الفصل الثالث

عبقرية المسيحية

إذا ما نحن حذفنا الصورة، فلن ينمحي المسيح وحده، بل معه الكون بكامله.

نسيفور البطريركي

تلقَّى الغرب التوحيدي إباحةَ التصوير من بيزنطة، عبْرَ معتقدِ تجسُّد المسيح. وبما أنَّ الكنيسة المسيحية لها تجربتها التبشيرية الخاصة وتشبُّعها بالاعتقاد في الطبيعة المزدوجة للمسيح؛ فقد كانت وحدها القادرةَ على فهْمِ الْتباس الصورة، باعتبارها قوةً إضافية وكشفًا للروح في الآن نفسه. ومن ثَم يأتي موقفها الغامض من الأيقونة والرسم، كما موقفها اليوم من السمعي البصري. أليس هذا التأرجُح ضربًا من الحكمة؟ فأمام الصورة لن يكون اللاأدري أبدًا مسيحيًّا بالكامل.

•••

لقد امتلك الغرب عبقريةَ الصور؛ لأن طائفة هرطقية يهودية ظهرتْ في فلسطين منذ عشرين قرنًا خلت، وكانت تملك عبقرية الوساطات. فقد وضعت بين الله والآثمين حدًّا أوسط هو معتقد التجسُّد. وهذا يعني أن بدنًا أصبح، ويا للفضيحة، «مظلةَ الروح القدُس». وبما أن الجسم الإلهي كان بدوره مادةً، فمن المنطقي أن تنجم عنه الصورة المادية. إن هوليود تنبع من هنا، أيْ عبر الأيقونة والباروكية.

كل الديانات التوحيدية بطبيعتها معاديةٌ للصورة ومحاربةٌ لها في بعض الأحيان. فالصورة في نظرها فائضُ زينة، وإيحائية في أحسن حالاتها، ودائمًا خارج الجوهري.

بيْدَ أنَّ سيد الرسَّامين ونموذجهم الأول يسمَّى القديس لوقا. لقد أرسَت المسيحية أُسسَ المجال التوحيدي الوحيد؛ حيث لم يُعتبر مشروعُ جعْلِ الصور في خدمة الحياة الداخلية عملًا أهبلَ أو تدنيسًا في أصله، أي المجال الوحيد الذي تمسُّ فيه الصورة صميم جوهر الرب والبَشَر. لكنَّ هذه المعجزة لقيتْ مشكلاتٍ في طريقها، وظلَّت ملتبسة. ولقد كادت محاربةُ التصوير في بيزنطة (أو بعدها بثمانية قرون وإن بحدَّةٍ أقل، الكالفينية) أنْ تُعيد الشاةَ التائهة إلى القطيع والاستثناء إلى القاعدة. ولو أن «الطريقة الإغريقية العتيقة»، التي اعتبرها فاساري اللاتيني باحتقارٍ «فظةً ووَقِحةً ومسطَّحةً»، كانت قد تلاشت أمام تلك الحرب؛ لمَا كان بالإمكان تصور وجود فنانين كسيمابو وجيوتو؛ والحال أنه بدون سلالتهما لم يكن للغرب أن يغزو العالَم.

الكتاب المقدَّس وتحريم الصورة

قال يهْوه يومًا: «لنخلُق الإنسانَ على صورتنا.» لكنْ، ما إن انتهى من ذلك حتى قال للإنسان: «لن تصنع أصنامًا» (الهجرة، ٢٠: ٤). وأضاف قائلًا لموسى: «لن تستطيع النظر في وجهي، فما من مخلوقٍ ينظر إليَّ إلا ويصيبه الهلاك» (نفسه، ٣٠: ٢٠). فالربُّ الحقيقي الذي تتحدث عنه الكتابات يُكتب اسمه بلا صوامت، وهذا الاسم العسير النطق لا يقبل النظر. «وليكرم اسمه» لا صوره. وحين ظهر يهْوه لشعبه، كان ذلك من وراء حُجب الضباب والدُّخان. وقد كان ذلك أيضًا في المنام، كما حدث ذلك لإبراهيم وإسحاق. إنه يتفادى النور ونظر بني البشر. فاللاهوت التوراتي ليس مذهبًا إشراقيًّا، و«عصر الأصنام» لم يتقاطع مع اليهودية التي يظلُّ معتنقوها قومًا انعزاليين. إن وسائط الرب اليهودي تتمثل في الكلمة، والرؤى الحلمية في العهد القديم تجد قيمتها في الشريط الصوتي، فيما أنها تظلُّ صامتةً في العهد الجديد، حيث الصورة لا تحتاج إلى الكلمة وتملك معناها في ذاتها. والرؤيا لدى أهل الكتاب الأرثوذكسيين لا تخصُّ إلا الأشياء العابرة والقابلة للفساد، أي الأصنام والآلهة المزيَّفة؛ إذ يمكن التعرف على هؤلاء بكونهم قابلين للرؤية والملمس، مثلهم مثل قِطَع الخشب. والهزء كل الهزء أنَّ الأمر يتعلق بالتمثال المقدَّس. أيُّ إله هذا الذي يمكننا كسره والرمي به أرضًا؟ أيُّ كيان لا نهائي يقبل بحصره في حجم معين؟ فالمعبد فارغ مثله مثل سفينة نوح. وإذا كان المتنبِّئون يملئونه بالدُّمى؛ فإن الأنبياء الحقيقيين يعلنون دينهم بدون تعيين. وحدها الكلمة قادرةٌ على قول الحقيقة، أمَّا الرؤيا فهي تعبِّر عن قوة المزيف. وإذا كانت العين الإغريقية مرحةً؛ فإن العين اليهودية ليست عضوًا زاهيًا، وإنما نحسٌ لا يبشِّر بالخير (فالعين كانت في القبر، وكانت تنظر إلى قابيل). في الصحراء التوحيدية، قد يصبح الأعمى ملكًا، لكنَّ ملكًا إغريقيًّا فاقدًا للبصر يفقد معه تاجه. العين هي العضو التوراتي للخداع واليقين الخادع، والذي يتمُّ بسببه عبادة المخلوق عوض الخالق وتجاهُل الغيرية الجذرية للرب، الذي يتم اختزاله في عنصرٍ من العناصر المشتركة للفساد، كان طائرًا أم إنسانًا أم مخلوقًا زاحفًا أو بقوائم؛ فالكافر يبتغي الحياة الدنيا بالعين، أمَّا المؤمن فإنه مملوك بعينه. ألَا تشكل الرؤى بلاءً ابتُلي به حامي الشعب المختار المصريين؟

جاء في التوراة: «إنهم لضالُّون، أولئك الذين يخدمون الصور»، «اللعنة على مَن يصنع صورةً منحوتة»، «أحرقوا بالنار الصور المنحوتة». إنَّ الإلحاح في اللعنة جعلنا نحسُّ بحضور الخطر. فثمَّة، على ما يبدو، تهيُّج في العقاب الذاتي. وما لا يوجد بالممارسة، ليس بحاجةٍ إلى التحريم. ونحن نعرف أنَّ معبد سليمان كان يحتوي على تماثيل للثيران والأسود (بل نحن نعاين واجهة المعبد في بعض نقود الحرب اليهودية الثانية). ولقد تم العثور، عدا الأشكال الهندسية والتزيينية المباحة، على تصاويرَ يهوديةٍ ذات تأثيرات إغريقية وشرقية تخرق مبدأ التحريم، وذلك في القرون الأُولى من التاريخ.١ لمَ لا إذنْ تُنشر التوراة مصوَّرةً، وقصة إستير ومردوخ بالحكاية المصوَّرة BD؟ إنه اقتراحٌ تدنيسي، لكنَّ جداريات الكنيسة اليهودية دورا أوروبوس على نهر الفرات، ذات الطابع الإيهامي، شاهدةٌ عليه (وهذا المثال يعود إلى القرن الثالث للميلاد، لكننا على علم بالنُّسخ المخطوطة من التوراة، المصحوبة بالتصاوير المنمنمة والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر). وهو دليلٌ على أن قراءة التوراة بدون رؤية الصور، كان عملًا عسيرًا. فصحائف التوراة توجد ماديًّا في الحائط وسط الكنيسة اليهودية ضمانة على الحضور.

مع ذلك، فإن التوراة تزاوج بوضوحٍ بين الرؤية والخطيئة. فقد جاء في سِفر التكوين: «وقد رأت المرأةُ أنَّ الشجرة ذاتُ طيبٍ وأنها ممتعةٌ للنظر.» صدَّقت حواء عينَيها، ووقعت تحت فتنة الحية؛ فانصاعتْ لرغبتها. حذارِ من الشرك! إنها صورة الفرج المسنن. كلُّ خطيئة للصورة هي خطيئةٌ جسدية، فإذا كان الانفلات من النظام يتمُّ بالعينَين؛ فأصيخوا السمع إذن كي تكون طاعتكم كاملة. البصري عنصرُ خطيئة؛ فهو فتنةٌ وشهوةٌ ولعنةٌ للغافلين. لا تركعوا أمام الصور الغرائزية والمشاغبة والساخنة. فمدينةُ بابل المومس تعجُّ بالاستفزاز السمعي البصري للحقيقة الباردة للكتاب المقدَّس. والساحرة تسحر بالإيقاع في الشرك، إنها تمتصُّ مثل المِحجم، وتدهن وتعجن العلامة الذكورية والمجردة في انحدارٍ لطيف. الصورة بشر، ومادة مثلها مثل حواء. وهي خيالٌ وعذراء وهوجاء. كما أنها سيدةُ الخطأ والزيف. إنها شيطان يلزم استخراج الشرِّ منه، بل إنها أنشودة حورية البحر. وكما كان يقال في الأوساط اليهودية ذات الثقافة الهيلينية في القرن الأول: «كانت فكرة صُنع الأصنام في أصل المضاجعة.»

لقد عرف الترادف بين المظهر والشبق صعوبةً كبرى في البقاء، حتى في عزِّ المسيحية. فطرتوليان القرطاجني، الذي كان يرى في عبادة الأصنام «أكبر الجرائم التي اقترفها النوع الإنساني.» والذي كان المهاجِم المسيحي الأكبر للصور، سوف يكون الجلَّاد الملحاح للزينة النسائية. كان يراقب كل شيء ويتحكم فيه، من الأصباغ إلى الفستان مرورًا بتصفيفة الشَّعر وأحمر الشفاه والعطر، حتى طول الحجاب الذي تتزين به الفتاة المسيحية في التجمعات الشعائرية. وسوف يشكِّل كالفين، أحد محاربي الصور المتأخِّرين، صدًى له في كتابه: «المؤسسة المسيحية» بقوله: «لا يمكن للإنسان أن يسعى لعبادة الصور أبدًا من دون أن يتوهَّم باستقاء متعةٍ جسدية شاذَّة من ذلك.»
ثمَّة أنوثةٌ أكيدة في الصورة المادية. فالعَذْراوات الكاثوليكيات المصورات يجمعْنَ بين اللُّغزَين؛ ذلك أنَّ «الأيقونة مثل أمِّنا العذراء تشكِّل وسيطًا مرئيًّا بين الإلهي والإنساني، وبين الكلمة وجسمها، وبين نظرة الربِّ ورؤية بَنِي البشر.»٢ والاضطهاد الطهراني للصور، الذي يثوي وراءَ رفضِ عبادتها، لا يمكن إلا أن يترافق بقمعٍ جنسي معلَن إلى هذا الحدِّ أو ذاك، وبالتهميش الاجتماعي للنساء. فإذا كانت الكلمة تفصل؛ فإن الصورة تربط الكائن إلى مكانٍ وعادةٍ ما. والبدوي الرحَّال، الذي يوقف ترحاله، يهشم طهارته وينصاع لِلَحاق الصنمِ به، باعتبار هذا الأخير صورةً ثابتة وثقيلة ونكوصًا إلى الأمِّ المستقرة. إنَّ ديانات الكتاب التوحيدية؛ دياناتُ آباء وإخوة يحجبون البنات والأخوات كي يقاوموا جيدًا الانصياع لفتنة الصورة النجِسة. ومن الجرأة اعتبارُ التحريم اليهودي للتصوير شكلًا جذريًّا من أشكال تحريم زنا المحارم، والنظر إلى غضب موسى على عبدة الأوثان باعتباره «خطرَ الإخصاء المصاحِب للحُب المحرَّم للأم.»٣ لكنَّ ذلك لا يعني أنْ نرى وراء ذلك الهوسِ الملحاح العودةَ إلى الحضن والخدر والأمومية المتخيَّلة. إنَّ سراب الصورة يحيل إلى مرايا إيروس. هكذا ندرك قوة التأثير الذي حملته الديانات التوحيدية للصنم. إنها المراوحة بين الجاذبية والإنكار، والتناوب بين التقريظ والإدانة التي عرفتْها الخصومة المسيحية مع الصورة. فالحُب المُشرب بالاحتقار للمرأة (باعتبارها ساحرةً وخادمة، ساذجة ومؤمنة، شيطانية وإلهية) انعكس على الصنم. وكلُّ مَن سعى إلى تحطيمها، كان يرغب في كبح نزواته وغرائزه، وتحطيم الحيوان أو الشيطان الذي بداخله. فالرافض للصور والأيقونات، هو في العموم زاهدٌ محمَّل بمهمةٍ تطهيرية، أي العكس تمامًا لرجل السلام. لذا فإنَّ العنف سيكون لاهوتَ الصورة؛ والمعارضون لها سيُشهِرون للتوِّ سيوفهم. ومن ثَم يأتي جانب «تصفية الحسابات» و«الجرائم العاطفية» التي خلَّفتها معارك الرافضين للتصوير؛ فالمتعصب يجلد نفسه ويكفِّر عن ذنوبه عبْر عدوِّه اللدود. إنه شخصٌ ضامر، وهو متهم بالهرطقة، لكنْ بينه وبين نفسه. لذا فهو يتهجَّم على جسمه هو. فكلُّ سادو-مازوخيي التحريم اليهودي المسيحي القديم للصورة؛ يصرخون وبيَدِهم فُئوسهم: «لن تمرَّ غرائزي.»

ثمَّة الصوت والبصر والمعنى والحواس. واللغة نابعة من الأب كالقانون؛ فهي يدوية وصواتية وبعيدة، والإله المجرد لإسرائيل خالص من المظاهر، وهو كلمة خالصة. وستكون الكنيسة اليهودية ذات الأبواب القوطية امرأةً معصوبة العينَين. أمَّا الصورة الأكثر همجية، فإنها تأتينا من الإلهة الأم باعتبارها تناظرية وصوتية ومحسوسة. وإذا كان المسيحي يتَّجه إلى ابن الإنسان عبْرَ الأمِّ ونحو المعنى بالبصر، أو إذا شئنا، إلى اللوغوس بالأيقونة؛ فإنَّ يهْوه يتوارى كليةً خلف الكتاب باعتباره الغرفةَ السوداء للرمزي. أمَّا يسوع والعذراء مريم؛ فإنهما يلمعان في خلفية الإصطبل، تدَغْدِغ هيئتهما شمعةٌ، بحيث يقدِّمان نفسَيهما في منظرٍ مضيء ومُعتِم لنظرات الجيران، فيما يطلُّ الملوك المجوس على الطفل الرباني؛ هذه الكلمة المعروضة منذ ذاك الحين لكل أدران التصوير.

ديانة التوحيد المنشقَّة

لقد حُسمتْ مشروعية الصور في المسيحية، في المبدأ، وسط النزاع الدامي حول الصور خلال المَجْمَع الديني المُنعقِد بمدينة نيقية سنة ٧٨٧ للميلاد. بيْدَ أنَّ هذا القرار لم يُعلِن نهاية الحرب الأهلية التي دامت حتى سنة ٨٤٣م، بوصفها «انتصارًا للأرثوذكسية». فقد كان ثمَّة طرفان يتواجهان منذ أكثر من قرن في العالَم البيزنطي: أعداء الصورة الذين كانوا الطرف الغالب في الإكليروس المدني وفي البلاط والجيش؛ وأتباع الصور، وهم أغلبية الإكليروس الكنسي من رهبان وقساوسة. وقد نصَّ المرسوم الذي أصدره المَجْمع الديني ليس فقط على أنَّ مَن يتعبد بأيقونات المسيح والعذراء والملائكة والأولياء ليس وثنيًّا، لأنَّ «الإجلال الذي تلاقيه الأيقونة يذهب للأنموذج.» وأيضًا لأنَّ رفْضَ هذا التبجيل «هو رفضٌ لتجسُّد الكلمة في الرب.»٤ ولقد كان هذا المجمع السابع آخِرَ مجمعٍ مسيحي شامل شاركتْ فيه كنائس الشرق والغرب المسيحي. فقد قام بقلب الأولوية المطلَقة للكلمة على الصورة كما عرفتْها اليهودية، مؤكِّدًا بالتأثير الذي مارستْه الثقافة البصرية الإغريقية على المسيحيين. وكان القرار الأول للمجمع، الذي يمنح المشروعية للتشخيص التصويري للنعمة والحقيقة عبْرَ صورة المسيح سنة ٦٩٢م، قد أسَّس عقيدةَ الصور على عقيدةِ تجسُّد المسيح (وقد استوحى يوحنَّا الدمشقي لهذا الغرض الأفكارَ الأفلاطونية الجديدة). إنَّ مرور سبعة قرون، والدماء التي سالتْ قبل المصادقة اللاهوتية على مؤديات العقيدة المؤسِّسة للصور، يوضِّح صلابة قُوى الجمود التي وقفتْ في وجه نفاذِ الجسدي في الإلهي هذا. وما زال قرارُ سنةِ ٧٨٧م ساريَ المفعول إلى يومنا هذا في الكنيسة، التي لو لم تتشبث بموقفها مَا استطاعت تحطيم هجمات «مُعْدمِي الصورة». وسواءٌ كنَّا مؤمنين أم لا؛ فإننا نَدين بالانفلات من التعبُّد الخطي بالرب، على الطريقة الإسلامية، إلى هؤلاء «البيزنطيين» الذين يقال عنهم باستخفافٍ إنهم كانوا يتناظرون في جنس الملائكة. فبفضل حدَّة ذهنهم، لم تحرق الشعلة الزُّهدية الغرب.
لقد عبَّدت فكرة «تجسد المسيح»، أو تخيُّل الرب، الطريقَ. فهي تسهر على نشْرِ وتوزيع الإلهي عبر العالَم تبعًا لاقتصاد العناية الإلهية. وقد قال نيسفور: «مَن يرفض الصورة يرفض معها الاقتصاد.»٥ فما يمثِّله المسيح بالنسبة للربِّ تمثِّله الصورةُ بالنسبة للأُنموذج المحتذَى. وبما أنَّ الابن يسعى نحو الرب؛ فعليَّ السعي نحو صورةِ الابن بالنية نفسها في التشبه والتمثل به. ومن ثَم تنبع ضرورة الخفاء للوصول إلى اللامرئي. ولا يخفى أن الاقتراح القائل بأن الابن هو الأيقونة الحيَّة للرب اللامرئي موجودٌ في إنجيل يوحنَّا: «مَن يراني يرى أيضًا الأب.» إنَّ لاهوت الصورة ليس سوى نتيجةٍ منطقية لعِلم المسيح ودراسته (كما هو الأمر مع الوسائطيات، باعتبارها علمَ مسيحٍ متأخرًا، منعكسٌ في الدائرة الدنيوية). وقد كانت، الموجة المحاربة للصورة التي أطلقها ليون الثالث في بيزنطة، في بداية القرن الثامن من آخِر الهرطقات الكبرى التي مسَّت عقيدة تجسُّد المسيح. طبعًا لم تكن تلك الموجة تنفي التجسيد، لكنها كانت تمنح عنه تأويلًا حصريًّا (فهي لم تكن تقبل مثلًا، كترجماتٍ مقبولة للوحي، إلا رمزَ الصليب، وسرَّ القربان المقدَّس والحكم).

أمَّا الأرثوذكسي فإنه يُجيب بأنَّ الجسم والصورة إذا اجتمعا كان ذلك حشوًا. فكلُّ شيء يأتي أو يُرفض بالمرة. والصورة بوصفها وساطةً لوسيط وحيد، وهي علائقيةٌ مثله، تنبع من تجسُّد المسيح من غير أن تحطَّ من شرِّها. إنها حيلةٌ من الرب، مثله مثل الابن، الذي يمنح الربَّ من خلاله نفسه للرؤية لهؤلاء المبصرين التعساء. إنَّ طيبوبة الربِّ تضاهي الجيد وطيبوبة الصورة أيضًا، أي استعمال نظرة البشَر وضعفهم كي يتحقَّق خلاصهم بشكلٍ أفضل، وهو ما يجعل من الرب المسيحي أكرمَ وأخصب من نظيره اليهودي. فالمسيح لم يحظَ بالتصوير في حياته، ولم يكن له سوى أن يمثِّل نفْسَه بنفسه وذلك بوضع بصمته على الثوب. وكلُّ الصور التي صُنعت للمسيح حيًّا ليست من صُنع يدٍ آدمية. لكنْ بعد البعث أصبح كلُّ واحد حرًّا في الاستمرار لحسابه الخاص في إطالة السلسلة المحاكاتية للصور والأجسام. ولأنَّ تجسُّد المسيح هو الرَّحم الأول لوساطات اللامرئي في المرئي؛ فإنه يؤسس توالُدًا لانهائيًّا للصور من الصور، لا يكون حشوًا أو تحصيلَ حاصل أبدًا، وإنما تنافسيًّا وتحفيزيًّا. العذراء ولدت المسيح، باعتباره «صورة الرب» (وهو تعبير يطلق على الضمير الثاني من الثالوث المقدَّس)، وعن المسيح صدرت الكنيسة بوصفها صورة المسيح، والكنيسة أنتجت الأيقونات، هذه الصور التي توقظ بدورها الصورة الباطنة لابن الرب في قلوب أولئك الذين يستنيرون بهديها.

أما مُنكِرو الصور فإنهم يعترضون بقولهم إنَّ الإلهي لا يقبل الوصف، لذا فإن كل صورة له لا يمكن أن تكون سوى صورةٍ زائفة وغير حقيقية، خادعة وغير مشابهة للأصل. من ثَم، فالروحاني واللامرئي مترادفان. هذا الزوج العتيق هو الذي كسرتْه المسيحية باعتبارها ثورةً في ميدان الوحي. وها هي المادة تساهم في تحمُّل جزءٍ من الطاقات الإلهية عوض أن تسدَّ عليها الطريقَ. وبالرغم من أن خلاص الروح ليس مستقلًّا عن الجسم فإنه يمرُّ من الجسد، قبره القديم، وبأجساد الجسم هذه المتمثلة في الصور المقدَّسة التي تحيي المخلِّص. الخارج هو أيضًا الداخل. إنه الانقلاب الذي يمارسه «الجسم الروحاني». بل إنه خلاصُ ما ظلَّ يُعتبر مُخزيًا؛ البطن هو ما يصلح للفناء، والحلق للكلام، والنَّفَس الإلهيُّ يمرُّ من فمي. لم يعُد ثمَّة من تعارُضٍ بين المتعة المحسوسة وزهد الخلاص. وبما أن كل مجد ليس مبعثَ غرور؛ فإننا بإمكاننا التوصُّل إلى اللامرئي بأعيننا البصرية فيغدو الخلاص واقعيًّا والموهبة التي يملكها الكاثوليكي في النِّضال هي الموهبة نفسها التي يمكلها في الصور وصناعتها وفهْمِها. إنَّ إعادة الاعتبار للبدن تؤسِّس لنشاطيةٍ بدون توقُّف أو ضفاف. فعلى هُدى الانطلاقة الأُولى لبيزنطة الانشقاقية، استطاعت الكنيسة البابوية والرومانية الانفتاحَ على التقنيات الأكثر دنيوية للصورة، بدءًا من الفرجة القديمة للظلال حتى السينما. الوهم البصري لا يخيف أبناء القديس أثاناز والقديس سيريل (فقهاء تجسُّد المسيح) الذين يعرفون أنها تدخل في الخطة الإلهية. إنه بالعكس يساهم في نشره. فهو قد طلب، في القرن اﻟ ١٢، من اللوحات الزجاجية ومن الألوان المتغيرة التي تعكسها الرسوم الزجاجية النجمية والدائرية في العتمة المضيئة للكاتدرائيات باعتبارها — فضاءاتنا السمعية البصرية الأُولى (بأُرغُنها، وأناشيدها وأجراسها) — «تصويرَ القدس السماوية»، كما قال دوبي. ولم يكتفِ اليسوعيُّون في القرن اﻟ ١٧ بتحفيز الرسَّامين ومنحِ الصورة مكانةً أساسية في البلاغة، بل اهتموا بنشاطٍ بعِلمِ انعكاس الضوء وبالعجائب التي تمنحها المِرآة، ولم يتناسوا فنَّ التزييغ anamorphoses ولا العروض الضوئية. فالمصباح السحري لم يكن ابتكارًا مباشرًا لأبٍ من آباء الكنيسة، بل إن يسوعيًّا ألمانيًّا، هو أثاناز كيرشر، هو الأول الذي قدَّم تفسيره التقني واللاهوتي في كتابه: فن الصفحات الزجاجية والظِّلال، سنة ١٦٤٤م.٦ لقد كان الأب أثاناز مهندسًا وعالمًا يضع الصفحات الزجاجية في خدمة الإيمان، مثيرًا الموت والأشباح، دون أن ننسى مهامَّه التربوية. لم تهرب الكنيسة من آثار السحر ومن أكثر اللعب المرآوية غموضًا، بل حاولَت استغلالها أفضلَ استغلالٍ كي تعلم المبادئ الأُولى للديانة.
في الحقيقة، إنَّ أقدم أجهزة الإرسال وأقواها في الغرب، المتمثِّلة في كنيسة الرب، الوريثة لتقليد نعمةٍ وفضلٍ شبيه ﺑ «الملحمة الحقيقية للصورة»؛ لم تفاجئها إذن التِّقانات الجديدة. فمنذ ١٩٣٦م، خصَّص البابا بطرس الحادي عشر رسالةً بابوية للسينما. ثم قام خَلَفه بتخصيص رسالةٍ بابوية للتليفزيون منذ ١٩٥٧م جاء فيها: «إننا ننتظر من التليفزيون نتائجَ ذات مدًى بعيد، عبْرَ الكشف عن الحقيقة الساطعة باستمرار لذوي العقول الوفية.» لقد اعتنقَت الكنيسة القرن البصري بسهولةٍ غير محرجة بالنسبة لأولئك الذين يعرفون ما يفصلها، على هذا المستوى، عن أخواتها كنائس الإصلاح الديني. ومن دون الحديث عن الفاتيكان الثاني وعن جان بول الثاني النجم الكبير، وعن التجهيزات السمعية البصرية الأكثر حداثةً في المقر البابوي — فهي موضوعاتٌ سهلة — سنتعرض لبعض التفاصيل الدالَّة في فرنسا فقط. المجلة الفكرية الوحيدة غير المتخصصة التي تتناول بجديةٍ وتقرأ بانتظامٍ الأعمالَ التشكيلية والسينمائية والتليفزيونية؛ هي مجلة Esprit (الرُّوح) التي أسَّسها مونييه سنة ١٩٣٢م. وقد خصَّص مديراها الأخيران دراسات ممتازة عن المجال البصري قديمًا وحديثًا.٧ وسلسلة «الفن السابع» التي تجمع نصوصًا فكرية عميقة عن السينما، تُصدرها دار النشر لوسيرف، التي يشرف عليها القساوسة الدومينيكانيُّون. وأفضل مجلة أسبوعية عن التليفزيون، التي تشكِّل ملجأ أخيرًا لأخلاق الصورة، هي تليراما. كما أن النقد السينمائي (في أوْجِه) وعلى رأسه أندري بازان؛ لم يكن فقط ذا مسحةٍ مسيحية وإنما كاثوليكية. فلْنحيِّ إذن مرحلةَ نيقية الثانية.

الرحمُ التجسُّد

فيمَ يُعتبر شخصُ المسيح رمزًا لكلِّ تمثيل؟ في كونه اثنَين: إنسانًا وإلهًا، وكلمةً وبدنًا. وذلك هو حال الصورة المرسومة؛ إنها بدن مؤلَّه أو مادة متسامية. فالخالد تحول إلى واقعة كما يغدو الرب عبر زجاجيات الكنائس لونًا. إن الحدث الأول، باعتباره السنة الصفر لعصرنا، فريدٌ، لكنه يتقافز في كلِّ لعب للضوء والمواد، وذلك منذ المجمع الديني بكالكيدونيا الذي أقر سُنَّة تجسُّد المسيح (سنة ٤٥١م) حتى متحف الفن الحديث بوبورغ. لم تتغير الصيغة اللاهوتية للرسم: «الوحدة الأقنومية»، أو «طبيعتان مختلفتان وشخصٌ واحد». للمسيح خصائص الإنسان كلُّها وخصائص الرب بأتمِّها، وهي الخصائص التي تنصهر ببعضها البعض من غير تشوُّه. إن لوحةً ما تمتلك كافَّة خصائص المادة وكافَّة خصائص الرُّوح؛ ومن ثَم، ذلك التناوب المزعِج. فأنا مادة بالنظر إلى السناد والمساحة، وأنا رُوح بالنظر إلى دلالاتي التي تتجاوز المواد المستعملة. فأي جهة نختار؟ وأي اتجاه نأخذه في مجال الفن، الاتجاه المادي أم الروحي؟

كان فوسيون يشبه الفنان بالسُّنتور، ذلك الحيوان الخرافي الذي يجمع في خلقته بين الثور والإنسان. ويمكننا أن نشبهه نحن أيضًا بوسيطٍ حائر بين صيرورته كلمةً وصيرورته بدنًا؛ إنه نفْسٌ ومادة. ففي الجانب النفسي يسعى الفنان إلى التماثل مع الكاتب والساحر والمفكِّر، وفي الجانب المادي مع الصانع المنصِت للطبيعة والنور. التشكيل فنٌّ هجين طيلة مسيره. إنه مثل صورة المسيح في تاريخ المسيحية، التي انزاحت يسارًا باتجاه خط الكلمة ويمينًا باتجاه خط البدن. الفنان ماطا Matta كلمةٌ والفنان سولاج Soulages بدن. وهذا المفترق يحكي تاريخ الفن الغربي، الذي تتقاطع تحولاته مع الخطوط الفاصلة في النقاش الكبير الذي دار حول مسألة تجسُّد المسيح. فبين الذين يرسمون ما يعرفون والذين يرسمون ما يحسون، عرف التشخيص الهرطقات والبدع المتناقضة نفسها التي عرفتْها الكنيسة. هناك القائلون بالطبيعة الواحدة للمسيح، الذين يرجِّحون درجةَ ألوهية المسيح ويُعلون من موقع الرُّوح في الأشكال. وهذا يخلق فنًّا تباعديًّا حيث تتوارى حيوية الفن وراء المعنى، وحيث يسود الطابع الهندسي والتشذيبي والتصوري. هنا ليست اليد هي التي ترسم وإنما الروح والبصيرة، وموضوعها هو اشتغالُ الفكر. وهناك النِّستوريون الذين يرجِّحون كفة الإنساني في المسيح والمادة في الأشكال. وهذا ما يُنتج فنًّا تجسيديًّا يمنح الأولوية للقيم الملموسة ولآثار العجين وللحركات، ويتجه نحو الطبيعة والنور. عدسة العين هي التي تتحكم هنا في تصوير الطبيعة والجسد العاري، أما الموضوع فهو بذرة الأشياء. وإذا كان الاتجاه الأول هو خط كالفين الطهراني الشمالي، فالثاني هو خط لويولا Loyola الحسي والجنوبي. والاتجاهان منفصلان. الراءون ضد المتجسِّسين، والحرب بينهما مستمرة. إنها حربٌ يومية.
إن هذه الوضعية الوسطى بين المادة والفكرة التي يمنحها هيجل للفن عمومًا — والتي «يحتل بمقتضاها الحد الأوسط بين المحسوس المباشر والفكر الخالص» — يمكنها أن تحدِّد جسم ابن الرب. «إنه ليس بعدُ فكرًا خالصًا، غير أنه بالرغم من طابعه المحسوس لم يعُد واقعًا ماديًّا خالصًا كما هو حال الأحجار والنباتات والحياة العضوية.»٨
الصورة المصنوعة، مثلها مثل المسيح، عبارة عن مفارقة. إنها واقع مادي ذو حجمٍ معيَّن قابل للتنظيف والنقل والخزن والحماية، لكنَّ كيانها لا ينحصر فقط في مجموع من العناصر المادية؛ اللوحة أكثر من كونها قطعة من الثوب الملوَّن، كما أنَّ خبز القربان يتجاوز كونه قطعةً من الخبز. والعملية الجمالية العجيبة عجَبَ سرِّ القربان المقدس، لا تتمثَّل في التحويل الجوهري للمادة إلى رُوح. المسيح ليس قطعةً من الخشب المطليِّ بمهارة والمصبوع، بل هو صَلْب. إنه لحمٌ ودم. وكما قال غاسبار شوت سنة ١٦٥٧م: المِرآة هي المسيح؛ فالمرآة تجعل من النور الأبدي أكثر لمعانًا، وانعكاساتها تشبه القرابين.٩

إنه مجازٌ فعلي غدا معياريًّا. والمذاهب المسيحية التي تقبل أو لا تقبل الحضور الواقعي للمسيح في الخبز القرباني على المذبح، تقبل بالرسم المقدَّس أو لا تقبل به. ويكمن الخط الفاصل بين الأمرَين في الإصلاح الديني. فلوثر يقبل بقربانِ العشاء الأخير بالرغم من أنه يعوض استحالة القربان بالوحدة الجوهرية بين المادة والرُّوح. إنه يُدين أيضًا محاربي الصورة، مثله مثل منافِسه كارلشتاط، الذي يقوم — برفضه القاطع لقربان القدَّاس — برفضِ دخولِ أيِّ صورةٍ للمعبد. أمَّا كالفين، الذي جعل من العشاء الأخير رمزًا خالصًا، فقد اعتبر أنَّ استحالة القربان تشكِّل لعبةً مُشينة؛ وإدانته للصور أكثر صرامةً من إدانة لوثر. إنه يمقتُ رُفاتَ الأولياء ويشبِّه العذراوات المُبرقَشات بالحكايات والأقوال الماجنة. كلُّ صورة مجسَّمة للمسيح في نظره صنمٌ؛ والفنُّ كما يقول، لا يمكنه أن يعلِّمنا شيئًا بتاتًا «يخصُّ اللامرئي؛ إذ عليه ألَّا يُظهر إلا الأشياء التي تُرى بالبصر.»

تقيس المسافة التي تفصل عن تجسُّد المسيح، مقدارَ الانصياع للمُتَع البصرية. إنها مسافةٌ دنيا في البلدان الكاثوليكية، وقصوى في البلدان البروتستانتية؛ بحيث نرى أنها بمقدار ما تحذر من الجسد بقدْرِ ما تنفِّر من التشخيص. والمنزع الهندسي الخالص، والوظيفية من نمط بوهاوس، وكذا الفن التجريدي، قد تطورت في البلدان الشمالية استمرارًا للطهرانية الإصلاحية. حيثما كانت المسافة في الغرب، بين الله والإنسان كبيرةً، يُعطِّل الخوف من النجس والخطيئة الجسدية كلَّ تطور للتشكيل. ففي إنجلترا والبلدان المنخفضة وألمانيا الشمالية والولايات المتحدة واسكندنافيا، ثمَّة الطعام العادي والحيطان العارية والأجساد بلا عطر واللحم المطبوخ. وقد اكتشف جان كلير في هذا الفضاء الأخلاقي تحريمًا لجَنْي الفطر البري، خاصة منه الفطر القضيبي، ورفضًا للمواد المختمرة. وقد توصَّل بالفعل إلى العلاقة التي تربط الخميرة الطبيعية في العجين والخبز، وهي عادة مشتركة بين إيطاليا وألمانيا الجنوبية الكاثوليكية، والانتشار الحالي للتقاليد التشخيصية في هذه البلدان.١٠ لنوسِّعْ من مجال حديثنا. لقد ظهر التيار الباروكي وسط الكروم وحقول القمح، أي في المجال المتوسطي. وكما أنَّ المجمع الديني لكالسيدوانيا يؤدِّي إلى الفنان برنيني Bernini وأثاناز إلى فلليني؛ فإننا نسير توًّا من خبز القربان إلى المعكرونة العريضة (وإلى الخبزة الطويلة baguette). إن الذاكرة العتيقة للديانات تعبِّر عن نفسها من خلال عبقرية الشعوب التي لا تنفصل فيها الجوانب التشكيلية عن فنون الطعام. فالوحدة قائمة بين طرائق النظر وطرائق الاعتقاد والإيمان وطرائق الطبخ.

لمَ لا نلاحظ أنَّ الرسَّامين في غالبيتهم طبَّاخون ماهرون، وربما كانوا عشَّاقًا أفضلَ من المؤلفين الموسيقيين؟ إنها حساسية التشكيل مقابل الطابع الذهني للموسيقى. والبصر أذكى من اللمس لكنه أقلُّ ذكاءً من السمع. من ثَم فإن النحَّات سيكون أقلَّ «مثقفيَّةً» من الرسَّام، وهذا الأخير أكثر «يدوية» من الموسيقي. ففي الصعود الروحاني تُحرَّر العين من اللمس، الموجود أسفل، لكنَّ هذا العضو الذي لا يزال حيوانيًّا والمرتبط بالمادة؛ يتم إبعاده بالأذن، عضو الرُّوح الطائرة. وفي الطابق الأخير نجِدُ الملائكة الذين يستعملون العُود أو الكمان، لا الريشة أو الإزميل. وبما أنهم عادةً موسيقيون؛ فإنهم يساعدون الرسَّامين في عملهم. لكننا لا نرى أبدًا ملكًا أمام مرسام اللوحات ولم نعرف أبدًا ملكًا نحَّاتًا. ومن الأفضل للمرء أن يستضيفه رسَّام لا موسيقي للعشاء، كما من الأفضل احتساءُ حساء مع الشيطان على أن يكون ذلك مع المَلَك الأكبر، ذلك أنَّ الملائكة والموسيقيين لا يوسِّخون أيديهم.

يقترب التشكيل من الرُّوح حين يكون رسمًا ومن الجسد حين يكون لونًا. وحين يصبح الفن روحًا خالصًا؛ فإنه لا يكون تشكيلًا، وإنما جماليات. وحين يتعب التشكيل من كونه عملًا يدويًّا ويغدو «ذهنيًّا» كليةً؛ فإنه يتحول إلى حساب أو خطاب. ويتحول معه الفنان إلى ناقد أدبي. التمجيد الروحاني يعني الانمحاء المادي للعمل الفني وربما للفنان أيضًا. إنه انتحار أو صمت أو محاضرة. وهنا، كما في حالات أخرى، تكون المادة خلاصًا والبدنُ يستردُّ الكلمة.

فتنة السلطة

لقد ظلَّت التقاليد المُوسويَّة من القوة بمكانٍ بين مبتكري فكرةِ تجسُّد المسيح ولمدَّةٍ طويلة، بحيث حرَّموا الصورة. لقد اكتفوا، حتى بداية القرن الثالث للميلاد، بمجموعةٍ محدودة من الرموز المخطوطة شبيهةٍ بالوريدات والوريقات والكروم اليهودية (رمز الخصوبة). وقد ساروا بهذا المجاز حتى حدود السيادة الحيوانية، فجاءت السمكة (حيث تتشكل الصورة من الحرف)، والطاووس رمز الخلود، والشاة رمز الوفاء، والواقعية التشخيصية مع الرفض المطلق للنحت. وقد عملَت العبادات الإمبراطورية على تدنيس النحت بل شيطنته، فالتأليه ونحت التماثيل أمرانِ مترادِفان. ولقد كانت التماثيل تعني، لدى الإمبراطور، التقسيمَ التربيعي المثالي للبلاد. فبما أنها تمكِّن من مضاعفة حضور الإمبراطور؛ فإنها تمكِّن من بثِّ عيونه في كلِّ مكان وفرضِ عبادته في كلِّ بقاع الإمبراطورية. لكنَّ الأباطرة البيزنطيين، نظرًا لديانتهم المسيحية، سوف يؤبِّدون طيلةَ قرنٍ من الزمن تحريمَ النحت التصويري (ومعه المسرح). كان حصر التصوير في الصورة ذات البعدَين (ومن ضمنها فنُّ الفسيفساء) يشكِّل مع القدسيَّة المختزلة للتمثيل شيئًا واحدًا. ولأنَّ الراهب الأفريقي تيرطوليان (١٦٠–٢٤٠م) خَشيَ من فتور هذا التحريم، فقد أدان مهنتي النحات والفلكي، وطالَبَ بتحويل الرسَّامين إلى صبَّاغي مبانٍ. والدساتير الرسولية التي تحدِّد الشعائر المسيحية سنة ٣٨٠م، تستثني من الكنيسة المومِسات ومسيِّري المواخير والرسَّامين وصانعي التماثيل. وحتى في القرن الرابع، اندهش الأسقف أوزيب، واعتبر أن التمثال المعجِز للمسيح، الذي تم نصبه في قيصرية بفلسطين، أشبه برواسبَ وثنية. ومع ذلك، لم تلبث الصورة أن تسربتْ للشعب المسيحي من الأسفل (عبر الاعتقاد في اللحود) ومن الأعلى (عبر المصلحة السياسية). لقد دخلَت الصورة من النافذة، أيْ عبْرَ الزينة الجنائزية الخصوصية، والصياغة والزجاجة، وكان الأمر في البداية انسياقًا أكثرَ منه قرارًا. فالبيئة المحيطة كانت مؤثِّرة، وآثار الإمبراطور تمحو آثار السيد الإقطاعي، مثلما أنَّ هرمس (حامل الشياه) يتصور في هيئة الراعي الطيِّب. هكذا توالَت البوادر العفويَّة على مذابح الكنائس لتمجيد الشهداء، وتم تحويل التحريم التوحيدي بواسطة الرمزية.

وبمقدار ما تعاقدَت الكنيسة مع القرون المتوالية بمقدارِ ما تصالحتْ مع الصورة. وبمقدار ما تنتشر الكنيسة في أرجاء الإمبراطورية بمقدارِ ما تنصاع للصورة والإمبراطورية معًا، وكأنها بذلك لم تتمكن من الاستغناء عنها لتجذير تعاليمها وجذب الناس لصفِّها. وكما لو لم يكُن أمامها سوى أن تُجيب على الصورة بالصورة، بما أن الخطاب الشفوي والمكتوب لم يكونا كافيَين لتحطيم أسوار الثقافة القديمة؛ وكما لو أنها لم تتمكن، بعد عشرة قرون من سيادة الوثينة، من تنظيم أجهزة نفوذها وتوحيد الأراضي والأمم بدون ضمانة بصرية دنيا، أي الحد الأدنى الحيوي لعملية المأسسة. هكذا نشأ علمٌ خاص بأحوال الضمير. وقد قَبلَ القديس بازيل على مضضٍ بأن صورة المسيح بإمكانها أن تدفع بالمسيحي إلى السير في طريق الفضيلة، يكفي فقط أن تكون «مصحوبةً بفصاحةِ الداعية.» وبدأ أيضًا التعرُّف على ضروب الاستعمال الحسن للصورة (وهي الاستعمالات التي منهجتْها المذاهب السكولائية خلال القرون الوسطى في ثلاثة: الاستعمال التربوي، والتذكاري، والتعبُّدي). ولكي يتم بسطُ النفوذ على البسطاء والسُّذَّج، وإشراك المؤمنين في الشعائر الدينية، ظهَرَ الموضوع الذي أصبح مشهورًا سنة ٦٠٠م مع غريغوار الأكبر، في رسالته إلى الأسقف المعادي للتصوير بمدينة مارسيليا: يمثِّل الرسم بالنسبة للأميِّين ما تمثِّله الكتابة بالنسبة للرهبان. إنه باختصارٍ إنجيلُ الفقراء. هكذا تمَّت الاستجابة لحاجة مزدوجة: حاجة الرهبان، وحاجة الأطفال. أليست الدُّمَى أصنامَ الصغار والأصنام دمى الكبار؟ إنه حلٌّ سهل أن تغدو الصورة عجلةَ الإغاثة للتعاليم المسيحية، «ذلك أنَّ من الأسهل مشاهدة الرسوم على فهْمِ المذاهب، وتشكيل الحجر على صورة الإنسان أسهل من تقويم الإنسان على صورة الرب» (كما قال دوملان).

لقد وقع لمعاداة الجماليات في الأخير؛ ما وقع لمعاداة النزعة العسكرية. لقد عرفا انهيارًا قويًّا بعد «وصولهما إلى السُّلطة». كان على المسيحي في القرنين الأولين للميلاد ألَّا يريق الدماء ولا ينظر إلى الصور. فحوالي ٢٢٠، حرَّم ترطوليان الانخراطَ في الحياة العسكرية، وارتياد أنواع الفُرجة معًا. لكنْ في القرن الرابع، بعد أن أصبح للدولة مشاغلها، تمَّ الانتقال من اعتبار «كل حربٍ غير عادلة» إلى «ثمَّة حروب عادلة»، بالشكل نفسه الذي تمَّ به الانتقال من اعتبار «كل صورةٍ صنمًا» إلى اعتبار أنَّ «ثمة صورًا مقدَّسة». وفي القرنَين الخامس والسادس زاد ثيودور وجوستينان من حدَّة الرجوع إلى التصاوير ذات الطابع الوثني، وذلك تحت غطاء معاداة اليهودية وبهدف القبض المتخيَّل على الجماهير. كانت ضرورة محاربة الوثنيين ملحَّة. ولكي تتم هذه الحرب في أحسن الأحوال؛ كان من اللازم توفير الجنود والصور لها. إنها رؤيا كونستانتان، الذي رأى صليبًا مشعًّا في السماء قبل أن ينال النصر على ماكسينس. ولم يكن الأمر يتعلَّق هنا إلا بعلامةٍ واحدة؛ فقد تراجعَت المسيحية، بالقوة التي امتلكتْها وبطموحاتها السياسية، من «الرمز» إلى «الإشارة» (حسب مصطلحات شارل ساندرس بورس) وأصبح البلاديوم الإمبراطوري هو القديس مانديليون الإيديسي، أي وجه المسيح الحقيقي المرسوم على خرقةِ ثوب. وحين نُقل عام ٥٧٤م إلى القسطنطينية، تمَّ استعماله في إعلان الحرب على الفُرس. بالإضافة إلى ذلك، غدتْ علامةُ الصليب، مع توالي القرون، الصورةَ المادية لعملية صَلْب المسيح، بثلاثة أبعاد، ومزيَّنة بما غلا ثمَنُه، ووسطها صورة المسيح المصلوب معذَّبًا وداميًا، بحيث يجتذب وَرَع المتعبِّدين. إنها أمارةٌ عاطفية وهدف لحجِّ المؤمنين، يُحمل في الطوافات العمومية. وبهذا فهي في الحقيقة صنم، لكنها عمادٌ لتقديسٍ شعائري شعبي، يتجاوز كونه موضوعًا للإجلال المطلوب؛ ليغدو موضوعًا للتأليه الإعجازي.

إنَّ الانقلاب المسيحي، باعتباره انعكاسًا للقلب المنبني على الخوف من الصورة، الذي صاحَبَ ولادة الديانة التوحيدية، يشهد على قدَرٍ معيَّن (هكذا تسمَّى الضرورات التي لا نستحبُّها) يتمثَّل في انتصار الكنيسة، بوصفها هيئةً، على الإنجيل باعتباره رُوحًا، وفي وقوع التنازلات الضرورية للروحي إلى الدهري الدنيوي. فالقرابين المقدَّسة والصور قد انتهتْ إلى الهيمنة على أولئك أنفُسِهم، الذين أرادوا تجريد الشيخ المترنِّح من ثقلِ التمائم والتعويذات والحجب. ألَا تكمُن في هذا ثوابت استكمال تكوين الهيئة وصيرورة المؤسسة؟ فالأمر يبدو كما لو أننا لم نكن متمكِّنين من أدوات السيادة، أو أن وسيلة المراقبة والتحكم التي نستعملها لا تلبث، آجلًا أو عاجلًا، أن تتحكم فينا. والتبشير يدعو إلى ذلك، واليهودية استثناء في هذا المجال؛ لأنها ديانةُ هويةٍ لا طموحَ تبشيري لها، بما أنها لا ترمي إلى الكونية. لقد كان إله «العهد القديم» يَدين الإنسان المتخيل، بيْدَ أن أتباع «العهد الجديد» لم يستطيعوا، في نهاية الأمر، أن يتخلوا عن الأصنام القديمة لكي يقنعوا الوثنيين بفكرة الخالق الأوحد. فالألوهية أيضًا تبدأ في شكلٍ صوفي لتنتهي إلى مآلٍ سياسي، أي في شكلِ صور.

لقد كان للأوائل الذين أعلنوا ملكوتَ السموات وثوقٌ كبير بالكلمة. وقد عبَّروا عن ذلك بالرموز والألغاز والحِكَم والأمثال؛ لأن الصوت وحده قادرٌ على إخراج نفَس المطلق، واللغة وحدها قادرة على استخراج معنًى ما من الكون المرئي. بيْدَ أن وسطاء المسيح الذين جاءوا بعدهم، وكذا الباباوات والأساقفة، أعادوا حقْنَ الفكرة بالصورة؛ لأنها وحدها التي تمنح جسمًا للرُّوح القدُس، وبدنًا للوعد الأكبر، ورايةً تنضوي تحتها الجماهير. لقد قام ناشرو الديانة بتلوين بياضِ وسواد الأنبياء لتوسيع دائرة المستمعين. فكما أنَّ حمم البركان حين تبرد تتحول إلى صخر، كذلك سقطَت انطلاقة التبشير اللادهري في التشخيص المادي. فهل يخاطر في ذلك بفقدان رُوحه؟ إنَّ رُوحًا بدون بدنٍ لم تُنقذ أبدًا إنسانًا؛ فالاختيار الصعب عسيرُ الحسم.

ثمَّة أمرٌ معتاد في التواترات العقائدية؛ حين تنتج عن الكلمة أو النصِّ الحقائقي المؤسسةُ الملائمة، كنيسةً كانت أو دولةً أو حزبًا، وحين تنتشر رسالة الخلاص الأكبر أو الثورة (وهي المقابل الدنيوي للعصر الذهبي) خارجَ حدودِ دائرتها الفكرية الأولية؛ آنذاك تدخل الممارسات التصويرية إلى المشهد وتتنامى. فالأمر يبدو كما لو أن الانتقال إلى الممارسة كان يضطر رجالَ الدِّين إلى إشباع الليبيدو البصري للعامة، ومن ثمَّة إلى زيادة حصة الإنساني في الإلهي والتقليد في التجديد، وحصة ثقل الصور في رونق العلامات. فقد لعبَت الطوائف المتسوِّلة في القرن الثالث عشر ورقةَ الصورة ضد طبقة الإكليريكيين العالِمة، وربحَت المعركة. وبهذا حرَّك الفرانسسكيون والدومنيكان المسيحيةَ من جديد.

تبدو كلُّ الهزات الشعبية في تاريخ الغرب (من الحروب الصليبية إلى الثورة الفرنسية) كما لو كانت عبارةً عن انفجاراتٍ تصاويرية iconographique. إنها انبثاقاتٌ يصعب التحكم فيها؛ فقد تصاحبَت الثورة الفرنسية برُكامٍ أو طوفان من الإنتاجات العفوية، من ملصقات وكاريكاتور وديكورات ولوحات مائية، وأوراق اللعب، لكنَّ دافيد ورفاقه قد حظوا بدعوة الحكومة. فقد قامت لجنة الخلاص الشعبي، سنة ١٧٩٣م، بتعبئة الرسَّامين والنحَّاتين وبتوزيع الدمغات والصور الكاريكاتورية؛ قصدَ إيقاظ الرُّوح الشعبية و«إثارة حمية الشعب الأميِّ والساذج». سوف نجِد حمى الصور نفسها في روسيا بعد ١٩١٧م (فالشيوعية تتمثل في كلامِ ماركس ومعه كهرباء الصور)، وفي باريس ١٩٦٨م، على الجدران وفي مراسم مدرسة الفنون الجميلة (وقد بدأ العمل على جمعها الآن).

وسواءٌ تعلق الأمر بطقسٍ عِبادي أو بعملٍ تحريضي أو بعملٍ تجاري؛ فإننا نجِد أنَّ الصورة في كل عصر للدعاية الاجتماعية تلعب الدور الكانطي للخُطاطية المتعالية. إنها بترجمتها للفكرة المجردة إلى مُعطًى محسوسٍ؛ تجعل المفهوم محركًا والمبدأ ديناميًّا. فالتصاوير هي الوسيلة العاشقة للأسطورة المحركة. وحتى القرار الترميزي والنخبوي وذو الطابع «اليهوداني»، المتمثل في تقديس العقل أو الوجود المطلق، سنة ١٧٩٣م، لا يدخل حيز التنفيذ إلا في تشخيص هذه الوحدة في شكلِ مواطِنةٍ شابَّةٍ راكبةٍ عربة بصورتها وجسدها. إنَّ القوة الغنائية للصورة لا تغيب عن أذهان أكثر اليعاقبةِ مثقفيةً؛ كما أنَّ دخول الصورة للحلبة، وأخْذَ مكانها في لعبة القوى، يعني إعدادَ الجيش العتيق للرغبة في الحرب، وتنشيطَ العُدَّة الخالدة للهذيان المتمثلة في الأماثيل والتشخيصات والصور الشخصية والرموز المصوَّرة. ومن ثَم تأتي قرارات الإعدام حرقًا وحروبُ ترسانات المجد؛ فلا يتم تحطيم أصنام العهد البائد إلا لفرض أصنامِ العهد الجديد. إنَّ محطِّمي تماثيل لينين في موسكو، سنة ١٩٨٩م، هم المدافِعون عن الكنائس سنة ١٩٩٢م؛ ففي الغرب لا تظلُّ قواعد التماثيل المحطمة فارغةً لمدَّةٍ طويلة.

ثورة العقيدة

الصورة أكثر عدوى وأكثر وباءً من الكتابة. لكنْ، فيما وراء فضائلها المعروفة التي لا تجعل منها، في حدودٍ معينة، سوى وسيلةِ إعادة الخلق التدويني والتعليمي؛ فهي تملك موهبةً رئيسية تكمن في صنع لُحْمةِ المجموعة المؤمنة، وذلك بتمويه الأفراد بالصورة المركزية للمجموعة. لا وجود الجماهير منظمةً بدون سِناد بصرية يمكِّن من الالتحام، كالصليب والقسِّ والراية الحمراء. فحيثما تنهض الجماهير في الغرب، فإن الطواف والمسيرات والتجمُّعات تُشْهِر صورةَ القديس أو الزعيم أو المسيح أو كارل ماركس. بل إنَّ بعض أعضاء الإكليروس، المتعصِّبين للكلمة المفقودة، حانقون ضدَّ عودة أشكال الشعوذة البدائية. إنهم لا يدركون أنَّ نصًّا بدون صورٍ عبارةٌ عن نظريةٍ من دون تطبيق. فهو الرسالة بدون بريد، أو العقيدة التحرُّرية من دون التعاليم أو القساوسة، أو الطوباوية الاجتماعية من دون «العمل التنظيمي الاجتماعي»؛ أيْ أنها فعلٌ ثقافي لا فعل سياسي.

يمكن تفسير التلاحم الأخروي اليهودي باليقين الانتمائي المتواتر عن الأم وروابط الدم. أمَّا المسيحيون فإنهم لا يشكِّلون شعبًا. هنا ليس ثمَّة من تكوينٍ عرقي للألوهية. وكلُّ شيء يتطلَّب الزَّج والإدماج والفهم بقوة اليد والتبشير والصورة. وبما أن الكتابة غير كافيةٍ؛ فمن اللازم اللجوءُ إلى الدعاية والتبشير.

قد يقتل الحرف الرُّوح، لكنَّ الصورة تُحيي الحرف، كما يُحيي التمثيل بالصورة التعليمَ والأسطورة والأيديولوجيا. كانت الديانة المسيحية ستحوز على هذه القوة التوسُّعية بدون استعمالٍ للعجائبي والإعجازي، أيْ بدون فلكلور وإسراء وتكاليل وبشارات، وبدون حوريات وحيوانات أسطورية، وبدون حوريات البحر والملائكة والتنين. كيف يمكن الإقناع بوجود النار والجنة والبعث من دون منحها للرؤية العيانية؟ ومن دون الإضحاك والإبكاء وإدخال الرعشة للنفوس؟ انظروا مثلًا «أنشودة ابتهال للسيدة العذراء»، حيث تأخذ الكلمة الأمُّ الجاهلة للشاعر فيون لتقول: «لتنظرْ في الدير حيث أنا/صورة الجنة مرسومة بقيثاراتها ومزاهرها/وصورة جهنمَ فيها يتدحرج الكافرون/إحداهما تملؤني رعبًا/والأخرى تملؤني غبطةً وانشراحًا.» إنَّ التطلُّب الشعبي للانفعالات كبير. والحال أنَّ الصورة تذكير وانفعال في الآنِ نفسه؛ فهي تحرِّك الجماهير أكثر من الفكرة. وصورة القدْس وقبر السيد المسيح، هما ما يجذب الناس نحو الأرض المقدَّسة. كما أنَّ الكرامات المسيحية mirabilia هي التي حبَّبت في مسيح الرعاع. ليس ثمَّة الكثير من العجيب والغريب في التوراة، بما أنَّ اليهودية لم تكن مطالَبة بالتوسع والانتشار. أمَّا المسيحية فكان عليها الانتشار وتعليم مبادئ الدِّين وتنظيم رعاياها خارج الدائرة الأصلية لظهورها. ليس من اليسير سياسة النفوس من غير صور، أي من غير تلك العلامات الخارجية للولاية والشارات العمومية للسُّلطة.

إنَّ ظهور الإيمان الشخصي في العالَم الإثنولوجي للصورة، حيث يرِث المرء آلهته من المدينة ومن قبيلته أو من وِهاده، قد أبرز للسطح مشكلةً لا سابقَ لها تتمثل في الثقة والاعتماد. كيف يمكن الإقناع بالعقيدة؟ فلا الإغريقي ولا اليهودي يؤمن بآلهته. إنها هناك، مثل البردي والتل الرملي والعشيرة والهواء الذي يستنشقانه؛ وهما لا يطرحان على نفسهما مشكلةَ الإيمان وإنما مشكلة الهُوية. إنَّ يهْوه، كما هو حال زيوس، عبارةٌ عن ذاكرة؛ أمَّا يسوع المسيح فهو رهان. ومعرفة ما إذا كان الإغريق أو الرومان يعتقدون في أساطيرهم؛ ليست مسألةً ذاتَ أهميةٍ كبرى. بل من حقِّنا التساؤل إن كانت تلك المسألة وجيهة، وإن لم تكن مجرَّد تعميم مسيحي تمَّ إسقاطه على العالم القديم؛ فزيوس أو جونون، وأخيلوس أو عوليس، كانت آلهة تعيش «في أعالي الجو»، وفي التراث باعتبارها جزءًا من الهِبة الطبيعية. وهي بمعنًى ما لم تكن بحاجةٍ لاعتقاد الناس فيها كي توجد، مثلها في ذلك مثل جبل فيسو ومياه البحر المتوسط أو اللغة الإغريقية. هذه الآلهة، التي لا «ماضيَ» لها وُجدتْ دائمًا وأبدًا؛ فهي لم تكن مضطرةً لأخذ مكانِ آلهةٍ أخرى أقدمَ منها زمنًا وأرسخ في الذاكرة الشعبية أو أكثر أهلًا للثقة. أمَّا المسيح فهو قادمٌ جديد، ولا وجودَ له بذاته؛ إذ لا شيء ماديًّا يشهد على وجوده. فهو يتكون من اعتقادي فيه ومن إيماني ووثوقي بوجوده. وما إن ينمحي ذلك الاعتقاد، حتى ينمحي وجوده بدوره. إن مسألة الإيمان هنا تكوينية لا تأمُّلية. وبما أنَّ لا شيءَ محدَّد مسبقًا وأنَّ الأمر يتطلَّب إدخال الناس في الديانة الجديدة أفواجًا أفواجًا، عبر الاعتقاد في فرضيةٍ معينة؛ فمن الضروري ممارسة الإقناع. لذا كان التجمُّع من أجل التبشير تجديدًا غير مشهود في التاريخ الديني. فقد كان من الغرابة بحيث كان يشبه نغمةً مرِحة في أنشودةٍ رتيبة أو محركًا في سيل ماء.

حتى ظهور المسيحية، كانت العقيدة تسبق الانتشار وتوجد في استقلالٍ عنه. لكنْ مع المسيحية، أصبحت الدعاية والتبشير محركًا وشرطًا للعقيدة لا العكس. فالوسيط هو الرسالة؛ وهو جوهر المسيحية. والله لا يُعبد حيث يوجد الإنسان، وإنما يصاحب الإنسان حيثما حلَّ وارتحل، «من أقصى بقاع الأرض إلى أقصاها»؛ ومن الحواري إلى الوثني؛ ومن الأسقف إلى السجين. ومن المؤمن إلى الكافر؛ ومن باب إلى باب؛ ومن امرئ إلى آخَر. وليس من الغريب أن تكون هذه الديانة أول مَن فكَّر في التواتر والإرسال وطرح إشكالية دورها التبشيري. وعالِم الاجتماع والباحث المعاصِر، اللذان يتحدثان عن «التواصل» من غير الإحالة إلى هذه التقنية وهذا اللاهوت، يحرمان نفسَيهما من إضاءةٍ حاسمة.

إنها إضاءةٌ راجعة لحكمةٍ غير ظاهرة كلية. وخلال عدة قرون من الخلاف العقائدي والتعديلات، برزت في الممارسة المسيحية للصورة، في النهاية، نقطةٌ وسطى (بالرغم من أنها غير مضمونةٍ ومتحركة بالنظر إلى تواجه القوى الموجودة آنذاك). وهي نقطةٌ قد توحي بكتابة «رسالة في حُسن استعمال الصورة موجَّهة إلى الأجيال الصاعدة». إنها أشبه بمضيقٍ بين صحراءِ تحريم الصورة وواحةِ الصور الوثنية؛ قام بتعميقها، كل على طريقته وبالتتابع، بعد المجمع الديني الثاني بنيقية. هؤلاء، إذا ما نحن ذكرناهم تباعًا هم: القساوسة من حاشية شارلماني، وهم المؤمنون المعتدلون بالصورة الذين سوف تغدو كُتبهم بمثابة مرجعٍ للكنيسة اللاتينية في الغرب؛ والقديس طوماس الإكويني؛ ثم «وسطاء» القرن اﻟ ١٦؛ وعاشقو السينما الكاثوليكيون في القرن العشرين. إنَّ هذه الوضعية «الوسطية» ترفض تأليه الصورة لطابعها الوثني، وتدين الاحتقار الذي يعبِّر عن رفضٍ متعصب للعالَم، وتقبَلُ بالصورة كتوسطٍ ضروري في الجانب التربوي والشعائري معًا. إنها الصورة باعتبارها انتقالًا نحو الإلهي. هل يتعلق الأمر بالتشدُّد الجانْسيني أم بالإباحة الطرائقية؟ فبين تبشيريةٍ مؤمنة بالكلمة الخالصة وذات مردوديةٍ سياسية ضئيلة، ونزعة جمالية ذات منحًى وثني فعَّالة، ثمَّة تناقُض يجعلهما طرفَين أو قطبَين يمكن أن نمثِّل لهما بطرطوليان وسان برنار من جهة، ويوحنَّا الدمشقي ولويولا من جهةٍ ثانية؛ أو بالتجرد السستيري وزجاج كنائسه الوحيدِ اللون وبياض عباءة مؤمنيه من ناحية، وبالزهو القوطي المشعِّ من ناحيةٍ أخرى. وبين الطرفَين ثمَّة الْتماسٌ وتطلُّب متبادَل ودائم.

على المرء مراقبة إيروس، طبعًا، وعدم الانصياع للفتنة الجسدية، لكنْ من دون قطعِ الروابط مع الاقتصاد والممارسة. فالصورة اقتصادية لأنها توجز التفاسير وتختصر البراهين ؛ «ذلك أنَّ ترسيمةً ما أفضلُ وأجدى ألفَ مرة من خطابٍ مطوَّل.» إنها تمكِّن من تفادي الخسارة الخطية. «كما أنها ذات طابع عملي لأنها تقْنع، وبكُلفةٍ أقل.» إنَّ القوة العاشقة للصورة إذن صالحةٌ وطالحة في الآنِ نفسه. فهي خطر ليبيديٌّ ووسيلةُ انتشار وذيوع. لذا، من اللازم كبتُ الخطر الأول من غير حرمان الناس من محاسن الميزة الثانية، أي ترويض سِحر الصور من غير الانصياع لشِراكها. وهو أمر يسهُل قوله ويعْسر العمل به، خاصة وأن المسيحيين قد وَرِثوا عن الإغريق احترامًا يتطَّير من فاعلية الأصنام، مما يفسِّر انقباضهم من الأحلام وكلِّ ما يتصل بها من أرواحٍ شريرة ورُؤًى ليلية.١١ وبما أنَّ كلَّ تجاوُز «يساري» في الرفض أو «يميني» في القبول بها؛ كان يتطلب عقابًا بالطلاق، أو على العكس بالانشقاق، فقد كان على السلطات العقائدية مُداراة الشرور. فالتفاني المُبالغ في التَّعبُّد بالصور يعني عودة التَّطيُّر السحري والأصنام الإعجازية، وهو التطرف الذي يتطلب ردَّ فعلٍ يتمثل في الإصلاح الكنسي ومتطرِّفيه. أما عدم كفاية التعبد بها، فيعني العزلة النُّسكية ذات الطابع المانوي أو الطهراني؛ مما ينجم عنه ترك المجال حرًّا من دون رادع للشعوذة والسِّحر. لذا، فإن الحكمة تتطلب شحذ الحواس من دون إثارتها، ونشْرَ الديانة من غير تحريف. ولأجل ذلك، من الضروري عدم الفصل بين التبشير والتصوير؛ وإنما تلطيف الصورة المقدَّسة بالكلمة المقدَّسة. وإذا كان بالإمكان أخذُ قرارات مجمع ترينتي Trente الغامضة في معنيَيها معًا؛ فذلك لأن اللَّبْس لا يمكنه، بل لا يلزمه، أن يُرفع بتاتًا وروما تدين في العمق بديناميَّتها ذاتِ الطابع الوثني التوحيدي لهذه الحيرة اللاهوتية. كما أن الفاتيكان الثاني قد كان في الماضي يقدِّم الكنيسة باعتبارها «صديقة الصورة والفنون». إنها كانت بالتأكيد صديقةٌ، لكنها لم تكن أبدًا عشيقة أو عذراء هوْجاء؛ بمعنى أنَّ الكنيسة كانت مع الحقِّ في الصورة، لا مع أنْ تكون للصورة كلُّ السُّلَط. تلك هي مرةً أخرى الحكمة الإغريقية الآتية عبر بيزنطة، والتي تتبنى شعار: «بلا إفراط أو تفريط».

لقد كانت تلك الحيرة حميميةً وضرورية؛ وهي تفسِّر، بالرغم من ألف عام من الدربة على التصوير، تمزُّق الكاثوليكية الرومانية أمام ظهور السينما سنة ١٨٩٥م، كما كشف عن ذلك باحثان فرنسيان بخصوص فرنسا. فحين طُرح السؤال: «هل ينبغي تركُ العروض الضوئية المتحركة للمُعادين للإكليروس من أتباع الرابطة التعليمية البروتستانتية، أم يمكن لرابطة الصحافة الكاثوليكية استعمالها لأغراضِ التبشير الجماهيري؟» كان الجواب مزيجًا من الحماس في القاعدة والريبة والحذر في قمَّة الهرم الكنسي.

منذ ١٨٨١م، قام جان ماصي مؤسِّس الرابطة التعليمية بإدماج عروض المصباح السحري في محاضراته الشعبية، معتبرًا إيَّاه «آلةً حديثة تمكِّن من إنجاز عروضٍ أمام حشدٍ كبير وذي قيمة لم تُشهد من قبل أبدًا» (حسب جاك وماري أندري). هكذا تحوَّل مدرِّسو العلمانية المستقبلية «محاضرين وعارضي أفلام»؛ نظرًا لتفانيهم في «السموِّ بالرُّوح الشعبية». فهل تجاوزت الجمهورية الكنيسة باستحواذها على البصري من جديد؟ بدءًا من ١٩٠٧م، تم التشارك بين الرابطة العلمانية وشركة باثي للسينما؛ قصد إدماج السينما في التربية الشعبية. بيد أن الأب بايي، وهو تبشيري وخرِّيج المدرسة البوليتقنية بباريس ومؤسِّس جريدة لاكروا (الصَّليب) سنة ١٨٨٣م، كان قد أدرك قبل هذا التاريخ ضرورةَ المزج بين قوة المطبوع وسلطة الصورة، سواء كانت الصورةُ عبارةً عن لوحةٍ حفرية أو حجرية ملوَّنة. بل إنَّ هذا المناضل الكاثوليكي قد ابتكر منذ ١٨٩٧م آلةَ عرض للسينما سمَّاها «الخالد». وقد كتب سنة ١٩٠٣م في الجريدة نفسها: «لماذا لا تصبح الحقائق المسيحية الكبرى هكذا منشورةً ومنتشرة ومُمَجَّدة كما كانت عليه في زُجاجيات الكنائس واللوحات والتماثيل والجداريات؟» وكان الأب بايي قد أسَّس حينها شعبةَ التصاوير imagerie، أي التبشير الأعظم المصوَّر، وكلف الأب كواستاك، وهو خبير في البصريات، بإدارة مصلحة العروض ومعها أول مجلةٍ شهريةٍ متخصِّصة في العروض صدرت باسم: الفاتن.

هكذا نشأ الجدال حول «القسم الضوئي»، الذي كان منتشرًا آنذاك في الكنيسة؛ هل للقسِّ المدرِّس الحقُّ في استعمال اللقطات السينمائية في أماكن العبادة؟ وحيثما تمَّ ذلك، كان النجاح منقطع النظير. بل إنَّ الناس شاهدوا في بعض الأسْقفيات، إضافةً إلى فيلم «عشق السيد المسيح» المصوَّر سنة ١٨٩٧م، «مواعظ صوم ضوئية». وفي سنة ١٩١٢م فقط، قامت روما، في شخص تجمعها المقدَّس وآبائها المبجَّلين، بسنَّ قرارٍ يقضي بمنع العروض الضوئية في الكنائس. هكذا كفَّت الكنائس عن أن تكون قاعاتِنا السينمائية الأُولى لتترك المكان لقاعات ريكس. وأصبحت القاعات السينمائية في الأحياء كنائسنا لا العكس. غير أنَّ ذلك لم يمنع كاثوليكيين فرنسيين متنوِّرين من الإجابة بالإيجاب على السؤال، الذي كان طرْحُه ضروريًّا آنذاك: «هل السينما ذات طابع أخلاقي؟» وذلك ضدًّا على إجماع عامة الطبقة الميسورة؛ بل إنهم أضافوا: «إذا لم تكن السينما كذلك؛ فعليها أن تصبح أخلاقيةً، وسنتكفل نحن بذلك.» ومنذ ١٩٠٩م، أنشأتْ مؤسسةُ الصحافة الكاثوليكية دارًا للإنتاج، وبدأتْ ترسل الكاميرات لاستوديوهاتها، وتصوِّر وتوزِّع فيلمَ عشق السيد المسيح. وحسب جريدة الفاتن (١٩١٢م)، «فإنَّ مقطوعة سينمائية أو فيلمًا مبرمجًا يغدوان مثل هزَّة كهربائية، بحيث إنَّ ارتياد الجماهير لتلك التجمعات يتزايد ويرتفع.» أمَّا الأب كواسَّاك، فقد ترك الجريدة ليؤسِّس سنة ١٩١٩م مجلةَ «سِنيوبْس» الناطقة الرسمية باسم الصناعة السينمائية. وفي عام ١٩٢٥م، قام بإصدارِ أول كتابٍ عن تاريخ السينماتوغراف.

الرهان الاستراتيجي

جاء تحريم التصوير من الشرق، ثم انغرس في الإسكندرية وأنتيوشة، ووصل إلى العالَم الإغريقي؛ بيْدَ أنه لم يجِد موطئًا له لا في روما ولا في مملكة الفرانكاويين. أمَّا الانشقاق الأكبر بين روما والقسطنطينية؛ فإنه لا يعود إلى الأيقونة، وإنما إلى المشكلة اللاهوتية التالية: هل ينحدر الرُّوح القدُس من الأب والابن، أم أنَّ مصدره هو الابن؟ غير أنَّ المواقف التصويرية كانت قد بدأت في وضع خطٍّ فاصِل بين غربٍ أكثر انغماسًا في السياسة وأكثر حركيةً واهتمامًا بالمظهر، وشرقٍ أكثرَ تصوُّفًا وجامدٍ، ومن ثَم أقلَّ اهتمامًا بالفعل منه بالوجود، سواءٌ كان ذلك فضيلةً أم رذيلة؛ فإن همَّ الغرب كان يتمثل في تحويل حالةٍ ما إلى فعل، ولم يكن لهذه الدينامية إلا أن تمرَّ بالصورة، باعتبارها مصدرًا للطاقة ووسيلةً للفعل في الآنِ نفسه. لقد كان لهرطقيِّي الصورة رهانُ الأولوية الدهرية. وقد نصَّ مَجْمَع نيقية سنة ٧٨٧م على أنَّ نشْرَ الصورة وتناقُلها مهمَّةٌ تخصُّ الكنيسة، «ووحده الفن (أي الإنجاز) يعود إلى الرسَّامين.»

لم تعرف الصورة الحريَّةَ في بيزنطة؛ فقد كان لها من السُّلطة ما يصعب معه تركُها بين أيدي أيِّ غريب (فتسامُح الأمير كان يرتبط عمومًا بضعفٍ ما يتمُّ التسامح بصدده). لقد كانت الصورة الملوَّنة أفضل من النَّص؛ إذ كانت تترك الرعاع والقرويين فاغِري الفاه. كما أنَّ الرفض اللاهوتي، كان أيضًا عبارةً عن تمرُّد للإكليروس المدني على الإكليروس النظامي الذي يملك لوحده حقَّ استعمال الصور المباحة. ولم تتساهل المؤسسة الإكليركية إلا بصعوبة في حقِّها في مراقبة الصورة وتسنين وضبط العمل الأيقوني. وقد كان لها في ذلك مبرِّراتها؛ أليس من الضروري ضبطُ القوى الغيبية وضمان التماثُل مع الأُنموذج؟ بل، ألَا يعني عدمُ وضع هذا الخزَّان من القوة في خدمة العقيدة الحقَّة، وضعَه بين أيادي الشيطان؟ إنَّ التحكم في ورشات التصوير، كان يعني بالنسبة للإمبراطورية، كما — فيما بعد — بالنسبة للسُّلطات المدنية الأولى في الغرب، التحكُّمَ في إحدى الدعامات الحاسمة للهيمنة. هكذا تداخلَت السياسة واللاهوت بشكلٍ محتوم.

ليس من المدهِش في شيءٍ أنْ يمرَّ تمجيد الخالق دائمًا أمامنا في شكلِ صور، من النقود والميداليات إلى تماثيل الأمير، مرورًا بأنصاب الإمبراطور وهي تنشُر وتعظِّم من هالته حتى الأقاصي. إنها تعبير عن الحظوة والخنوع في الآنِ نفْسِه. هل كان محطِّمو الأصنام البيزنطيون في القرن اﻟ ١١، والفرنسيون في القرن اﻟ ١٦، يهاجمون المبدأ الدَّنِس للتمثيل الإلهي، أم العسف الذي يمارسه محصِّلو فائض القيمة والضرائب؟ لم يكن لثائري كومونة باريس من حساب يصفُّونه مع نُصب فاندوم؛ وإنما كان لهم حسابٌ مع آل بونابارت. وكذلك كان أمر التمثال المنصوب أمام مقرِّ المخابرات السوفياتية بموسكو.

لنعبِّر عن الأمر بصيغةٍ أخرى: إن النزعة الروحانية المطلقة هي التي تمارس الإعدام على الصور، فيما أن الغرب ظلَّ مقاوِمًا للتطرفات الروحانية. وقد تطلَّب منه ذلك وقتًا طويلًا، كما يفسِّر ذلك — حوالي ٨٢٠ للميلاد — نيسفور البطريركي القسطنطيني، أب الكنيسة المؤمنة بالصور، الذي تمَّ نفيه من قِبَل الإمبراطور المعادي للتصوير ليون الرابع. وقد كان نيسفور يسعى إلى فرضِ عدم التمييز بين الدنيوي والروحاني وبين الإمبراطورية والكنيسة. فهو كان يرى في معاداة التصوير وتحريمه ما نسمِّيه اليوم «مسعًى كليانيًّا» ومسًّا بالعمل الإلهي المتمثِّل في خلاص البشر على يدِ المسيح. فالصورة، باعتبارها وساطةً بين السماء والأرض، تحمينا من النظامية المطلَقة ومن الفوضوية. فهي تضمن وحدة السلطتَين معًا؛ لأنها تربط بينهما من دون المزج بينهما، ولأنها تترك بينهما فجوةَ تماسٍّ. لهذا كانت الصورة بوصفها وساطة، بمثابة مصدرٍ للعلمانية وسط عالمنا، وغدتْ فيما بعد ضمانةً ضدَّ هيمنة التعصب المفرط. فليس ثمَّة أكثرُ خنقًا من ديانةِ كتابٍ تريد تطبيق الرُّوح حرفيًّا من دون مجازاتٍ وبلا هوامشَ للتأويل. إن الصورة تؤثث فاصلًا بين القانون والعقيدة، وهو فضاءٌ صغير للشطحات الفردية يمكِّن المرء من التنفس. ذلك أنَّ تشخيص المطلق، يُمكن قَبليًّا من التخفيف من إطلاقيته، ومن ثَم من تبعيده. فحيثما كان ثمَّة صور للإلهي فثمَّة تفاوُض معيَّن بين الإنسان وإلهه. هل يتعلَّق الأمر بإرادةِ قوةٍ خاصة نذرت الغربيين أكثر من غيرهم للتصوير؟ وهل كان بإمكانهم غير تملُّك هذه القوة الحربية؟ في أيامنا هذه، يدخل رئيس «خلية التواصل» مكتبَ رئيس الجمهورية ليُفصح له بصوتٍ جهوري وهو يلوِّح بنتائج آخِر استطلاعٍ للرأي: «لقد حان الوقت لكي نسلِّح أنفسنا باستراتيجيةِ الصورة.» وهذا الوقت قد حان منذ أكثر من ألف عام. أيُّ نبيل، مهما صَغرَ شأنه، سليل تفسُّخ محافظات الإمبراطورية، لمْ يهتمَّ بمصلحته الأكيدة في تناقل الصور وفي الإكثار من صوره الخاصة، سيما أنَّ الصور كانت نادرة؟ متى لم يهتمَّ الملوك، منذ شارلماني، بتنظيم عماد التأثير هذا وجرِّه لمصلحتهم ومراقبته؟ ثمَّة كلَّ أسبوع ندوةٌ حكومية تجري في أحد قصور الناحية حول «المشهد السمعي البصري». والندوة التي يديرها هذا الأسبوع وزيرُنا في الاتصال، قد لا تكون بنفس جديَّة وزخَمِ «الندوة» حول الصور التي دعا إليها مجلس الوصاية على العرش في «سان جرمان أون لاي» بضواحي باريس. وقد دامت الندوة عدَّةَ أيام مليئةٍ بالنقاش المنهجي الذي تواجه فيه لاهوتيُّو وبروتستانتيُّو السوربون، مُوكِلين الحُكم بينهم للملك، وخارجين في النهاية بصكوكِ براءة.

إنَّ القطيعة نهائيًّا مع الصورة بذْخٌ لا يمكن لأيِّ رجُلِ سُلطة أنْ يبيحه لنفسه، حتى ولو كان من أتباع الكلمة وحدها. لقد كان لوثر سياسيًّا محنَّكًا يكِنُّ احترامًا كبيرًا للنظام القائم، بحيث لم يتجه نحو معاداة التصوير التي كان ينادي بها بعض أنصاره اليساريين؛ فهو كان يوارب ويلحُّ على الطابع التربوي للصورة باعتبارها مكملًا ضروريًّا للكلام الإلهي، ويميِّز بدقة بين المسيح وصَلْب المسيح. وبهذا فهو يحرص على أن يظلَّ صديقًا لكْراناش (الذي أنجز تصاوير ومنمنمات مصاحِبة لترجمته للعهد الجديد إلى الألمانية) وللفنان دُورَر Dürer. وهو يعرف أكثر من البابوية بأن السُّلطة تُمْتَلك يسارًا؛ لكنها تُمارس في الوسط عبْرَ وساطةِ اللوحات الحفرية الدينية. وبما أنه تعب من توبيخ المتنوِّرين والطهرانيين وهادِمي الصور المتعصِّبين من معسكره نفسه؛ فقد فرَضَ على السلطات القائمة إبادتهم إبادةً صامتة. وبالرغم من أنَّ كالفين كان أكثر صرامةً، فإنه قد حافَظَ على لبْس حذر؛ فعدا صور القديسين وأماكن العبادة تمَّت إباحة الاستعمالِ الخصوصيِّ والدنيويِّ للصور. لم يكُن إذن لمؤسِّس دولة أن يقوم بغير ذلك. فمشكلة الفنِّ التشكيلي هي مشكلةُ الدولة. لنذكِّرْ، بالرغم من أنَّ الأمر قد يبدو خرافةً أو مُزحة، أنَّ الرسَّامين والأطبَّاء والصيادلة كانوا في فلورنسا، وحتى حدود ١٣٧٨م، ينْضَوون تحت الرابطة المهنية نفسها، لأنَّ «عملهم كان يهمُّ حياة الدولة.»
إن مَن ينقل للآخرين صورةً؛ يُخضِع بريئًا. وقد استغلَّت الثيوقراطيات الأُولى هذا النفوذ بشططٍ أحيانًا. وما دامت الكتابة ذات طابعٍ اجتماعيٍّ وضيعٍ مرتبِطٍ بتجارةِ الخيرات، كما بإخضاع الناس، فإنها كانت تصلح للحساب والخزن والتبادل. ولا تنفجر الثورة الهجائية إلا في المجتمعات المنفتِحة وما قبل الديمقراطية، كبلاد الفينيقيين والإغريق. وإذا كان الخطُّ الهيروغليفي قد تحوَّل إلى خطٍّ ديموطي شعبي؛ فإن الجداريات المصرية قد ظلَّت كهنوتية. لقد كانت الصورة هي الأُولى في جنيالوجية الهيمنة، ثم جاء «نظام الكتاب» ليحُدَّ من تلك الهيمنة، فهل ستستعيد مشروعيتها الضائعة في عصر الشاشة؟ ألَمْ تعُد سلسلة الأيقونة والشاشة، بعد «الحرب الحرفية»، الرهانَ الأكبر لمعارك القوة والنفوذ؟ فباعتبارها أسرعَ في الالتقاط وأكثر تأثيرًا وأكثر قابليةً للتذكُّر من النَّص ومتحرِّرة من مادية السنادات، وأكثر حركيةً بفعل اللاقطات الهوائية والمحطات الفضائية؛ فإنها تغطِّي الكوكب الأرضي ليلَ نهار، وتغمر الناس فرحًا وتشويقًا. وعلى غِرار ما قال شروكي Cherokee: «لقد أخضع البيض الهنودَ الحمر بالكحول أكثرَ من إخضاعهم لهم بالسلاح.» يمكن القول بأنَّ عاصمة العواصم قد نوَّمت الوافدين عليها، وكسبتْ محبَّتهم، بلا شعورٍ منها ومنهم، بالشاشة أكثر منها بالدولار. هكذا يمرُّ التسلسل الرمزي مجدَّدًا عبْرَ الأَسْر المتخيَّل. وها هي المسلسلات القصيرة والطويلة والأغاني المصوَّرة تنفذ إلى مسامِّ الترابطات والقطائع الكبرى للشعوب، وبشكلٍ يعادل — أو بالأحرى يفوق — أخبارَ شبكة السي إن إن، ومجلة الأخبار. كما أنَّ السيادة النقدية بدأت تنمحي لصالح السيادة المتخيَّلة. ولهزم المال، على المرء اليوم صُنْع الصور وصُنْع صورته. فكم هي البلدان التي لا تزال تحتفظ إلى اليوم بنفوذها وحظوتها القديمة أو على الأقلِّ بإمكاناتها في البثِّ؟
خلال الثلاثينيَّات، حين كانت أمريكا مهمومةً بالصورة وبتنشيط الاقتصاد، قامت إدارةُ العصر الجديد، من خلال سكرتاريتها في الشئون الفلاحية، بطلبِ تحقيقٍ فوتوغرافي موسَّع عن بؤس البقاع القَصيَّة من البلد، لكنْ عبْرَ التأكيدِ على طابعها النبيل والبطولي. وقد كانت مهمَّة هذا العمل الوثائقي تكمن في «التوجُّه إلى الفلاحين؛ قصدَ تبليغهم خطابًا يعْلن نهايتهم. وهو لهذا الهدف يمزج بين صور الحداثة والتراث، رابطًا بصريًّا بين فكرة التقدم المحتوم وجوهر أمريكا الخالدة.»١٢

وبعد نصف قرنٍ من عملية إعاقة الليبرالية هذه، لم يعُد رهان حروبِ صورنا يكمُن في تحقيق الإجماع الداخلي للولايات المتحدة؛ وإنما غدا هو جوهرَ الذاتية العالمية. إنه يتجاوز البديل والتناوب المرحلي للنزعة التدخُّلية والعازلة لدى العمِّ سام. لقد غدا ذاك الرهان آليةً واستراتيجيةً في الآنِ نفسه. وغدا امتلاكُ تقنيات الفرجة والترفيه العالمي واجبًا من واجبات الزعامة. فالشيء المضاف الذي يمكِّن من تحويل التفوق الاقتصادي إلى هيمنةٍ سياسية؛ هو القوة العسكرية ذات الحرية في الاستعمال من جهة، ومدفعيَّة الصور من جهةٍ أخرى. وفي انتظار التفوق الاقتصادي، قام اليابان منذ زمن بمباشرةِ خطَّة الإدراكات الكونية. مَن يدري اليوم، إذا ما كان الرسم المواجِه لعنوان كتاب هوبز من نوعٍ عالمي «ليفياتان ٢٠٠٠»، الذي يمثِّل قلعةً وكاتدرائيةً وسيفًا حسب طبعة ١٦٥١م، سيكون عبارةً عن صورةٍ تُرادف بين الصاروخ الحربي ووالت ديزْني؟

وكما أن عصر الكتابة الأوروبي قد أفضى إلى دمقرطة الكتاب، وهي السيرورة التي استمرَّت لقرونٍ عديدة حتى محو الأمية من عموم أوروبا، فإن عصر الشاشة الأمريكي قد أفضى إلى دمقرطة الصورة، هذه المرة خلال عقود قليلة، حتى غدت الأرض مجالًا مرئيًّا، في انتظار أن يتم جعلها إلكترونيةً كلية (وهو الأمر الذي لا ينفي في العصر الأول حالاتٍ من الجهل، وفي الثاني حالاتٍ من اللامرئية avisualisme). فقد وصَلَ الكتاب إلى كلِّ الناس فقراء أو أغنياء، كما تصل الصورة الآن إليهم كلِّهم، حاكمين كانوا أو محكومين. بيْدَ أن مراقبة الصور الفعلية الآن بالاستوديوهات والإدارات الدولية قد غيَّر من خارطة الهيمنة وأعاد تشكيل مجالات التواصل. وبما أنَّ الانتقال من الثقافة الشفهية إلى الثقافة المكتوبة قد حقَّق قفزةً بالتوحيد الوطني للمجالات المحلية عبر إبادة اللهجات الجهوية؛ فإنَّ الانتقال إلى الثقافة البصرية الجديدة قد حقَّق قفزةً بالتوحيد العالمي للمنظورات عبْرَ إبادة الصناعات الوطنية للمتخيَّل. ففي الوقت الذي كانت فيه باريس العاملَ الأول للتأثير، لم تألُ جهدًا في حرمانِ الأعراق التي تتكون منها المملكة الفرنسية من كلماتها؛ كي تتكلم كلُّها لغةَ الملك. لكن ما إن هجَر التأثير والنفوذ اللغةَ، حتى غدَت الأمم محرومةً من نظْرتها الخاصة؛ كي ترى العالم بأعْينٍ أمريكية. وإذا كانت النهضة الأُولى تتمثل في إنجازِ معجمٍ وحيد لكلِّ الناس للغة الوطنية، فإنَّ النهضة الثانية تتمثل في صُنع مرآةٍ وحيدة لكل الناس هي سينما الإمبراطورية، باعتبارها «لغتنا الفرنسية».
١  Pierre Prigent, L’Image dans le judaïsme, du IIe au VI siècle, Genève, Lbor et Fides, 1991.
٢  Marie-José Baudinet, “L’Incarnation, l’image, la voix”, Esprit, Juillet/août, 1982, p. 188.
كما يقوم بذلك انطلاقًا من فرويد وفي مؤلَّف رائع: J.-J. Goux, Les Iconoclastes, Editions du Seuil, 1978.
٣  انظر: F. Boesfpflug et N. Lossky, Nicée II, 787–1987. Douze siècles d’images religieuses, Paris, Editions du Cerf, 1987.
٤  Marie-José Baudinet, “La relation iconique à Bysance au IXe siècle d’après Nicéphore le patriarche”, in Les études philosophiques, no. 1, 1978.
٥  اقرأ بهذا الصدد: Jacques Perrault, La Logique de l’usage. Essai sur les machines à communiquer, Paris, Flammarion, 1989.
٦  Paul Thibaud, “L’enseigne de Gersaint”, Esprit, septembre 1984. Olivier Mongin, La peur du vide, Paris. Editions du Seuil, 1991.
٧  Esthétique, tome 1, traduction de S. Jankélévitch, Paris, Aubier, 1945, p. 63.
٨  انظر: Jurgis Baltrusaïtis, Le Miroir. Révélations, science fiction et fallacies, Paris, Elmayan-Le Seuil, 1978.
٩  Jean Clair, De l’invention simultanée de la pénicilline et l’Action painting, Paris, L’Echoppe, 1990.
١٠  انظر الفصل الذي يحمل عنوان: «المسيحية والأحلام» من: Jacques Le Goff, L’Imaginaire médiéval, Gallimard, 1985.
١١  Jacques et Marie André, Le Rôle des projections lumineuses dans la pastorale catholique française (1895–1914), Université de Laval-Québec, Paris, 1990.
وهو الكتاب الذي نستقي منه المعلومات التي سنوردها لاحقًا. وانظر بصدد الموضوع نفسه المؤلفات السالفة الذِّكر لجاك ببريو.
١٢  Intervention de Jean Kempf (Université de Rouen) au colloque “Communication et photographie” (Ecole Estienne, mars 1991). Les années noires, photo poche, Paris, 1983.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤