كلمةٌ ذات طلاءٍ خزفي
ثمَّة كلمةٌ تقف حجابًا بيننا وبين صورنا؛ إنها كلمة «الفن». وقد اصطدمنا مِرارًا
وبشكلٍ آلي بهذه الكلمة التي تحتمل كلَّ المعاني؛ فهذه الكلمة الجذَّابة المكوَّنة
من مقطعٍ صوتي واحد تُعيق كلَّ توضيح لمتغيِّرات الصورة. فهي تضفي على المُصطنَع
صفةَ الطبيعة، وعلى اللحظة طابعَ الجوهر وعلى الفولكلور طابعَ العالمية. كما أنَّ
البلاغة المجمِّلة للفن، باعتبارها كذبًا جميلًا، حاضرةٌ حضورًا أكيدًا بحيث يصعب
تفاديها. لذا، فإننا سنكتفي بردِّها إلى مكانها الفعلي.
يعمل قساوسة الفنِّ على تمرير الكثير من التحولات والانبعاثات باعتبارها تجسيدًا
لماهيةٍ لا تاريخية. إنه اسمٌ لم يتمَّ ابتداعه إلا مؤخرًا. وقد صرَّح بذلك مالرو،
آخر خُدَّام هذا التقديس، في نهاية المطاف قائلًا: «اللازمني أيضًا ليس
خالدًا.»
لقد تمَّت محاولة إقناعنا بأن الفن لا يتغير، وأنه منطقةٌ من الوجود أو محافظةٌ
من محافظات النفس تمتلئ تدريجيًّا بصورٍ مصنوعة هنا وهناك. فقد تمَّ اعتبار أن
سيولة الصور منذ ٣٠ ألف سنة تؤدي، مع مرور الزمن، إلى انحدار بنيةٍ مثالية مكوَّنة
من مجموعةٍ من الخصائص المشتركة التي تحدِّد فئةً من الموضوعات؛ يأتي كلُّ عصرٍ
لتحيين هذا المَلمح أو ذاك، وهذا المقطع أو ذاك منها. ففَنُّنا الحديث، الذي لا
يستقي مبرِّره إلا من نفْسِه، يعني الربط بين الأحدث والأقوى. إنه أيضًا عجرفةُ ما
هو طبيعي، بحيث يغدو المحليُّ كونيًّا، وينصِّب من نفْسِه حكَمًا. وهي العجرفة التي
تجعل من مقطعٍ ما محظوظًا؛ بحيث يعرض نفْسَه باعتباره الكلَّ الموجِّه للتاريخ،
الذي يوهم بأنه يوجد في أصلِ كلِّ الصور المصنوعة بأيدٍ إنسانية، والتي جمعناها
بحماس، بما أنه لا يدرك ما يفلت من وعيه. والعكس هو ما يوجد في الواقع، فلكلِّ عصر
من عصور الصورة نمطُ فنِّه. إنَّ القول بأنَّ «المتحف يخلِّص الفنَّ من وظائفه غير
الفنية» ضربٌ من السذاجة المتمركِزة حول العِرقية. فالأمر يبدو كما لو أنَّ «الفن»
قد انتظر، في الظِّل والعذاب وخلال قرون طويلة، أن تتمَّ إعادته إلى نفسه باعتباره
كليةً مكتفية بذاتها ومولِّدة لنفسها، خاضعةً بلا مبرِّر إلى التشويه والاستلاب
ولإفساد المصالح الطارئة واللامشروعة. أليس من الملائم لواقعِ تلك التحوُّلات قلْبُ
تلك الجملة والقول بأنَّ «المتحف قد خفَّف من الوظائف الشعائرية للصور المقدَّسة»؟
وبما أنَّ الجمال قد أُلصق عنوةً بالفن؛ فإن ما نسميه فنًّا لا يحتلُّ من تاريخ
الغرب سوى أربعةٍ أو خمسةِ قرون. إنها مرحلةٌ قصيرة.
لقد تميَّز القرن العشرون بالتشكيك في القواعد الجمالية التي
ورثناها عن القرن السابق وما صاحبه من تمييز بين الفن الشعبي وفنِّ النخبة،
والفن الرخيص والطليعي … إلخ. فهو قد عمل، حسب تعبير هارولد
روزنبرغ، على «تخليص الفن من تحديداته». هكذا تمَّت إعادة تصليح واستخدام كلِّ
أنواع الغرائب والفضلات التي كان أسلافنا يرمون بها في المجاري، وحشْرُها كلَّها في
السلَّة نفسها. لكنْ خلف هذه التجريبية القصوى تثوي نزعةٌ عقائدية، وخلف هذه
الفوضوية البصرية تتوارى نزعةٌ استبدادية مقنَّعة؛ إنها فكرة السلة. فقد أصبح لي
الحقُّ اليوم في أن أحشر فيها كلَّ شيء وأيَّ شيء، سواءٌ كان زجاجةَ بول الفنان أو
حاملةَ القنينات، أو آلة تجفيف الشَّعر أو إطارًا فارغًا، أو حبلًا معقودًا أو
كرسيًّا لصق الحائط مع صورةٍ لنفس الكرسي جنبه. لكنْ، ليس لي الحقُّ بعدُ في الرمي
بتلك السلة إلى المزبلة. لقد غدا من المقبول أن يكون «كلُّ شيء فنًّا»؛ لكنْ، لم
يتمَّ القبول في نهاية الأمر بعْدُ بأنَّ الفن ليس سوى وهمٍ فعَّال. لِمَ يصلح، هذا
الاسم السحري، هذا اللغز الذي غدا بداهةً، وهذه الغرابة الأليفة جدًّا؟ إنها تصلح
لحجب انقطاعات التواصل بين الحضارات وبين مختلف لحظات حضارتنا خلف طبقةٍ تشكيلية
موحَّدة. فالفنُّ كلمةٌ ذات طلاءٍ خزفي؛ إنه كلمة طرسية، حيث يشطب كلُّ عصر بهدوء
معتقداتِ العصور التي سبقتْه؛ كي يفرض معتقداته الخاصة. حين نتحدث عن «تاريخٍ عام
للتشكيل»، أو عن «دائرة معارف للفن الكوني»، فهاتان كذبتان مربحتان. وحين ندَّعي،
مع مالرو، بأنَّ «الفعل الإبداعي يحافظ، على مدى القرون، على قوةِ حضورٍ قديمة
قِدمَ الإنسان، دائمًا ملفعًا بالتاريخ ومحافظًا على ذاته، من سومر حتى مدرسة
باريس.» فتلك كذبةٌ طنَّانة؛ أمَّا الكذبة النافعة، حتى لعشاق الحقيقة، فهي متحف
اللُّوفر.
باسم أيِّ شيء يمكننا وضع عناصر ولوحات متباينة، كالفينوسات ذات الأرداف في عصر
ما قبل التاريخ، وأثينا البارثينوس، والعذراء في الأعطية، وسيدة أوكسير وآنسات
أفينيون، تحت مُعامِل مشترك؟ أبِاسْم الصورة؟ لكنَّ هذه الكلمة ليس لها المعنى
نفسه، والصورة ليس لها المؤثرات نفسها حسب كوننا في باريس ١٩٩٢م أو في روما ١٧٩٢م
أو أيضًا في روما سنة ١٣٥٠م (حين كان حوالي مليون من المؤمنين يتدفقون على المدينة
لرؤية صورةٍ إعجازية للمسيح). إنَّ الأمر لا يتعلَّق بالكيمياء المتخيلة نفسها؛
لأنَّ حركية النظرة ليست هي نفسها. فادِّعاء استخلاص فكرةٍ عن الصورة، سيكون هو
نفْسُه فكرةً متخيَّلة. فليس ثمَّة ثابتٌ هو «الصورة»
imago يكمن تحت الكثرة اللانهائية للمرئي؛ ذلك
أنَّ التنوع جوهري، أمَّا الثابت فتأمُّليٌّ محض.
لكنَّ القول مع غومبريش، في مستهلِّ كتابه عن تاريخ الفن، بأنَّ ليس ثمَّة من
وجودٍ للفن، وإنما يوجد فقط الفنانون؛ يعني استبعاد المشكلة. فمنذ متى لا يوجد غير
الفنانين ولماذا؟ وهل «الفنُّ هو ما يسمِّيه الناس كذلك»؟ وما كان يوجد ثمَّة اسمٌ
خاصٌّ بالفن، قبل الانتقال من المَنْقَش إلى اﻟ «ستوديولو» النهضوي، ومن الجمعية
التجارية الوسيطية إلى الأكاديمية. فليس الفنان هو الذي صنَعَ الفن؛ وإنما مفهوم
الفن هو الذي جعل من الصانع فنَّانًا، وهو مفهومٌ لم يظهر إلا مع حركة الكواتروشنتو
الفلورنسية، في المرحلة الممتدة من حصول الرسَّامين على استقلالهم الجمعوي (١٣٧٨م)،
إلى التمجيد التأبيني لميكل أنجلو الذي قام بإخراجه فاساري (١٥٦٤م).
رهان أداة التعريف
إنَّ الرهان في تحديد الفن (وهو تساؤل ليس له، على ما يبدو، مدًى عملي) يكمن في
قضيةِ معرفةِ ما إذا كان تاريخُ الفن لغةً من ريحٍ تدور حول وهمٍ. وإذا كان الفنُّ
واحدًا في الجوهر؛ فهناك بالتأكيد تاريخٌ واحد للفن، وإلَّا؟ وإلَّا فإنَّ «بهائمنا
الحاملة للرُّفات» تملأ آذان بعضها البعض بالخرافات.
إنَّ المحترفين المهووسين بالتأريخ والنعوت والتوثيق يتحدثون باسم العِلم. بل
إنهم يعتبرون، ولو بشكل عادي، التفكير الفلسفي تفكيرًا اعتباطيًّا وذاتيًّا
مذهبيًّا، ويعتبرون المتسائلين من طينتنا مازحين، والتفكير الاستعادي الجذري
تفكيرًا عموميًّا. هل يمكننا إجابتهم بأنَّ إيمانهم بالفنِّ هو الذي يؤسِّس تاريخَ
فنِّهم، لا العكس؟ وإذا كان الباحثون منا الأكثر انصياعًا للنزعة الوضعية، ومؤرخونا
الأكثر تمرُّدًا على الأفكار العامة والأكثر أنجلوساكسونية، «مهووسين هم أنْفُسهم
بالعالَم الخلفي»؛ فإن اعتمادهم ونبرة تنازلهم تبدو للإنسان العادي مبنيةٌ على
مسلَّماتٍ اعتباطية وذاتية ومذهبية باعتبار أنَّ: (١) ثمة مفهومًا واحدًا للفن
يخترق الحضارات والعصور. (٢) بالإمكان وجودَ تاريخٍ وحيد لهذا الجوهر. (٣) هذا
التاريخ بدوره يمكنه أن يتحوَّل إلى موضوعِ علمٍ مستقلٍّ وخصوصي، كما لو لم توجد
أبدًا حضاراتٌ لا يكون فيها تاريخ الأشكال سوى تصريفٍ لدلالات أوسع؛ حضارات حيث
تاريخُ الفن والفن كتاريخٍ لم يعرفا الوجود أبدًا، كالحضارة البيزنطية مثلًا خلال
ألف سنة، أو الحضارة الصينية خلال مدة أطول بكثير (حيث لم يكن «الفن» وظيفةً مميزة
عن النشاط الاجتماعي، لهذا لم تكن الحاجة ماسَّة للاحتفاظ «بالأعمال الفنية»، وحيث
كان للنُّسَخ نفس قيمة الأصول). وكمثال على ذلك أيضًا، اليابان حيث لا زالت المعابد
لحدِّ الآن تبنى ويعاد بناؤها من دون أن تفقد هالتها. فمؤشِّر استقلالية الأشكال
التشكيلية متغيِّر أيَّما تغيُّر. والكل يعلم أنَّ من المستحيل فهْمَ الإنتاج
الجمالي لمجموعةٍ بشرية ما من دون وضعه في سياق الجوانب الأخرى من حياتها، التقنية
والحقوقية والاقتصادية والسياسية. فما نسميه «فنًّا»، قد لا يمثِّل بذاته مكونًا
مصغرًا دالًّا متميزًا عن بقية المكونات الأخرى. ثمَّة عتباتٌ لقوة الابتكار
التشكيلي، إذا ما تجاوزها «تاريخ الفن» يغدو مطالَبًا بقبول انصهاره في تاريخ
الأديان، أيْ في مجرَّد أنثربولوجيا. لقد علَّمت الجمهورية لأسلافنا التمييز بين
تعاليم الدين وتاريخ الأديان. تعني تعاليم الدين تعاليمَ المسيحية باعتبارها هنا
الديانة الوحيدة والحقيقة بامتياز. وهي مرتبطةٌ بكليات اللاهوت. أما تاريخ الأديان،
سواء كان علمانيًّا أو دنيويًّا، باعتباره لا يحتوي على أحكامٍ قيِّمة أو مرامٍ
تقريظية، فهو من اختصاص كليات الآداب والعلوم الإنسانية. إنهما خطوتان متناقضتان
إلى حدٍّ كبير، بحيث إنَّ الخطوة الثانية قد تمَّ اكتسابها على حساب الأُولى بشكلٍ
متأخر، وبعد صراعٍ طويل (في حال فرنسا في القرن اﻟ ١٩). ثمَّة بلدان في أوروبا
الشمالية، مثلًا، لا يزال فيها هذا التقسيم للوظائف والأمكنة موضوعَ نقاش. فتاريخ
الفنِّ قد أذاع وحْيًا عقائديًّا مضاعفًا، بأفكاره المسبقة وبالجهالة التي كان
غارقًا فيها. فحتى وقت قريب، كانت مدرسةُ اللُّوفر كليةَ للَّاهوت الدنيوي. لقد
كانت معبدًا لإلهٍ وحيد هو الفنُّ باعتباره اسمًا جوهرًا متفردًا.
حسب التقاليد المتوارثة، تكون «الفنون» إمَّا ذات طابع إناسي أو منزلي، ووحده
الفن المفرد أساسي. فنحن لا نزال نعطي بجدية دروسًا في «تاريخ الفن» في الوقت الذي
لا يقترح فيه أحد، إلا على سبيل السخرية، تاريخًا للحضارة (بالتعريف). ونحن نعلم أن
أداة التعريف تُفصح عن الأيديولوجيا أو القضية العادلة، أي عن موضوعٍ مطلق تتمُّ
دراسته في المطلق. إنه موضوعٌ مقدَّس إذن. إلا هنا؛ ففي أحد الأيام، قبل قرنً أو
قرنَين، وجَدَ لاهوتيُّو الوحي أنفُسَهم محرومين من دراسة الكتابات المقدَّسة التي
انتُزعتْ منهم. هكذا نشأ تاريخ الأديان. وفي يومٍ ما، قد يقبل لاهوتيُّو الفنِّ
تقاسُمَ امتيازهم مع إثنولوجيي أرخبيل الصورة. آنذاك فقط، سيقطع تاريخ الفنِّ كلَّ
ما يربطه بالتاريخ المقدَّس والخطاب العقيدي. هذا الخطاب يُشكل توزيع جوائز
الامتياز وسيلته المعتادة والدنيوية، ومعها الحكايات التقليدية عن عظمة وانحطاط
الفن المثالي (ككتاب: تاريخ الفنِّ عند القدماء)، أو ربما الحكاية المقلوبة عن
انحطاط وعظمة الفن الحالي (ككتاب: حياة أشهر المعماريين والرسَّامين والنحَّاتين
الإيطاليين منذ تشيمابوي حتى يومنا)، التي كتَبَها فنكلمان وفاساري. مَن يقبل
بالقطيعة بين العصور والقارات ووضعيات الصورة بإمكانه التخفُّف من عبء كآبة «نهاية
الفن» وأحزانها. لا وجود لنهاية في المطلق، أو بتعبيرٍ مبتذَل: ليست نهاية الفن هي نهاية الصور.
مَن شابه أباه فما ظَلَم
إذا كان الشيء اصطناعيًّا؛ فإن التاريخ الذي يطابقه يكون غير واقعي. كما أن هشاشة
أسطورة «الفن»، لا تكشف عن نفسها أفضلَ إلا حين نتفحَّص الهشاشة المثالية «لتاريخ
الفن» التي تحميه كما تحمي القشرةُ المحار. لقد ظهر مفهوم الفن في عصر النهضة
محمولًا على فكرة التقدم الجديدة، ليستقر في عمق تاريخ مُبَنْيَن بطريقةٍ ساذجة
ومحددًا بغائيته المفترضة، التي تشكِّل سيرةُ حياة فاساري (١٥٥٠م) رمزًا لها، والتي
لا تزال مسلَّماتها مستمرة لحدِّ يومنا هذا. وقد كتب إ. ﻫ. غومبريتش بهذا الصدد:
«لم يكن بالإمكان تصوُّر تاريخٍ للفن بدون فكرة تقدم هذا الفن عبر القرون.» فكل
فنان يدخل في تتابع تسلسلي، ومكانته تصبح بشكل من الأشكال مرتبةً له. وحتى يومنا
هذا، لا يزال التطير من «الطليعة» و«الجديد» يصرِّف التبسيطية الدينية لهذا الخط
المستقيم في التعاظم الدنيوي. والظاهر أن الموضوع النقيض للانحطاط و«موت الفن»
يعودان للفرضية نفسها، فرضية «الفن الذي يتقدم».
وهو لا يزال يتقدم. فإلى أين يسير الفن المعاصر في نظر المؤرخين؟ لا اختيار له؛
إنه يسير نحو الأسوأ، إلى الأمام أو إلى الوراء، يتقدم أو يندحر، لا حلَّ ثالث
لهما.
الأشياء تسير من مبتدأٍ مطلَق نحو منتهًى مبتغًى، وإن كان دائمًا عبارةً عن قيامة
مثالية. إنَّ تاريخ الفن، من أكثره علمًا إلى أكثره آلية، مسكون بالنموذج الأصل
المسيحي للزمن المنقذ، الذي يبدأ بتجسد المسيح وينتهي بيوم الحساب. إنها غائية
مجيدة إلى حدٍّ ما. فنهاية التاريخ وغايته تُمْلي، بالمقابل، الطريق المليء لأصلٍ
منكفِئٍ على لَيلِه، نحو الاعتراف به في واضحة النهار، ونحو نهضته وانبعاثه؛ إنها
الخطاطة الفاسارية. أو أننا سوف نتبع مسير بساطة شريفة ضاعت إلى الأبد، أيْ بساطة
نيبوي Niboé أو لاكوون
Lacoon، حتى نصل إلى التفاهات الباذخة للفن
المنحلِّ لأيامنا هذه؛ وتلك هي خطاطة ويتكلمان. لنُنصت لهذا الأخير يقول: «في
الفنون التي ترتبط بالرسم، كما في كل الاختراعات الإنسانية، كان البدء بالضروري، ثم
بحث الإنسان عن الجميل، ثم إنه آمَنَ إيمانًا بليدًا بالسطحية والمبالغة؛ تلك هي
المراحل الثلاثة الأساسية للفن.» ثمَّة وِجهتان فقط ممكنتان في هذا التصور: الاتجاه
المرح، والاتجاه الحزين. لقد أنشدت النهضة الأوروبية صعود المسيح إلى السماء فيما
أنشد عصر الأنوار شعور الإنسان بالحرمان من كلِّ رحمة ربانية. وقد تابعت الرومانسية
الألمانية مسار الدهرية هذا على طريقتها، وذلك بوضع زمن القصور الحراري في صلب
القلب. هكذا كان هيجل يرجع الجانب المؤثر للأشكال إلى علة وجودها. فالأمر لا يكمن
فقط في عدم إمكان العودة إلى الفن الرمزي حين نكون في مرحلة الفن الكلاسيكي، أو إلى
الكلاسيكي حين نكون في مرحلة الرومانسي، وإنما في عدم إمكان المرء أن يكون رسامًا
أو معماريًّا (بالمعنى القوي لكلمة الكينونة) بدءًا من اللحظة التي تعود فيها
مهمَّة المصالحة بين الرُّوح والعالم إلى الفيلسوف لا إلى الفنان. لذلك، ليست أنماط
التعبير المتتالية التي تشكِّل «تاريخ الفن» هي التي تطرد بعضها البعض، وإنما
التعبير الفني نفسه هو الذي يرحل، «ليصبح الفن اليوم شيئًا ينتمي إلى الماضي».
«فالحاجات الروحية التي يشبعها أصبحت تتشبع بمحيط هذه الثقافة التأملية (ثقافتنا)
التي تتجه نحو الكوني والعام والعقلاني …». لذا فإن الحُكم الجمالي سوف يعوِّض
التأثير الجمالي. الأوديسا ذات الاتجاه الوحيد لا تقبل التكرار، وتاريخ الفن أيضًا
لا يستعيد وجباته السابقة.
في الحالين معًا يتحول نظام الزمن إلى حِكمٍ قيمة، والتتابع الزمني إلى نظرية
للقيم.
إعادة استعمال عبارة مبتذَلة: «الطليعة»
لقد تمَّ إهمال فلسفات التقدُّم التي نشأت في القرن اﻟ ١٩ بشكلٍ مرح من قِبَل
عشَّاق الفن الذين يتمثلونها يوميًّا في أحكامهم الذوقية. كما أن عشاق الجَمال
هؤلاء، الذين يسخرون من السذاجات اليعقوبية قد استعملوا حرفيًّا مجازات الصراع
الفني التي نمتْ في حضن الثورة الفرنسية (كقول ستاندال سنة ١٨٢٤م: «إنَ آرائي في
التشكيل هي آراء اليسار المتطرِّف»). فقد كان الصراع بين إنغر ودولاكروا صراعًا بين
الخطِّ واللون، وكان يجسِّد صراع السلطة ضد الحرية، أي النظام القديم ضد الثورة.
١ وأولئك الذين يرفضون الطليعة السياسية يستعملون امتدادها في الصور.
أليس غابرييل ديزيري، أحد الاشتراكيين الفرنسيين وتلميذ فوريي، هو الذي حمَلَ إلى
مجال الفنون الجميلة هذه الاستعارة العسكرية المنسوخة في الواقع من أُنموذج السكة
الحديدية التي كانت حديثةً آنذاك: التاريخ سكة حديد، والطليعة قاطرة بخارية تجرُّ
العربات؟ من بين الثورتَين الشقيقتَين (١٧٨٩م، و١٨٤٨م) تظلُّ الثورة الصغرى حاضرةً؛
تعبيرًا عن البقاء الأعمى للطوباوية الثورية في نهاية قرن متحرِّر من الأوهام،
تُقْنع نفسها بأنها طلقت كلَّ الثورات. فهل أن خيبةَ أمل العالم لم تحتفظ بغير سِحر
الفن؟ يبدو لنا من الطبيعي تقديس «الجديد» وتقديره كما لو أن الأرض الموعودة لا
تزال أمامنا، لا نصل إليها إلا بطريقٍ واحدة، أقصر الطرق، تلك التي تستكشفها قاطرةُ
اللحظة. إنها وحدانيةٌ نورانية لطرق الخلاص، لها ثمنها ووجهها الآخر؛ أيْ شكوكها
الغامضة بخصوص الانحراف عن الطريق، وكذا الفن المنحط (كمَن أتلف طريقه لأنه لم
يتَّبع مساره الصحيح في اللحظة المناسبة)؛ بما أن الإرهاب الإنجيلي للتطور يلعب
لعبةً مزدوجة، مزاوِجًا بين التقدمية والفاشية، والوعد والخطر. لقد كان الفن الملجأ
الأخير للمسيحية الدنيوية، ولنوع من النقد الأدبي باعتباره الصيغة المنتصرة للكنيسة
المناضلة القديمة، والملاذ الأخير للأسطورة الثورية. ففي عالمٍ فني مسكون ببنيةٍ
ذهنية انتظارية، تتموقع الأمور إمَّا قبل أو بعد حدثٍ ما، وذلك في انتظار يوم
القيامة، هذا إذا لم تتحقق رجعةُ المسيح المنتظَر. في عالمٍ كهذا، تغدو الجِدة
والتفوق مترادفَين؛ فأنا أفضل منك لأنني أتيتُ زمنيًّا بعدك. ولكي يكون لفكرة
الطليعة معنًى؛ من اللازم تجميع تسلسل الأشكال التشكيلية في مقطعٍ تراكمي للحلول
الأكثر ملاءمةً، التي يتم تقديمها بشكل متتالٍ للمشكلة نفسها، وذلك على اتجاهٍ كلما
تقدَّمنا فيه؛ كنا أكثر امتلاكًا للأسلحة القابلة لتجاوز الحلِّ السابق. وبالطبع،
فإذا كان تاريخُ فنٍّ معين يغيِّر تدريجيًّا المشكلات التي تنطرح له؛ فإن الفكرة
المواسية تنهار، ويكون على كلِّ فنانٍ تشكيلي وكل تيار فني أن ينطلق من جديد من
البداية. وبما أن كلَّ واحد يغدو طليعةً لنفسه، فإن الطليعة تنتفي؛ نظرًا لغياب
واجهةٍ وخلفية مشترَكة بين الفنانين. كيف يمكننا تفسير هذا البقاء المتناقض
«للطليعة» في غياب «حزب طليعي»؟ بالتأكيد، بتوظيفِ تراث أيديولوجي من القرن اﻟ ١٩
في معمعةِ التكييف الإعلامي للقرن العشرين. لقد كان إلحاقُ عوالمِ الفنِّ
بالاستعجال الإشهاري وراء تنشيط التطيُّر من الجديد. ثم جاءت دائرة الأخبار
الراهنة، حيث كلُّ «خبرٍ جديد» ينتزع مرتبةَ وقيمةَ الخبرِ الذي سبَقَ أن مرَّ
(فنشرة أخبار أمس، تفقد قيمتها التجارية اليوم)؛ لكي تنقذ العالم الميِّت للطوباوية
الاجتماعية، وذلك باللعب على لَبْس معين، حتى تتم إعادة الاعتبار للحداثة بوصفها
اختلافًا وقطيعة. لكنَّ تلك الحداثة قد بدَّلت علامتها؛ فقد تحولت من حداثةٍ مسيحية
إلى حداثة وسائطية، بحيث إن فكرة الطليعة الرومانسية، التي كانت فيما قبل علامةً
على التمرد ورايةً للَّعنة، أصبحتْ تشتغل كوسيلةٍ للإدماج والرقي الاجتماعي. إنَّ
ما يمنح القيمةَ لخبرٍ ما، وضمنها القيمة التجارية، هو الجِدة. وكما يقول أرمان
اليوم: «الفنان مُخبِر.» فعليه أن يشكِّل حدثًا؛ كي يثير الاهتمام ويستجذب
الزَّبائن. إنَّ سوق الفنِّ إعلام مترجَم إلى تحديد أسعار. والخبر يتم قياسه بدرجة
الانزياح عن المعدَّل؛ إنه العكس تمامًا لاحتمال الظهور. لذا، فإن الأشكال التي
تعرف تثمينًا كبيرًا، هي تلك التي تكون اليوم الأقلَّ توقعًا؛ فبما أنها تشكل
حدثًا، فإنها هي التي تثير الكثير من الكلام حولها؛ فتغليف الجسر الجديد على نهر
السِّين بباريس، أو وضع مِرْسام
chevalet أمام
كركدن في حديقة الحيوانات بفانسين، أو تمريغ امرأة عارية على لوحةٍ مرسومة أو وَضْع
حقل قمح أمام قوس النصر بباريس؛ تعني أولًا إنشاء صحافةٍ جيدة، وذلك بإنتاج المقابل
الفني لكارثة على السكة الحديدية. ينجم عن ذلك أن المنزع التقليدي يكون شذوذًا
وسائطيًّا (مثل قطار يصل في الموعد المحدَّد)، ويكون الرسم المتحدي عاديًّا. ما
يكون مربحًا هو الانزياح عن القاعدة، وواجب الأصالة الشخصية غدا ضرورةً اقتصادية
مادية، ومَلِك الغريب العجيب أصبح هو فلانٌ وفلان. إن انصهار قيم الإبداع، والإعلام
الذي انتهى إلى «الفن التواصلي»؛ يمكِّن من معرفة الاتجاه جيدًا وسطَ فقدان
الاتجاه، المعاصر لأيِّ شيءٍ تافه. لقد أصبح البحث عن الحد الأقصى الإخباري،
المسمَّى أيضًا «السكوب»، الحكَم الوحيد الإنجازي في الاعتباطية المعمَّمة «للإعصار
التجديدي الدائم». هل كلُّ شيء على ما يُرام؟ نعم، شرط أنْ يكون هذا «الشيء» النقيض
لكلِّ شيء تحدَّثنا عنه سابقًا؛ إذ بدون ذلك، لا يمكن للأخبار أن تمرَّ. والتوصية
بالطبع
imprimatur لا تتوِّج غيرَ الشاذِّ، إلا إذا
نحن أردْنَا أن نسخر ضمنيًّا من التصوير الملوَّن باعتباره منسجمًا (وقابلًا
للاستبدال والتوقع).
ونحن نعلم من زمنٍ، المفارقات والعقم الخاصَّ بما سمَّاه أوكتافيو باث «تقاليد
الجديد». فما مآل الانزياح عن القاعدة في غياب تلك القاعدة؟ وكيف نميِّز الطليعي من
الرديء حين يكون أغلب أفراد المجموعة يمارسون الفنَّ الطليعي؟ فبِدُون كلاسيكيةٍ في
الخلفية (تعليم ومتن ومعايير ومباريات) يتمزق الاحتجاج مِزقًا. من جهةٍ أخرى،
فتعدُّد اللامعتاد يسرِّع من حدوث تجديد الأشكال والطرائق. من ثمَّة تنبع ظرفيةُ
التجديدات وإنهاك النظر، بالإشباع الزائد والعودة النهائية إلى حالة السديم
الأُولى. إنَّ الإكثار من الأخبار يزجُّ بالجديد في التفاهة. وبمقدارِ ما تكثر الأعمال التي تصبح حدثًا، تغدو الفرجة هي
الجمهور. حين يغدو الأمر عبارةً عن كوكتيل حفل افتتاح معرض، بلا
بداية ولا نهاية، ينتقل من رواق لآخَر، ويغلَّف بنفس الإشاعة الغامضة. غرابات عجيبة
تتتابع على الحيطان في سرعةٍ مدوِّخة من دون أن تُعجب أحدًا؛ حين يغدو الأمر كذلك،
فإن التقادُم التدريجي للغرابة التشكيلية يتسارع من عَقدٍ لآخَر. صحيحٌ أنَّ
«الأمكنة الساخنة» للفن المعاصر تتقاطع فيها الشبكات السائدة للإعلام العالمي
(فالتجديد لا يتم في نيجيريا أو برمانيا أو البيرو)، لكنْ في عالَمٍ غدا فيه رفضُ
التقاليد تقليدًا أوحَد، يهدم الاحتفاء الآلي بالجديد نفْسَه بنفسه. إن تهيُّج
السوق مراوحةٌ تاريخية. لذا نحن نفهم أنَّ ما بعد الحداثي، ما بعد الفن «الأكاديمي»
الذي يمجِّد الماضي، والفن «الحديث» الذي يدعي الانتماء للمستقبل، يسعيان إلى
التمتع بفنٍّ حاضر لا يطلب الانتماء إلا لنفسه.
قفص السلم
لكي نتخلص من الخلط الوحشي بين التأريخ والقيمة (دوشان أفضل من بيكاسو، الذي هو
أفضل من غوغان، الذي يتجاوز كثيرًا دولاكروا)، سيكون من المغري اعتبار أنَّ الزمن
لا دور له في المسألة، وأنَّ التاريخ ليس محكمةً
للفن. لقد قال بونار بأن «الفن هو الزمن، وقد توقف.» إنه مثل المتعة
أو العلم، كما رأينا ذلك سابقًا. ومن الأكيد أنَّ بعض التأملات تقذف بنا، ولو
لِلَحظة، خارجَ التاريخ الذي يملك خاصيةً سالبة، سواءٌ كان انتظارًا أو حنينًا.
فالمتعة الجمالية، مثلها مثل المِمَص، تطرد الفراغ من العقول، وكلُّ ما تمتصه
اكتفاءٌ إيجابي وفرح يكثِّف الماضي والحاضر في حاضرٍ مُعجِز. «إنَّ الطريق نحو
الباطن»، العزيز على نوفاليس، لا تأريخ له، وبمقدار ما أن الأيديولوجية هي ما ينتمي
من خلاله مجتمعٌ أو فرد بالضرورة إلى زمنه، فإنَّ فنَّه هو ما يمكِّنه من الانفلات
من ذاك الزمن. فقد اعتبر بودلير أنَّ الفنان الحديث هو ذاك الذي «يستخلص الخالد من
المؤقَّت». وبعد بودلير بأكثر من قرن، وعلى مرأًى من الاستعمالات المضادَّة
للحداثة، التي لم تُفهم فهمًا جيدًا، أصبح الشعار الوحيد هو: علينا أن نكون
بالتأكيد غيرَ حديثين. بل علينا ألَّا نكون بالأخصِّ ما بعد حداثيِّين، ولا معادين
للحداثة، فذلك يعني مرةً أخرى إعطاءَ الصلاحية لِلمَا قَبْل والمَا بعد، وقياسَ
قوةٍ ما بالتسلسل الزمني ورَدَّ قيمةٍ عاطفيةٍ ما إلى قيمة الموقع الزمني.
إننا نقتنع بالمقابل، بأنَّ ثمَّة رهانًا صعبًا. بل ثمَّة نيَّة مبيَّتة، لأنَّ
«الفنان التشكيلي يتفاعل بنفس الحِدَّة مع الفنان الذي سبَقَه ومع عالمِ اليوم.»
لقد أصبح واقعًا أنَّ تطور الفنِّ الحديث لم يكفَّ عن إضفاء الطابع التاريخي على
الخاصية الجمالية، وذلك بجعلها تنزلق من العمل الفني إلى المكانة التي تحتلها
بالعلاقة مع إرثٍ من المكتسبات. فقِيَم قطائعنا لا تزال، وأكثر ممَّا مضى، قيمَ
مواقف. فهل يشكِّل الخلود نصْفَ الفن، وما الذي نفعله بالنِّصف الآخَر، الذي يُفترض
فيه، منذ بودلير، أن يعبِّر عن عصره؟ إنَّ الهروب من التقطيعات التاريخية للمرئي
عبر التطيُّر من اللحظة المطلَقة؛ سيكون غيرَ ذي جدوًى، مثله في ذلك مثل الهروب من
برقِ العاطفة المتجدِّد باستمرار عبْرَ الاهتمام فقط بعصور البصر. لنحترس من الخلط
بين منطق الإبداع ومنطق الإدراك، ونعتبر أن «الوجود هو الإدراك» الصيغةَ المُثلى
للصورة البصرية. إنَّ انطباع العارف ينحو باتجاه الخلود؛ لأنَّ صورةً آتية من بعيد
قادرةٌ فجأةً على انتزاعنا من بيئتنا وأفكارنا وعمرنا. كما أنَّ بيئة الإبداع
تاريخيةٌ؛ فهي محبوسة في محيطٍ معيَّن، ومحصورةٌ في لعبةٍ بين «السابق» و«اللاحق»
لا يمكننا التجرُّد منها؛ لأن هذه الصورة أو تلك تمنحنا إحساسًا غامضًا بالنعمة.
وكما كان أسلافنا يميِّزون بين الطبيعة الطابعة والطبيعة
المطبوعة، من المفيد التمييز بين الصورة المتلقَّاة والصورة المصنوعة، وبين
التكوُّن والنشوة.
أليس بإمكاننا إذن دفعُ الزمن الخطِّي إلى الوراء وعدم القبول به كما هو؟
والخروج، أليس يبتغي الهروب من الاختيار الصعب، بين التاريخ السهم والتاريخ السديم،
وبين التطورية والنسبية، نحو هندسات الثورة (أي «الدورة المكتملة لجسمٍ متحرِّك
حولَ محوره»)؟ لنقارع المجاز بالمجاز؛ لمَ لا نعوِّض سماط الطريق الصاعد أو المنحدر
بدورة السُّلم؟ هناك شكلٌ حلزوني — أيْ حركة دوران مزدوجة حول محورٍ معيَّن
والانتقال على طوله — يمكِّن من التركيب بين المثل البيولوجي الذي يُعتبر المجازَ
الأول لتاريخ الفن، بطفولته ونضجه وشيخوخته، والفكرةَ الواسعة للتطور التاريخي
للمجموع. فاللولب يمكنه، عبْرَ الربط بين نهاية منحنًى وبداية آخَر، المصالحةُ بين
التكرار الحزين والتجديد المرح وبين المقولة التوراتية: «لا جديد تحت الشمس.»
وقولنا: «نحن نعيش عصرًا رائعًا.» أمَّا أن يكون الانحدار النهائي لمرحلةٍ ما من
الفن حاملًا في ذاته لتأكيد ولادة نهضةٍ جديدة؛ فذلك أشبه بتمثيل حِكمي مكرور، لكنه
ذو مضمونٍ جديد. هكذا لن يكون لدينا الاختيار بين تصوُّر زحلي للتقهقر الذي لا
مردَّ له والسذاجة المرحة لربيعٍ دائم.
وفي الحقيقة، تغوص بنا فرجة الصور في ثلاث مُدَدٍ متباينة ومتزامنة في آنٍ واحد:
الزمن خارج الزمن المتعلق بالعاطفة، والزمن المتوسط لدورة الصور الذي تأخذ فيه هذه
الصورة أو تلك مكانها، ثم الزمن الخطي الطويل لتاريخ الإنسان، الحيوان الوحيد الذي
يترك آثارًا. إن اللقطة «فرد»، والمقطع «تاريخ»، والفيلم «جنس» تشكِّل اللحظات
الثلاث التي تتطلب الربط والتركيب.
ألَا يحمل كلُّ كائن حي في ذاته ثلاثة أزمنة؟ وألا يمكن لأي صورة أن تتحاور مع
ثلاثة فلاسفة: هيجل وبرغسون وفيكو؟ في البداية، هناك الزمن الحراري الدينامي الذي
يُجري الساخن في البارد، ويربط بين الاختلاف والائتلاف، والفرد والسديم. ثم زمن
القصور الحراري، الذي يصعد مع التيار ويخلق الجديد والمتدفق باستمرار. إنه
«التجديد» و«الاكتشاف» و«الاختراع». وأخيرًا الزمن الفلكي، حيث يعلن كل أصيل عن
ولادة فجرٍ جديد، والذي يعيد مرةً مرة دورةَ المتخيل إلى نقطة بدئها؛ كي تعيش دورةً
أخرى من النضج. إنها «السنة الرواقية الكبرى» والتقدم الخطي و«العَود الأبدي». فهي
بالجملة ثلاثة تواريخ في واحد: التاريخ الباكي، والتاريخ الضاحك، والتاريخ المتعتع.
ما الذي نفضِّل: النهر أم المعجزة أم الحلقة؟ إنها قضيةُ مزاج وعصر وحرفة
أيضًا.
يُبين الفلاسفة عن تفضيلٍ واضح للتاريخ الذي يبكي؛ ذلك أن إعلان «الاتجاه نحو
الأسوأ»، لا يتمُّ أبدًا من دون متعة. وقد أكَّد ديدي-هوبرمان الملذَّات الفلسفية
الخاصة بالإبلاغ.
٢ وها أنا الآن أملك القدرةَ على حكي كلِّ شيء، مضيفًا للحكاية عرضَ
الأسباب والمؤثرات والأغراض والنتائج التي تفصح عنها هذه الميتة. فالفيلسوف يملك
كلَّ الحق في تمنِّي موت الفن حتى يحتكر الحقيقة ويستخلص لوحده جوهرها. وهو بذلك
يؤكِّد انتصاره بما أنَّ التاريخ بالمعنى العادي، باعتباره بالتأكيد تاريخًا
مؤثِّرًا لمغامرات العقل، يظلُّ مع ذلك تاريخًا مبتورًا. فهيجل، مثلًا، يعتبر أن
الفنان، مثله مثل البطل لا يعرف ما يفعل. ولو كان يعرف ما يفعل لكان فيلسوفًا.
الفنان الكامل هو إذن الفيلسوف الهيجيلي. إنه الموهبة إضافةً إلى وعي الموهبة
بذاتها. لنحلم، من جِهتنا، «بتاريخٍ للفن» بالشكل الذي يمكن أن ندافع عنه جميعًا
ومن دون أن نناقض أنفُسَنا اليوم في نهاية القرن العشرين؛ الفن خالد (بالنسبة
لفرد)، الفن قد مات (في التاريخ الغربي للأشكال)، موت الفن ليس موتًا للصورة (التي
ستستمرُّ ما دام هناك ناسٌ يعرفون أنهم سوف يموتون).
•••
«إننا نرى، بشكلٍ ما، أنَّ الفن يتخلص من الكتابة الحقَّة ليتابع مسيرًا ينطلق في
التجريد ليستخلص تدريجيًّا أعرافه من الأشكال والحركات، ليصل في نهاية المنحنى إلى
الواقعية، وليتبدد كفنٍّ. هذه الطريق غالبًا ما اتبعتْها الفنون التاريخية، بحيث
يلزمنا القبول بكونها تطابِقُ نزوعًا عامًّا إلى دورة النضج، وبأنَّ التجريد هو في
الواقع في أصل التعبير الغرافي.»
٣ فالمختصُّ في التاريخ القديم بانتظامه الواسع والصافي، يهرع لإنقاذ
قِصَر بصرنا. وقد عمد لوروا-غوران، قصد تلخيص مسير الفن في العصر الحجري، الذي يمتد
من ٣٠ ألف سنة إلى ٨ آلاف سنة قبل التاريخ، إلى تقسيمه إلى أربعة أساليب أو مراحل.
المرحلة الأُولى (من ٣٠ إلى ٢٥ ألف سنة ق.م.) هي مرحلة الرمزي، أو ما قبل التشخيصي
(الخدوش، القموع أو السلاسل الإيقاعية). الأسلوب الثاني (حوالي ٢٠ ألف سنة ق.م.)
تميَّز بالانتقال من العلامة إلى الصور. الأسلوب الثالث (حوالي ١٥ ألف سنة ق.م.)
يعتبر نقطةَ التوازن بين الهندسي والتمثيلي. الأسلوب الرابع (بدأ ١٢ ألف سنة ق.م.)
هو مرحلةُ الروعة الأكاديمية العُرفية للتمثيل بحفريات مغارات ألتاميرا ولاسكو
ومرسيليا الآن.
٤ إنَّ الأمر يتعلَّق إذن بطفولةٍ طويلةِ المدى وبلحظةِ ازدهار امتدَّت
على مدى خمسة آلاف سنة ثم انتهَت بسقوطٍ متسارع. فبعدَ القمَّة الواقعية لبَيْسونات
ألتاميرا، ترك المنزعُ الطبيعي الحيواني للألف الثانية عشرة ق.م. المجالَ فجأةً
للرسوم المجردة للعصر الحجري الأخير، التي شكَّلتْ نقطةَ الانطلاق لدورةٍ جديدة.
تبدو الواقعية عمومًا «شكلًا ناضجًا مقلقًا في حياة الفنون.» فالصورةُ لا تنطلق، في
الحقيقة، من تقليدِ المظاهر (ذلك أنَّ الفنون البدائية تنحو نحوَ التجريد
الإيقاعي)، وإنما تصل إلى ذلك بشكلٍ لا واعٍ. وما إن يتمُّ تجاوُز نقطة التلاقي هذه
حتى يسبق التعبير التجسيمي الإيهامي انطفاءَ النزعة الطبيعية، ليأتي بعد ذلك البحث
عن منطلقٍ جديد بالعودة إلى أسلبةٍ قوية. إن الأمر يبدو كما لو أن الدورة التي
وسَمَت العصر الحجري «تتكرَّر»، بطريقةٍ أكثر بريقًا واختصارًا، في الدورة
الإغريقية الرومانية التي استعادتها الدورة المسيحية ومن بعدها الفن الحديث.
لذا فإن التسلسل الزمني لا يعيِّن أبدًا نضْجَ فنٍّ
ما. فصورةٌ مجْدلية تعود لعشرة آلاف سنة قبل الميلاد، تملك دقةً
تجسيمية أو «فوتوغرافية» أكبر من صورةٍ آشورية تعود إلى الألف الثانية قبل الميلاد.
وكما يوضِّح ذلك لوروا غوران؛ فإن الفن القديم في إيفي
Ifé أكثرُ «تطورًا» من الفن الزنجي
المعاصر.
طبعًا، لا تعود الدورات إلى نقطةِ الصفر؛ لأنَ الإنسانية لا يمكن أن تمحو من
ذاكرتها الاجتماعية مساراتِها السابقةَ التي تُختزن باستمرار. فالعتاقة الأُولى،
ليست إذن «مرئيةً»، مثلها مثل العتاقة الثانية، والعتاقة الثالثة أقلُّ «براءةً»
(فالسوريالية تستعمل تقنياتِ تجميعٍ كانت معروفةً في العصر الحجري، لكنَّها
أتقنتْها). والتماثيل الصغيرة لجزيرة كريت، مثلًا، لم تكن تبتغي ممارسةَ التشابه
أكثر من الصور المجدلية، كما أنَّ المقاربة التجسيمية قد تأخرَت في الظهور في هذه
الدورة الإغريقية قرونًا عديدة ولآلاف السنين. كلُّ دورة تقول كلَّ شيءٍ بسرعة
متزايدة، لكنْ على طريقتها الخاصة وبدون اجترار. إنها تقدم عرضًا لإمكانات الصورة
بكاملها، بالترتيب نفسه الذي تم به ذلك في الدورات السابقة وبالعنوان ذاته. قد يكون
الأمر، كما عبَّر عن ذلك أخصائي العصر الهيليني جان بيير فرنان، انتقالًا من
«استحضار اللامرئي إلى محاكاة المظهر». وفي بدايات الدورة الإغريقية الرومانية، كان
الصنم الخشبي هو الإله قبل أن يأخذ بمعنًى ما جسمًا خاصًّا به يمكن النظر إليه من
أجل ذاته. فبعد أن كانت تلك التماثيل موضوعًا شعائريًّا تحوَّلت إلى موضوعٍ زخرفي.
كما ازدهر أيضًا فنُّ الطلاسم. لهذا فإن الكلاسيكية الإغريقية في القرن الخامس
تمثِّل «لحظة النضج المقلِق»، والمبشر بالنسخة الطبيعانية الإسكندرانية، والصور
الوثنية المصبوغة برداءة (وهو ما دفع بأفلوطين، في القرن الثاني للميلاد، إلى
مناهضتها والدعوة إلى العودة إلى عتاقةٍ صافية، محقِّقًا بذلك إعادة الارتباط مع
الغيبيات، لكن في شكلٍ ذي طابع ثقافي روحاني مُعفًى من الأدران السحرية الأصلية).
هكذا خفَّ المدلول فيما أصبح الدالُّ كثيفًا. وبالتدريج بدأ المرجع الإلهي يأخذ
صورةً إنسية، بعد أن كان في البدء مظلِمًا ومخيفًا. إنه المرور من الفكرة إلى
الظاهرة؛ لكنْ، وفي الوقت نفسه، انتقلت الصورة الوسيطة من مجرد محطةٍ أولية إلى
صورةٍ ذات صلابة وكثافة، لتصبح وسيطًا ثقيلًا ثم كثيفًا بين المقدَّس والدنيوي.
إنها أشبه بقطعةِ زجاج يتمُّ تحويلها إلى زجاجٍ خشِن، ثم إلى مِرآة من قِبَل زجَّاج
يبحث فيها عن نفسه، عوض أن يوجِّه نظره إلى العالَم. في البداية ينظر الناس إلى
ربِّهم عبْرَ التمثال، ثم يضاهي التمثال الإله، لينتهي الأمر إلى أن يُنسي التمثالُ
التفكيرَ في الإله، وفي نهاية المنتهى يتمُّ تأليه النحَّات.
الحضور والتمثيل التشخيصي، ثم التظاهر
simulation؛ إنها اللحظات الثلاث التي تفصل التاريخ
الغربي للنظرة في مستوًى شامل، والتي يبدو أنها توجد في مستوًى أصغر، أيْ في كلِّ
دورةٍ فنية. وكما في كلمة مخطوطة باليد، حيث كلُّ جزءٍ مرتبِطٌ بالكل، كذلك كلُّ
مقطعٍ تشكيلي يحكي الفيلم بكامله. فبعد أن كانت الصورة في البدء انصهاريةً، أصبحت
نسْخًا للواقع ثم زينةً اجتماعية. وكمثالٍ على ذلك التقطيع الذي اقترحتْه أكثر
التحقيقات تنظيرًا في تاريخ الصورة الشخصية (البورتريه) الشعائرية في روما؛ «ففي
المرحلة الأُولى، حتى مائتي سنةٍ قبل ميلاد المسيح، كانت صورة الأسلاف ذاتَ دلالةٍ
سحرية. وفي المرحلة التالية، فيما بين مائتي سنةٍ قبل الميلاد والسنة العشرين بعده،
أصبحتْ ذاتَ دلالةٍ أخلاقية. وبعد السنة العشرين، بدأت مرحلةُ التظاهر الاجتماعي.»
٥ كلما ضعفتْ دلالةُ الصورة الشخصية؛ أصبحتْ أكثر شبهًا بمرجعها.
والدقَّة (باستعمال عجين من الشمع) كانت واجبةً في المراحل الأُولى. ولم يصبح الأمر
كذلك إلا في وقتٍ متأخِّر، لكي يفقد فيما بعد كلَّ أهميته. فكما لو أن الأمر يتعلق
بقصورٍ حراري أخلاقي، بحيث ننتقل كلَّ مرة من الزائد إلى الناقض في الحمولة
الرمزية، حتى نصل إلى إعادةِ شحن البطاريات عبْرَ الفرز (من الصنم إلى الفنِّ إلى
البصري).
أولًا يمكننا، بقليلٍ من الحماس، أن نجِدَ في تاريخٍ معيَّن للسينما المعطيات
الدراسية المنتمية للعصر الحجري؟ إننا سنجدها تبدأ من الخارج بالصورة الإشارة
indice ذات الطابع الوثائقي، والتي تشكِّل
شهادةً على العالَم الخام، مع الأخوَين لوميير. ثم تتابع الأمرُ في الاستوديو مع
الصورة الأيقونة للأكاديمية السردية للثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات. وانحرف
بعد ذلك نحو الصورة الرمز مع الكاميرا القلم لسينما المؤلف. ثمَّة إذن ثلاثُ مراحل
عرفتْها الصورة المتحركة (في المركز): الوثائقية، والفرجوية، والكتابية. وفي
الستينيات، جاءت العودة إلى التسجيل المباشر للصوت وإلى سينما الحقيقة، والتصوير في
الخارج والْتقاط الحدث في سخونته؛ كي يتمَّ «الْتقاط حياة الناس في منتهى حيويتها»،
تقريبًا من غير سيناريو أو حوارات مُتقَنة. هل هو دفَقٌ من أجل منطلَقٍ جديد نحو
الفرجة باعتبارها اللحظة الثانية للدورة؟ إذا كان الأمر كذلك فمعناه تبسيط الأمر
إلى الدرجة القصوى.
التسلسل نفسه عرفه الأدب؛ فقد أنصتَ القرن الرابع عشر لأعمالٍ كبرى بلا مؤلِّف أو
قرأها، ثم لم يلبث أن أُعجب بمؤلِّفين كبار لم يخلِّفوا أعمالًا. كما لو أنَّ
الدَّيْن الذي كان على المنجز قد عوَّض، في نهاية المطاف، المهارة الأولية للإنجاز.
هكذا تبدأ الصورة منطلقها كعلامةٍ مجهولة، تخترقها دلالةٌ تلغيها، وتعظُم بامتلاك
توقيعٍ معين، أي استقلال معيَّن، ثم تسقط في اللامبالاة حين تأخذ قيم الإبداع مكانَ
الأشياء المبدعة. لذا فإنها سوف تعود لبداياتها، عبْرَ قفزةٍ حيوية، لكي تبسط نفسها
من جديد كعلامة. وبما أن ثمة تطهيرًا للحسِّ الديني يدفع إلى التحرر من كلِّ ديانة
(ذلك أنَّ الإلحاد هو المرحلة القصوى للَّاهوت)، فإنَّ الحسَّ الفني قد يتحسن حتى
يصل إلى الرغبة في موت الفن وعدَّته الحكائية «المتقنة». ففي النقطة الأكثر
تعقُّدًا، يفرض ما هو أكثر تجرُّدًا نفسه. حين يكتشف الفن مثلًا البدائيين، والفنون
الزنجية والأوقيانوسية، وهندسة الأشكال والإيقاعات البصرية الماقبل تجسيمية؛ فإنَّ
الانطلاقة الجديدة تجِدُ الحيوية اللازمة لها. إنَّ دورةً ما تكتمل حين يتحوَّل
صانعُ الصورة، الذي كان في الأصل إلى حدٍّ ما ساحرًا ثم حِرفيًّا ثم أخيرًا فنانًا،
مرةً أخرى إلى ساحر إلى حدٍّ ما، ونحن لا نزال الآن في هذه النقطة.
إننا لا نمرُّ من نفس النقطة، لكننا نمرُّ في نفس المستوى إلى مستوًى أعلى
(محافِظين في الذاكرة على مكتسَبات الدورات السابقة). فالفن، كما هو حال العقل
والإنسانية نفسها، لا يتقدَّم إلا بالتراجع باتجاه حوافز تقدُّمه الموجودة في
مراحلَ سابقة. هذا التجديد عبر التراجع أو العودة؛ يُقيم فرقًا بين ردِّ الفعل الحي
والتراجع القاتل، وبين النهضة التي «تستعيد الزمن بالشكل الذي به نملأ منبِّهًا»
و«الإصلاح الديني التي تريد ردَّه إلى نقطةِ الصفر» (جان كلير)؛ أو لنقُل، بإضفاء
طابعٍ سياسي على هذا التعبير، بين رجعيِّ التقدم ورجعيِّ الأكاديمية.
إنَّ دورةً فنية ما، في نظر الزمن الفلكي، تنتعش حين يأخذ الطالب في مدرسة الفنون
الجميلة في سنته الأولى، دروسًا في الرسم لا في الفنون التخطيطية، وأخرى في تاريخ
الفن لا في الثقافة العامة، ودروسًا في النحت لا في الأحجام؛ فهكذا كانت تسمَّى
آخِر عناوين فقداننا للذاكرة. إنه، وهو ينسخ الأعراف القديمة، يصنع ثورته الثقافية،
ويستعيد نقطةَ البداية المجددة. إنه لشيء يبعث على الاطمئنان؛ أنَّ فعْلَ التشكيل،
بوسائله المحدودة دائمًا، لم يتغيَّر منذ عصر المغارات المزخرَفة. فالصلصال الأحمر
ومعدن المنغنيز المفتَّت، والريشات المصنوعة من زغب الطرائد لا زالت لم تتغيَّر،
بالرغم من الأثواب الملساء التي عوَّضت الحيطان اللامستوية … ويتميز الحفريون على
النحاس عن الحفريين على العِظام؛ بكونهم عوَّضوا الحجر المصقول بالإزميل الحديدي.
فخلود وسائل التعبير التشخيصي وعالميتها، منذ نهاية العصر المستيري (العصر الحجري
الوسيط)، تجعل الإنسانية كلَّها، وكل إنسان، متساوين أمام الرهبة نفسها وبالأدوات
نفسها.
صحيحٌ أن عقدًا واحدًا من القرن العشرين يعايش مرور نفس مقدار اللوالب التي
تلقَّاها القرن الخامس عشر الأوروبي (الذي حقَّق لوحده مسيرةً مساوية للعصر الحجري
الأول، الذي تقاس فيه الأساليب بآلاف السنين). إنَّ ما قبل التاريخ والحداثة
الأُولى، يؤكِّدان أنَّ انحطاط دورةٍ ما لا علاقةَ له إلا قليلًا بمرض الفتور
والانحطاط هذا، وبهذا السأم والفتور الحياتي الذي تقترحه أدبياتنا التافهة («أنا
الإمبراطورية في منتهى الانحطاط …»). إنَّ الأمر يتعلَّق بإنتاجٍ فائض وتضخُّمٍ
للفرجات والنظريات واللعب، وبسرعةِ إنجازٍ متزايدة وسريانٍ متسارِع للعلامات
(النقدية والتشكيلية والدينية … إلخ). آنذاك، تظهر الحاجة إلى الصمت والعزلة،
وللمناسك والأديرة والصحراء، وللمزامير والصلوات والحكم؛ فكلُّ تقزُّز من الجِدَّة
تصاحبه شهيةٌ جديدة للمعنى.