيسة في أرجاء الإمبراطورية بمقدارِ ما تنصاع للصورة والإمبراطورية معًا، وكأنها بذلك لم تتمكن من الاستغناء عنها لتجذير تعاليمها وجذب الناس لصفِّها. وكما لو لم يكُن أمامها سوى أن تُجيب على الصورة بالصورة، بما أن الخطاب الشفوي والمكتوب لم يكونا كافيَين لتحطيم أسوار الثقافة القديمة؛ وكما لو أنها لم تتمكن، بعد عشرة قرون من سيادة الوثينة، من تنظيم أجهزة نفوذها وتوحيد الأراضي والأمم بدون ضمانة بصرية دنيا، أي الحد الأدنى الحيوي لعملية المأسسة. هكذا نشأ علمٌ خاص بأحوال الضمير. وقد قَبلَ القديس بازيل على مضضٍ بأن صورة المسيح بإمكانها أن تدفع بالمسيحي إلى السير في طريق الفضيلة، يكفي فقط أن تكون «مصحوبةً بفصاحةِ الداعية.» وبدأ أيضًا التعرُّف على ضروب الاستعمال الحسن للصورة (وهي الاستعمالات التي منهجتْها المذاهب السكولائية خلال القرون الوسطى في ثلاثة: الاستعمال التربوي، والتذكاري، والتعبُّدي). ولكي يتم بسطُ النفوذ على البسطاء والسُّذَّج، وإشراك المؤمنين في الشعائر الدينية، ظهَرَ الموضوع الذي أصبح مشهورًا سنة ٦٠٠م مع غريغوار الأكبر، في رسالته إلى الأسقف المعادي للتصوير بمدينة مارسيليا: يمثِّل الرسم بالنسبة للأميِّين ما تمثِّله الكتابة بالنسبة للرهبان. إنه باختصارٍ إنجيلُ الفقراء. هكذا تمَّت الاستجابة لحاجة مزدوجة: حاجة الرهبان، وحاجة الأطفال. أليست الدُّمَى أصنامَ الصغار والأصنام دمى الكبار؟ إنه حلٌّ سهل أن تغدو الصورة عجلةَ الإغاثة للتعاليم المسيحية، «ذلك أنَّ من الأسهل مشاهدة الرسوم على فهْمِ المذاهب، وتشكيل الحجر على صورة الإنسان أسهل من تقويم الإنسان على صورة الرب» (كما قال دوملان).
لقد وقع لمعاداة الجماليات في الأخير؛ ما وقع لمعاداة النزعة العسكرية. لقد عرفا انهيارًا قويًّا بعد «وصولهما إلى السُّلطة». كان على المسيحي في القرنين الأولين للميلاد ألَّا يريق الدماء ولا ينظر إلى الصور. فحوالي ٢٢٠، حرَّم ترطوليان الانخراطَ في الحياة العسكرية، وارتياد أنواع الفُرجة معًا. لكنْ في القرن الرابع، بعد أن أصبح للدولة مشاغلها، تمَّ الانتقال من اعتبار «كل حربٍ غير عادلة» إلى «ثمَّة حروب عادلة»، بالشكل نفسه الذي تمَّ به الانتقال من اعتبار «كل صورةٍ صنمًا» إلى اعتبار أنَّ «ثمة صورًا مقدَّسة». وفي القرنَين الخامس والسادس زاد ثيودور وجوستينان من حدَّة الرجوع إلى التصاوير ذات الطابع الوثني، وذلك تحت غطاء معاداة اليهودية وبهدف القبض المتخيَّل على الجماهير. كانت ضرورة محاربة الوثنيين ملحَّة. ولكي تتم هذه الحرب في أحسن الأحوال؛ كان من اللازم توفير الجنود والصور لها. إنها رؤيا كونستانتان، الذي رأى صليبًا مشعًّا في السماء قبل أن ينال النصر على ماكسينس. ولم يكن الأمر يتعلَّق هنا إلا بعلامةٍ واحدة؛ فقد تراجعَت المسيحية، بالقوة التي امتلكتْها وبطموحاتها السياسية، من «الرمز» إلى «الإشارة» (حسب مصطلحات شارل ساندرس بورس) وأصبح البلاديوم الإمبراطوري هو القديس مانديليون الإيديسي، أي وجه المسيح الحقيقي المرسوم على خرقةِ ثوب. وحين نُقل عام ٥٧٤م إلى القسطنطينية، تمَّ استعماله في إعلان الحرب على الفُرس. بالإضافة إلى ذلك، غدتْ علامةُ الصليب، مع توالي القرون، الصورةَ المادية لعملية صَلْب المسيح، بثلاثة أبعاد، ومزيَّنة بما غلا ثمَنُه، ووسطها صورة المسيح المصلوب معذَّبًا وداميًا، بحيث يجتذب وَرَع المتعبِّدين. إنها أمارةٌ عاطفية وهدف لحجِّ المؤمنين، يُحمل في الطوافات العمومية. وبهذا فهي في الحقيقة صنم، لكنها عمادٌ لتقديسٍ شعائري شعبي، يتجاوز كونه موضوعًا للإجلال المطلوب؛ ليغدو موضوعًا للتأليه الإعجازي.
إنَّ الانقلاب المسيحي، باعتباره انعكاسًا للقلب المنبني على الخوف من الصورة، الذي صاحَبَ ولادة الديانة التوحيدية، يشهد على قدَرٍ معيَّن (هكذا تسمَّى الضرورات التي لا نستحبُّها) يتمثَّل في انتصار الكنيسة، بوصفها هيئةً، على الإنجيل باعتباره رُوحًا، وفي وقوع التنازلات الضرورية للروحي إلى الدهري الدنيوي. فالقرابين المقدَّسة والصور قد انتهتْ إلى الهيمنة على أولئك أنفُسِهم، الذين أرادوا تجريد الشيخ المترنِّح من ثقلِ التمائم والتعويذات والحجب. ألَا تكمُن في هذا ثوابت استكمال تكوين الهيئة وصيرورة المؤسسة؟ فالأمر يبدو كما لو أننا لم نكن متمكِّنين من أدوات السيادة، أو أن وسيلة المراقبة والتحكم التي نستعملها لا تلبث، آجلًا أو عاجلًا، أن تتحكم فينا. والتبشير يدعو إلى ذلك، واليهودية استثناء في هذا المجال؛ لأنها ديانةُ هويةٍ لا طموحَ تبشيري لها، بما أنها لا ترمي إلى الكونية. لقد كان إله «العهد القديم» يَدين الإنسان المتخيل، بيْدَ أن أتباع «العهد الجديد» لم يستطيعوا، في نهاية الأمر، أن يتخلوا عن الأصنام القديمة لكي يقنعوا الوثنيين بفكرة الخالق الأوحد. فالألوهية أيضًا تبدأ في شكلٍ صوفي لتنتهي إلى مآلٍ سياسي، أي في شكلِ صور.
لقد كان للأوائل الذين أعلنوا ملكوتَ السموات وثوقٌ كبير بالكلمة. وقد عبَّروا عن ذلك بالرموز والألغاز والحِكَم والأمثال؛ لأن الصوت وحده قادرٌ على إخراج نفَس المطلق، واللغة وحدها قادرة على استخراج معنًى ما من الكون المرئي. بيْدَ أن وسطاء المسيح الذين جاءوا بعدهم، وكذا الباباوات والأساقفة، أعادوا حقْنَ الفكرة بالصورة؛ لأنها وحدها التي تمنح جسمًا للرُّوح القدُس، وبدنًا للوعد الأكبر، ورايةً تنضوي تحتها الجماهير. لقد قام ناشرو الديانة بتلوين بياضِ وسواد الأنبياء لتوسيع دائرة المستمعين. فكما أنَّ حمم البركان حين تبرد تتحول إلى صخر، كذلك سقطَت انطلاقة التبشير اللادهري في التشخيص المادي. فهل يخاطر في ذلك بفقدان رُوحه؟ إنَّ رُوحًا بدون بدنٍ لم تُنقذ أبدًا إنسانًا؛ فالاختيار الصعب عسيرُ الحسم.
ثمَّة أمرٌ معتاد في التواترات العقائدية؛ حين تنتج عن الكلمة أو النصِّ الحقائقي المؤسسةُ الملائمة، كنيسةً كانت أو دولةً أو حزبًا، وحين تنتشر رسالة الخلاص الأكبر أو الثورة (وهي المقابل الدنيوي للعصر الذهبي) خارجَ حدودِ دائرتها الفكرية الأولية؛ آنذاك تدخل الممارسات التصويرية إلى المشهد وتتنامى. فالأمر يبدو كما لو أن الانتقال إلى الممارسة كان يضطر رجالَ الدِّين إلى إشباع الليبيدو البصري للعامة، ومن ثمَّة إلى زيادة حصة الإنساني في الإلهي والتقليد في التجديد، وحصة ثقل الصور في رونق العلامات. فقد لعبَت الطوائف المتسوِّلة في القرن الثالث عشر ورقةَ الصورة ضد طبقة الإكليريكيين العالِمة، وربحَت المعركة. وبهذا حرَّك الفرانسسكيون والدومنيكان المسيحيةَ من جديد.
وسواءٌ تعلق الأمر بطقسٍ عِبادي أو بعملٍ تحريضي أو بعملٍ تجاري؛ فإننا نجِد أنَّ الصورة في كل عصر للدعاية الاجتماعية تلعب الدور الكانطي للخُطاطية المتعالية. إنها بترجمتها للفكرة المجردة إلى مُعطًى محسوسٍ؛ تجعل المفهوم محركًا والمبدأ ديناميًّا. فالتصاوير هي الوسيلة العاشقة للأسطورة المحركة. وحتى القرار الترميزي والنخبوي وذو الطابع «اليهوداني»، المتمثل في تقديس العقل أو الوجود المطلق، سنة ١٧٩٣م، لا يدخل حيز التنفيذ إلا في تشخيص هذه الوحدة في شكلِ مواطِنةٍ شابَّةٍ راكبةٍ عربة بصورتها وجسدها. إنَّ القوة الغنائية للصورة لا تغيب عن أذهان أكثر اليعاقبةِ مثقفيةً؛ كما أنَّ دخول الصورة للحلبة، وأخْذَ مكانها في لعبة القوى، يعني إعدادَ الجيش العتيق للرغبة في الحرب، وتنشيطَ العُدَّة الخالدة للهذيان المتمثلة في الأماثيل والتشخيصات والصور الشخصية والرموز المصوَّرة. ومن ثَم تأتي قرارات الإعدام حرقًا وحروبُ ترسانات المجد؛ فلا يتم تحطيم أصنام العهد البائد إلا لفرض أصنامِ العهد الجديد. إنَّ محطِّمي تماثيل لينين في موسكو، سنة ١٩٨٩م، هم المدافِعون عن الكنائس سنة ١٩٩٢م؛ ففي الغرب لا تظلُّ قواعد التماثيل المحطمة فارغةً لمدَّةٍ طويلة.
ثورة العقيدة
يمكن تفسير التلاحم الأخروي اليهودي باليقين الانتمائي المتواتر عن الأم وروابط الدم. أمَّا المسيحيون فإنهم لا يشكِّلون شعبًا. هنا ليس ثمَّة من تكوينٍ عرقي للألوهية. وكلُّ شيء يتطلَّب الزَّج والإدماج والفهم بقوة اليد والتبشير والصورة. وبما أن الكتابة غير كافيةٍ؛ فمن اللازم اللجوءُ إلى الدعاية والتبشير.
إنَّ ظهور الإيمان الشخصي في العالَم الإثنولوجي للصورة، حيث يرِث المرء آلهته من المدينة ومن قبيلته أو من وِهاده، قد أبرز للسطح مشكلةً لا سابقَ لها تتمثل في الثقة والاعتماد. كيف يمكن الإقناع بالعقيدة؟ فلا الإغريقي ولا اليهودي يؤمن بآلهته. إنها هناك، مثل البردي والتل الرملي والعشيرة والهواء الذي يستنشقانه؛ وهما لا يطرحان على نفسهما مشكلةَ الإيمان وإنما مشكلة الهُوية. إنَّ يهْوه، كما هو حال زيوس، عبارةٌ عن ذاكرة؛ أمَّا يسوع المسيح فهو رهان. ومعرفة ما إذا كان الإغريق أو الرومان يعتقدون في أساطيرهم؛ ليست مسألةً ذاتَ أهميةٍ كبرى. بل من حقِّنا التساؤل إن كانت تلك المسألة وجيهة، وإن لم تكن مجرَّد تعميم مسيحي تمَّ إسقاطه على العالم القديم؛ فزيوس أو جونون، وأخيلوس أو عوليس، كانت آلهة تعيش «في أعالي الجو»، وفي التراث باعتبارها جزءًا من الهِبة الطبيعية. وهي بمعنًى ما لم تكن بحاجةٍ لاعتقاد الناس فيها كي توجد، مثلها في ذلك مثل جبل فيسو ومياه البحر المتوسط أو اللغة الإغريقية. هذه الآلهة، التي لا «ماضيَ» لها وُجدتْ دائمًا وأبدًا؛ فهي لم تكن مضطرةً لأخذ مكانِ آلهةٍ أخرى أقدمَ منها زمنًا وأرسخ في الذاكرة الشعبية أو أكثر أهلًا للثقة. أمَّا المسيح فهو قادمٌ جديد، ولا وجودَ له بذاته؛ إذ لا شيء ماديًّا يشهد على وجوده. فهو يتكون من اعتقادي فيه ومن إيماني ووثوقي بوجوده. وما إن ينمحي ذلك الاعتقاد، حتى ينمحي وجوده بدوره. إن مسألة الإيمان هنا تكوينية لا تأمُّلية. وبما أنَّ لا شيءَ محدَّد مسبقًا وأنَّ الأمر يتطلَّب إدخال الناس في الديانة الجديدة أفواجًا أفواجًا، عبر الاعتقاد في فرضيةٍ معينة؛ فمن الضروري ممارسة الإقناع. لذا كان التجمُّع من أجل التبشير تجديدًا غير مشهود في التاريخ الديني. فقد كان من الغرابة بحيث كان يشبه نغمةً مرِحة في أنشودةٍ رتيبة أو محركًا في سيل ماء.
حتى ظهور المسيحية، كانت العقيدة تسبق الانتشار وتوجد في استقلالٍ عنه. لكنْ مع المسيحية، أصبحت الدعاية والتبشير محركًا وشرطًا للعقيدة لا العكس. فالوسيط هو الرسالة؛ وهو جوهر المسيحية. والله لا يُعبد حيث يوجد الإنسان، وإنما يصاحب الإنسان حيثما حلَّ وارتحل، «من أقصى بقاع الأرض إلى أقصاها»؛ ومن الحواري إلى الوثني؛ ومن الأسقف إلى السجين. ومن المؤمن إلى الكافر؛ ومن باب إلى باب؛ ومن امرئ إلى آخَر. وليس من الغريب أن تكون هذه الديانة أول مَن فكَّر في التواتر والإرسال وطرح إشكالية دورها التبشيري. وعالِم الاجتماع والباحث المعاصِر، اللذان يتحدثان عن «التواصل» من غير الإحالة إلى هذه التقنية وهذا اللاهوت، يحرمان نفسَيهما من إضاءةٍ حاسمة.
إنها إضاءةٌ راجعة لحكمةٍ غير ظاهرة كلية. وخلال عدة قرون من الخلاف العقائدي والتعديلات، برزت في الممارسة المسيحية للصورة، في النهاية، نقطةٌ وسطى (بالرغم من أنها غير مضمونةٍ ومتحركة بالنظر إلى تواجه القوى الموجودة آنذاك). وهي نقطةٌ قد توحي بكتابة «رسالة في حُسن استعمال الصورة موجَّهة إلى الأجيال الصاعدة». إنها أشبه بمضيقٍ بين صحراءِ تحريم الصورة وواحةِ الصور الوثنية؛ قام بتعميقها، كل على طريقته وبالتتابع، بعد المجمع الديني الثاني بنيقية. هؤلاء، إذا ما نحن ذكرناهم تباعًا هم: القساوسة من حاشية شارلماني، وهم المؤمنون المعتدلون بالصورة الذين سوف تغدو كُتبهم بمثابة مرجعٍ للكنيسة اللاتينية في الغرب؛ والقديس طوماس الإكويني؛ ثم «وسطاء» القرن اﻟ ١٦؛ وعاشقو السينما الكاثوليكيون في القرن العشرين. إنَّ هذه الوضعية «الوسطية» ترفض تأليه الصورة لطابعها الوثني، وتدين الاحتقار الذي يعبِّر عن رفضٍ متعصب للعالَم، وتقبَلُ بالصورة كتوسطٍ ضروري في الجانب التربوي والشعائري معًا. إنها الصورة باعتبارها انتقالًا نحو الإلهي. هل يتعلق الأمر بالتشدُّد الجانْسيني أم بالإباحة الطرائقية؟ فبين تبشيريةٍ مؤمنة بالكلمة الخالصة وذات مردوديةٍ سياسية ضئيلة، ونزعة جمالية ذات منحًى وثني فعَّالة، ثمَّة تناقُض يجعلهما طرفَين أو قطبَين يمكن أن نمثِّل لهما بطرطوليان وسان برنار من جهة، ويوحنَّا الدمشقي ولويولا من جهةٍ ثانية؛ أو بالتجرد السستيري وزجاج كنائسه الوحيدِ اللون وبياض عباءة مؤمنيه من ناحية، وبالزهو القوطي المشعِّ من ناحيةٍ أخرى. وبين الطرفَين ثمَّة الْتماسٌ وتطلُّب متبادَل ودائم.
لقد كانت تلك الحيرة حميميةً وضرورية؛ وهي تفسِّر، بالرغم من ألف عام من الدربة على التصوير، تمزُّق الكاثوليكية الرومانية أمام ظهور السينما سنة ١٨٩٥م، كما كشف عن ذلك باحثان فرنسيان بخصوص فرنسا. فحين طُرح السؤال: «هل ينبغي تركُ العروض الضوئية المتحركة للمُعادين للإكليروس من أتباع الرابطة التعليمية البروتستانتية، أم يمكن لرابطة الصحافة الكاثوليكية استعمالها لأغراضِ التبشير الجماهيري؟» كان الجواب مزيجًا من الحماس في القاعدة والريبة والحذر في قمَّة الهرم الكنسي.
هكذا نشأ الجدال حول «القسم الضوئي»، الذي كان منتشرًا آنذاك في الكنيسة؛ هل للقسِّ المدرِّس الحقُّ في استعمال اللقطات السينمائية في أماكن العبادة؟ وحيثما تمَّ ذلك، كان النجاح منقطع النظير. بل إنَّ الناس شاهدوا في بعض الأسْقفيات، إضافةً إلى فيلم «عشق السيد المسيح» المصوَّر سنة ١٨٩٧م، «مواعظ صوم ضوئية». وفي سنة ١٩١٢م فقط، قامت روما، في شخص تجمعها المقدَّس وآبائها المبجَّلين، بسنَّ قرارٍ يقضي بمنع العروض الضوئية في الكنائس. هكذا كفَّت الكنائس عن أن تكون قاعاتِنا السينمائية الأُولى لتترك المكان لقاعات ريكس. وأصبحت القاعات السينمائية في الأحياء كنائسنا لا العكس. غير أنَّ ذلك لم يمنع كاثوليكيين فرنسيين متنوِّرين من الإجابة بالإيجاب على السؤال، الذي كان طرْحُه ضروريًّا آنذاك: «هل السينما ذات طابع أخلاقي؟» وذلك ضدًّا على إجماع عامة الطبقة الميسورة؛ بل إنهم أضافوا: «إذا لم تكن السينما كذلك؛ فعليها أن تصبح أخلاقيةً، وسنتكفل نحن بذلك.» ومنذ ١٩٠٩م، أنشأتْ مؤسسةُ الصحافة الكاثوليكية دارًا للإنتاج، وبدأتْ ترسل الكاميرات لاستوديوهاتها، وتصوِّر وتوزِّع فيلمَ عشق السيد المسيح. وحسب جريدة الفاتن (١٩١٢م)، «فإنَّ مقطوعة سينمائية أو فيلمًا مبرمجًا يغدوان مثل هزَّة كهربائية، بحيث إنَّ ارتياد الجماهير لتلك التجمعات يتزايد ويرتفع.» أمَّا الأب كواسَّاك، فقد ترك الجريدة ليؤسِّس سنة ١٩١٩م مجلةَ «سِنيوبْس» الناطقة الرسمية باسم الصناعة السينمائية. وفي عام ١٩٢٥م، قام بإصدارِ أول كتابٍ عن تاريخ السينماتوغراف.
الرهان الاستراتيجي
جاء تحريم التصوير من الشرق، ثم انغرس في الإسكندرية وأنتيوشة، ووصل إلى العالَم الإغريقي؛ بيْدَ أنه لم يجِد موطئًا له لا في روما ولا في مملكة الفرانكاويين. أمَّا الانشقاق الأكبر بين روما والقسطنطينية؛ فإنه لا يعود إلى الأيقونة، وإنما إلى المشكلة اللاهوتية التالية: هل ينحدر الرُّوح القدُس من الأب والابن، أم أنَّ مصدره هو الابن؟ غير أنَّ المواقف التصويرية كانت قد بدأت في وضع خطٍّ فاصِل بين غربٍ أكثر انغماسًا في السياسة وأكثر حركيةً واهتمامًا بالمظهر، وشرقٍ أكثرَ تصوُّفًا وجامدٍ، ومن ثَم أقلَّ اهتمامًا بالفعل منه بالوجود، سواءٌ كان ذلك فضيلةً أم رذيلة؛ فإن همَّ الغرب كان يتمثل في تحويل حالةٍ ما إلى فعل، ولم يكن لهذه الدينامية إلا أن تمرَّ بالصورة، باعتبارها مصدرًا للطاقة ووسيلةً للفعل في الآنِ نفسه. لقد كان لهرطقيِّي الصورة رهانُ الأولوية الدهرية. وقد نصَّ مَجْمَع نيقية سنة ٧٨٧م على أنَّ نشْرَ الصورة وتناقُلها مهمَّةٌ تخصُّ الكنيسة، «ووحده الفن (أي الإنجاز) يعود إلى الرسَّامين.»
لم تعرف الصورة الحريَّةَ في بيزنطة؛ فقد كان لها من السُّلطة ما يصعب معه تركُها بين أيدي أيِّ غريب (فتسامُح الأمير كان يرتبط عمومًا بضعفٍ ما يتمُّ التسامح بصدده). لقد كانت الصورة الملوَّنة أفضل من النَّص؛ إذ كانت تترك الرعاع والقرويين فاغِري الفاه. كما أنَّ الرفض اللاهوتي، كان أيضًا عبارةً عن تمرُّد للإكليروس المدني على الإكليروس النظامي الذي يملك لوحده حقَّ استعمال الصور المباحة. ولم تتساهل المؤسسة الإكليركية إلا بصعوبة في حقِّها في مراقبة الصورة وتسنين وضبط العمل الأيقوني. وقد كان لها في ذلك مبرِّراتها؛ أليس من الضروري ضبطُ القوى الغيبية وضمان التماثُل مع الأُنموذج؟ بل، ألَا يعني عدمُ وضع هذا الخزَّان من القوة في خدمة العقيدة الحقَّة، وضعَه بين أيادي الشيطان؟ إنَّ التحكم في ورشات التصوير، كان يعني بالنسبة للإمبراطورية، كما — فيما بعد — بالنسبة للسُّلطات المدنية الأولى في الغرب، التحكُّمَ في إحدى الدعامات الحاسمة للهيمنة. هكذا تداخلَت السياسة واللاهوت بشكلٍ محتوم.
ليس من المدهِش في شيءٍ أنْ يمرَّ تمجيد الخالق دائمًا أمامنا في شكلِ صور، من النقود والميداليات إلى تماثيل الأمير، مرورًا بأنصاب الإمبراطور وهي تنشُر وتعظِّم من هالته حتى الأقاصي. إنها تعبير عن الحظوة والخنوع في الآنِ نفْسِه. هل كان محطِّمو الأصنام البيزنطيون في القرن اﻟ ١١، والفرنسيون في القرن اﻟ ١٦، يهاجمون المبدأ الدَّنِس للتمثيل الإلهي، أم العسف الذي يمارسه محصِّلو فائض القيمة والضرائب؟ لم يكن لثائري كومونة باريس من حساب يصفُّونه مع نُصب فاندوم؛ وإنما كان لهم حسابٌ مع آل بونابارت. وكذلك كان أمر التمثال المنصوب أمام مقرِّ المخابرات السوفياتية بموسكو.
لنعبِّر عن الأمر بصيغةٍ أخرى: إن النزعة الروحانية المطلقة هي التي تمارس الإعدام على الصور، فيما أن الغرب ظلَّ مقاوِمًا للتطرفات الروحانية. وقد تطلَّب منه ذلك وقتًا طويلًا، كما يفسِّر ذلك — حوالي ٨٢٠ للميلاد — نيسفور البطريركي القسطنطيني، أب الكنيسة المؤمنة بالصور، الذي تمَّ نفيه من قِبَل الإمبراطور المعادي للتصوير ليون الرابع. وقد كان نيسفور يسعى إلى فرضِ عدم التمييز بين الدنيوي والروحاني وبين الإمبراطورية والكنيسة. فهو كان يرى في معاداة التصوير وتحريمه ما نسمِّيه اليوم «مسعًى كليانيًّا» ومسًّا بالعمل الإلهي المتمثِّل في خلاص البشر على يدِ المسيح. فالصورة، باعتبارها وساطةً بين السماء والأرض، تحمينا من النظامية المطلَقة ومن الفوضوية. فهي تضمن وحدة السلطتَين معًا؛ لأنها تربط بينهما من دون المزج بينهما، ولأنها تترك بينهما فجوةَ تماسٍّ. لهذا كانت الصورة بوصفها وساطة، بمثابة مصدرٍ للعلمانية وسط عالمنا، وغدتْ فيما بعد ضمانةً ضدَّ هيمنة التعصب المفرط. فليس ثمَّة أكثرُ خنقًا من ديانةِ كتابٍ تريد تطبيق الرُّوح حرفيًّا من دون مجازاتٍ وبلا هوامشَ للتأويل. إن الصورة تؤثث فاصلًا بين القانون والعقيدة، وهو فضاءٌ صغير للشطحات الفردية يمكِّن المرء من التنفس. ذلك أنَّ تشخيص المطلق، يُمكن قَبليًّا من التخفيف من إطلاقيته، ومن ثَم من تبعيده. فحيثما كان ثمَّة صور للإلهي فثمَّة تفاوُض معيَّن بين الإنسان وإلهه. هل يتعلَّق الأمر بإرادةِ قوةٍ خاصة نذرت الغربيين أكثر من غيرهم للتصوير؟ وهل كان بإمكانهم غير تملُّك هذه القوة الحربية؟ في أيامنا هذه، يدخل رئيس «خلية التواصل» مكتبَ رئيس الجمهورية ليُفصح له بصوتٍ جهوري وهو يلوِّح بنتائج آخِر استطلاعٍ للرأي: «لقد حان الوقت لكي نسلِّح أنفسنا باستراتيجيةِ الصورة.» وهذا الوقت قد حان منذ أكثر من ألف عام. أيُّ نبيل، مهما صَغرَ شأنه، سليل تفسُّخ محافظات الإمبراطورية، لمْ يهتمَّ بمصلحته الأكيدة في تناقل الصور وفي الإكثار من صوره الخاصة، سيما أنَّ الصور كانت نادرة؟ متى لم يهتمَّ الملوك، منذ شارلماني، بتنظيم عماد التأثير هذا وجرِّه لمصلحتهم ومراقبته؟ ثمَّة كلَّ أسبوع ندوةٌ حكومية تجري في أحد قصور الناحية حول «المشهد السمعي البصري». والندوة التي يديرها هذا الأسبوع وزيرُنا في الاتصال، قد لا تكون بنفس جديَّة وزخَمِ «الندوة» حول الصور التي دعا إليها مجلس الوصاية على العرش في «سان جرمان أون لاي» بضواحي باريس. وقد دامت الندوة عدَّةَ أيام مليئةٍ بالنقاش المنهجي الذي تواجه فيه لاهوتيُّو وبروتستانتيُّو السوربون، مُوكِلين الحُكم بينهم للملك، وخارجين في النهاية بصكوكِ براءة.
وبعد نصف قرنٍ من عملية إعاقة الليبرالية هذه، لم يعُد رهان حروبِ صورنا يكمُن في تحقيق الإجماع الداخلي للولايات المتحدة؛ وإنما غدا هو جوهرَ الذاتية العالمية. إنه يتجاوز البديل والتناوب المرحلي للنزعة التدخُّلية والعازلة لدى العمِّ سام. لقد غدا ذاك الرهان آليةً واستراتيجيةً في الآنِ نفسه. وغدا امتلاكُ تقنيات الفرجة والترفيه العالمي واجبًا من واجبات الزعامة. فالشيء المضاف الذي يمكِّن من تحويل التفوق الاقتصادي إلى هيمنةٍ سياسية؛ هو القوة العسكرية ذات الحرية في الاستعمال من جهة، ومدفعيَّة الصور من جهةٍ أخرى. وفي انتظار التفوق الاقتصادي، قام اليابان منذ زمن بمباشرةِ خطَّة الإدراكات الكونية. مَن يدري اليوم، إذا ما كان الرسم المواجِه لعنوان كتاب هوبز من نوعٍ عالمي «ليفياتان ٢٠٠٠»، الذي يمثِّل قلعةً وكاتدرائيةً وسيفًا حسب طبعة ١٦٥١م، سيكون عبارةً عن صورةٍ تُرادف بين الصاروخ الحربي ووالت ديزْني؟
كما يقوم بذلك انطلاقًا من فرويد وفي مؤلَّف رائع: J.-J. Goux, Les Iconoclastes, Editions du Seuil, 1978.
وهو الكتاب الذي نستقي منه المعلومات التي سنوردها لاحقًا. وانظر بصدد الموضوع نفسه المؤلفات السالفة الذِّكر لجاك ببريو.