الفصل الرابع
نحو ماديةٍ دينية
أكاد لا أحتمل الثقل الذهبي للمتاحف، تلْكُم السفينة العظيمة. فكمْ تحادثني أعمال
بيكاسو أكثرَ من أفواهها المخرومة.
جان كوكتو
جرَت العادة أن يدير علمُ الجمال ظهرَه للتقنية. إنه طلاق مؤسِّس منحه كانط حظوةً
كبرى. ولكي نؤكِّد ترابطَ المادي والروحي في الصورة، علينا باللجوء إلى علمٍ
متعدِّد المباحث هو الوسائطيات. فهي برفعها لعائق النزعة الإنسانية، التي لا تقبل
بأن تكون الذاتُ وموضوعاتها امتدادًا لبعضها البعض، تمكِّننا من نظرةٍ منسجمة
لمتغيرات الفاعلية الأيقونية.
التحدي الوسائطي
يبدو أننا نخلط خلطًا فظيعًا بين الأجناس والأمكنة والعصور. فقد كنا نتحدث في
اللاهوت، وها نحن نصل إلى مجال السياسة، فيما كنا نتحدث من لحظةٍ خلتْ عن الفن
والأسلوب. فما هذا الخطاب؟ إنه غير خالص؛ نعمْ لأنه يوجد في مجالِ تقاطُع حقول
متعددة. لكنه مع ذلك خطابٌ منسجم. فالوسائطيات تسعى إلى أن تجعل من الخلط بين
الأجناس نسقًا، أي خليطًا له مبرراته، حتى ولو كانت مضطرة بفعل العادة إلى أن تصنع
الجديد من القديم، أي من المقولات المبنية مُسبقًا والمعزولة (ﮐ «السياسة»،
و«الفن»، و«اللاهوت» … إلخ).
وليس من الخطأ أن تطرح ممارساتُ الصورة، في الآن نفسه، سؤالًا تقنيًّا من قبيل:
كيف تتم صناعة الصورة؟ وما هي المواد والمسافات والأرضيات التي تستعملها؟ وأي مكان
للعرض وأي تعليم تستلزم؟ وهي تطرح كذلك سؤالًا رمزيًّا هو: أي معنى تطلقه الصورة؟
وما هي الأطراف التي توجد بينها؟ ثم أخيرًا سؤالًا سياسيًّا: أي سلطة للصورة، ومَن
يراقبها وما هي وِجهتها؟ لقد كانت للمعارك الكبرى التي دارت حول الصورة هذه الأبعاد
الثلاثة، ولهذا رمت بالرهبان والصنَّاع والجنود معًا في حلبة المصارعة القاتلة.
فالصورة المصنوعة هي في الآنِ نفسه منتوج ووسيلةُ عملٍ ودلالة. لقد مَثُل فيرونيز
Veronèse أمام محاكم التفتيش ليبرِّر أمامها
الحضور الدنِس للمهرِّجين والأنذال قرب المسيح في لوحته: زفاف كانا. فهل نعتبر ما
قام به «تركيبًا متسرِّعًا»؟ إنَّ تاريخًا للبصر يلزم أن يكون مرتبطًا أشدَّ ارتباط
بهذه الوجوه المتعددة والمختلفة التي يكون كلُّ واحد منها موضوعًا لمبحثٍ مستقلٍّ
واستقلالي؛ ذلك أنَّ تاريخ الفن يبحث في تقنيات الصنعة وآثار الأساليب والمدارس
والاتجاهات. وتبحث الأيقونيات l’iconologie أو
السيميائيات في الطابع الرمزي للأعمال الفنية (إمَّا بتفسير الصورة وإضاءة جوانبها
الغامضة بوسطها الثقافي، وإما بالتحليل الداخلي للأشكال). أمَّا تاريخ الذهنيات،
فإنه يبحث في التأثيرات وموقع الصور في المجتمع. تلك هي تقسيمات العمل الأكاديمي،
إنها تعمل بالتجريد وتجْزِيءِ الواقع. وهي تقطيعاتٌ ضرورية من الناحية العلمية، غير
أن مساوِئها تكمن في طمسِ المفاصل التي توحِّد فيما بينها. إنَّ السبب يكمُن في
أنَّ كلِّ محورٍ يفعل في المحورَين الآخرَين ويتفاعل معهما. فالصورة، حين تغيِّر من
طابعها (تقنيتها)، لا تحافظ على الآثار (السياسية) نفسها ولا على الوظيفة (الرمزية)
نفسها. وإذا كان تاريخ الروحانيات عسكريًّا، وتاريخ الإمبراطوريات دينيًّا، فإن
الاثنَين لهما قاعدة تقنية. إن هذا المضلَّع الثلاثيَّ السطح الذي ترتبط فيه خصائصُ
وأبعاد كل سطح بخصائص الوجهَين الآخرَين؛ هو ما يسمَّى المركَّب الوسائطي. أما وضع
الوجوه الثلاثة تحت الضغط، فإنه يتمُّ بلَحم المحاور والأقطاب الثلاثة بعضها ببعض.
وما نتوق إليه هو التمكن من عكس السطوح المرجعية الثلاثة بكل أبعادها ونتُوءاتها
وبشكلٍ شفاف على الفضاء كما نفعل ذلك في الحاسوب، وذلك بتغيير زوايا النظر
والمنظورات، لكنْ من غير فسخٍ لوحدتها. فضرورات الكتابة الخطية وحدها هي التي
تبرِّر تناولنا لمتغيرات البصر فصلًا بفصل.
إن ما يشتغل (في العمل الرمزي) نادرًا ما يحظى بالأهمية اللازمة (في التقارير
الفلسفية). أليس بإمكاننا عكسُ هذه الخطوة وتبئير نظرنا على كلِّ ما يغير واقعًا
معينًا بتوسيطه لأقطاب متعارضاته. لهذا فمقاربتنا هذه تسعى إلى نقل الأهمية ومنحها
لكل ما هو بيْني؛ ذلك لأنها مقاربةٌ مخترقة للنزعات الوطنية والانضباطية وللتقسيمات
الراهنة للمعرفة، وبعيدةٌ كلَّ البعد عن الفكر الثنائي الذي يُعَسْكر في المواجهة
العقيمة بين النفس والجسم، والمادة والروح، والعلامات والأشياء، والداخل والخارج.
فهي تستقرُّ، من ثمَّة، في الفواصل وتُسائِل المؤوِّلين والوسطاء. ففي مجالٍ يسمَّى
«أفكارًا»، سواءٌ كانت مكتوبة أو مطبوعة، تمَّ فيما سبق محاولةُ وضعِ التحليل
المادي للأجهزة الدينية والأيديولوجية، وهي الموضوع التقليدي ﻟ «العلوم الأخلاقية»؛
مع التحليل الأخلاقي لأجهزة الإرسال، وهي الموضوع التقليدي ﻟ «تاريخ التقنيات»، في
وضعيةِ تقاطُع. بالشكل نفسه، نرغب نحن في مجال الصور، سواءٌ كانت يدوية أو صناعية،
المُلاقحة بين التحولات التقنية والأوساط السوسيولوجية والثوابت الأسطورية
للمتخيل.
إنه تمرينٌ شديد الصعوبة؛ لأن الآلات والأساطير لا تتعايش بأمان. فالتاريخ
السعيد، المتحرك والتطوري لعلاقتنا بالأشياء (التقدم الصارخ للعلوم والتقنيات) يدير
الظَّهرَ للتاريخ المُتعْتع والعُصابي والشقي، أيْ لتلك الزاوية المظلِمة التي لا
نمسك بها أبدًا باعتبارها شيئًا. إنها تلك الزاوية التي لا نكفُّ عن السعي نحو
تسليط الضوء عليها، مُسائلين باستمرار صور العالَم كلها. لهذا فإنَّ هذا البحث لا
يمكنه أن يندرج في أيِّ «خانة» تتصل أكاديميًّا بعالَم الصور، فلسفةً كانت أو
تاريخًا أو نقدًا أو علم نفس أو علم اجتماع أو سيميولوجيا. ولأنَّ مقاربتنا تظلُّ
صديقةً لكل واحدة منها؛ فإنها لا ترتبط بأيٍّ منها، بل تأخذ من كلِّ خانة
محاسنها.
إننا نسمِّي «وسائطيات» médiologie المبحثَ الذي
يتكلَّف بالكشف عن نقط لقاءِ التقنية والسياسة والتصوف وتوحيدها. فبعيدًا عن لوازم
البصر التقنية، يمكن لهذا المبحث الجامع
interdisciplinaire أخيرًا تناوُلُ تكنولوجيات
المقدَّس (بتحرير المصطلَح الأخير من كلِّ إيحاءاته الخارقة أو العقائدية).
فالإحساس بالمقدَّس لا يخلو من شوائب التطور التقني.
لقد أخذنا طريقًا مادية دينية (فنحن على علمٍ بأن الديانات هي أكثر ماديةً مما
نعتقد، وبأنها تجهل هي نفسها ذلك)، بالرغم من أنَّ هذا التعبير له في آذاننا
الصمَّاء وقْعُ ثنائيات لها آلاف السنين. إنه طريقٌ «مادي»؛ لأنَّ من الواضح، لكلِّ
واحد يراقب الإرسال الرمزي، أنَّ الأدنى هو «خلاص» الأعلى وأنَّ في المادة «خلاص»
الرُّوح. أليس الأعلى والرُّوح، إذا ما هما ظلَّا من دون سندٍ مادي، محكومَين بهباء
اللحظة وبالطابع المحلي للصوت والحركة غير القابل للتناقل. إنه طريق «ديني»؛ لأن
الرمزي، لغةً ووظيفةً، هو ما يربط بين الإنسان وأخيه الإنسان. من المستحيل إذن فهْمُ الصور من دون الخلط بين مجالَي الرُّوح
والجسد (وإنه لذو طابعٍ له أعراضه الدَّالة؛ أن يلجأ ماركسي من
قبيل والتر بنيامين إلى استعمال معجمٍ «روحاني» لتحليل العمل الفني. فماذا تعني
هالته aura الشهيرة غيرَ المادة المحسوسة للرُّوح،
إلا إذا تعلَّق الأمر بالروح المحسوسة للجسم؛ إذ إن الكلمة اللاتينية
aura تعني النفْس والنفَس والتنفس؟)
لقد كان للإغريق الحق في التمييز مفاهيميًّا بين فعل الإنسان الذي يقع على
الإنسان (فسمَّوه براكسيس) وفعل الإنسان في الطبيعة (الذي سمَّوه صنعةً
techné). إنها أفعالٌ لا تحيل على القوانين
نفسها، وتقع في زمنَين مختلفَين. بيْدَ أننا لا نستطيع واقعيًّا حجزهما في خانتَين
محكمتَين. وما دام أيُّ رمز يكون فاعلًا ولا يمكنه إلا أن يخضع للإرسال، فإنَّ صيغ
تواتر العلامات وسندها المادي قد بدت لنا في الماضي تنويعًا «للفاعلية» الثابتة. إن
هذا يعني أن الفعل الرمزي يتطلب عمليةً تقنية، سواءٌ كان تمفصلًا صوتيًّا أو
حركيًّا أو كتابة مرئية، أي كل وسائل النشر التي تتطلب عملًا ماديًّا على
مادة.
فكلمة religion (ديانة) في اللاتينية لها مصدران:
religare وتعني: رَبَط،
وrelegere وتعني: جَمَع. ألَا يمكننا نحن
المصالحة بينهما باعتبارنا أن الرابطة الرمزية التي تنشأ بين أفراد مجتمعٍ ما تختلف
باختلاف النسق المادي لجمعِ آثارٍ ما؟ وسواءٌ تعلَّق الأمر بثقافةٍ شفهية أو مخطوطة
أو مطبوعة أو سمعية بصرية أو إعلامية؛ فإنها كلَّها عواملُ للانسجام الاجتماعي.
بيْدَ أن النسيج الترابطي بين المجتمعات الإنسانية ليس هو نفسه، وذلك تبعًا لكون
الكرامة الدينية والعمل العظيم تحافظ عليهما ذاكرةٌ جماعية أو شريط مغناطيسي أو
أقراص إلكترونية. وإذا ما نحن ربطنا أكثرَ بين الذاكرات المادية (التي تنطبع عليها
متواليات الآثار) والذهنيات الجماعية، وبين المجموعات البشرية والتواصلات، وبين جسم
المجتمعات ورُوحها، فما الذي سيقع؟ إنَّ أداة العطف هذه التي ما تزال كثيفةَ
التركيب هي التي نرغب في فتحها كما لو كانت صندوقًا معتِمًا.
«الفعالية الرمزية»
لنعُدْ إلى مُنطلقنا، أيْ إلى دراسة طرق الفعالية الرمزية ووسائلها. فمقصد المعنى
يمكنه أن يتم سواء في الكلمات، مكتوبةً كانت أو منطوقة، أو في الصور، مرسومةً كانت
أو منحوتة أو منقوشة. ففي كتابنا «دروس في الوسائطيات العامة»،
١ وبعد أنْ تغيَّيْنا تأسيسَ تداوليات للفكرة في حقل اللغة، انتقلنا إلى
تداوليات الصورة في مجال المحسوس. فهل تأتي الصور، بوصفها قوًى، بعد الأفكار بوصفها
قوًى كذلك؟
إنها «سلطة الصور»، وهو تعبير يلزم فهمه بدايةً في معناه المادي، أي في معنى
«إنتاج الآثار» و«تغيير سلوكٍ ما». فكما أنَّ ثمَّة كلماتٍ تجرح وتقتل وتحمِّس
وتخفِّف عن النفس … إلخ، كذلك ثمَّة صور تثير الغثيان والقشعريرة وتسيل اللعاب،
وتساهم في انتخاب مرشَّح دون آخَر … إلخ. إنه ابتذال مُلْغز. فالإشهار التجاري
يتعرض للنقد؛ نظرًا لأثره الذي يُعتبر إغواءً وإفسادًا وإحراجًا وتلويثًا واحتلالًا
وتشريطًا … إلخ، وذلك انطلاقًا من مصادرةٍ على المطلوب لم يتمَّ تبريرها أو شرحها
إلا نادرًا، وتتمثل في كونها تملك تأثيرًا على الجمهور. وهواة الإشهار والمعادون له
يتقاسمون على الأقل هذه الفكرة المسبقة. وكلُّ واحد منهما يتظاهر بالعكس. وإذا كان
علماء الاجتماع غيرَ قادرين على القياس العلمي للتأثير المبتذَل «للعنف في
التليفزيون» على انحراف المراهقين؛ فإنهم مع ذلك يتفقون كلُّهم على القول بأنَّ
الصورة المبثوثة في تليفزيونات غيتوهات السود الأمريكيين قد كانت حافزًا على وجود
العصابات في ضواحي المدن الفرنسية الكبرى. إنها فعاليةٌ عجيبة؛ فهذا أحد المراهقين
المنحرِفين، وقد قُبض عليه وهو يمثِّل دورَ الزعيم في الضاحية الجنوبية لباريس، بعد
أن داس راجلًا، متجاوِزًا إشارتَي ضوءٍ أحمر وهو يستعرض سرعته بشكلٍ جنوني. يسأل
القاضي: لماذا يملك رجال الشرطة في كاليفورنيا الحقَّ في القتل ولا يسمح له هو
بذلك؟ وهذا الخبر منشور في الجرائد في صفحة «الحوادث». وهو ما يجعلنا نستنتج أن
الصورة ليست ضارَّة بطبيعتها، وإنما هي تغذِّي بجهد قليل أو كثير، في كلِّ يوم
يمدِّد الله به عمرَ الكون، نزوعًا محاكاتيًّا لاشعوريًّا لدى المتفرِّجين. أكيد أن
مشكل النماذج المتخيَّلة للتماهي، ليس جديدًا أو غريبًا. فبإمكاننا الافتراض أن
الشباب من قنَّاصي البقر الوحشي في العصر الجليدي، كانوا يخاطرون بلا جدوى؛ نظرًا
لتأثُّرهم بالنقوش الحجرية. لكنَّ قِدمَ لغزٍ ما، لا يفترض بالضرورة حلَّه.
لقد اهتم الإنسان في الغالب بفعالية الكلمات أكثر من اهتمامه بفعالية الصور.
المحلل النفسي والساحر يستأثِران باهتمام الإثنولوجيين أكثرَ من التشكيليين
وفنَّاني الملصقات أو السينمائيين. وفي هذا المِضمار غدتْ تحليلات ليفي ستراوس
للشامان العامل بين ظهراني هنود الكونا
Cuna في
بناما بمثابة قانون. فحين تجِدُ المرأة الحامل صعوبةً في وضع وليدها؛ يتمُّ اللجوء
إلى الساحر. هكذا يدخل المولِّد إلى كُوخها ويغنِّي ويرتِّل عند سريرها كلماتٍ لها
القدرةُ على الكشف عن رَحِمها وتوسيع مَخرج الجنين. «إنَّ المرور إلى التعبير
اللغوي يحرِّر العملية النفسية من الحصار.»
٢ إنها طبعًا علاقة دالٍّ بمدلول، لا علاقة علةٍ بمعلول. فما يمنح للفعل
السحري فعاليتَه؛ هو الاعتقاد المشترك بين الساحر والمريضة والعشيرة بكاملها في
السحر. وإذا نحن لم نؤمن بفضائل التحليل النفسي قبل الاستلقاء على السرير التحليلي؛
فهل يبقى للعلاج أيُّ فعالية؟ وهل تمنح الرؤية إمكانية الانتقال إلى الفعل بطرقٍ
مشابِهة؟ وهل بإمكاننا المقارنة بين عمليةِ التصوير التي تتمثَّل في إعطاء السديم
طابعًا مرئيًّا ومنظمًا، و«العلاج الكلامي»
talking
cure، المتمثل في تنظيم التشابك بين إحساسات غامضة ومتوالية،
حكائيةً مكوَّنة من أساطيرَ معروفة. من الأكيد أنَّ خرقة القديس التي تشفي من
الأمراض، والنذر الذي يجلب التوبة لصاحبه، والرسم الذي يُنعش، وتمثال القديسة
فيرونيكا الذي يضمن خلاصَ المرءِ بمجرد النظر إليه، كلُّ هذا يفترض من الرائي فعْلَ
ثقةٍ واعتقادًا مسبقًا ومسكوتًا عنه.
ولا ننسى هنا الحالات الأقلَّ حظًّا للفعالية الرمزية التي تضجُّ بها
جرائدنا.
في هايتي، تسمَّى عقوبة الطوق، التي كانت تمارس خلال الانتفاضات الشعبية الكبرى
لسنة ١٩٩٠م: «الأب لوبران». من أين جاءت فكرة حرْقِ أتباع الحاكم أحياءً بوضع عجلةٍ
مشتعِلةٍ في رقابهم؟ إنَّ مصدرها هو شريط إشهار تمَّ تحويل مجراه بشكلٍ عفوي. فقبل
الأحداث بقليل، ظهَرَ على الشاشة أحدُ أعيان «بور برانس»، عاصمة هايتي، وهو الأب
لوبران، وفي عنقه عجلةٌ؛ وذلك في لوحةٍ إشهارية للعجلات. لم يكن الرجلُ الطيب، هذا
الذي ليس راهبًا، وإنما تاجرًا بالجملة؛ أن يبيع سلعته بواسطة صورٍ مدهشة. لكن
المتفرجين استغلوا الإشهار لإشباع رغبتهم في انتقامٍ قديم. فطرق الفعالية
الأيقونية، ليست بأقلَّ استعصاءً من طرقِ القضاء والقدَر. ليس ثمَّة من صورةٍ بريئة، لكن بالطبع لا وجود لصورةٍ آثمة؛ لأن مَن يفرض على
نفسه شيئًا من خلالها هم نحن. فكما أنه ليس هنا من تمثيلٍ بصري يملك
فعاليتَه في ذاته وبذاته؛ كذلك فإن مبدأ الفعالية لا يلزم البحث عنه في العين
الإنسانية، وهي ليست أكثر من لاقطٍ للأشعة، وإنما في المخ الذي يثوى وراءها. البصر
ليس هو شبكة العين.
ترى الصقور أفضلَ منَّا، لكنَّها لا تملك نظرة. كما أنَّ الكلب لا يتعرَّف على
صاحبه في الصورة. فالحيوان لا يحسُّ بغير الأشياء التي تملك أمارات؛ إنه لا يفصل
بين الحافز والموضوع الممثَّل (فالنمر لا يتعرَّف على مروِّضه إلا وهو واقف).
الإنسان هو الثدييُّ الوحيد الذي يرى بشكلٍ مضاعَف. فشبكة العين ترسل إليه بصورةٍ
يحلِّلها المخُّ ويمنحها دلالةً. وهو يستطيع لذلك أن يرى، في أيقونةٍ ما، قطعةَ
الخشب المغطَّاة بخليطٍ من الجير، وأصفر البيض والورنيش والخضاب؛ ومن خلالها الحضور
المقدَّس للمسيح. إن أيقونةً ما تشكِّل إعلانًا للإيمان، لكنَّ أيَّ إدراكٍ، مهما
صغر، هو أيضًا إعلانٌ عن الإيمان وإنْ بدرجةٍ أقل؛ فإلقاء نظرة يكون دائمًا رهانًا.
إنَّ عملية الإرسال العصبي البيولوجي لحافزٍ إخباري؛ ما زالت لحدِّ الآن غامضةً.
فما نعرفه هو أنَّ العين ليست سوى جهازٍ لتحديد الاتجاه، فيما يقوم المخ ﺑ «معالجة»
الإشارات الضوئية. والصورة الضوئية تنتُج عن اشتغالٍ ذهني توفِّر له شبكيةُ العين
ما يحتاجه من تموين، فيما تتكلَّف الأعصابُ باستراتيجياته. الأعصاب هي التي تختار
المعلومات، بحيث إننا نعكس المرئي بقدْرِ ما نتلقاه. ولأنه ليس ثمَّة لثنائيةٍ بين
الفيزيقي الخارجي (أي الأشعة الضوئية، والأشكال المدرَكة)، والإدراك المعرفي
الداخلي (أي الهيكلة الكيفية للأشكال)؛ كذلك لا يوجد في هذا الجانب «مساحةٌ منبسِطة
مغطَّاة بألوان مجموعةٍ تبعًا لنظامٍ معيَّن» (موريس دوني)، وفي الجانب الآخَر
«امرأةٌ عارية». فالجانبان يحدُثان في الوقتِ نفسه، لا قبل ولا بعد، ويشكِّلان
لوحةً واحدة. والمساحة المنبسِطة و«الآلة السيميائية»؛ لا ينفصلان، بقدْرِ ما لا
تنفصل اليد والمخُّ لدى التشكيلي.
صِدام الأزمنة
ليست حركية الصورة والكلمة من الطبيعة نفسها، ووجهتُهما ليست هي نفسها. فالكلمات
تقذف بنا نحو الأمام، فيما ترمي بنا الصورة في الخلف، وهذا التراجع في زمن الفرد
والجنس الإنساني يعتبر مسرِّعًا ومحرِّكًا للقوة. إن المكتوب
نقدي، أما الصورة فنرْجسية. ومهمة أحدهما الإيقاظ، فيما تكمن مهمة
الآخَر في إنامة اليقِظ والتنويم التدريجي. الكلمة توقِّف والصورة تمدِّد (فأجمل
الصور نراها ونحن ممدَّدون، والاستغراق في عمق الكرسي يعتبر متعةَ هواة السينما).
ونحن لا نقرأ الكتب جماعة، أو بين اليقظة والنوم. غير أننا يمكن أن نشاهد لوحةً أو
فيلمًا أو مسرحيةً جماعةً، كما تنصت قاعة بكاملها للموسيقى. والانتباه غير المركَّز
يُوقِف القراءة، لكنَّه لا يوقف البرنامج التليفزيوني أو الإذاعي أو الأسطوانة
الدائرة والصورة، كما هو حال الصوت أو الموسيقى، على عكس النَّص، تعتمل في أجسامنا.
النظر يلمس ويتلمَّس، ينزلق أو ينغمس، يمسُّ أو يَلِج؛ فهو يفتن ويُمسِك بالاهتمام
ويستأثر به. إنه يدلِّك الحواسَّ ويفرض ثقله (فالنَّحْنُ يرتبط أكثر من الأنا
بالهُوَ، واللاوعي الجماعي ديني بطبعه باعتبارِ عُراه التي لا تنفصم مع الصور،
مقارنةً مع الوعي الفردي). ثمَّة تراجع تلذُّذي في كلِّ تأمل، كما لو أن الأصل
والأمَّ وما قبل التاريخ أمورٌ تأخذنا بين أحضانها. يكمن سرُّ قوة الصور بالتأكيد
في قوة اللاشعور فينا (باعتباره مفكَّكًا كالصورة ومُبَنْيَنًا كاللغة). نحن نستبطن
الصور-الأشياء، ونُخرج الصور الذهنية؛ بحيث إنَّ التصوير والمتخيل يترابطان بعضهما
ببعض. هكذا يمنح الحُلم والاستيهام والرغبة للصورة الموضوعَ شيئًا ما لذيذًا
وممتلئًا يُمصُّ كثديٍ ويملؤنا بغتةً بالنشوة. إنها قوةٌ ديونيزية، هكذا كان سيُقال
لنا من قرنٍ مضى (لكنَّ ديونيزوس، كان ذا علاقةٍ وطيدة مع السمعي، ونيتشه كان
يفضِّل الأذن على البصر). يُعبَّر عن ذلك اليوم بالحضانة أو الهدهدة البصرية. أنْ
نرى يعني أنْ نختصر؛ أنْ نوقف المنطق الخطيَّ للكلمات، وننفلت من دهاليز التركيبي
ونعانق لمرةٍ واحدة كلَّ حياتنا الماضية. إنه تماسٌّ عجيب؛ السرعة ومعها الطفولة.
وإنه لَحظٌّ إلهي أن تتمَّ المجاورة من غير أيِّ تراتُبية ومن غير خطيَّة أو قلبٍ
للصفحة. وهي في غمضةِ عين، لحظةُ شبابٍ وتركيبٍ وخلودٍ. فلوحةٌ لرمبراندت هي يوم
قيامة داخلي؛ إنها أرواحنا البارَّة وقد أُخرجتْ للنور.
للصورة دائمًا السبق، والشخص الذي يقع فريسةً للصور؛ ليس معاصِرًا للشخص الذي
يمارس استدلالاته على الكلمات. إنه الشخص نفسُه، لكنَّه يجد نفْسَه فجأةً في فارق
عن ذاته، مفلوقًا وقد أصبح شخصًا سحريًّا. إنه لم يعُد شخصًا معقولًا؛ لأنه فكَّ
عُقدة وعيه وحرَّر هذيانه. فالتفاوت يخترق كلَّ لحظة من تاريخ العلوم والحِكم. وكان
بروتستانتيُّو فرنسا المعاصرون لمونتيني، المتأدِّبون والإنسانويون، يتهجَّمون على
صورةِ «الملك لويس الحادي عشر في قلب الموجة المعادية للتصوير. وكانوا يمسكون بها
كما لو كان حيًّا ويقطعون يدَيه ورجلَيه ورأسه.»
٣ كما كان آخرون يجلِدون الصليبَ أو يقطعون رأس العذراء. وفي الوقت نفسه،
لم يشكَّ الكاثوليكيون الأرفع تربيةً ولو لِلَحظة، في أنَّ صورة «السيد سانت
أنطوان» قد رمتْ بالمرتزقة الكالفينيين الذين كانوا يشتمونها في النهر. كما أنَّ
المعاصرين لديكارت، كانوا يتناقلون بشغفٍ حكايةَ ذلك التركيِّ الذي ما إن ضرَبَ
صليبًا بمعقفته حتى أُصيب للتوِّ بفلجٍ نصفي. أمَّا معاصرو نيوتن، فقد اعتبروا
بالتأكيد أنَّ صورة المسيح هي شكلٌ ما للمسيح نفسه. وفي ذلك يكمن عارُ خرق
المقدَّسات. فقد قُطِع رأسُ فارس «لابار» في قلب عصرِ الأنوار بعد أن اتُّهم بتوجيه
ضربةِ سكين إلى صليب، ولعدم تعرية رأسه أمام القربان المقدَّس. فإذا كان المشرِّع
يعتبر إرادة قتلِ الإله في صورته قابلةً للتصديق مبدئيًّا وعقوبتُها القتل؛ فذلك
لأنَّ الصورة تظلُّ، لدى الشعب، الصنمَ الذي كانتْه خلال آلاف السنين، أيْ شيئًا
أشبهَ بالشخص الحيِّ الذي يبكي الدمَ حين تُمسُّ كرامته أو يُهان قبل أن يُحطَّم.
وليس يخفى أنَّ تحطيم الصورة يشبه عمليةَ قتل. فقد قامت الكنيسة الإصلاحية بتحطيم
الأصنام البابوية بشكلٍ يمكن اعتباره أشبهَ بإعدامٍ أو عقوبةٍ قُصوى.
إنَّ الأمر يتمُّ كما لو أنَّ التمثال الحجري أو الملوَّن يوقظ في الزمن الديني
نفسه ما هو أكثرُ بدائيةً في البدائي، أي ذلك المستوى الأوَّلي في المقدَّس الذي
نسميه تطيُّرا. بل إنَّ الأمر يبدو كما لو أن غزوات العقل تظلُّ عاجزةً أمام
الحركات العبادية نفسها، وأمام حركات التحطيم النقطَ الحسَّاسة نفْسَها. فضربات
المِطرقة التي يوجِّهها القبطي المؤمن بالطبيعة الأحادية للمسيح، في القرن الخامس،
لعينَي حورس أو أوزيريس في الطريق الدائري لمعبد إدفو؛ تجِدُ صداها في ضرباتِ
البروتستانتي الفرنسي على أيدي وعيونِ المادونات والقديسات المصنوعة من الخشب
والجبس، وذلك في قلب القرن اﻟ ١٦، قرن النزعات الإنسية. أما ضربات مِعْوَل الكافر
العاري في السنة الثانية من التاريخ، المصوَّرة في ميداليات لويس الرابع عشر،
الموجهة للعينَين أساسًا؛ فتشهد بأنَّ الزمن هنا يجد صعوبةً في المرور. بيْدَ أن
«نظرة شعبٍ حرٍّ لا يمكنها أن تمسَّ رموز الاستبداد.» ألمْ نقف على الحركات نفسها
ولم نسمع الكلماتِ نفسها، في أيامنا هذه، في براغ وموسكو وبودابست، وكلُّها تتصل
بالرموز البصرية لاستبدادٍ من نوعٍ آخَر؟ إنَّ ردود فعل الإيمان بالأصنام تغذِّي
ردود فعلِ معاداة التصوير، غيرَ أنَّ هذه الأخيرة تبدو أكثرَ حيويةً من نظيرها
المعكوس. فالهمجيُّ والمنزِّه (معادي التصوير) أو المتمرِّد المتطلِّع للحرية
يؤكِّد، حسب الميول، أنه من غير الممكن اجتثاث ذكرياتِ مشروعيةٍ ما من غير تحطيم
الصور التي تحتضن تلك المشروعية. «لا يستطيع الشعب الفرنسي رؤيةَ ما لم يعُد
موجودًا؛ لأنه قام بتحطيمه، لهذا فنظرته ستضطرب وستتعرض للإذلال.» لكنَّ تحطيم
قِطعٍ من الخشب أو الحجر أو الثوب؛ لا طابعَ تمثيليَّ له. إنه «قُربانُ ثأر»
وتضحيةٌ «استغفارية». وإذا كانت الكلمات المكتوبة تظلُّ بلا حراك؛ فإن الصور تحتفظ
ببعض الحياة. لذا فهي تهدِّد، وتثير وتحافظ وتحفِّز أو تُثْبِط الهِمَم. وتمثيلها
يحافظ على حياةِ الممثَّل؛ وهي لكي تقوم بذلك، لا بد لها من مُعين. ففي كل رأس سنة
في إدفو على شطِّ النيل، كانت التماثيل المقدَّسة تخرج من الناووس نحو سطيحة
المعبد، وذلك كي تتغذى من جديد بالطاقة وتتدفَّأ بالنار الشمسية؛ كي تحافظ على حياة
الآلهة والناس. إنه طقسُ «الإشعاع» الذي يخترق مع الزمن كلَّ الأساطيريات الجماعية.
وعلى العذراوات الأندلسيات أن يخرُجنَ من مَخبئِهنَّ كلَّ سنة، ليُبعثْنَ أحياء وقد
وُلِدْنَ من جديد، واستدفَأنَ بمزاحِ البعض وتنبُّؤات الآخَرين.
لم يعُد من المعتاد أن نتوقع من الصور أيَّ تأثير سيئ أو أي معجزة. لكنْ هل
نستطيع إنكار أنها تثير فينا استعادةً غريبة للمكبوت؟ إنها تجعلنا نقفز قفزاتٍ كبرى
للوراء في جنيالوجية الإنسان. فقد رأينا أن الصورة تنتمي لزمنٍ ثابت، هو زمن
العاطفة والدِّين والموت. وهذا الزمن لا يعرف بنيات العقل ولا التقدُّم التقني.
صحيحٌ أن الكفَّار لم يعودوا يكسرون القرابين في بيوتها كي يروا إذا كان دم المسيح
سينبثق منها. لكن بالمقابل، هل اختفت القُبَل والركعات والشموع من الحجِّ لأضرحةِ
القديسين لدى معاصِري أينشتاين وجاك مونود؟ وهل يتعامل ملايين الأشخاص العاقلين
الذين يحجُّون لزيارة قديسين من قبيل لورد أو شسيسطو شوكا، أو سان جاك دو
لوكومبوستيل، بشكلٍ عاقل مع صورة العذراء مريم؟ لكنْ ليس المؤمنون وحدهم هم الذين
يتشبَّعون بالسِّحر القديم. فصورة الجَدِّ الموضوعة على المدخنة؛ لا يمكن تغيير
مكانِها كما يُنقل أي أثاث من موضعه. يحمي القديس كريسطوف، قديس السائقين، أتباعه
من الموت «الأسود»، وعلينا أن نرى الإشارات التي يقوم بها الهنود من سائقي الحافلات
على طرق جبال الأنديز، أمام الدُّمية الصغيرة المعلَّقة على المرآة العاكسة. ثمَّة
الكثير من المُلحِدين الذين ينحنون أمامَ الصليب في الكنائس، البعض منهم يضعون شمعة
تحت تمثال القديس فرانسوا، كما أننا كلَّنا نضع الزهور على القبور.
هل هي قوة الصورة أم قوة البدائية؟ لقد أدركْنا أنَّ علينا أن نُدْخِل التحليل
النفسي في خزان علومنا. وبالرغم من أن مَعين المؤثرات يوجد في أصلِ كلِّ شيء، إلا
أن من اللازم الاكتفاء بالإيحاء؛ ذلك أن هذا العلم المزيَّف الذي يقول الحقيقة
أحيانًا يسيطر سيطرةً كبرى على التفكير في الصورة حاليًّا، ثم لأننا نفضِّل عليه
الأركيولوجيا، باعتبار أنه يقول الشيء نفْسَه مع الحفاظ على الوزن الغريب للمنسيِّ،
لكنْ بطريقةٍ قابلة للتحقُّق وأقلَّ أدبية.
الجنس البشري هو بالتأكيد الذي يحرص من خلال الصور، باعتبارها الذاكرةَ السابقة
على الذاكرة، على استحضار الذكرى الطيبة للأفراد. فالصورة خاصيةُ الإنسان وأول
أفعاله. وقد أثبتَت الأركيولوجيا هذه الحقيقة الإحائية المتمثلة في الرسم باعتباره
علامةً مميِّزة للإنسان. فالجواثيم والنحل والدلافين لها «لغتها»، وكثيرة هي
الحيوانات التي تتواصل بإشاراتٍ صوتية. أما الثدييات الرئيسية فإنها قد تستعمل
«الأدوات». لكنْ، لا أحد منها يقوم بقطع الحجر أو نحْتِه. فالرسم والتخطيط وحده
يؤكِّد ولادةَ الإنسان حوالي ٣٥٠٠٠ سنة قبل الميلاد، أيْ في نهاية العصر الحجري
الوسيط، حيث ظهرت أُولى آثار الصيد، وهي عبارةٌ عن «أسناد
supports خطيَّة بدون روابط وصفية، وأسناد
لسياقٍ شفوي ضاع بدون رجعة» (كما يقول الإثنولوجي الفرنسي لوروا-غوران)؛ وحيث ظهر
اللَّحد وشاهدُ القبر الخشبي الذي تُنقش عليه عناصر مجرَّدة (خطوط، ملولَبات،
نُقَط) تشير إلى الأنسنة التي يمرُّ بها الكائن. الإنسان سليلُ العلامة، بيْدَ أن
العلامة تنحدر من الرسم والتخطيطات، مرورًا بالبيكتوجرام (الكتابة المرسومة)،
والكتابة الهيروغليفية (ومن المحتمَل أن يعود إليها في المستقبل). ليس ثمَّة من
قطيعة، بل ثمَّة استمرارٌ تطوري بين محور «الصورة المتعددة الأبعاد» و«محور الكتابة
الخطية»، فيما يشكِّل الطرفُ المتعلِّق «بالرسم» نقطةَ انطلاقِ مسارٍ ينتهي بالحروف
الصوتية التي تسجِّل الأصوات (هذا على الأقل ظرفيًّا، إذا نحن لم نذكر «الكتابة
الرمزية الحركية»، باعتبارها كتابةً جديدة بالصور دعا إليها بيير ليفي
P. Levy). لقد كانت
الصورة وسيلتنا الأُولى في إرسال المعلومات، والعقل الكتابي، بوصفه أمَّ العلوم
والقوانين، قد انحدر تدريجيًّا من العقل الأيقوني. وبما أن الخرافات
قد سبقَت العلم، والملاحمُ المعادلاتِ الرياضية؛ فإن الفعل التصويري أقدم من الحرف
المخطوط بعشرات آلافِ السنين. الكتابة الصوتية بالعلامة المخطوطة، أكثر ارتباطًا
بالدولة منها بالخارق، وهي قد ظهرت فيما بعد (حوالي ٣٠٠٠ قبل الميلاد). ونحن نشكُّ
في أن تكون آلاف السنين التي تفصل بين ثيران مغاراتِ لاسكو والكتابات الأُولى
لبلادِ ما بين الرافدين؛ قد تبخرت فينا من غير أن تترك أثرًا أو تفتح أمام الخَلَف
طرقًا وثيرة وآمِنةَ المرور.
ولأننا كنَّا أطفالًا قبل أن نصبح رجالًا، ورقصنا قبل أن نمارس التحليل، ودعونا
وتضرعنا قبل أن نطلب، وحفرنا بالسكين الحجري عِظام الأيول قبل أن نجاور بين الكلمات
على الورق؛ فإن «الصورة المدهِشة» تسري في دمنا بأسرعَ من المفهوم. فبما أنَّ
الصورة أولُ ساكن للمكان؛ فإنها ليست ضيفًا علينا، وإنما هي صاحبة المحل.
لماذا نعتبر دانتي «شاعرَ القرون الوسطى» فيما نعتبر جيوتو، معاصِره بسنةٍ
تقريبًا «فنَّانًا من عصر النهضة»؟ لماذا نجد الفضاء الممتدَّ والمتناسق والموحَّد
الخصائص الذي نادى به نيوتن لدى مكتشفي المنظور، قبل قرنٍ من ذلك؟ لماذا تُعلِن
لوحة فراغونار الخفيفة بعمقٍ كبير انهيارَ النظام القديم، فقط بتغيير زاوية النظر
للقصر (المرسوم جانبيًّا أو من فوق)؟ لماذا تستبق أطلال هوبير روبير
H. Robert التحطيمات الثورية؟ لماذا تمثِّل
أعمال تورنر Turner مجازات النار قبل اكتشاف
الدينامية الحرارية؟ لماذا يؤشِّر تفجير زاوية النظر لدى التكعيبيِّين إلى الاختفاء
القريبِ لمفهوم الذات المؤسِّسة في العلوم الإنسانية؟ لماذا كانت المستقبلية فاشيةً
مسبقة؟ ولماذا تتراءى الحرب العالمية الثانية في المدن العمياء التي رسمها ماكس
إرنست قبل ١٩٣٩م؟ لماذا يظلُّ تاريخ الفنِّ، كلما تعلَّق الأمر بإعادة النظر في
حساسيات كل عصر، سابقًا على تاريخ الأفكار، بل وعلى تاريخ الأحداث نفسه؟ لمَ علينا
من الأفضل ارتياد متحفٍ للفن المعاصر بدل مكتبةٍ عامة للإعلام إذا نحن رغبنا في
اعتراض العلامات المؤشِّرة على تحوُّلات الذهنيات والمنظومات العلمية والمناخ
السياسي؟ لأن الصورة المحسوسة تتفاعل مع الكون وتتغذى من مصادرِ طاقةٍ «دنيا»، أيْ
من مصادر أقلَّ خضوعًا للمراقبة وأكثرَ خرقًا للحواجز، بل وأكثرَ حريَّةً وأقلَّ
خضوعًا للمراقبة من الأنشطة الرُّوحية «العليا»؛ فهي تلتقط الاهتمام عن بُعد ومن
تحت، بل إنها تشبه رادارًا. إنَّ الإبداع المتخيَّل لعصرٍ ما، هذا الأرخبيل من
الأشياء العتيقة المؤشِّرة لمَا سيأتي، لن يكون سابقًا «تاريخيًّا» على الإبداع
الثقافي المعاصر له إذا هو لم ينهل، بشكل أفضل من هذا الأخير، من الديناميَّات
العميقة للنفسية، أيْ من السيرورة البدائية للحُلم واللَّعب والضحك؛ ومن القلق
أيضًا. فالإبداع المتخيَّل يملك قوةً تبشيرية وتنبُّئية بما أنه ذو طابع إشاري
تعييني وبدائي. والفن سبقٌ وتجاوزٌ في الآنِ نفسه، ولأنه ينتمي للسابق فإنه يحدس
اللاحق أفضل من الذكاء.
الآفة الوراثية
تنعت المنهجية الوسائطية القطيعة بين الجماليات والتقنية بالزيف، وهي الآفة التي
جعلتْ منها الفلسفة الغربية فضيلةً وراثية.
لقد ظلَّ خطلُ رجال الفكر، وخاصة منهم علماء الجمال، يتمثل في الإفراط في الحديث
عن الفن وعدم إيلاء الأهمية اللازمة للآلات والأدوات. فمنذ ١٨٣٩م وحتى يومنا هذا،
نجِد مقابلَ مقالةٍ عن التصوير الفوتوغرافي مائةَ مقالة عن التشكيل. لقد حبستْنا
الآلات البصرية للحداثة في صمتٍ مفاهيمي رائع.
٤
اللوحة هي الوحيدة التي تلائم الميتافيزيقي، الذي يجد نفسه مضطرًّا لتفادي الرسوم
المتحركة والشرائط المصورة
B.D (ميشيل سير وهيرفي
يؤكِّدان القاعدة). بالمقابل وإلى حدود زمنٍ قريب، لم يكن المختصون في الفوتوغرافيا
كموهولي ناجي أو جيزيل فروند؛ يتحدثون عن «الفنون الجميلة». وإذا ما نحن استثنينا
أندري بازان؛ فإننا نجد خليطًا من المؤلفين يراوحون بين الاهتمام بالصورة اليدوية
والصورة الصناعية، كما لو أنَّ مَن يهتم بالصورة الآلية، كما عرفناها منذ قرنٍ
ونصف، مُعفًى من تأمُّل ١٥ ألف سنة من تاريخ الصورة المرسومة أو المنحوتة. فقد داور
سيرج داني التشكيل، وجان كلير الفيديو؛ فيما تجاهَلَ شاستيل السينما. وأخيرًا فقط
جاء بارث وغرفته الوضيئة، ودولوز بصورته المتحركة وليوتار بلامواده، ليمنحوا لألبوم
العائلة والفيلم البوليسي الأمريكي والرسوم المتحركة قيمةً تجعل منها موضوعًا
للفكر. هل تجاوزنا أفلاطون وابتعدنا عنه؟ لا، ليس كلية؛ ذلك أنَّ بالإمكان اليوم
«محاولة ضبط حالة وجود الصورة وفعاليتها»، متجاهلين تمامًا ما أصبح عليه ذاك الوجود
منذ ١٨٣٩م.
٥ إنه مأزق يظلُّ خفيًّا ما ظلَّ طبيعيًّا بالنسبة لنا (بما أن نسيان
التقني ليس سوى «نسيانٍ تقني بسيط»)، وما دُمنا متعوِّدين على وضع ميتافيزيقا
الصورة في كوكب وطابعها المادي في كوكبٍ آخَر. كلما تدخلَت التقنية في الفن
المعاصر؛ تأخَّر انفتاح بوابات المملكة أمامه. وكون «الفن السابع» قد خضع عند كلِّ
عقد من الزمن تقريبًا إلى تقلبات معيَّنة كظهور السينما الناطقة والألوان وسينما
السكوب … إلخ، لم يساهم بطابعه التجاري في تأجيل التنصيب على كرسي المملكة. ففعل
التعميد باسم الفن السابع قد تمَّ في عام ١٩٢٧م (إذ قام به ريشيوتو كانودو في
كتابه: مصنع الصور)؛ أمَّا الاعتراف الاجتماعي بهذا الفن، فلم يتمَّ إلا في
الستينيات، وقد ساهم لانغلوا وجان لوك غودار في ذلك. ولم يكن ذاك الأمر بالضرورة
فألًا حسنًا كما سنرى فيما بعد، بما أن الدخول إلى المتحف قد يؤدي إلى تثبيت العزل
(لأنَّ الحظوة والاستعمال يقيمان علاقاتٍ متعاكِسة).
إننا نتفهَّم أنَّ الإنسان الجمالي يكره الإنسانَ الآلي: فالجماليات ظهرتْ
متأخِّرة في حضنِ الفلسفة (وبومغارتن وكانط وهيجل وشوبنهاور ونيتشه وكروتشه
والآخرون، ينتمون إلى هذه الطائفة)، والفلسفة وُلدت في أيونيا انطلاقًا من رفض
الآلات. وهي منذ أفلاطون لم تفتأ تحكي أوديسا الرُّوح في مواجهة المادة؛ والحال أنه
منها يتأصل. وحين نتبنَّى الحُكم المُسْبق الهيليني، فإن التقنية التشخيصية لا تكون
مستحسنة؛ فالشكل وحده يُحيي. لقد قام أفلوطين، بعد أفلاطون، بإضفاء الطابع الشيطاني
على الجانب الجسماني للصورة، الذي يجد له الأعذار لكون الصورة تمنح، من جهة أخرى
وبتفاعُل وتواؤم مع المادة، جزءًا من روح العالم. إن الجانب الحقيقي في الصورة
يتمثل، حسب أفلوطين، في المعقول. لهذا من اللازم تأمُّلها لا بعيون الجسم وإنما
«بعيون البصيرة»، أما شرور الصورة فهي، بالمقابل، ما تحتويه وتقترحه من عناصر
فضائية وظلِّية وعمقية، أيْ ذلك الخام الذي يأخذ مكانه بين الأنموذج المثالي
وامتداده البصري. لذا فهو يقول: «إن انعكاس النَّحْنُ، أيْ هذا العنصر الرُّوحي، هو
الشيء الوحيد الواقعي الذي نجده فيها. أما الباقي فهو مادةٌ خالصة، أيْ لاوجود خالص.»
٦ وقد استمرت النهضة الأوروبية، بتنظيرها للجميل والمثالي، في اعتبار
المادة القطب السلبي والسكوني لعمل الأشكال وذلك تبعًا للظل المتعاظم للفكرة. فمكيل
أنجلو وهو ينحت عمله، الليل، قد قام بانتزاع الشكل الخالص من كتلة الصخر الخام. إنه
شكلٌ لم يعُد يكمن في سماء الأفكار والمُثُل أو الفهم الإلهي (وثمَّة يكمُن طابعه
الثوري) وإنما في رُوح الفنان.
لقد خدم هذا الانفصال الجسدي بشكلٍ واضح العموميات الفلسفية؛ فقد نَجمَ عن تمجيد
الشكل ولادةُ الجماليات التي جعلتْ من موضوعها موضوعًا شاملًا بابتكارها للجنس
الوحيد الذي هو الفن. وكما نعلم، فجماليات الفلاسفة لا تُعير اهتمامًا لخصوصيات
الفنون وخصوصيات الأعمال الفنية. فكلما كانت الأشكال مقطوعة عن سندها؛ كانت قابلةً
للخضوع إلى منطقٍ روحي داخلي يعود ملفوظه بحُكم القانون إلى الفيلسوف.
إنَّ «الشيء-الذهنية» لِليوناردو دافنتشي (أو بالأحرى تناقُض المعنى الشعبي الذي
تولَّد عنها) قد أضرَّ كبيرَ الضرر بتصالُح المادي والرُّوحي في الفن؛ فقد تمَّ
إدماج هذه الصيغة الشهيرة في سيكولوجيا الفن، في الحين الذي لا تتصل فيه إلا
بتاريخِ طموحٍ معين. هل يتعلَّق الأمر بتحديد للفن؟ لا؛ إنها استراتيجيةٌ فنية
لتشكيليٍّ كبير ضاق ذرعًا باعتبار الناس له عاملًا مؤهَّلًا فقط. إنه أيضًا مطلبُ
شرفٍ من شخصٍ يحمل ياقةَ النخبة لا ياقة عُمَّال الأوراش (وكأنه يقول: النحَّاتون
يوسِّخون أيديهم، انظروا لمكيل أنجلو المسكين، لكني أنا فنان تشكيلي، ولستُ أبدًا
ذلك الصانع الذي تعتقدونه؛ فأنا أشتغل في البيت، ولذا أطالب بتغيير الرابطة
الحرفية). وقد كان غيبرتي Gaiberti، عبْرَ تعاليقه
المكتوبة بلغةٍ رفيعة، قد ألحَّ على مجموع المعارف التي اكتسبها بفنِّه. وهو الشيء
الذي قام به فيما سلف ألبرتي باللغة اللاتينية، بحيث سما بالتشكيل إلى مراتبَ
عُليا، ملحًّا على الهندسة، إحدى الفنون الشريفة السبعة. إنَّ ليوناردو دافنتشي
وزمنه قد رغبا في مدِّ الجسور بين التطبيق المادي والتأمل الفكري بواسطة الهندسة
والرياضيات باعتبارها علومًا شريفة؛ وذلك قصد الانفلات من انحطاطِ العلوم الآلية.
لقد قام دافنتشي، وهو المهندس الذي لم يكن له كبيرُ علمٍ باللغات القديمة،
والمتعرِّض لاحتقار المفكِّرين الإنسانيين والمتأدبين، بعملِ ما في وُسعه ليكون في
الجانب الأفضل، أيْ في صفِّ الكتَّاب والموسيقيين، حتى ولو تطلَّب منه ذلك ترك
النحَّاتين، وهم الجيران المشبوهون، في الضفَّة الأخرى (وهو في ذلك يقول: «النحت
ليس علمًا، وإنما هو فنٌّ آلي كلية، ينجم عنه التعبُ الجسماني والعرَق لدى القائم
به»).
هل كانت الرسائل التي كُتبت قبل عصر النهضة (كرسالة ثيوفيل، الراهب الألماني الذي
عاش في القرن اﻟ ١٢؛ أو رسالة تشينيو تشينيني، التشكيلي التوسكاني الذي عاش في
القرن اﻟ ١٣) في مضامينها قريبةً «من الحقيقة الفعلية للأشياء»؛ وهي رسائلُ يتمُّ
فيها «ربط الوصفات والنماذج التقنية بالإيمان والأخلاق وعلم الجمال.»
٧ إنَّ هذه السذاجة العالمة هي التي يفصح عنها أوجست رونوار حين يقول:
«التشكيل ليس أضغاثَ أحلام، إنه أولًا حرفةٌ يدوية، وعلينا القيام به بمهارةِ
العامل الحاذق.» أو هي سذاجةُ تلك الكتب التربوية التقليدية التي تجرُد «الأدوات
الضرورية للرسم بالأكواريل»، كالورق واللصاق، والإسفنج، والأقلام والمِمحاة،
والريشات، والوعاء والملونات والألوان، أيْ تلك الكتب التي نقرأ فيها أن «ظلال
النبرات الجسمية تتمُّ بخليطٍ من الصِّباغة الخالصة والملاط القِرمزي، على عكس
الأجسام الشقراء التي تُصبغ بمُركبٍ من الأصفر المبيض الناصع والقرمزي
الفاتح.»
استثناءات الأعمام
لم تغيِّر الثورة الصناعية التقسيمَ، ولا تقاسُم الدراسات. فإذا كانت هذه الثورة
في الأساس انطلاقة الفنون الصناعية، وإذا هي ابتكرت، بعد ١٩١٠م، «الجماليات
الصناعية»؛ كي تحتفي بزواج الإبداع والإنتاج، والجميل والنافع؛ فهي قد تركَت الشرخَ
القديم على حاله. ولقد استمرَّ حقل الخطابات النبيلة عن الصورة خلال القرن التاسع
عشر متوزِّعًا بين التعزيمات الأدبية والتأويل التأمُّلي، فيما تكفَّلت الفلسفة
وتاريخ الفن بتهميش الفضول إلى الاهتمام بالطرائق المادية للصنع والعرض
والإرسال.
هذا هو ما جعل اكتشافات وتحذيرات بول فاليري ووالتر بنيامين، هؤلاء الأعمام
الكِبار المرموقين للميدان، تستحقُّ كلَّ التقدير؛ الأول لأنه اشتهر بنصَّين
هامشيَّين، والثاني لأنه ظلَّ مهمَّشًا في نصٍّ غدا مشهورًا.
فقد أعلن بول فاليري عن سيادة الشاشة الصغيرة منذ ١٩٣٤م، وذلك في معرض تعليقه على
امتلاك الحضور الكلي، منطلِقًا ممَّا أغنتْ به الإذاعة ميدان الموسيقى. وقد قام
بوصف اليوم القريب الذي تأتي فيه اللوحة الموجودة في مدريد «لتنصبغ على جدارِ
غرفتنا بشكلٍ قوي وزائف يُعادل تلقِّينا السيمفونية.» بل إنه ذهَبَ إلى حدِّ اقتراح
اسمٍ للعمل التليفزيوني، لم يتفق عليه للأسف أبناءُ جيله: «شركة توزيع الواقع
المحسوس على المنازل». كما أنه كان ينتظر الكثير من التنقُّل بين القنوات
التليفزيونية. «فكما يأتي الماء والغاز والتيار الكهربائي من بعيدٍ إلى منازلنا
لتلبية حاجاتنا بجهدٍ قليل، كذلك سوف يتم تزويدنا بالصور المرئية أو السمعية التي
تولد وتتلاشى بحركةٍ خفيفة أو بما يشبه العلامة.»
وفي السنة نفسها، التي كانت قطَعًا زاهية في حياة مبحثنا، ظهر بالألمانية كتاب:
العمل الفني في عصر استنساخه التقني.
٨ وقد بدا فيه والتر بنيامين أقلَّ حماسًا من الأكاديمي (فقد تحدَّث عن
«الجانب المدمِّر في السينما»). واعتبر أنَّ العمل الفني، بعد أن أصبح قابلًا
للنَّسخ بواسطة الطرائق التصويرية الحسَّاسة والآلية أو الصناعية، سوف يفقد قيمته
الشعائرية التي سوف يُضحَّى بها لصالح قيَم عرضها. فتقنيات الاستنساخ تدنِّس
المقدَّس الفنِّي؛ لأن إبداعات الرُّوح ذاتُ خاصيةِ حضورٍ فريدة مرتبِطة ﺑ «الهُنَا
والآن» التي تميز كلَّ تجلٍّ أصيل. فهي بمضاعفتها للنسخ تقوم بتعويض حدث، لا يتم
إلا مرةً واحدة بظاهرةٍ جماهيرية. كما أن الجمال الذي يصعب الاقتراب منه سوف يفسد
باختلاطه بالمنتوج الوسائطي، وسوف تضيع هالة الفن باعتبارها تجلِّيًا فريدًا لشيءٍ
بعيد، مع وحدانية العمل الفني. فالصورة تفقد كلَّ نفوذها إذا هي اقتربت كثيرًا من
الناس.
على هذا السجل المظلِم كتَبَ أحد روَّاد الوسائطيات، ومؤلف خطوطٍ أولية
لسيكولوجيا السينما، عشْرَ سنواتٍ بعد ذلك، الأوبرا المتفائلة للمتحف الخيالي، من
دون أن يُعير كبيرَ اهتمام لمَا جاء به سالفوه.
٩ فالعبقرية تنفر من الجنيالوجيا (وإنكار الفضل يزيد من الهالة الشخصية).
لقد كان أندري مالرو الأربعينيات، من جوانب كثيرة، صورة لبنيامين، أُضيف إليها
الصوت وجُدِّدت من نواحٍ كثيرة. ففيما كان الأول يرى في استنساخ الصور منزعًا
إنسانيًّا عالميًّا، كان الثاني يتنبأ باصطفاء دارويني معكوس. لقد كتَبَ والتر
بنيامين: «إن الذين يخرجون منتصرين من هذا الاصطفاء أمام جهاز الاستنساخ؛ هما النجم
والدِّكتاتور.» والعجيب في الأمر، أن هذا الألماني التقدُّمي كان يرى ظلامًا الغدَ
المنشود لعصر الوسائط الجماهيرية، التي كان الفرنسي «الرجعي» يصوِّرها ديمقراطيًّا
بالوردي. ثمَّة إذن اختلافٌ في الأسلوب؛ فأحدهما كان يقوم بالتمجيد، بينما كان
الآخَر يقوم بالتحليل. لهذا همَّشَ بنيامين نفسه وانتحر، فيما أصبح مالرو مشهورًا
بحيث تمَّ تعيينه وزيرًا. إن موهبة الفشل ليست في مِلك كلِّ الناس.
سيكون من الوجيه المعارضة بين الرجلَين في هذه النقطة، بالرغم من أنَّ هذه
الطريقة ذاتُ سهولةٍ مبتذَلة. كان لوالتر بنيامين الفضلُ الكبير في إرجاع أثرِ شروط
الإرسال على الإبداع الجمالي، كما يبيِّن ذلك التاريخُ المصغَّر للفوتوغرافيا
(المنشور سنة ١٩٣١م). لكنْ، ما دام لم يُعِر إلا اهتمامًا يسيرًا لأصول «الفنون
الجميلة»؛ فإنه اعتقد في الوهم الاستمراري للتاريخ الرسمي للفن. لهذا فقَدْ خلَطَ
بين عصرَين ونظامَين للبصر: «عصر الصنم، وعصر الفن». فالهالة التي يتحدَّث عنها، لا
تنتمي في الحقيقة إلا للعصر الأول. وخصائص الحضور الواقعي والهيبة والتجسُّد
المباشِر التي يخشى عليها من الإفساد الصناعي، هي الخصائص التي تخلَّص منها العملُ
الفني في عصر النهضة دون أن ينتظر «الاستنساخ الممكن». ولم تعمل الصورة
الفوتوغرافية إلا على إضافةِ نسخ من مستوًى ثالث إلى المستوى الثاني. ليس الفنُّ هو
الذي يمثِّل «انبثاقًا واستحضارًا للامرئي»، إنه الصنم (أو الأيقونة). هذه الأخيرة
تنتمي وحدها إلى لاهوتٍ تكون جماليتُه منذ المُنطلَق هي الحداد. إنَّ إضفاء الطابع
الدنيوي على الصور، لم يبدأ إذن في القرن التاسع عشر؛ وإنما في القرن الخامس عشر.
فهل ينبع حماسُ مالرو والشجن المُحزِن لبنيامين من خطأٍ في التأريخ؟ يبدو أنَّ
تأريخًا وتحقيبًا دقيقَين لزمن الصور؛ كانا ربما سيمكِّنان من تفادي انتحار ألماني،
وهذيان فرنسي بيِّنَين وجميلَين. وليس علينا الأسف على ذلك؛ فربما عانَى جمال القرن
الحالي من دون ذلك.
إحكام فَكَّي المِلقاط
تعضِّد ثنائية الصورة المتعلِّقة بالمسيح التوزيعَ التقليدي للدراسات حول الفنِّ
بين مثالَين: الاتحاد الصوفي بالموضوع الوحيد والانزياح الشكِّي عبْرَ السياق
الاجتماعي، والخطاب الحدْسي للعارف والخطاب التوضيحي للأستاذ، كما بين الخفِّ
والجرموق إذا شئنا، ذلك أنَّ كلَّ تمرينٍ له إيحاءاته الاجتماعية.
١٠
إن المقاربتَين، الداخلية والخارجية، هما أيضًا هرطقيَّتان أو أيضًا مشروعتان،
بما أنَّ الشيء الموضوع والمعروض في متاحفنا هو كائنٌ مختلط؛ فهو في الآنِ نفسِه
شيءٌ وعلامة، سبب ومنتَج، معطًى وكِيان مبني؛ فهو ينتمي بهذا السجل المزدوج إلى
«شِبْه الأشياء» (التي حلَّلها حديثًا ميشيل سير، ولاتور وهينيون). إنه كيانٌ هجين؛
فهو باعتباره شيئًا، ينفلتُ من قبضة المجتمع الذي وجَدَ نفسه في ذاك الشيء في وقتٍ
من الأوقات؛ لذا يحتمل تمتعًا خصوصيًّا في تقابُلٍ ذي طابعٍ جمالي. فالصور
التشكيلية (كما الأعمال الموسيقية) تعيش طويلًا بعد الثقافة التي أنجبتْها ومنحتْها
معناها. إنَّ الأمر يتعلَّق هنا باستقلالية حياةِ الأشكال التي تمكننا، مثلًا، من
«اكتشاف» فيرمر وجورج دولاتور، مائتي سنة بعد وفاتهما، بعد أن ظلَّا مغمورَين في
حياتهما. لكنَّ الشيء الفني، باعتباره علامة، يخضع للاختيار والاعتراف نظرًا
لأهميته الاجتماعية، ويُقتطع اعتباطيًّا من الخليط البصري، باعتباره «موضوعًا
للذوق»، من قِبل الآليات الاجتماعية للذوق السليم، كما بلوَرَها بيير بورديو
وتلامذته؛ أي باعتباره قابلًا لتحدٍّ نقديٍّ وسوسيولوجي وتاريخي.
نحن على عِلم بحوار الصُّم بين القول بالطابع الجماهيري «للأثر الفني»، الذي لا
قيمةَ معرفية له، ومعرفة أسبابه وعوامله الموضوعية بدون أي طلاوةٍ أو حساسية.
فالعارفون والفنَّانون ينكرون على أولئك الذين يرجعون العملي الفني إلى شروطه
الخارجية فِعلَهم ذاك، وذلك باسم التجربة الحدسية التي لا يمكن إيصالها للآخرين،
والحميمية التي يؤكِّدون أنَّها الفنُّ الحقيقي، معتبِرينهم مدَّعين وخَشِني الذوق.
إنَّ كلَّ عملٍ فني، حسبَهم، فريدٌ من نوعه. وبما أنَّ الفن هو مملكةُ الفرادة؛ فهو
لا يحتمل أيَّ تعميمٍ ولا يقبل غيرَ المونوغرافيا، والحُكم عليه حالة بحالة. فلا
شيء يمكن تفسيره؛ بل فقط تأويله. أما علماء الاجتماع ومؤرِّخو الفنِّ، فهم من
جهتهم، يعتبرون فيضَ الممتنِع عن الحكي هذا، الذي يكون في الغالب هذرًا، عرَضًا من
أعراض ما يندِّدون به. العمل الفني في نظرهم اصطناعٌ اجتماعي. والإنكار ذو المنزع
الجمالي لهذا الشرط الاجتماعي، هو نفسه ذو طابعٍ اجتماعي. وربما كان يثوي خلْفَ هذه
اللعبة المكوَّنة من الاحتقار المتبادَل والاتهامات المتبادَلة بالإرهاب، تعارُض من
تعارضات العقل الجمالي، وحرجٌ لا حلَّ له، من قَبيل الحلِّ الذي أعطي لحيرة
الإثنولوجي بين الرغبة في المشاركة في موضوعِ أبحاثه والحاجة إلى التباعد معه. فهل
علينا، لفهم ذاك التعارض، ملاحظة سلالةٍ من سُلالات غينيا الجديدة بعينٍ باردة
وبمسافةٍ معيَّنة، أو معانقة مَعِيش أفرادها والتطابق معهم؟ يقول المشروع الوسائطي
بعدم ضرورة الاختيار بين بورديو وفولفلين، متمنِّين ألَّا يشبه مصيرَ رغبة
الفيزيائي تحديدَ موقعِ ومسير ذرةٍ ما في الآنِ نفسه.
١١
وفي انتظار التصالح العسير هذا، لنكْتفِ فقط بعدم التفرقة بين مفهوم وعُدَّة فنٍّ
بصريٍّ ما وجوهرِه وتقنيته. وفي هذا يكون «الفنُّ» قضيةً فائقةَ الجدية وقليلتَها،
في الآنِ نفسه، في نظرِ المختصِّين في الميدان. إنها قضيةٌ فائقة الجدية، كما
رأينا، لأنَّ الصورة تنبثق في عمودية الموت ولا تأخذ معناها كاملًا، إلا في الزمن
الثابت للديانات، أيْ بعيدًا عن المسرحية القصيرة للأساليب والمدارس. وهي قضيةٌ
قليلة الجِدية؛ لأنَّ صيرورة الفن تستنير بتاريخٍ متواضع للموادِّ والآليات وطرائق
الإبداع. يكفي بالفعل استبدال العُدَّة لكي يتغير المفهوم. وقد قال والتر بنيامين
بهذا الصدد: «لقد تمَّت إضاعة الوقت والجهد في عمليات التدقيق التافهة؛ لتقريرِ إن
كانت الفوتوغرافيا فنًّا أم لا، لكنْ لم يتمَّ التساؤل عمَّا إذا كان هذا الاختراع
نفْسُه قد غيَّر الطابع العام للفن.»
إنَّ تقديم عصًا يعني تعويجها في الاتجاه الآخَر. والخطورة تكمن فعلًا في إرادة
تصحيح الشكلانية بالمادية والمنزع الجمالي التقليدي بنزعةٍ تقنية. فنحن لن نربح
شيئًا من استبدال كانط بطوفلر. التقنية ضرورية لكنَّها غيرُ
كافية. صحيحٌ أن تطور الأدوات وانحطاط معامل الصهر قد قلَبَ رأسًا
على عقبٍ النحت الكلاسيكي للحجر والمرمر والبرونز، الذي استمرَّ حتى حدود رودان.
فمنذ نهاية القرن الماضي، ولنقُلْ منذ برانكوزي، وَلَّدت موادُّ الحديد والصلب
والزجاج، الآتية من المكْننة، هذا الشكلَ المعاصِر الذي قيل عنه بحقٍّ إنه «يأخذ
أدواته كأساسٍ فنِّي.» لكنَّ الأدوات والمواد توجد في العالَم كله، بينما النحتُ لا
يوجد إلا في شماله الغربي. لقد وُجد الصلصال في بلاد الإسلام، لكنْ لم يوجد ثمَّة
نحتٌ إسلامي. وحولَ البوسفور يوجد الصلصال والمرمر، لكنَّ بيزنطة لم تعرف غيرَ
النقوش التشخيصية البارزة. أمَّا المسيحية في الألفية الأُولى، فقد كانت تملك نفس
المواد والأدوات المكتسَبة في حضارة ما قبل التاريخ الأخيرة. ولم تقبل إلا باحتشامٍ
بالنحت البارز bas-relief متخِّلية عن نحت
التماثيل. وهو الدليل على أنَّ ما هو ممكن من الناحية التقنية، ليس دائمًا قابلًا
للحياة.
العائق الإنسانوي
لماذا تأخرتْ دراسةُ الصورة على دراسة اللغة بهذا القَدْر؟
الكلُّ سيتفق على أنَّ الجماليات ظلَّت مهمَّشة مقارنةً باللسانيات.
إنه عَرض بيِّن لكنَّه عرض. لِمَ إذن؟ أولًا للقيمة الزائدة التي منحها الإنسان
للكلام. فالتاريخ المعيش للنوع الإنساني يقترح: «في البدء كانت الصورة.» فيما
يصرِّح التاريخ المكتوب: «في البدء كانت الكلمة.» إنها تمركُزيَّة منطقية حول
الخطاب؛ فاللغة تمجِّد اللغة. بل إنها تحصيل حاصلٍ نرجسي، ودعاية طائفية خلقَت
اختلالًا في توازُن وعينا بالحدث الإنساني. ليس من اليسير على الإنسان، الذي يملك
رأسًا، أن يقبل بأنَّ «الإنسان قد بدأ إنسانًا بالرِّجلَين» (كما قال لوروا-غوران)،
وهي المشية على الرجلَين والحركية التي ميَّزت إنسانَ زنجبار، وأنَّ ظهور الذات لا
ينفصل عن ظهور الموضوع. إنَّ عملية التَّأنْسُن تشهد على عملية تكوُّنٍ تكنولوجي،
وبعبارة أدقَّ على «خاصية تقنيةٍ ذات قطبَين». نظام اليد-الأداة من جهة، ونظام
الوجه-اللغة من جهةٍ أخرى. وقد تطوَّر الاثنان معًا، الواحد عبْرَ الآخَر، لكن
التبعية للنظام الآخَر لا تستحقُّ الجزاء. ومن ثَم ينبع الاحتقار الإنسانوي للتقني،
ومعه إنكارنا، بعد ٣٠ ألف سنة من ظهور الصور الأُولى، لاعتبار الابتكار الجمالي
امتدادًا للمنزع التقني المتصل بتطوُّر الكائن الحي. وكما أنَّ الهيكل العظمي قد
تمدَّد مع الأداة؛ فإن الوظائف الإنسانية تتمدَّد بإضافة سلسلةٍ من الأدوات
والأجهزة، حتى النظام العصبي الأساسي في الآلات الإلكترونية. هكذا تمَّ إخراجُ هذه
القوة المحركة عبْرَ تدجينِ الحيوانات والآلة البسيطة والذاكرة في الحوامل المادية
(ذاكراتنا الاصطناعية)، والحساب في الحاسبات الآلية، وأخيرًا المخيِّلة في التصاوير
الآلية. وهكذا «استظهر» الداخل بكامله، بعضلاته وجهازه العصبي، لكنْ بشكلٍ متتابع.
وبدأت الآلةُ، التي تعكس الإنسان خارجَ نفْسِه ملَكةً ملَكة، تغيِّره حتمًا. كلُّ
تقنيةٍ جديدة تخلق ذاتًا جديدة عبر تحديد مواضيعها. فالصورة الفوتوغرافية قد
غيَّرتْ من إدراكنا للفضاء، والسينما غيَّرتْ إدراكنا للزمن (عبر المونتاج ولصق
الأزمنة في «الصورة البِلَّور» العزيزة على جيلِ دولوز). لقد خلقتْ كاميرا الأخوَين
لوميير عالمًا مرئيًّا ليس هو عالَم المنظور (بل لا يشبه إلا قليلًا عالم الفيديو،
الذي ليس بدوره يشبه إلا قليلًا عالَم التلفزة الرقمية). مثلًا، تمَّ الإجماع على
الاحتفاء بالأبيض والأسود باعتباره «الحياةَ نفسها» وانعكاسًا مطابِقًا للواقع، حتى
ظهرَت الصورة الملوَّنة التي جعلتْنا نكتشف أن ثمَّة أيضًا ألوانًا في مجالنا
البصري، بحيث نعتبر أنَّ الأبيض والأسود سَنن تعبيري من ضمن سُنن أخرى. بيْدَ أنَّ
تاريخ تقنية المرئي لا تبدأ مع الكاميرات بمقدار ما أنَّ تكنولوجيات الذكاء لا تبدأ
مع الحواسيب. إنَّ البَيْسون المنقوش على مغارات التاميرا، هو شيءٌ مصطنَع مثلما
أنَّ جدول الضرب يشكِّل آلةً منذ البدء. وإذا كان «تطوُّر الحياة يتتابع بوسائلَ
أخرى غير الحياة» (حسب برنار ستيغلر)، فإنَّ تطوُّر العالَم المحسوس لا تسيِّره
مجموع الذكاءات الفردية. ليس لنا عينُ حركةِ الكواتروشنتو نفْسُها؛ لأن لدينا ألفُ
آلةٍ للنظر لم يُتكهَّن أبدًا بوجودها، من الميكروسكوب إلى المسبار الفلكي، مرورًا
بعدستنا الحالية ٢٤/ ٣٦. وقد كتَبَ برنار ستيغلر ملخِّصًا لوروا غوران: «لقد ابتدعت
التقنية الإنسان؛ مثلما ابتدع الإنسان التقنية.»
١٢ الكائن الإنساني امتدادٌ لأشيائه وموضوعاته بمقدار ما أنَّ العكس وارد.
إنَّها حلقةٌ حاسمة ومدهشة؛ فقد أخفقَت النزعة الإنسانية التقليدية وهي تفكِّر
فيها، لأنها لا ترى في الأداة غير جعْلِ الملكة وسيلةً، لا تحويلًا لها؛
١٣ والحال أنَّ الأداة الإنسانية إذا ما هي انفصلتْ عن العضو الجسمي؛ فلكي
تعيش حياتها الخاصة أكثر من أن تعيش حياتنا نحن. إنه تمييزٌ خصب ومغامر ومجدد بل
وخطير أيضًا، لكنه يفرض علينا أن نخرج من الإنسان لنفهم الإنسان. فنحن نملك، أقلَّ
فأقل، حريةَ التصرف في أدواتنا (الخاصة بالإنتاج، والتمثيل، والإرسال). أفلَمْ
يَحِن الوقتُ بعدُ لأنْ نأخذ هذه النصيحة بنفس جديَّة نظريةٍ ما؟ لا وجود لعينٍ
خارجية (بصر) وعين داخليةٍ (بصيرة)، كما أراد ذلك أفلوطين؛ ولا لتاريخَين للبصر،
إحداهما لشبكية العين وأخرى للسَّنن، وإنما تاريخ واحد يصهر اجترار وساوسنا وبناءَ
تصويراتنا. لقد أصبح الذهني ينصاع أكثر فأكثر للاتجاه المادي، والرؤى الداخلية تنسخ
أجهزتنا البصرية. العدسية المكبرة والتكبير الفوتوغرافي مثلًا؛ قد غيَّرا حساسيتنا
تجاه «التفاصيل»، كما غيَّرت الصور الملتقَطة من الأقمار الصناعية العلاقةَ الذهنية
بين الكلِّ والجزء؛ فاللماذا والكيف في عملية الإرسال مترابطان إذن.
لقد تقبَّلتْ ذلك آسيا، المعتقِدة في وحدة الوجود، بشكلٍ أفضل من الكبرياء الغربي
المؤمن بالثنائيات. كان مثال الرسَّام أو الخطَّاط في الصين الكلاسيكية؛ يكمن في
الدخول وإدخالِ الآخَر في النَّفَس الخالق للعالم، لا أقل. وكان فِعلُ الرسم شعيرةً
مقدَّسة والريشة صولجانًا. إنه فعلٌ سريع، لكن يلزم لثلاثة دقائق من الإنجاز خمسون
عامًا من التعلم بل أكثر؛ ذلك أن توارُث «الخطاط ديناميةَ المادة»، لكي يكون
فعليًّا، عليه أن يرتبط كليةً بانتصاب القوام ووضعية اليد وجودة شَعر الريشة
والزاوية التي يقيمها رأس الريشة مع الورق.
١٤
تحتمل الإنسانوية إلى حدٍّ كبير «مديح اليد»، باعتبارها عضوَ الرُّوح العظيم،
لكنها تتراجع أمام مديح الآلة (الذي يشكِّل الفحص الأكثر نقديةً لها، لحدِّ الآن،
أحد تنويعاتها). فالآلية تُخرجها كليةً عن طَوْرها. يشكِّل الفنُّ التشكيلي مصدرَ
إلهامٍ خصب للكاتب والفيلسوف الغربي؛ لأنه امتدادٌ للأدب (كما تشكِّل السينما،
بطريقتها امتدادًا للكتابة). وقد أنجبت الأساطير والكتب المقدَّسة عشرات الآلاف من
الصور اليدوية، في التعبير بالأماثيل (الأليغوريا) والرمزي، وفي الفنِّ المقدَّس أو
الرسم. نحن، بين الفكرة وتصويرها، والنصِّ ورسومه التوضيحية، نظلُّ بين أُناس
العقل. بيْدَ أن الصورة الفوتوغرافية أو التليفزيون ينفران من الأمر؛ لأنهما لا
يستعيدان رموزًا أو صورًا ذهنية وإنما الأشياء في حالة آثار. إنهما يعوِّضان الشاهد
بالبصمة، والرقيق بالخام. تعتبر السينما، في المدينة الروحانية، كائنًا دخيلًا،
والفوتوغرافيا والتليفزيون كياناتٍ رعناء. مع اليد، لا وجودَ لقطيعةٍ في الحمولة
التأثيرية على الجماهير، والنَّفَس الخلَّاق ينتقل مباشرةً إلى الصورة المصنَّعة،
وبدون وساطة مباغِتة وغير ملائمة. إنها تجاوراتٌ فرِحة للجسد وحميمياتٌ حماسية
للذات. فالمدائح الجميلة والصحيحة للصنائع التقليدية، وللخبرة اليدوية؛ تضفي طابعًا
ماديًّا على الفكرة القديمة للنعمة الخلاقة من دون أن تشوِّهها. وهي تعمل أفضلَ على
إبراز الحرية الخالصة التي تمنح الأشكال (وتبدِّدها) بلا عدد، لموادِّها الطبيعية
في اللازمنية التقنية للفعل المبدع. لم يجانب فوسيون الصوابَ حين قال: «الرجل الذي
يحلم، لا يمكنه أن يمنحنا فنًّا؛ لأنَّ أيديه نائمةٌ، والفنُّ يُصنع باليدَين.
إنهما وسيلةُ الإبداع وقبل ذلك عضو المعرفة، لدى كلِّ إنسان، وأساسًا لدى الفنَّان
…» (مديح اليد). لكنه لا يفصح هنا عن حقيقةٍ خالدة، ذلك أنَّ أعضاء المعرفة تهجر
أكثرَ فأكثر جسمنا. فقد قال الفيلسوف الفرنسي ألان: «الجسم الإنساني مقبرةُ
الآلهة.» وذلك لجعل أصلِ المخيِّلة في الجسماني والعاطفة في الأحشاء، ومن ثَم فضح
أوهام «الإلهام الإلهي». بيْدَ أن الأجسام الفنَّانة وجدت في نهاية المطاف قبرها،
أعني الحاسوب. وليس من الجدوى في شيء؛ إدارةُ الوجه لآخِر آلاتنا الرُّوحية. وهذه
الآلة، كما يعرف ذلك حتى عاشقو الجمال، لها من العقل فيض.
كانط بأعين كاسطيلي
بإمكاننا أن نقيس أفضل الهوة التي تفصل ممارستنا الحالية للصور عن النظريات
الأكاديمية للفن، بقراءتنا مُجددًا لنقد الحكم لإيمانويل كانط، على ضوء القرن
العشرين لا على ضوء القرن الثامن عشر. نحن لا نعني قراءةً فلسفية لهذه الفلسفة كي
نقدِّر ما يميزها التمييزَ الأمثل عن عصرها، أي عن النظرية الكلاسيكية للجمال
والتأمل في الوجود، والكلاسيكية الفرنسية والمثالية الألمانية، وإنما نعني قراءةً
لعصر الأنوار من قِبل «الفن المعاصر»: أي إيمانويل كانط بأعيُن الرواقي الأمريكي
وتاجر الفنِّ المشهور ليو كاسطيلي.
١٥ إنها قراءة آثمة، منزاحة، ومفارقة زمنيًّا، عنوةً بما أن الفيلسوف
والتاجر لا يفكِّران في الموضوعات والأشياء نفسها ولا في الغايات ذاتها. بيْدَ أنها
مجرَّد هوًى من الأهواء يكشف هذه الاختلافات نفسها، ويمكِّن أفضلَ من فهْمِ ما تمَّ
ربحه وافتقاده منذ قرنَين. إنه فعلٌ تدنيسي، أولًا في نظر فلاسفة الفن الذين
يبجِّلون تبجيلًا خاصًّا التصورَ الكانطي. فخلافًا لكتَّاب العقل الخالص في المجال
العلمي، وميتافيزيقا العادات في مجال الأخلاق، يظلُّ كتاب نقد الحُكم مرجعًا أساسًا
في هذا المضمار.
فالجماليات تملك قدرةً غريبة على البقاء
والاستمرار بعد انمحاء نمط الفن الذي افترضها. إنها المجال الوحيد الذي يصبح
فيه التعليق مستقلًّا عن موضوعه إلى درجة أنه لا يتأثر بغيابه. إنَّ
ليو كاسطيلي ليس فقط تاجرًا؛ وإنما عاشقٌ للفن، أيْ شخص يؤمن بالفن. أمَّا كانط
فإنه يعتقد فيه قليلًا بحيث لا يكاد يتحدث عنه. فأُنموذج «أساتذتنا المعتمَدين في
الجماليات»، كما كان يسمِّيهم هنريش هين؛ ليس العاشقَ للفن ولا العارفَ به. وكتابه
لا يعالج الفنَّ (بالرغم من أنه يثيره هنا وهناك بنبرةِ هزء). وما يجسد الجميل ليست
الصور أو الأعمال الفنية، وإنما أغرودة العصافير الصغيرة والزنابق الناصعة البياض
(هكذا!). أمَّا السامي فإنه يوجد حيثما تغيب الصورة، وحيث «لا ترى الحواسُّ أيَّ
شيءٍ أمامها»؛ فأمام مشهد اللامتناهي ليس ثمَّة غيرُ قبَّةِ السماء المرصَّعة
بالنجوم، وجبل سيناء، والقانون الأخلاقي. إنَّ كانط يفضِّل مشهد الطبيعة على
الأعمال والتُّحف الفنية.
وفي الحقيقة، إنَّ ما تُقصيه هنا الثورةُ الكوبرنيكية هو إمكانية الأشياء نفسها.
يدور عاشق الفنِّ ومحبُّ الجمال حول الموضوعات الفنية، فيما يجعل الفيلسوف الموضوع
يدور حول الذات، بما أنَّ الجميل لا يمكن تحديده بمبادئ قبْلية. من ثَم لا يمكننا
استخلاصه أو إنتاجه إلى ما لا نهاية؛ ذلك أنَّ مبدأه المحدَّد ليس مفهوم الموضوع
وإنما الإحساس الذاتي. ومن هنا بالضبط، كسَرَ كانط التقليدَ التأملي للجميل
المثالي. فالجميل ليس فكرةً أو خاصية، إنه فينا، وحين أتحدَّث عنه فأنا لا أتحدث
إلا عن نفسي. الجميل ليس جوهرًا كما اعتبره الإغريق، ومن بعدهم مذهبيُّو
الكلاسيكية، إنه ملازِم لحُكمٍ فريد يسمِّيه كانط حكْمَ الذوق، وهو يتوسط ملكتَي
المعرفة والرغبة (أي الحساسية الفريدة التي تبرِّر حكمًا فريدًا ومستقلًّا عن العقل
النظري والعقل العمَلي). إنَّ هذا التواضع الحازم، له فضلُ عدم تحويل الفنِّ إلى
وسيلةٍ للمعرفة. وهي تقليعةٌ متحمِّسة لصيادي ما وراء العالَم، على الطريقة
الرومانسية الألمانية، وعدم تحويل الفن إلى وسيلةِ تربية على الطريقة العادية
لمعلمي الشعب، الطريقة اليعقوبية أو البلشفية. إنه نفيٌ مضاعَف يمنح للعمل الكانطي
أصالته مقارنةً مع سالفيه واللاحقين عليه. غير أنَّ المساوئ تكمن في الطرد شبه
التام للأشياء نفسها. من المفرِح أن يكون الجميل ميتافيزيقا أو أخلاقًا. لكنَّ
المؤسِف أنه حين يتمُّ تذويته بهذا الشكل؛ فإنه يفقد، في الطريق، كلَّ واقعية
مادية. أكيدٌ أنَّ الجميل الذي نتحدث عنه هنا ليس هو الذي يصنعه الفنان، وإنما ذاك
الذي يحظى برضى رجلِ الذوق. من ثَم، فما يقترح علينا هنا هو جماليات للتلقِّي لا
للإبداع؛ أي الفن من جهة الزائر. لكنْ، كما أنَّ الأخلاق الكانطية لها أيادٍ طاهرةٌ
لأنه ليس لها يدانِ؛ فإن المتفرِّج التأمُّلي فيها، لا عيون له ولا جسم. وذلك ليس
شرًّا؛ لأنَّه ليس ثمة ما يُرى. فعدا خنفساء البطاطس لبوليكلطس، لن نجد هنا أيَّ
إشارة لأيِّ عمل تشكيلي أو أي فنان. وقد تحدَّث المهتمون بحياة كانط عن سقف منزله
بكوينغزبرغ. وثمة شيء مؤثِّر في الابتعاد العنيد لهذا الحضري؛ فعلى عكس ديدرو أو
روسو حتى، لم يكن كانط يرتاد الأعمال الفنية لعصره. إنه يقرأ من دون أن يرى،
والتوضيحات المرسومة نادرة، كما أن أسفاره عبارةٌ عن كتب. فهو حين يكتب: «إن عظمة
سان بيير في روما محيِّرة.» فإنه يُضيف: «حسب ما يزعمون.»
١٦ وهو يوضِّح بخصوص الأهرام بأن «سافاري ينصح في رسائله عن مصر بمشاهدتها
من غير بُعد أو قُرب كبيرَين.» إننا نحسُّ، إضافةً إلى اللامبالاة، بوجود نفور من
الشيء المادي والتشكيلي كما يشهد على ذلك نظامه للفنون الجميلة؛ حيث يحدد «قيمتها
الخاصة بها» ويضع الشِّعر في المرتبة الأُولى، باعتباره «لعبةً حرَّة للرُّوح»،
تمثل لها أشعار فريدريك الأكبر، تتلوه الفصاحة، وتأتي الموسيقى في المرتبة الثالثة؛
لأنها «تقترب كثيرًا من فنون القول. إنها التراتُبية الإغريقية نفسها بدون تغيير،
اللهم إلا أنَّ فيلسوفنا يأسف كثيرًا على نقصان تحضُّر الموسيقى في المدن، وهو ما
يزعج الجيران ويمسُّ بالحرية، مثلها في ذلك مثل العطر. بعدها يأتي الرسم، أول
الفنون التشخيصية. وهو يشمل «فنون الحديقة» كتنظيم الأشياء الطبيعية، «الملائم
لأفكار معينة»، كما يشمل في المستوى نفسه فن التخطيط الذي يتمُّ تفضيله على اللون.
اللون منحطٌّ وسوقي ومسَلٍّ، بينما الشكل المخطوط المرسوم شريف؛ «لأنه قادر على
التوغُّل داخل منطقة الأفكار.» إنه تدقيق مثالي لا يمنعه من الإضافة: «سوف أنسُب
للرسم، بالمعنى العام للمصطلح، زخرفةَ المساكن وصناعة السجاد، وكل أثاثٍ لا يوضع
إلا لمتعة العين.»
١٧ إنها فظاظاتٌ فصيحة بالرغم من أنها لم تُثَر أبدًا. هذا، فيما أنَّ
الجماليات الهيجيلية قصْرٌ تأملي؛ حيث تهَبُ، مع ذلك، واقعيةَ الأشكال، من النوافذ
المُشرعة على الحياة، ومعها التنوع المحسوس للأنواع والبلدان والمآثر. وبالرغم من
نسقيَّة تلك التأملات؛ فإنها تعبُر القارات والمتاحف (التي كان يرتادها هيجل
شخصيًّا). لقد دشَّن كانط ابتسامةَ القِط بدون القِط؛ والجماليات الهيجيلية هي، كما
أخواتها، فرعٌ من الفلسفة، لكنَّ جماليات كانط لم تخرُج عن الطوق. لقد أسف كاسطيلي
على هذا البوار، لكنه قرَّر القيام بمجهود واستعراض اللحظات الأربع «لتحديد الجمال
المُطلَق» بالتتابع، ومن غير أن ينسى نعتَ الإطلاق المرتبِط به. ففي نظره، كما في
نظرنا، ليس هناك من حُب، وإنما براهينُ الحب. وليس ثمَّة من جمال، وإنما أعمالٌ
جميلة؛ فهي التي تصنع الجمال لا العكس. هذا القلب للاسم إلى صفة مضحكٌ بسذاجته، لو
أنه لم يتذكر أن هذه العملية كلاسيكيةٌ ومعروفة لدى منظِّري الزمنِ القديم. وهو
يتساءل بالمناسبة: أين يضع كلَّ هذه الصور القبيحة، والعنيفة عُنوة، التي ظهرت في
أعقاب التعبيرية الألمانية، أي أعمال بازليتز وشووينبيك، بل أعمال نولده وكييفر
التي تباع بسهولة اليوم؟ فهل أنَّ جماليات القبيح والبشع وفن الفضلات والرسم الشنيع
ليست من مجال الفن؟
اللحظة الأولى: «لا يكون جميلًا إلا موضوع الإشباع غير المُغْرِض.» وفي هذا يختلف
الجميل عن الرائق الذي يعجب الحواس في عملية الإحساس، وعن الطيِّب الذي يرتبط بهدفٍ
معين. فأنا أرغب جسميًّا في الرائق المستحبِّ والطيِّب؛ لأتمتع بهما أو أستعملهما،
وهنا لا مجال للاستسلام للمحسوس أو الشهيَّة السوقية. فذلك سيكون ضربًا من المرضية،
لا جماليات. إنَّ تمثيل الجمال كافٍ، بدون رغبة في الامتلاك أو حساب المصلحة.
وكاسطيلي، الذي حسب دائمًا ورغب دائمًا في امتلاك ليس فقط الأعمال التي ترضيه،
وإنما أيضًا الفنانين أنفُسِهم (كي يجعل أبناءه يستفيدون من ذلك)، لا يمكنه إلا أن
يعتقد أنَّ كانط لو كان على حقٍّ لمَا وُجد ثمَّة تاريخٌ للفن؛ لأنَّه لا وجود
لسوقٍ للفن، أو للفن نفسه، فهو ليس معجزة من معجزات الغيب. فلا محرِّك ولا متحرك
إذن، بل لا وجود للفنانين؛ ذلك أن مَن يرفض المتعة لدى عاشق الفن، لا يمكنه أن
يتصور أيضًا فرح وألم وقلق المبدع الذي يعمل هو أيضًا بشكلٍ مرضي بتولعاته وعوائقه.
متى كان الفن نشاطًا لامباليًا؟ المشترون يرغبون في استثمار أموالهم في الأعمال
الفنية؛ وآخرون، أو هؤلاء أنفسهم، لأن الأمر ليس تناقضًا، يرغبون في إمتاع أنفسهم.
ومتى لم يكن الفن استثمارًا ليبيديًّا وتأمليًّا؟ إنَّ عشَّاق الفن من الموسرين في
العالم القديم أنْفُسهم، لم يكونوا يقومون بأيِّ شيء لوجه الله؛ فعاشق الفن كان
يسعى ببذخه وإسرافه إلى السُّلطة في مدينته. لم يكن ثمَّةَ من رجلٍ كريم لم يكن
يرغب في إشهار كرمه بتسجيل اسمه في لوحةٍ، وبدون اهتمامٍ بالجانب الضريبي؛ بل وبدون
قوانين منظِّمة للمؤسسات والهبات. «فوظيفة الفن هي ألا يكون ذا وظيفة.» إن نزع
الوظيفية هذا، يمكن تصوُّره كسيرورة؛ لكنَّ اللاغرضية، إذا وجدت لدى عاشقِ الفن
الخالص، فهي نتيجةٌ لا منطلَقٌ.» الإغريقي الذي كان يصنع صنمًا أو معبدًا، والمسيحي
الذي كان يطلب قربانًا أو نذرًا، كانا يعبِّران عن اهتمامٍ كبير بوجود هذا الشيء.
فصحتهما وهناؤهما وخلود رُوحَيهما كانت مرتهنة به. إن هذه الأشياء التي أتلقَّاها
وأدركها باعتبارها أعمالًا فنية؛ قد صُنعت لتكون وسائلَ مضمونةً للعلاج أو الخلاص،
أو ضمانةً لسلامة البدن. وهي باختصارٍ أدواتٌ ضرورية للبقاء على قيد الحياة. الأمر
يبدو كما لو أننا قبل ٥٠٠ سنة من الآن، نفرِّغ دواليبَ كاتبِ اليوم؛ كي نضع في
الواجهة الزجاجية دواته، ورسالةً لمحصِّل الضرائب، وعقدة تأمين على الحياة أو وصفة
طبية باعتبارها أعمالًا أدبية. وبالتأكيد، فإن الأشياء كانت لها في البداية غاياتٌ
جمالية قد تُعرَض في متاحفنا وألبوماتنا «كأعمالٍ فنية»، نأتي لمشاهدتها بدون
التفكير في شرائها أو بيعها، باهتمامٍ لا غاية له. إنه قرار يظلُّ دائمًا ممكنًا،
وهو لا يتعلَّق إلا بنا، ولا شرعية له؛ فكانط، في الأخير، هو الذي يقول بأنَّ الفن
في الذات لا في الموضوع. لكنَّ المشكلة هي أن هذا الاختيار للأشياء «الجميلة» التي
تُعتبر غير صالحة للاستعمال ومشتقَّة من كلِّ الأشياء الاستعمالية؛ لا قيمة كونية
لها.
إذا ما نحن حدَّدنا «إنتاج الموضوعات المادية التي تكون قيمتها الاستعمالية
رمزيةً فقط» «كفنٍّ»؛ فإننا نقوم هنا باستعمال مقولات وثنائيات لا تنتمي إلا
لمجتمعنا. ما هو رمزي لدى الفرنسي، قد لا يكون كذلك بالنسبة للبدائي؛ وما هو
استعمالي لدى هنود الأيمارا في بوليفيا، لا يكون كذلك بالنسبة لموظف منهاتن
بالولايات المتحدة الأمريكية. علاوةً على ذلك، فكل شيء، في الغالب، وظيفيٌّ ورمزي.
إننا نستعمله، وفي الآنِ نفسه نستطيع تأمُّله، كما أن مسيحيًّا مؤمنًا يمكنه أن
يصلي في الكنيسة أمام رافدةِ مَذبح وسيطي؛ ليأخذ وقته فيما بعدُ كي يحدِّق فيه
ويتأمله على راحته. الكنائس أيضًا متاحف. إن هذه الوظيفة
المزدوجة، تجعل من الفصل بين الجميل وغير الجميل والطاهر والنجس عمليةً ذهنية
فكرية بلا مقابل مَعيش.
أمَّا اللحظة الثانية للجميل، فهي «كل ما يستحسنه الناسُ في أرجاء الكون، وبدون
مفهوم.» إنَّ الحيرة هنا تقابلها كثرةُ الكلمات «يستحسن …» لو كان الفن دائمًا يعجب
الناس وبشكل مباشر؛ فإن كاسطيلي لن يكون له ما يبيعه، ولن يكون للنقاد فنانون
«يدافعون عنهم». صحيحٌ أن الفنانين الكبار حتى حدود كانط، وباستثناءات قليلة، كانوا
يحظون بإعجابِ ورضى عصرهم. فقد كان الإجماع حاصلًا بصددِ: جيوطو، وكارافاج،
ودافنشتي، وتيتيان، وفراغونار، ودافيد؛ في حياتهم وإلى حدٍّ كبير. لكنْ بدءًا من
القرن اﻟ ١٩، ها نحن نشهد انشراخَ وانهيار هذا العالَم المستقرِّ والمنتظم بقوانين
جمالٍ معيَّنة ومعايير حرفة متواضَع عليها، والذي كانت مراتب الفنانين فيه قابلةً
للمعرفة باستطلاع الأوساط المثقَّفة فيه. فلا دولاكروا، ولا ماني، أو بيسارو،
أوغوغان وفان غوخ، أو دوبوفي؛ حظوا بإعجابِ معاصِريهم. ولو أنهم لم يعيشوا هذا
الازدراء لمَا تحولوا إلى «عباقرة» يتجاوزون كلَّ ثمنٍ وكلَّ امتلاك؛ فقد قال
بيكاسو: «لكي تحظى اللوحات بثمنٍ باهظ في المبيع؛ يلزم أن تكون قد بيعتْ في الأول
بثمنٍ بخس.» لماذا إذن اشترى كاهنفيلر لوحةَ بيكاسو «أوانس أفينيون»؛ لأنها، كما
صرح هو بذلك: «لا تعجب الناسَ كلَّهم بإجماع.» ذلك هو سرُّ المستقبل الذي منح الثمن
الجيد. فعبرة الفن المعاصر هي تكسير المُتعة (وصدم البورجوازي وذوي الأذهان
البليدة)، وهي ضرورة شكلية وخصوصية في الآنِ نفسه. وهذه الضرورة الضمنية، هي التي
جعل منها «الفنُّ المضاد» واجبًا معلنًا. مَن مِن الفنانين المضادِّين لم يجعل من
نفسه حفَّار قبرِ الفن، وبدءًا قبر الفنانين المحبوبين والمُحتفَى بهم السابقين له
(الذين بدورهم كانوا حفَّاري قبور مَن سبقوهم … إلخ)؟ الجميل الحديث دائمًا جديد،
والجديد ألَا يبدو دائمًا قبيحًا؟ وليو كاسطيلي يتساءل عمَّا إذا كان هذا الفيلسوف
(أيْ كانط) قد تجاوز فعلًا عتبةَ بيته.
يقول الفيلسوف ما يحظى بالإعجاب، ويكون «ذا طابعٍ كوني». إنَّ هذا الاقتضاب جميل،
ذلك أنَّ الفيلسوف لم يكن يجهل طبعًا اعتباطيةَ «الأذواق والألوان». وهو يعلم علمَ
اليقين أنَّ الواقع السوسيولوجي خِلاف ذلك؛ لذا فهو يطرح هنا مثالًا وأخلاقًا
للإحساس، فيما وراء السديم البيِّن للفردية. فالحُكم على شيءٍ جميل، يعني طرحَ أنه
جميلٌ ليس فقط بالنسبة لي، وبأنَّ شيئًا ما فيه يمكن، بل يلزم، أن يتطلب ويُسائل
أيَّ شخص، وأنه أصلًا قابلٌ للإيصال لكلِّ واحد. إنه رهانٌ جديرٌ بعصر الأنوار؛
فالفرد هو الذي يحدِّد الجميل في طوايا نفسه، لكنَّ هذا التحديد والتقرير يصلح
لكلِّ الناس. بقدرةِ قادر. وليو كاسطيلي، وهو يحيي هذا التفاؤل الذي يفصح عنه
القبول العام (الذي هو نفس قبوله هو، وفي العمق نفس رضا كلِّ عشاق الفن الكرماء
أكثر مما يظنُّه السوقيون) مضطرٌّ إلى الإقرار بأن القدح ما زال بعيدًا عن اللسان.
لماذا لم تتم الترجمة من الكوني إلى العالمي؟ «فالفن العالمي» يظلُّ في آخر المطاف
فنًّا غربيًّا، لا فقط بالنظر إلى عدم تساوي القدرة الشرائية (فإمارات الخليج تظلُّ
بعنادٍ غريبةً عن السوق). لا يملك الغرب لوحده بالتأكيد الحقَّ في المتعة الجمالية،
لكنَّ تقليدنا التصويري ليس هو، بداهةً، التقليدَ الإسلامي أو الهندي أو الأفريقي.
ويبدو أنَّ الكوني الكانطي في خصامٍ مع التاريخ
والجغرافية، والجميل كما يتصوره ليس منتوجًا ثقافيًّا. إضافةً إلى
ذلك، فمنظِّرنا لا يرى في تجربته ما يجعله يتحقق من هذا الحلم اليقِظ للقسمة. ربما
كان كانط على حقٍّ في القول بأنَّ ما هو فقط جميلٌ بالنسبة لي؛ ليس جميلًا، لكنَّ
التفاخر والتظاهر قد قاما دائمًا بالعكس، أيْ أنَّ ما كان صالحًا في نظر الكلِّ لا
يهمُّه. فالتسامح وشراسة أحكام الذوق، القريبة من التعصب، تبدو في مستوى العسف الذي
يُمارس. والعارفون بالفنِّ التشكيلي يقولون بأن قيمة لوحةٍ ما (الجمالية) غير
قابلةٍ للتحديد، لكنهم هم أنْفُسهم لم يتورَّعوا قَط عن الحسم والتحديد، وبلهجةٍ لا
تقبل الرد، بين الفنانين «الرديئين». وحتى كاسطيلي، وبالرغم من أنه أكثر ارتيابيةً،
يحترس من استعادة تلك التحديدات، ليس فقط لأنَّ الزَّبون له دائمًا الحق، بل لأنه
هو نفسه، إزاء فنَّانيه، لم يستطِع أبدًا إشهارَ فنان ومنحه «الدرجة العالمية» داخل
حظيرته بدون أن يحطَّ من قيمةِ فنانٍ آخَر ورفضه، حتى لا يحطَّ من شأن أولئك الذين
كانوا في حوزته. فمشكلته هو، مدير أكبرِ رواقِ عرضٍ هام في الولايات المتحدة
الأمريكية، لا تكمن في توسيع السوق رغبةً في ذلك؛ وإنما في رفع أثمان الأعمال. وذلك
لا يتمُّ إلا بتنظيم النُّدرة. سيكون من اللاإنساني امتلاك «المنتوجات الجيدة» من
دون إزاحة «الرديئة»، غير أنَّ ذلك مستحيل، فإعلاء مرتبةٍ ما يعني من ضمن ما يعني
إنزالَ أخرى.
ويقول كانط: «بدون مفهوم.» وهذا النفي هنا، يروق لكاسطيلي؛ فكانط قد أصاب المعنى.
نعم؛ ليس ثمَّة من قاعدةٍ منطقية. فالمفاهيم تختص بالمعرفة، أمَّا الفن فعاطفةٌ،
ولا يمكننا لذلك المرور من المفهوم للعاطفة والإحساس. وإلا فإن كلَّ الأدمغة
العظيمة للمنطق الصوري؛ سيكون لها ذوقٌ غير ظاهر (بدءًا من كانط …). هل هذا يعني
أنَّ الإحساس بالجمال طبيعي ومباشر؟ يبدو، على العكس من ذلك، أنَّ الحساسية يجب أن
تكون منظَّمة. وهي بالتأكيد كانت كذلك، مثلها في ذلك مثل التواصل الفعلي لأحكام
الذوق التي لا تنتقل بين الإنسان والإنسان بنفسه. بل ينبغي دفعها إلى ذلك. العالمية
تسري ربما بدون مفهوم، لكنها لا تسري بدون جهد. عليها أن تملك العُدَّة لذلك
وتبلِّل سروالها. فالفنُّ الزنجي، مثلًا، ليس هبةً من السماء، إنه عمل يومي، وسلسلة
من الأسفار ومجازات ليس لها من طابع آلي. لننظرْ بالأحرى إلى هذا الصانع من قبيلة
الفانغ، في الغابة الغابونية، المشهور في المنطقة، وهو ينحت جذعَ شجرة ليصنع منه
تمثالًا صغيرًا تشريفًا لجَدِّه الذي مات حديثًا. إنه فتيشٌ جميل من ضمن المئات من
الفتيشات الجميلة. يصل المنطقة وسيط باريزي يستكشفها، يعاير القطعة ويناقش الثمن
ويحصل عليها مقابل ألف فرنك فرنسي. وبعد أن يرشو مديرَ الجمارك بهديةٍ منه، يحمل
معه هذا العمل الحرفي إلى باريس؛ ليبيعه بثمانية آلاف فرنك إلى صاحبِ رواق من
أصدقائه بزُقاق الفنون الجميلة. ويضع هذا الأخير التمثالَ في الواجهة الزجاجية بدون
أن يحدِّد ثمَنه (على عكس آلات القهوة في المحلات التجارية الكبرى) وفوقه هذه
البطاقة: «عملٌ معاصِر من الفن البدائي.» ليس النحَّات الفانغ في بلده أيَّ شخص؛
إنَّ له سمعة واسمًا وشرفًا. فالناس يأتون من القرى المجاوِرة يحملون إليه طلباتهم.
لكنَّ ما يميِّز، في تصنيفاتنا، «الفنَّ البدائي» عن الفنون الأخرى؛ هو مجهولية
أصحابه. هكذا يمحو الرواقي الباريزي اسمَ صاحب العمل لصالح التحديد العِرقي. من ثَم
فإن أصالة العمل في نظر الغربي، تكون مضمونةً بهذه الحيلة التي تشكِّل شرطًا
لتجوْهُرِها الجمالي باعتبار هذا التجوهُر بدوره شرطًا لقيمته الاقتصادية. الساحر
الأبيض، في نهاية السلسلة، يضحِّي بالزنجي الفرد الملموس على مَذبح الفن الزنجي،
بحيث إنَّ المادة التي لم يتغيَّر شكلها، حين تقطع أربعةَ آلاف كيلومتر لتمرَّ من
العالم الأفريقي إلى الفن، تغيِّر من هالتها ومن نظرتها وثمَنها. ليست «مِرآة الفن»
هي التي ندور بها حول الأرض؛ وإنما جهازٌ يجرُّ ويلتقط ويُقصي ويحوِّل كلَّ الصور
ليجعلها على مقاسنا. فالمجموعة المتلقِّية للجميل، ليست سكونيةً كما تتصور نفسها؛
التلقي إنتاج، والعمل الفني هو عمليةٌ يمارس فيها سحرُ النتيجة حجْبَ العمل الدقيق
للوسائط التي منحتْه إمكانَ الوجود.
اللحظة الثالثة تقول: «الجمال هو شكلُ الغائية التي يتصف بها شيءٌ أو موضوع ما،
باعتبار أنها مدركةٌ فيه من غير تمثيل أيِّ غاية.» ها هو من جديد مُعتقَد اللانفعية
الذي اضطُرَّ إليه كانط بغايته هو، المتمثلة في تأسيس كونيةِ
الذوق نظريًّا. وبما أنَّ الغايات متوحِّشةٌ وخاصَّةٌ، مثلها في ذلك
مثل الجاذبية والأحاسيس والعواطف، فإنَّ الذوق مطالَب بالاستقلال عنها ليمكِّن
الجميل من أن يطرح نفسه كخاصيةٍ كونية. على الشيء الجميل أن يكون لنفسه غايةَ
نفْسِه، دون أيِّ مفهوم للنفع الخارجي. بإمكاننا طبعًا أن نجعل من كانط مخترعَ
الدازاين، الذي يلائم بين شكلِ شيءٍ ما ووظيفته الداخلية. لكنَّ الأمر لا يتعلق هنا
بالأشياء ولا بالأشياء الصناعية؛ وإنما بالحدائق وبالمساحات الخضراء. ويقدِّم كانط
كمثالٍ الزهرةَ الصغيرة التي «لا ترتبط بأيِّ هدف». وفي الواقع فإنَّ كلَّ الناس،
من هيدلبرغ، موطن كانط إلى أولان-باطور، يحبُّ الزهور الصغيرة حبًّا لا غايةَ له.
فهل أنسى الحبُّ الألماني للطبيعة صاحبَنا الحسَّاس كلَّ
ما يميِّز زهرةَ عبَّاد الشمس عن لوحةٍ لفان جوج؟ صحيحٌ أنَّ
الفنانين أيضًا ينصاعون للتِّيه؛ فقد قال برانكوزي: «إنَّ جذع شجرةٍ هو أصلًا
وقبْلًا نحتٌ عظيم.» تلكُمْ هي «كلمةُ فنَّان»؛ هكذا يحلم قارئنا المخضرَم الإيطالي
الأمريكي. إنها كلمةٌ شاعرية ورائعة وبليدة. فشجرة بلوط، هي ولا شكَّ نهائية في
أنَّها لم تبْنِها رؤيةٌ ما، وإنما تمنح نفسها مباشرةً كما هي بدون خطاطات ولا
مراجع وسيطة. قد تتباين رمزيةُ البلوط حسْبَ الثقافات والبلدان (فهي في بلدنا قد
ظلَّت ثابتةً من القديس لويس إلى فرانسوا ميتران مرورًا بفيكتور هوغو). لكن شجرة
البلوط الواقعية ليست كائنًا تاريخيًّا، فالزمن لا يغير من طبيعتها، وهي تنبت وتنمو
وتندثر وتعاود النمو من غير تغيُّر عبر القرون، وتوسعها الجغرافي يظلُّ خارج
خصائصها النباتية. كما يمكن التعرف عليها في معزلٍ عن أماكنها ومحيطها النباتي.
إن الجماليات، عِلمُ نباتاتٍ تعيسة؛ فهي على عكس الأشجار
والبلدان السعيدة تملك تاريخًا، أو بالأحرى إنها تاريخ. وإذا كانت
متاحف التاريخ الطبيعي لا تختلف في غير هندستها المعمارية؛ فإن متاحف الفن المعاصر
تخضع لإعادة التنظيم من طرَف الزمن الاجتماعي؛ فقاعاتها تعرف الانقلابات ومتَّكآت
اللوحات يتم تغييرها كليةً. قد نتفق على أنَّ الذوق ليس فكريًّا وإنما حسيًّا،
بيْدَ أنَّ الإحساسات المتعلِّقة بالجميل يتم مفْهَمتُها من قِبَل الزمن؛ فهو الذي
ينظِّم جمالياتنا ويمنحها مشروعيتها، لا فقط بورصة القيم الفنية بتقلباتها (فحركة
الكواتروشنطو، لم تكن تُعتبر فنًّا بالنسبة للقرن ١٨) وإنما أيضًا فكرة الفن كقيمةٍ
يتصف بها ما ليس ذا نفع (فالأواني الذهبية لهنري الثامن، التي كان يستعملها للأكل
أصبحتْ صياغةً فنية). وإذا كان عصر الأنوار قد أوجب المتحف، هذه الآلة الزمنية
المتخصِّصة في إنتاج اللازمني، فإنَّ متاحف الفنِّ الحديث قد صنعَت «الفنَّ الحديث»
الذي لم يكن موجودًا كمقولةٍ فريدة قبل ظهور الفضاءات المميزة المخصَّصة له (بين
١٩٢٠م، و١٩٤٠م). لا يوجد الإحساس وفوقه المفهوم؛ فمهما كانت إدراكاتُنا متفرِّدةً،
فإنها تخضع للتفييئ الثقافي، سواءٌ كانت إدراكاتٍ للطبيعة أم للَّوحات. أنا لا أرى
الصحراء نفسها التي يراها الطوارق.
أمَّا اللحظة الرابعة والأخيرة فتقول: «يكون جميلًا ما يتمُّ التعرف عليه بدون
مفهوم، باعتباره موضوعًا للإشباع.» إنَّ الجميل إذن، هو دائمًا ما يلزم أن يكون
عليه الجميل بحُكم الضرورة الداخلية والطبيعية. وإذا ما نحن ترجمنا المسألةَ؛ قلنا:
في الفن يقوم الفنانون بالعمل بكامله، والعمل الفني يفرض نفْسَه بنفسه. والبسمة
المتساهِلة لكاسطيلي تتحوَّل هنا إلى بسمةٍ ساخرة؛ فكما لو أننا قدَّمنا إليه
أعمالًا مكتمِلةً ونوارسَ مشويَّةً وجاهزةً للأكل، وكما لو أنه لم يكن هو المبتكِر
لخمس أو ستِّ طلائعَ متتالية. ليس سوى المسئول عن تقديم هذه الأطباق لهؤلاء السادة.
ألَمْ يخلق هؤلاء المبدعون، هو وكلُّ أخصائيِّي الفنِّ المعاصر؟ لذا، فإن قصْرَ
دورهم على الوساطة السكونية بين الأعمال الفنية والجمهور وعدم اعتبارهم أطرافًا
فاعلةً مكتمِلةَ العضوية على مسرح الفن؛ يعني عدم فهْمِ أيِّ شيء. «والطليعة
العابرة للطلائع» مثلًا، هل هي كلمينطي، وكوتشي، وكل مَن حذا حذوهما أم أنا ليو
كاسطيلي، الذي جمعهم تحت الشعار نفسِه ونظَّمهم في حركةٍ وحرَّك وسائل الإعلام
وجازى النقَّاد ومجلات الفن الموهوبة، وأسدى النصح لجمَّاعي التحف الفنية والمتاحف
وراقَبَ الكتالوجات وسانَدَ مستوى الأثمان في المبيعات العمومية، ونقل الأعمال
لكلِّ أنحاء العالَم، من دون أن يكفَّ عن استدعاء البعض للقاء البعض الآخَر في
افتتاح معارضه ومؤتمراته ومأدبات عشائه؟ هذه الضرورة لم «أدافع عنها» وإنما
بنيتُها، ولم أختلقها؛ لأنه كان ثمَّة في البداية لوحات. لكنِّي، من هذه المادة
الخام التي لم تكن أبدًا غير ذات أهمية، غير أنها لم تكن أبدًا حاسمةً، جعلتُ من
الفن التشكيلي المعاصر شيئًا آخَر. وإني لأترك للمعانِدين فضلَ معرفةِ هل هؤلاء
الفنانون التشكيليُّون، أم هو رواقي؟ وهل هي أسماؤهم، أم هو اسمي الذي أعطى قيمةً
ومنَحَ رواجًا لأعماله؟ والله وحده يعلم على كلِّ حال أنني لم أسرق منهم الخمسين في
المائة على المبيعات. ولأن كاسطيلي كان مثبَّط الهمَّة، فإنه لم يتقدَّم أكثر في
نقد الحكم. فقد أدرك أنَّ الفن الحي وفلسفة الفن أمران متباينان، وأنَّ الحوار بينه
وبين كانط غدا مستحيلًا.
وفي هذا النقاش سينحاز الوسائطي médiologue إلى جهة الفاعل ضد
المذهبي؛ فهو سيجد ذكاءَ النظرة في آليات السوق أكثر من استنباطات
الجامعة. وإذا كنا قد توقفنا كثيرًا عند هذه التحديدات الفخمة، حيث
يعالَج الجميل بدون اهتمامٍ بالمقدَّس ولا بالموادِّ الفنية، وبدون أيِّ إحالةٍ إلى
اللاهوت أو التقنية؛ فلأنَّ
كانط يظهر بمظهر الوسائطي المضاد
بامتياز. إنه يضرب صَفحًا عن الوساطات، ويدعو إلى ذوقٍ متأصِّل بدون تكوين وإلى
حرفةٍ فطرية بدون تعلُّم؛ باختصار إنه يدعو إلى فنٍّ مكتمِل بذاته بلا عواملَ
فنية، أيْ إلى وظيفةٍ بلا أعضاء، أو نظريةٍ بدون ممارسةٍ تقابلها.
فحسب أتباع كانط في التاريخ المعياري للفن، لا شيء يتدخل بين ذات الذوق والموضوع
الفني، لا شيء ممَّا يأتي، حسب عبارةِ أنطوان هينيون، «لتأثيث عالَم تحليل الفن»؛
أيْ كل اللعبة الجارية بين حاملي الطلب (أوساط السوق) وصانعي العرض (الأوساط
الاحترافية) وحدوده الفاصلة (أوساط هواة الفن).
١٨
إنها لامُبالاة الجميل تجاه تطبيقاته (معمار، رسم، نقش، بستنة … إلخ). ربما كانت الشكلانية الكانطية التي تغلق الإبداع على منطقة الداخل،
بغض النظر عن الفنون والأنواع والأعمال الفنية، تلتقي مع شكلانية الابتكار
المعاصر المنكمِش، هو أيضًا ، على «لعب لغوية» متناغِمة. بيْدَ أنَّ
سَنن التقويم الذي تقترحه هذه الشكلانية يفكِّك كلَّ عمليات العصرنة؛ نظرًا للسيادة
الحالية لآثار الشكل على مضامين الجميل. ونحن شاهدون على أنَّ شروط بثِّ الأعمال
الفنية ورواجها، تتجاوز في المستوى إنتاجَها؛ وذلك قصد التحديد المتنامي لطبيعتها.
فالطريقة تسود على المادة إلى درجة أنها تجعل من نفسها هي المادة. وبذلك فنحن نرى
أفضل السلطة التي تتدخل في صياغة أيِّ أثر للجمال.
من أين تنبع السُّلطة وكيف يتم منحها؟ إذا كان الفنُّ اليوم هو ما نجِدُه في
المتاحف؛ فمَن يبرمج المتاحف؟ ومَن يقرِّر نوعية الأعمال التي يتم اكتسابها؟ وما هي
المعايير والتواطؤات التي يتبعها القوميسارات في شراء الأعمال الفنية؟ مَن الذي
يقوم بفرز الأعمال التي يتم تعليقها وتلك التي تنزل للمخازن؟ ألَمْ تعُدْ قضايا
«سوسيولوجيا» وإدارة الفن هذه قضايا قرارٍ وتحديد؟ ألَمْ ينتقل الذين ظلُّوا
خارجيِّين إلى الداخل؟ لقد أخذ ثييري دو دوف مكان بيير بورديو ليدلِّل على «تكَوُّن
الجماليات الخالصة» بتنظيره لفنِّ المؤسسة، فيما يقوم إيف ميشو بمراقبة مراسيم
«قوميسارات المعارض».
١٩ فإذا كانت القيمة الفنية تأتي لشيءٍ ما عن طريق وضعه في الواجهة أو
بإعلان قيمته في المعرض؛ فإن أسياد المعارض والمعتمدين الفنيين قد تحوَّلوا إلى
معلِّمين مبدِعين بامتياز. لقد كان الفنان الفرنسي مارسيل دوشان، سواءٌ بأعماله أو
بأفعاله، هو الذي دشَّن وسائطيات الفن، وبمسئولية، وذلك بفتح كتالوج «الإشارات».
وبربحه للرهان؛ قذَفَ بالوساطة في مقصورة القيادة. تطلبون مني عملًا فنيًّا؟ إليكم
هذه المِبْوَلَة الصناعية، ضعوها في المتحف وانظروا لأنفسكم مليًّا فيها، إنها
مرآة. فستكتشفون فيها أن المتحف هو تراكُمٌ من سبَّابَات مُشْهَرة: «انتبهوا؛ إنَّ
هذا يستحقُّ المشاهدة.» الوسائطي إذن هو ذلك الأبْلَه الذي حين يُشار له إلى القمر
يحدِّق في الإصبَع المُشير. وعوض أن يتابع وجهة الأسهُم على عواهنه، يتتبع الذراع
كي يبصر الجسد أو الأجساد التي تقوم بالإشارة. هل نحن نعرف أكثرَ فأكثر ما هو
المتحف، وأقلَّ فأقل ماهيةَ العمل الفني؟ ربما كان الأمر كذلك. لكنْ إذا كان الجواب
عن السؤال الثاني: لا يوجد كلية في السؤال الأول؛ فلْنتفق على الأقلِّ بأنهما قد
يتوضَّحان الواحد بالآخَر، وبشكلٍ فريد.