الفصل الثاني
تشريحُ شبح: «الفن القديم»
نحن لا نجانب الحقَّ حين نتهجَّم على الشاعر؛ فصنيعه في نظر الحقيقة لا يقلُّ
حقارةً عن صنيع الرسَّام.
أفلاطون، الجمهورية
بلاد الإغريق القديمة هي مهد الفن الغربي، ذلك ما تقوله الخرافة وتردِّده. ولم
تعمل الترجمة الغامضة لمصطلح techné الإغريقي
بالفن، بما هي علامة على الإلحاق الحداثي، لا تعمل إلا على تغذية سوء التفاهم هذا.
أما النصوص والوقائع فهي تنحو بالأحرى إلى إثبات أن ليس في الثنائيات التي تؤسِّس
عالمنا الجمالي ما له مقابلٌ في الذهنية الهيلينية في العصر الكلاسيكي، أو مقابل في
وريثتها الوسيطية. وهذا الغياب ليس أبدًا خسرانًا، وإنما هو علامةٌ على تبعية
التصوير لمصالح عليا.
•••
إننا لا نزال حبيسي نظرةٍ قصيرة المدى، وخاضعين للأخبار المبتورة. فالقساوسة
المؤسِّسون للكنيسة الجمالية في الغرب في القرنَين اﻟ ١٨، واﻟ ١٩؛ قد فكَّروا في العمل
الفني كما لو كان الإنسان يوجد وآثاره منذ أربعة آلاف سنة. وكلُّنا نعلم اليوم أنَّ ذلك
شيءٌ لا معنى له؛ لكنَّ كلَّ شيء يؤكِّد أنهم لا يزالون يمارسون تأثيرًا قويًّا.
لقد دام خلْقُ العالم ستةَ أيام، وامتدَّ الطوفان على مدى أربعين يومًا، وركب نوحٌ
سفينته ستمائة سنة بعد الفجر الأول. هكذا تُحدِّثنا الكتب والأساطير. ومنذ أن بدأ
أسلافنا يقرَءُون تاريخَ الأرض في سِفر التكوين، شاخت الأرض كثيرًا. ولم تكن شيخوخةُ
«الفن» معها أقلَّ تقدمًا في العمر. وما اعتبره كانط أو هيجل أو حتى نيتشه فجرَ الصور،
غدا حسب علمنا الحاضر ظُهْره أو ما بعد ظَهيرته. لنتذكر هذه التواريخ: تم اكتشاف حفريات
ألتاميرا سنة ١٨٧٩م، ومغارات لاسكو سنة ١٩٤٠م؛ أمَّا «وصف مصر» فتدرَّج ما بين ١٨٠٩م،
و١٨٢٨م.
والحال أنَّ العقل العمومي، في الحقيقة، منذ وينكلمان ومؤلَّفه عن تاريخ الفن لدى
القدماء (مطبعة دريد، ١٧٦٤م)، يعتَبر أمرًا ثابتًا أنَّ الإغريق هم مخترِعو الفنِّ
الحقيقيون (باعتبار أنَّ الفن الروماني الذي امتهن النَّسخ، تمَّ اعتباره ذيْلَ مجرَّة
وصورةً مجسَّدة محترِمة إلى حدٍّ ما للأصل). كان ذلك قبل حملة نابليون ونقوش فيفان
دونون Vivant Denon، ذلك الدبلوماسي الفنان الذي رسَمَ
خلال الحملة كلَّ المعابد التي صادفتْهم في طريقهم، واحدًا واحدًا. لم يكن معبدُ الكرنك
موجودًا في أعيُن القرن اﻟ ١٨، كما لم تكن موجودةً في نظره مرحلةُ ما قبل التاريخ (فأول
رسْم يعود إلى العصر الحجري، وهو عبارةٌ عن عَظْم يحمل نقشًا لظبيتَين، وقد تم اكتشافه
عام ١٨٣٤م). وفي عام ١٨٧٩م، تمَّ إنكار جداريات ألتاميرا واعتُبرت خدعةً من صنيع
الرعاة. لقد اعتبر الفلاسفة، وهم مخترعو الفنِّ والذوق، أنَّ المهد الطبيعي ﻟ «الطفولة
التاريخية للإنسانية» هو أثينا. وكانط، كما نيتشه من بعده، انطلقا من مسلَّمة اليونان
الأصلية، عماد براهينهم. ولم يحِدْ ماركس نفْسُه عن هذا الأمر في مديحه الحنيني ﻟ
«المرحلة الاجتماعية الجنينية»، وللفتنة والسِّحر الخالدين ﻟ «هؤلاء الأطفال الأسوياء»،
الذين ليسوا غير الإغريق. ولم يكن فرويد في هذا المضمار أقلَّ محافظةً من الثوري رينان
في أذواقه الكلاسيكية الجديدة. علينا ألَّا ننسى هذا اللَّبس الكرونولوجي؛ فقد عمد
حواريُّو الفن، الذين يخالون الجزءَ كلًّا، إلى تعميد «الفن الإغريقي» في مجمله فنًّا
هيلينيًّا (أي باسم الفنِّ الذي أُبدع في القرون الثلاثة التالية على وفاة الإسكندر
الأكبر)، معتمدِين في وِجهتهم تلك على نُسخٍ متأخرة من الأصول الفعلية. وإذا كنا نؤرخ
لتلك الصور بدءًا من عصر البرونز، فإنهم يؤرخون لها بدءًا من عهد بيرقليطس. والأمر
مبرَّر، بما أنهم لم يعرفوا الأصنام والجداريات والتصاوير الأسطورية، ولا يعيرون كبيرَ
اهتمامٍ للمرحلة الهندسية، ويتجاهلون كليًّا الفنَّ المسمَّى عتيقًا الذي ينتمي
للقرنَين الثامن والتاسع؛ «فلا أحدَ بمقدوره تجاوُز زمنِه».
هل «الفن الإغريقي» هلوسةٌ جماعية؟
ومن دون أن ندخل في هذه الاعتبارات الواقعية، وحتى نحصر أنفُسَنا في المرحلة
الكلاسيكية الرسمية المشهورة من حضارتنا الأم، نجِدُ أنفسنا أمام ثغرةٍ مريبة؛ فلدى
أولئك الذين يعتبرهم التاريخ مخترعي الكلمة والشيء، كلُّ شيء يتمُّ كما لو أنَّ لا
هذه ولا ذاك يوجدان. ﻓ «الفن»، بالمعنى الذي نفهمه، نحن الحديثين، أيْ باعتباره
صنفًا مستقلًّا ومقولةً ذهنية، لا يبدو أنَّ له من ضامن للوجود في بلاد الإغريق
القديمة. أكيد أنَّ ثمَّة صورًا وأشكالًا ماديةً تملأ متاحفنا، ومعها معجمٌ دقيق
ومنظَّمٌ للصورة بطُعْمِه وشِراكه (تمثال idôlon،
أيقونة eikôn …) وللخيال والمخيِّلة (المحاكاة
mimésis التي تنسخ المرئي، والفنطاسيا التي
تتسكع بعيدًا عن الأنظار) وللتمثال (ما يقارب الخمس عشرة كلمةً مترادِفة)، وهو
معجمٌ يخترق الكتابات الإغريقية. لكنْ بالمقابل، لا يوجد في مجتمعِ ما قبل التاريخ
ذاك، ولا في المجتمع الوسيط، خطابٌ خاص أو عامٌّ عن الفن. إنَّ الفن، باعتباره فعلًا وعملًا، لا يظهر إلا مغلَّفًا في قولٍ عن الفن، وهو
أمرٌ ذو أهمية قصوى. فالإنسان لا يُنتج عمليًّا فنًّا من دون أن
ينتج نظريًّا كرونولوجيا ودفاعًا تقريظيًّا عن الشيء، وهو بزوغٌ مزدوج لن يتمَّ إلا
في أواسط القرن اﻟ ١٥ مع بوادر النهضة الأوروبية.
لدينا أسبابٌ وجيهة للقول بأن الإغريق هم الذين ابتكروا المعرفةَ في الغرب، وكذا
البسمة (فالفراعنة لم يعرفوا البسمةَ، وزوجاتُهم لا أرداف لهنَّ). بيْدَ أنهم لم
يسعوا إلى فهْمِ لماذا ظهرَت البسمة على مُحيَّا تماثيلهم الصغيرة في القرن الرابع،
واعتبروها مجرد انعكاسٍ لبسمة الآلهة، وفعلًا بسيطًا وعارضًا. لقد ابتكر هؤلاء
الفنانون الكبار الهندسة والفلسفة، لكنَّهم تجاهلوا «الفن» كموضوعٍ مستقل. لذا لم
يكن لديهم الاسم الذي يعيِّنونه به، بما أنه لا حاجة لذلك.
نعم، «يسمَّى العلم بالإغريقية: إبستمي»؛ ذلك أن الإغريق ابتكروا هنا الشيء
واسمه. والبابليون وساكنة طِيبة، لم يعرفوا العدد بي (٣,١٤)
pi؛ ومن ثَم جاءت «المعجزة» في تحرُّر النسق
البرهاني وفي انبثاق نظامٍ منطقي مستقل عن الأساطير والقِيَم. لكنْ، لم تحدث قطيعةٌ
ما في بلاد الإغريق القديمة والكلاسيكية بين الأشكال التشكيلية والقوى الغيبية.
فحين يكون أحدُ الغلمان ذا جمالٍ إلهي؛ فإنَّ ما يُتأمل فيه ليس تمثاله، وليس أبدًا
النَّحات، وإنما الأولمب. هناك إبستمولوجيا يونانية؛ لكنْ، ليس ثمَّة جماليات
يونانية، بنفس الشكل الذي نتحدث به عن غياب جماليات وسيطية.
إننا حين نكتب كلَّ يوم بأنَّ الفن بالإغريقية يسمَّى
techné؛ فالأمر أكثر من مفارَقة، إنه هذيان
احتوائي. «فالفن» في العالَم الهيليني (وهو ما سوف يأخذ مجرًى آخَر في العالَم
الهلنستي) ليس موضوعًا في ذاته، قابلًا للتعليم النظري الذي يتم تناقله عبر
الأكاديميات، مختصًّا بمكانٍ آخَر غير المَعامل والورشات ومحاطًا بالقِيم النبيلة.
إنه تعبير من ضمن تعبيراتٍ أخرى عن المدينة. وبهذا الصدد كتَبَ لوي جيرني
L. Gernet: «التعبير الفني لا ينضاف إلى الفكر
الديني كشيءٍ ظرفي عارض، بل هو ينصهر فيه انصهارًا.»
١
قد يُعترض على رأيي هذا بأنَّ الديانة الإغريقية نفسها لا توجد، وأنني أتلاعب
بالكلمات؛ ففي اللغة الإغريقية، لا وجود لكلمةٍ أو مصطلح لتعيين «الدِّين». لكنْ
يوجد في باريس، وبالضبط في الكوليج دو فرانس، كرسيٌّ للدراسات المقارنة للديانات
القديمة، وهو أمرٌ مبرر. وقد برهَنَ جان بيير فرنان
Vernant بأنَّ الدراسة المقارنة للديانات
الوثنية القديمة «تؤدي إلى التشكيك، ليس فقط في وجود جوهرٍ للدِّين، وهو أمرٌ عادي،
وإنما التشكيك في استمرارية الظواهر الدينية.»
٢
إننا نشكُّ، أيضًا، وبالشكل نفسه في وجود جوهرٍ أو استمرارية للفن. فالمسألة هنا
أكثر جذريةً؛ إنها تكمن في معرفةِ ما إن كان يوجد في بوتقتنا المزعومة تمظهراتٌ
يمكن نعْتُها بالفنية بدون أي مبالغة.
قد يقال: حين يكون كلُّ شيء فنًّا؛ فإن الفن يفقد كلَّ اسم، بالشكل نفسه الذي
نفتقد فيه الدِّين في المعجم حين يكون كلُّ شيء دينًا. لكنْ، مهما كانت غرابة هذه
المقولات الذهنية كبيرةً لدينا؛ فلا يمكننا نفْيُ وجودِ مجالٍ ديني إغريقي يستحقُّ
دراسات خصوصية. ففي هذه الثقافة، ليس هناك شخص إلهي ولا طويَّة ولا اعتقاد ذاتي على
الطريقة المسيحية؛ لكنْ ثمَّة بانثيون، ونظام من المؤسسات والأساطير والشعائر
المتطورة، وخدَّام الآلهة المؤمنون. أيْ باختصار هناك قارَّة معروفة. ثمَّة «مجال»،
لأنَّ ثمَّة تقاطُب واضح بين المقدَّس والمدنَّس. كما يوجد في المجال النظري تقاطبٌ
بين الحقيقي والزائف والمعرفة والجهل. قد يكون «الفن الإغريقي» بالمقابل نظرة
للرُّوح (أعني روحنا)؛ لأننا مهما بحثنا فلَنْ نجِدَ تقاطبًا من قَبيل التقاطب بين
الفن واللافن، أو بين الجمالي والاستعمالي. أمَّا التعارض بين الميثوس واللوغوس،
الذي كان من الممكن أن يعبِّر عن هذا التقاطب؛ فإنه ينطبق بالأحرى على الخطابات لا
على الأشكال.
مسائل معجمية
إنَّ لفظ
techné الإغريقي، وهو اسمٌ مؤنث، لا
يُستعمل كقيمةٍ مطلقة إلا للدلالة على الاصطناع والحذق والمكر. وحين يدلُّ على
مهارة في حرفة معينة، وهو معناه الأصلي، فإنه يأتي في صيغةِ مضاف إليه؛ نقول: «فن
الكلام» أو «فن بناء السفن» أو «فن صهر المعادن». وهو قد يكون لذلك متبوعًا بصفةٍ
في جملة كقولنا:
graphiké techné أي فن الرسم.
فأفلاطون مثلًا يتحدث عن الموسيقى والرقص والطرز والنسيج، والفصاحة والشِّعر، عن
هذه الصنعة
techné أو تلك، لكن أبدًا عن شيءٍ يكون
هو الفن في ذاته. تبعًا لذلك يكون الطب والخزف والحِدادة
techné أيْ صنعة. وهو الأمر نفسه في ركوب الخيل
والحمية. وكل مَن يتعاطون هذه الصنائع يسمَّون (من قِبَلنا) رجال الفن، وهو ما لا
يعني أنَّهم فنَّانون وإنما خبراء يقعون بين الصانع والعالِم. ﻓ
techné عِلمٌ وسِحر، وكفاءة وتحارفٌ
bricolage معًا، وهي تتضمن كلَّ الوسائل
المستخدمة في الفعل في الطبيعة، ولا تختصُّ بخلق الأعمال التي يكون وجودها مبررًا
بجمالها. إنَّ ديدالوس مخترِع النحت على الخشب، والذي كان معماريًّا بالحِرفة،
والإله الأساطيري ﻟ «حِرف الفن»؛ هو من جهةٍ أخرى إلهٌ مُشين. وهو لا يمْثُل مع
الآلهة في أولمب في المقام الأول، بل يقوم بتحارفاته وسطَ متاهةٍ من الآلات
المعدَّة للطيران العاطلة. وداعًا لأيكاروس. إن عرَّاب صانعي الصور هو أولًا مخترع آلات.
٣ وإذا كان القدماء لا يميِّزون بين الفنون الجميلة والتقنيات؛ فذلك
لأنهم كانوا يُلحقون الأولى بالثانية. وتبعًا لذلك، فهو تمييزٌ غير مُجدٍ؛ فقد قال
أحدهم: «إنَّ الذهب يصلح لتمثال الإلهة أثينا، لكنَّ سلعةً من الخشب أصلح لخلط
الحساء، وأجمل من ملعقةٍ من ذهب.» وصاحب هذه الحكمة الرائعة، هو الأب الحقيقي
للوظيفية وأول منظِّر معروف للديزاين
design
الصناعي ومحامي الطناجر؛ إنه سُقراط. ولذلك سيكون شعار «الشكل تابِعٌ للوظيفة»،
الشعارَ الأكثر أمانةً لفكر لهؤلاء الرجال، الذين اعتبروا أن كلَّ ما هو صالحٌ جميل
(على النقيض من أصحاب الفن للفن في القرن اﻟ ١٩، الذين اعتبروا أنَّ «كلَّ ما هو
صالح للاستعمال قبيح»). وإذا كان «العمل الفني» (أو ما نسميه كذلك) ممكنَ الوجود؛
فإنه سيكون في نظر أفلاطون، على الأقلِّ، في وضعية أدنى من الشيء التقني. فصانع
الصور الذي أُلحق، مثله مثل الشاعر، بنوع المُحاكين، وهو نوع شائن، يظهر لدى
أفلاطون في مؤخرة الحِرف باعتباره ينتمي لتقنيات الوهم لا لتقنيات المهارة. إنَّ
الرسَّام منتحِلٌ بشكل مضاعف؛ ذلك أنه ينسخ نسخة للفكرة. من ثَم فالصنعة الحِرفية،
كصنع الأسِرَّة أو الطاولات، أرفعُ مقامًا من الصنعة المحاكاتية، كالسفسطائية
والبلاغة أو الشِّعر، التي يُعتبر النحت والرسم قريبَيها من بعيد. يوجد «المحاكي»
في الصفِّ السادس، بالضبط قبل العامل والفلَّاح؛ فطاولةُ أكلٍ بسيطةٌ، دائمًا ذات
قيمةٍ أرفع من أخيولة جميلة.
لا توجد في اللغة الإغريقية أيضًا ألفاظٌ لتعيين المبدع ولا للحديث عن المَلَكة
والعبقرية والأثر العظيم والذوق أو الأسلوب. فعبارة أفلاطون:
praxeis technès التي نترجمها في لغتنا بكسلٍ
بالأعمال الفنية، تعني بدقَّة «المُنجزات التقنية». و«فنَّاننا» هو حِرفي أو عامِل.
ولهذا فصانع الصور يلاقي الاحتقار الذي ينصبُّ على كل الأعمال اليدوية. حتى أرسطو
ينحو إلى نزعِ حقِّ المُواطنة في المدينة عن الحرفيين. يواجه الصانع الحرفي المادة
بجسمه، والحال أن الإنسان لا يكون حرًّا إلا بالرُّوح والكلمة. فهذا العامل يمارس
حرفةً استعبادية لا تلائم بطبيعتها الإنسانَ الحرَّ الشريف. كما أن التشكيلي عبدٌ.
وقد يقدِّر المواطن عملَه؛ لكنَّه لن يغبط أبدًا العامل على صنيعه. وبهذا الصدد
يقول بلوتارخوس: «ليس ثمَّة من شابٍّ شريفِ الأصل والمنشأ يرى تمثالَ زيوس في بيزا
(أي التمثال العاجي المذهَّب الذي صنَعَه فيدياس في جبل أولمب)، أو تمثال الإلهة
هيرا الذي صنَعَه أرغوس، ويعِنُّ له أن يرغب في أن يصبح نحَّاتًا مثل فيدياس أو
بولكليتوس، أو شاعرًا مثل فيلمون أو أرشيلوكس فقط لأنَّ أشعارهم وجدتْ هوًى في
نفسه. ذلك أننا قد نقع تحت سِحر وفتنة عملٍ ما، لكنَّ ذلك لا يعني أننا مضطرون
لاتخاذ صانعه أُنموذجًا» (بيريكليس، الكتاب الثاني، المقطع ١). وسوف يتبنَّى
الرومان فيما بعدُ هذا الاحتقار الاجتماعي. فقد ميَّز شيشرون بين «الفنون الرفيعة»
و«الفنون الوضيعة»، وأكثرها وضاعةً فنوننا. كما أن سينيكا يؤكِّد، في رسالة
لِليسيليوس، بأنَّه لا يعدُّ «الرسَّامين مثلهم مثل النحَّاتين ونقَّاشي المرمر
ومعهم كل خدَّام الترف» في عِداد «الفنون الشريفة». وسوف تجعل المسيحية الوسيطية من
هذا التمييز الأساسَ الراسخ للتعليم؛ هناك، في جهةٍ، الفنون الآلية التي تنتج
الأشياء، وفي الجهة الأخرى هناك الفنون الشريفة التي تتعامل بالعلامات كالنحو
والمنطق والجبر والهندسة، أي الرباعية التعليمية الجامعية.
بالإضافة إلى ذلك، من بين الصنائع غير الشريفة، لم يكن الرسَّامون والنحَّاتون
يشكِّلون فئةً اجتماعية محددة، كما لم تكن أنشطتهم ذات حدود خاصة. فقبل أفلاطون، لم
يجِدْ كزينفون اسمًا خاصًّا يعيِّن عمل الرسَّام والنحَّات. وهو في كتابه «المآثر
Les Mémorables» يُفردهما باسم المُحاكي (وهي
مهنةُ الفرجة المسرحية).
إنَّ النسخة توءمٌ للنموذج الأصل، أو بالأحرى أخٌ أصغر معوَّق له. فجمالُ الغلام
هو الذي يمنح للتمثال الديني جمالَه. تبعًا لذلك، فإن مفهوم المَلَكة والأسلوب
والمهارة، أي «القيمة المضافة» للعمل على الأشكال، ليست رائجة. فكما يقول ج. ب.
فرنان: «الانطباع الذي تولده صورة مرسومة أو منحوتة يرتهن بما تصوِّره لا بالطريقة
التي تصوره به.» ومن الأكيد أن محترفي ما نسمِّيه نحن فنونًا جميلة يأتون، في
تراتبيةِ أفلاطون، قبل السفسطائيين والطغاة، لكنَّهم بعيدون وراء الفلاسفة وقوَّاد
الحرب والاقتصاديين. صحيحٌ أن أفلاطون، الذي كان يكره معاصِريه ومواطِنيه، لم يكن
يرى الخَلاص إلا في ثباتيةِ النماذج المصرية. لذلك كلما كان الشيء جميلًا؛ كان
مُريبًا. وبما أن الصورة وجودٌ ناقص وحقيقة غير مكتمِلة؛ فإنها كلما زادت زاد
ضررها. الجاذبية والسِّحر البصريَّان خطرٌ عام. وأفلاطون الذي طرَدَ من الجمهورية
الرسَّامين والشعراء ليس مرجعًا موضوعيًّا، ما دام قد بالَغَ في الأمر وحوَّل
النفور إلى مذهب. لكن كل شيء يدل، من جهةٍ أخرى، على أن الفنان التشكيلي كان
بإمكانه التمتع بوضعيةٍ اجتماعية راقية. وإن كان هذا التشكيلي أو ذاك قد حظِيَ
بسمعةٍ كبيرة (كزوكسيس وفيدياس وأبيل … إلخ) فإن الوضعية الرمزية للفنون التشكيلية
في المدينة الإغريقية كانت متواضِعة، أو هي على الأقل كانت أدنى قيمةً من الموسيقى
(التي أنقذها من الاحتقار قرابتها مع الأعداد). فلدى أفلاطون، كان الموسيقيون هم
الوحيدين الذين حظوا بنعمةِ الانتماء ﻟ «رِجال الفن». وهذا هو الذي جعل ميشلي
Michelet فيما بعد ينحو نحو مَوْسقةِ فنِّه:
«التشكيل الجيد موسيقى؛ إنه معزوفةٌ لا يستطيع غير العقل إدراك تعقُّدها الفائق.»
هكذا يستثني الإلهام والحماس والنَّفَس الإلهي، من مجاله، صانعي الصور والأشكال
المادية، بالرغم من أن هذه النِّعم قد تمسُّ أو تحوِّل الأشياء التي صنعوا. يلزم
ألَّا ننسى هنا الامتداد الذي مارسه ما قبل التاريخ، وأنَّ الإغريق كانوا قريبين
منه وأكثر تذكُّرًا منا لجنيالوجيته تلك. فقد وُلد «الفنان» في العصر الحجري ونشأ
في الخزي والعار لأنه كان يهدِّد بصنائعه النظام الطبيعي. وسواءٌ كان حدَّادًا أو
خزَّافًا أو جبَّاسًا أو محترفًا لهذه الصنائع كلِّها فهو سيِّدُ فنون النار،
الخاضع للعزل، والموضوع دائمًا في وضعِ إلحاقٍ واستعباد؛ أيْ في موقعِ ملعون. إنه
أشبه بالحدَّاد في القرى الإغريقية، لذا كان هيفايسطوس مضطرًّا إلى التخفي. فقد كان
الآخرون بحاجة إليه، لكنه كان يُخيفهم. ثم إنه كان أعرج ونحس الطالع.
حين لا تكون الصورة في شكل تمثال إله، ولا تكون مباشرةً علامةً على القوة
والجبروت ورمزًا للولاية أو للقربان أو مرتبطةً بشعائر المدينة، فإنها لا تنتمي إلا
لتقنيات الترفيه، ولا تُعتبر سوى لعبة طفولية غير بريئة. فخارج المعارف والعلوم
تظلُّ القيم الثقافية الوحيدة المشروعة ذات طابع ديني.
صحيحٌ أن علينا تصوُّر تلك الديانة اليونانية بلا صور، لكنْ يصعب علينا أكثر تصور
تلك الصور بدون تلك الديانة. هل يمكننا تمجيد طابعها التجسيمي ومعه الإنسية الثورية
التي طبعَت ذاك التشكيل، من غير أن نُذكِّر بأن غايتها كانت تكمن في تقريب الإنسان
من القوى العينية. لقد كان للإغريق الحق في الافتخار بأوانيهم الخزفية وتماثيلهم
وزينة حيطانهم، وهو ما يميِّزهم عن الهمجيين الذين يعبدون أوثانًا لا تتضمن تماثيل
إنسية. لم يكن الفُرس للأسف يعلمون أن الآلهة والإنسان من الطينة نفسها؛ أمَّا
الإغريق فنعَمْ. بيْدَ أن الجسم الإغريقي يمتلك قيمته من مشاركته في الأنموذج
الإلهي، لا العكس. هل يتعلق الأمر بمفارقة؟ إذا كان محِبُّ الجمال أصلًا هو مَن
يفضِّل الجمال على الحقيقي والخيِّر، فإننا نادرًا ما رأينا مخلوقات معادية للجمال
بشكل واعٍ كما لدى الإغريق، الذين يلائمهم هذا الشعار: «الحقيقي أولًا، ويتبعه
الجميل.» ومع ذلك، فإننا لم نرَ أبدًا مخلوقات أكثر خلقًا وابتكارًا منهم. وبما
أنهم كانوا يبحثون دائمًا في الأشياء عن أكثرها واقعيةً؛ فقد تركوا لنا تصاويرهم،
وهي لا تزال تغذي أساطيرنا الإنسانية.
وبالرغم من أنهم لم يكونوا يعتقدون في الفن؛ فقد كانوا أكثر الشعوب فنية. فهل هذا
يعود إلى ذاك؟ لقد وضعوا مقدراتهم التجسيمية في خدمة حياتهم الجماعية ومُتَعهم
الدينية. وقد فعلوا ذلك اهتمامًا بالكون لا اهتمامًا بالوجود الممتلئ، نقيض السديم.
إن لفظ الكوسموس يعيِّن في الإغريقية ببساطة النظامَ الجيد لمجموعةٍ معيَّنة هي
المدينة، وزينة المرأة، والإنشاد المتقَن لجوقةِ مسرحية والبديع الأسلوبي ونظام
الكون، وكلها دلالات متساوية القيمة. وتحت إمرته، باعتباره مركبًا من كل فِتن
الإيقاع، توجد تصاوير الفنانين. ربما كانوا يقولون عنها بأنها الأشياء الجميلة؛
لكنها مجالٌ يجمع في الآنِ نفْسِه المثلثات والأثاث وكلَّ الأشياء المشكَّلة بدقة؛
لأنها ملائمةٌ لوظيفتها (كما قال سقراط: «لا شيء جميل في ذاته، وإنما هو يمتح
جمالَه من وِجهته»). وهم ربما كانوا يعبِّرون عن الأمر بلفظةٍ واحدة تجمع بين
الجميل والخيِّر؛ ذلك أن الجمال التشكيلي، باعتباره عرَضًا من الأعراض الخلقية، لم
يكن لديهم قابلًا لأنْ يُعزل عن الفضيلة الداخلية (ففي هذه الثقافة لا وجودَ لجمال
الشيطان). ليس الجمال الإغريقي مقولةً جمالية، وإنما هو مقولةٌ أخلاقية
وميتافيزيقية؛ إنه صيغة من صيغ الخير والحقيقة. أما الجمال العادي فإنه يعيِّن
قيمةً إيقاعية للأشياء وحصَّة انسجامية معيَّنة ومنتظمة للأجزاء، موجودة إلى حدٍّ
ما في العالم، وهي فائقةُ الوجود ونموذجيةٌ ومفضَّلة في الجسم الإنساني. وحين يكون
الجمال العادي وراء الجمال المطلق؛ فإنه يغدو مثالًا غير محسوس، وواقعًا ثابتًا
ومتعاليًا، ولا يكون الجمال المرئي سوى محاكاةٍ تقريبية ومنحطَّة له. الخطاب
الإغريقي الكلاسيكي عن الجمال ليس خطابًا من نمطٍ استطيقي، وإنما هو خطابٌ فلسفي.
الجمال لا معنى له بذاته.
وإذا كانت دورةُ الصور الإغريقية تبدأ من القرن الثامن قبل الميلاد، فإن نهاية
هذه الدورة، في القرن الأول للميلاد، ستقفز على الاهتمام الروماني بالكنوز
الهيلينية. هكذا شهدنا ما يقرب من الفن، معضَّدًا بما يقرب من تاريخ للفن. فقد بدأت
روما تجمع غنائم الحرب وتحافظ عليها، وكان بوسانياس وفيلوستراتوس يصِفان اللوحات
والتماثيل، ونشأ بالموازاة مع ذلك أدبٌ متطور. بل قبل ذلك، في القرن الثالث قبل
الميلاد، أيْ في نهاية المرحلة الكلاسيكية، عمد ممارسون للنحت ككزينوقراطيس
وأنتيجونوس إلى تقنينِ صنعتهم كتابةً، كما فعَلَ ذلك إكتينوس، مهندس البارتيون.
لكنْ، حسب علمنا، كانت تلك أعمالًا متخصِّصة كُتبت امتدادًا للعمل الحرفي، وظلَّت
متأرجِحةً بين الحكي والأخبار والمهارات الحرفية. بل حتى موسوعة بلينيوس تظلُّ
وصفيةً وتجميعية خالية من كل حُكم ذوق أو نظرة جامعة. فثمَّة حاجزٌ عالٍ بين مؤرخي
القرون الأخيرة ممَّا قبل التاريخ وتصورنا لتاريخ الفن، وهو شبيه بالحاجز الذي يوجد
بين منظِّري الحِرَف اليدوية وما نسميه نحن فلسفةً للفن. إنَّ هذه الرسائل، التي
تشبه رسالةً في «علم المآثر»، كانت من دون شك من الطبيعة نفسها للرسائل عن تقنيات
الفروسية والحِمية أو الطب.
لا يوجد للتشكيل ذِكرٌ في الأشعار الهوميروسية. فقط بعض المناظر التزيينية
المعتادة، لكن القليل من الإشارات البصرية. وفي لائحة الألوان يوجد ثقبٌ في مكان
الأرق، واختُزلت الألوان في أربعةِ ألوانٍ أساسية (كما العناصر الأربعة
لأمبيدوقليس)؛ هي الأبيض والأحمر والأصفر والأسود. وفي الفصل الثامن عشر من
الإلياذة يختزل أخيلوس العالَم بمدائنه وأبقاره وحقوله ورجاله ونسائه وجيوشه، لكنَّ
هيفايسوطوس (صانع الدرقات)، الذي يجمع بين الحِدادة والصياغة، لا يحصل على التهاني
لحُسن نظره وإنما لمهارةِ يده وقوَّتها. يبدو كما لو أن الإنجاز المتحقِّق في
تحوُّلات الخَلْق هذه، ليس نتيجةً فنية في ذاتها وإنما العمل الإلهي الذي
يفترضه.
لقد اشتهرت بلاد الإغريق، وبحقٍّ، بكونها بلاد المرئي والنوراني؛ حيث يمكن تأمُّل
الإلهي، في حين يتمُّ التوجه إليه لدى اليهود وعرب الجزيرة بالكلمات. وقد قال أرسطو
في بداية كتابه «ما وراء الطبيعة»: «كل الناس يرغبون بالفطرة في المعرفة.» والدليل
على ذلك أولوية البصر. ويضيف: «إنهم فعلًا يرغبون في ذلك، ليس فقط ليتمكَّنوا من
الفعل، ولكنْ لأننا حتى حينَ لا نعزم على أيِّ فعل، نفضِّل البصر على كلِّ شيء.
والسبب في ذلك يعود إلى أنَّ البصر هو الحاسة التي تمكِّننا، من بين الحواس الأخرى
من اكتساب القدْر الأكبر من المعارف، وتجعلنا نكتشف الجَمَّ من الاختلافات.»
٤
لقد عزل الإغريق البصر عن التجربة والفعل لإلصاقه بمعرفة العلل والمبادئ. فالعين
عضو الكلي، وهي تُحرِّر من كلِّ ما هو تجريبي. والذات تتمكن من خلالها من الوصول
إلى الموضوعية. والرغبة في الرؤية رغبةٌ في الحقيقة، والبداهة تقويم بصري للمظاهر
وللمنظور. فالبصر، وهو ينطلق من الظِّل نحو الشيء، ينزع الحجاب ويكشف حصولَ الحقيقة
alethia ويستدعيها. والفكرة والشكل يتشاركان في
اللفظ نفسه لدى الإغريق. ويُعتبر المسرح، وهو ابتكارٌ آخَر من المبتكَرات
الهيلينية، المكانَ الذي يمكننا منه النظر إلى فعلٍ ما، مثله في ذلك مثل التاريخ
باعتباره حكايةً لذلك الذي يملك المعرفة لأنه رأى ما حَدَث. أما الجحيم فهو
بالمقابل المكان الخفي الذي يتيه فيه المرء تيهَ الأعمى. فبلاد الإغريق، حيث سيادة
العين، بلاد يَدين الغرب لها بكونها جعلتْ من العلم مثالًا وأُسًّا. إنها أول
مجتمعٍ ﻟ «الفرجة»، وأمُّ التأمُّل باعتبار أحدهما يفسِّر الآخَر. لكن من حقِّنا
التساؤل إذا لم تكن عيون الرُّوح، أي البصيرة، في بلاد التنظير، قد حجبتْ عيون
البدن، أي البصر، خاصةً وأن القضايا البرهانية والنظريات قد استنفدت وحدها مختلف
استعمالات العصب البصري الذي استُخدم كليةً في علوم القياس وحساب الظلال التي
يمدُّها الهرم. يبدو الأمر كما لو أنَّ هذه الثقافة المشغولة كليةً بالرؤية العقلية
لكثرة ما استعملَت الرؤية لمهامِّ العقل، ولكي تؤسس الهندسة وعلم الفلك، لم يعُد
لها من مكانٍ للنظرة اللاعقلية والعين غير النظرية، ولم يعُد لها الوقت الكافي
لإبصارٍ مجَّاني يرمي إلى المتعة الخالصة. إضافةً إلى ذلك، فالذاكرة العتيقة
والكلاسيكية لهذه الثقافة كانت بالأحرى سماعيةً أكثر منها بصرية، وهو ما يلائم
حضارةً لا تجد راحتها في الكتابة.
أليس هناك لفظٌ أيضًا للدلالة على الإبداع؟ وكلمة
poièsis (نظم، تأليف) إذن، أليست مصطلحًا
جماليًّا؟ حقًّا؛ فالبويسيس، في تعارُضها مع البراكسيس، لفظٌ يعيِّن إما صناعة
الأشياء المعتادة كالعطور أو السفن، أو تأليف الأعمال الأدبية كالشِّعر والمَلهاة
والمأساة. إنَّ فنَّ الشِّعر (بوطيقا) لأرسطو ليس علمَ جمال؛ فهو لا يتنازل لا عن
الجمال ولا عن أحكام الذوق. فأرسطو لا يدرس العمل الفني، إذ هو يتجاهله، وإنما
يهتمُّ بالمصنفات الأدبية التي تستحقُّ وحدها التعليق. فقوله: «سوف أتناول الشعر
بصفةٍ عامة.» يعني في العمق: ماهية التراجيديا وما يتصل بها من ملحمةٍ وقصيدة هزلية
وشعرٍ حكائي أو تعليمي. يتعلَّق الأمر إذن بأُناسٍ من قَبيل هوميروس وأرسطوفان
وأمبدوقليس، لا من قَبيل فيدياس أو زوكسيس. فبإمكان المرء في أحسن الأحوال التحدث
إلى هؤلاء الناس أو تناول العشاء برفقتهم، لكنْ لا يمكنه أبدًا تخصيصهم بكتابٍ أو
مقال.
يحدِّد أرسطو، في معرض حديثه عن الهندسة المعمارية، اﻟ
technè باعتبارها ترتيبًا يمكِّن من إنتاج شيءٍ
ما بطريقةٍ عقلانية. وقد قام بذلك بسرعة في أخلاق نيقوماخوس (الكتاب الرابع، الفصل
٢)، بيْدَ أنَّ الموضوع لم يكن يهمُّه أبدًا. فما كان يشغل باله هي نظرية الفضيلة.
وهو يميز بدقَّة بين الفعل والعمل والأخلاق والإنتاج، ومن ثَم فإن الصنعة توجد جهةَ
العمل، أي في الجهة المذمومة. لذا فإن أكثر المنظِّرين نفعية، لن يوليها أيَّ
اهتمام.
لنتذكر، ولو على سبيل التمثيل، كتاب «المآثر» لكزينوفون؛ حيث نرى سقراط في زيارةِ
رسَّام، هو بارهاسيوس؛ ثم في زيارة نحَّات، هو كليسطون؛ وبعدها في زيارة صانع
أسلحةٍ حربية، هو بِسْتياسوس، وذلك في الفصل نفسه، لتظهر بعد ذلك مومِس في الفصل
التالي. وحتى نحصر أنفُسَنا في مجال النظرية؛ فإن نظام المحاكاة لدى أرسطو، لا
يختصُّ بالنسخ التجسيمي للكائنات والأحداث، وإنما بصياغتها الملفوظة أو المكتوبة.
هكذا تغدو الصورة مجرَّد تمثيلٍ أو مرادَفة. لكنَّ الرهان الأساسي لديه ولدى
أمثاله، لا يكمن في الصورة — مرسومةً كانت أم منحوتة — وإنما في اللغة. ففي هذه
الثقافة وهذه اللغة التي يعني فيها لفظ graphein
الإغريقي الكتابةَ والرسم؛ فإن التعبير باللغة عن الصور، يمنح حظوةً تتجاوز التعبير
عن اللغة بالصور. «إنَّ ناقدًا فنيًّا في العالم القديم» كفيلوسطراط، السفسطائي
الإغريقي الذي عاش في القرن الثالث الروماني، كان ماهرًا في وصف الجداريات. فالوصف
لديه يعني الحكي الجيِّد للقصص التي تصوِّرها اللوحات، وتأويلها، وجعل الشخصيات
تتكلم كما لدى هوميروس. وهو لذلك يقول: «إن عدم محبة التصوير يعني احتقار الحقيقة
نفسها.» لكنَّ الحقيقة تنتمي لمضمار البلاغة، والتوازي ما بعد الكلاسيكي للفنون،
باعتباره توازيًا مبتذلًا، يجعل البصري تابعًا للُّغوي لا العكس. ليس من النافل
القول إن «السفسطائي» هي المحاورة التي يقترب فيها أفلاطون أكثر من نظريةٍ عامة
للصور ينعتُها بالمحاكاتية، وهي نظريةٌ تشمل في الآنِ نفسه «حقلنا الفني» وتكتسحه.
وحتى في العالم الهيليني ذي المنزع الجمالي المؤجَّل، يمتصُّ الخطاب الصورةَ وتظلُّ
جماليات الانحطاط مسألةً خاصة بالكلام. فتبعًا للتقليد السائر، تسكن آلهة الإغريق
الفم وتحتقر اليد. لذا، فأسياد الحقيقة (حسب تعبير مارسيل دتيين) هم مستعملو
الكلمات. وقد أصاب فنَّ البلاغة والفصاحة والنحو لمدَّةِ ألفيةٍ كاملة، باتجاهه إلى
أثينا لينهل منها نياشين مجده وحقيقته. بيْدَ أن أكاديميات الفنون الجميلة، خلال
المائتَين والخمسين سنة التي عمَّرت فيها سيادتها، قد ذهبتْ كما يبدو ضحيةَ سوء
تفاهم أو بالأحرى ضحية مُزحة مريبة؛ فالنحت، سواءٌ كان ذا طابعٍ أبولوني أم لا، لم
يكن يمثِّل «الهمَّ الجميل» للمؤسِّسين العبوديين للديمقراطية.
أما أولئك الذين يهابون الإثارة والاستفزاز؛ فسيكتفون بتصفُّح جزئي لكتابِ إميل
بنفنست «معجم ألفاظ المؤسسات الهندو أوروبية»؛ كي يتأكدوا أن لا وجود لمادة «فن» أو
للَفظٍ قريب منها، أو هم على الأقل سيفتحون قاموسهم الصغير: لاروس. فمن بين ربَّات
الفن التسع التي ورثناها عن الإغريق، لا تختصُّ أيُّ واحدة منها بأحد فنونها
الجميلة من معمارٍ ونحت ورسم. إن الفنون البصرية لا مكان لها في حلقة المعارف؛ إذ
هي محصورة في نِطاق الآلي والحقير. ثمَّة ما هو مخصوصٌ بالإنسان، وثمة ما هو أكثر
اختصاصًا به. والصنائع الشريفة هي تلك التي تُكتب وتُنطق وتُنشد؛ فهي وحدها تستحقُّ
رئاسة نصف إلهية.
علَّة غياب
إن غياب مقولة «الفن» في الثقافة الإغريقية، والثقافات التي توارثت معارفها فيما
بعد، لا يشكِّل ثغرة أو نقصًا وإنما مسلكًا أنطولوجيًّا. إنه سمة امتلاءٍ لا سمة
نقصان. وتدني الاعتبار الذي خُصَّ به صانعو الصور؛ لا يتصل فقط بدناءةٍ اجتماعية
معينة، وإنما هو إثباتٌ فلسفي لبطلان صنيعهم. فوراءَ كلِّ جماليات، ثمَّة تصوُّر
للكون، وهو تصوُّر يثوي أيضًا وراءَ رفض الجماليات. لذا فإنَّ تصوُّر الإغريق لأصل
الأشياء هو الذي يمنحهم، كما يمنح أيضًا لورثتهم المسيحيين، مقاربةً ذات منزع
تثقيفي للأشكال (ويظلُّ السفسطائيون من شاكلةِ بروتاغوراس، بالتأكيد، «فنانين» ألفَ
مرة بالمقارنة مع الفلاسفة من قَبيل أفلاطون). وكما أنَّ الخالق الإلهي في محاورة
تيماوس، يخلق العالم انطلاقًا من خطاطة مسبَقة عبْرَ تأمُّل الأنماط الأصلية؛ فإن
صنعَ شيء، بالنسبة للخالق الحرفي الصغير، يعني إعادةَ عرضه وتطبيق فكرةٍ مسبقة،
ونسخ أُنموذج موجود سلفًا. فالأنموذج الكلي الحضور للعلية الأنموذجية، يجعل من
مفهوم العمل الفني مفهومًا بلا موضوع. إنَّ الإنسان غير قادر على إضافة الجديد إلى
الطبيعة؛ فهو لا يستطيع ابتكار عملٍ أصيل؛ لأنَّه لا أصالة إلا في الأصل، وفيما
وراءه وما يسبقه. وسواءٌ تعلَّق الأمر بالطبيعة أو باللوغوس، فالمحرِّك الأول أو
بروج العالَم، هي التي تملك الأحقية المطلقة في ابتداع الجديد. ويشكِّل إله العهد
القديم رمزًا لهذه الوضعية. إنه قد خلق الإنسان على صورته وخصَّ نفسه باحتكار
النحت. والإنسان الذي صُوِّر من طينٍ، لن يكون أبدًا مصورًا؛ إذ الطين لا يصلح إلا
مرةً واحدة. ففي اليهودية والمسيحية، يكون الربُّ هو الفنان الوحيد، ولا يقبل
المسيحيون سوى النسخ المطابِقة لمَا أنتجه الرب. وإذا ما اعتقد الإنسان أنه يبتدع
فهو خاطئ أو يسعى إلى الخطأ. إن فكرة الخلق والإبداع لدى الإغريق كما لدى مسيحيِّي
العصور الوسطى شبيهة بمسدس ذي طلقة واحدة. فلا إمكان لمُخيلة خالقة فيما تحت الرب.
ولا اختيار للخليقة إلا بين الحشو، باعتباره تصويرًا للأصل، وبين الجلال (سيد الخطأ
والزيف)، إذا ما هي حادت عن ذلك. فالحشو لا يمكنه، كما لدى القديس طوما الإكويني،
سوى الاختيار بين الوجود أو العقل أو النظام الطبيعي للأشياء. ثمَّ جاءت أولوية
المعرفة على الفعل، والفعل على العمل faire. من
الأجدى التأمل بالعقل على الإبداع باليدَين؛ ذلك أن الأُنموذج المعقول يتوفَّر
أصلًا على قيمةٍ زائدة لا نراها إلا بالبصيرة، وهي قيمةٌ لا توجد في النسخة
المحسوسة التي تُرى بالبصر، تمثالًا كانت أم رسمًا. والفن لا يغدو ممكنًا بالفكرة
المضادة والهرطقية القائلة بأن النسخة قد تحتوي على قيمة زائدة مقارنة مع الأصل.
إنها نقطة انقلاب للقيم، سافلها على عاليها، تمكِّن من تصوُّر الجماليات في انفصالٍ
عن اللاهوت. وقبل تلك النقطة هناك الحِرَفيون، وبعدها هناك الحرفيون. فلقَدْ نشأت
فكرة الإبداع الفني ضد الإبداع الأنطولوجي، دون أن تكفَّ عن صياغة شكلها انطلاقًا
منه. الفن هو أنطولوجيا معكوسةٌ تقول بأولوية التمثيل على الحضور (فقَدْ قال بروست:
«الواقع لا يتكوَّن إلا في الذاكرة»)، أو بأولوية الإنساني على الإلهي؛ وهو الأمر
الذي ينقذ اليد من أن تظلَّ فقط محاكيةً للفكرة الإلهية. وإذا ما نحن ترجمنا ذلك
سيكولوجيًّا، فإننا سنقول: ما دام الشكل مصاحبًا للرُّوح؛ فإن ذوي العقول المفكِّرة
لا يكِنُّون له الاحترام اللازم. ولأنهم يرون في الفعل التاريخي «تأملًا واهنًا»؛
فإن التصوير يبدو لهم تفكُّرًا مثاليًّا idéation
منحطًّا. أمَّا لدى النبهاء، فإن ذلك يُترجَم ﺑ : «الجميل هو إشراقُ الحقيقي.» فيما
يقول المفكِّرون: «يا لسذاجة التشكيل الذي يستجذب الإعجاب بمشابهة الأشياء التي لا
يتمُّ أبدًا تأمُّل أصولها.» فمن أفلاطون إلى باسكال، تبدو النتيجة جيدة.
لم يكن المثال الإغريقي، إذن، طُرفةً تاريخية. فهو يجسد ثابتًا ذا مدًى طويل
يتمثَّل في تحالُف الماهوية التأملية والتشاؤمية الفنية. وسواءٌ تعلَّق الأمر
بالألوهية أو بالطبيعة أو الفكرة؛ فإن التصورات للعالَم، التي تُعلي من قيمة
المرجعية الماهوية والمعيارية، لا تمنح قيمةً كبرى للصور التي يصنعها الإنسان.
فكلما بُني الواقع في السافلة، والإنسان بوصفه «صورةً للربِّ»؛ فإن المخيِّلة تهرع
إلى تجسيد المبدأ في الصور. ومن ثَم تنبع القيمة الدنيا للعمل الفني بصوره المتحركة
عن الخلود الثابت، في عصر الخطاب. ولم تتحقَّق انطلاقةُ فكرة الأثر الفني إلا حينما
بدأ الجوهر يسبق الوجود بشكلٍ ما، وآنذاك فقط أصبح بالإمكان احتواء العمل على قيمةٍ
زائدة على القيمة الموجودة في العامل، ووجودها في العمل أكثر من وجودها في التصور
الذي تنبع منه. هكذا تغدو اليد «عضوًا للمعرفة»، والإنسان مبدعًا ممكنًا. إنَّ هذا
الانقلاب يحدِّد النزعة الإنسانية باعتبارها تفاؤلًا فنيًّا في ذاتها. كما أنَّ
المفارقة تكمن في كون هذه الولادة التي سمَّاها التاريخ «نهضةً» قد أخذتْ أُنموذجًا
لها مثالَها المضادَّ المتمثِّل في الماهوية القديمة للمثال، وهو يوضِّح حاجة
الإنسانية الملحَّة إلى نفوذِ الماضي لابتكار المستقبل. وفي ذلك يكمن الطابع الوضعي
للهوس الإغريقي.
ولأنَّ مارسيلوس فيسينوس قد ترجم أفلاطون إلى اللاتينية؛ فهو لم يخصص مكانًا، في
مشروعه للأكاديمية الفلورنسية، أي للفنانين التشكيليين، سواءٌ كانوا معماريين أو
نحَّاتين أو تشكيليين. فقد كانت أكاديميته تتكوَّن من الخطباء والحقوقيين والكتَّاب
ورجال السياسة والفلاسفة، أي باختصار من الناس الجدِّيين، الأشراف لا المستعبَدين.
والعارفون بثقافة الماضي في عصر النهضة، لم يكونوا يسايرون فكرةَ «الفنون الجميلة».
لهذا، فقد كان لليوناردو دافنتشي الحقُّ في الاحتجاج بقوله: «لقد وضعتم التشكيلَ في
مرتبةِ العلوم الآلية!» فالاعتراف بالعمل التصويري، لم يكن من صنيع أعلام النزعة
الإنسية، أيْ أولئك الذين كانوا يمارسون في النَّص إنسِيَّتهم الكلاسيكية.
الحالة الرومانية
لقد جعل الجانب العملي والعائلي والمتواضع للديانة والسيكولوجيا الرومانية هذه
الحضارة بالتأكيد، وخلافًا للخرافة التي أيَّدها فينكلمان، أكثرَ تقبلًا للصور
وللابتكار والتمثيل من الذهنية الإغريقية. فاللاتيني أقلُّ ميتافيزيقية من أخيه
الأكبر، ومن ثَم أكثر «فنية». لقد كان المظهر يعذبه أقل؛ لأن اهتمامه بالحقيقة كان
أقل، فهذا الشخص الواقعي كان يثِقُ بما يبدو وله واقعيًّا، ولم يكن يبحث عن ضحيةٍ
مثل معلِّمه وسلفه الأثيني. وليس من باب الصدفة أن الشهادات عن التشكيل الروماني،
كانت أكثرَ غزارة (فإلى حدود ١٩٦٨م، لم نكن نتوفَّر على أيِّ جداريةٍ إغريقية ذات
شأن). نحن نحتفظ بأسماء تشكيليين قاومَت الزمنَ أكثر من ألوانها. بالمقابل نحن
نتوفَّر على آثارٍ جميلة من التشكيلات الرومانية؛ لكنْ من دون إسنادٍ لأصحابها، ومن
دون أسماء كبرى حفظها التاريخ.
إننا، بصدد «الفن» القديم، علينا الاختيار بين الخرافة والواقع. وهما شيئان لا
يجتمعان. مع ذلك، فللحُكم على الوضعية المتواضعة التي خُص بها «الفنانون» في روما
الجمهورية والإمبراطورية، من الأفضل الرجوع إلى بداية الكتاب السابع والعشرين من
«التاريخ الطبيعي»، هذه المدونة الخصبة التي يتخذ فيها بلينيوس القديم العالَم
الإغريقي نموذجًا وعصرًا ذهبيًّا للتشكيل. وسوف يعرف هذا العصر نهايته في القرن
الأول للميلاد. فقد كتب بنبرةِ التحسُّر: «لقد كان في الماضي فنًّا نبيلًا يجري
وراءه الملوك والشعوب، وقد كان يصور أولئك الذين كانوا يتفضلون بمنح صدرهم للخلف.
لكنه اليوم غدا يُطرد من طرف المرمر والذهب أيضًا.» وقد أدمج بلينٍ هذه التأملات
ذات الطابع الوثائقي المحض في قِسم المواد النادرة، بين نظراتٍ عامة عن الذهب
والفضة والبرونز والأحجار الكريمة والنادرة. ثمَّة الأصباغ، بين الأتربة والأحجار؛
ذلك أن الكتاب الخامس والثلاثين المشهور، ليس رسالةً في الأسلوب وإنما في المواد.
فلا وجود لقضية التشكيل إلا من زاوية موادها وحواملها. فالألوان ثمينةٌ لأنها
تُستخلص من النباتات والمعادن، لا نظرًا لمعالجتها أو نوعية توزيعها في العمل
الفني. الطبيعة وحدها هي خالقةُ القيمة، لا العبقرية الإنسانية.
وبالرغم من أن جداريات مدينتَي بومباي وهرقلينوم تبدو لنا ساحرة؛ فإنها اعتُبرت
ذات طابع أثري وتزييني. لقد كانت كلُّها متصلةً أوثقَ اتصالٍ بالمعمار، ويقوم
التشكيلي المحاكي للمرمر وعقيق اليمان والطلاء الخزفي، بتجميله أو تمديد حدوده.
وسوف يُدخِل ديوليكسان (٣٠١م) مرةً أخرى النحَّاتين والفسيفسائيين والتشكيليين في
إطارِ مجال البناء، ما دامت الحدود بين أعمال البناء والأعمال الفنية، وبين المبني
والمصوَّر والمنحوت، كانت غير واضحة. وإذا كان المؤلَّف الأساسي لفيتروف يخصِّص
مكانًا للطلاءات والألوان، فذلك لضرورة تبليط الجدران وزخرفة السقوف والأرضيات. بل
إنه يوصي بعدم المغالاة في استعمالها، وكأنه يقول: احذروا المزخرِفين؛ فإنهم أسيادُ
التبذير. لا تفعلوا مثل ذلك الأحمقِ نيرون، الذي ملأ جدران داره الذهبية بالزخارف.
ليس من الغريب أن تكون «الأعمال الفنية الرومانية» في أغلبها غفلًا من أصحابها.
فالزَّبائن الذين يطلبون تلك الأعمال ظلُّوا أشهَرَ من صانعيها. ومفهوم العمل
الأصيل، ومعه مفهوم الأسلوب، لم يكن له أيضًا من معنًى في هذا العالَم؛ حيث اعتُبر
الفن إنجازًا وتطبيقًا، مثله في ذلك مثل الحرب. وهو نفس المعنى الحصري ﻟ «الفن
والطريقة»، هذا التأكيد التافه الذي سوف تتبناه بيزنطة قرونًا عديدة بعد سقوط روما،
حين صرحت خلال المجْمع السابع لتوحيد الكنائس: «ليس التشكيليون هم الذين يبتكرون
الصور، وإنما الكنيسة الكاثوليكية هي التي وضعتْها وعملت على تواترها. فالفنان لا
يملك غيرَ الفن وحده، أمَّا التعليمات فمن الواضح أنها صادرةٌ عن الآباء القديسين.»
لقد كان بإمكان النحَّاتين الرومان، توقيع نسخ من التماثيل الإغريقية من دون أن
يكون في الأمر غرابة. فالشيء يملك قيمته من المادة لا من طريقة صُنعه. والتمثال
مصنوعٌ من البرونز أو العاج أو الذهب قبل أن يعود لهذا الشخص أو ذاك. وقد قام فرجيل
بتلخيص احتقار الفحل للمتأنِّث، أي الروماني للإغريقي، بالشكل التالي: «قد يكون
الآخرون أمهرَ في منح الرُّوح للبرونز … لكنَّ فنونك أنت أيها الروماني تتمثل في
إصدار قوانين للسِّلم بين الشعوب» (إنييد، الكتاب الرابع، المقطع ٨٤٨).
وهنا أيضًا، ثمَّة كلمةٌ لاتينية تلعب لعبةَ المرادف المزيف. ﻓ
Ars في صيغة المصدر، لفظٌ يحتوي على مدلولٍ
قدحي؛ إذ هو يعني المهارات والمكر. و«المصطنع» كما نفهمه الآن نابعٌ من هنا. وهو
يقع، من حيث قيمته بين العلم والطبيعة، وبين الدراسة التأملية والعبقرية الفطرية.
إنها كرامةٌ نسبية جدًّا. ففي الاستعمال الموصوف، لا تعني تلك الكلمة سوى مهاراتٍ
تتطلب التعلم، أي عكس المَلَكة الطبيعية. وهي تستعيد لذلك معنى كلمة
techné الإغريقية، أي الحرفة أو ممارسة قدراتٍ
عملية على الإنتاج، وتحويل بعض المواد (من خشبٍ وعجين وحجر).
وArtifex تعني في الآنِ نفسه المختصَّ والصانع.
ومَن يدري إن كانت جملةُ نيرون: qualis artifex
pero لا تعني «يا له من رجلٍ ماهر!» فقط، وإنما تعني أيضًا «يا
له من صانعٍ ومشعوذ يحتضر!»
ثمَّة حسُّ الملاحظة الماكرة والواقعية الحيوانية، والقريحة الفنية الخصبة
والطابع اليومي العادي من غير تكلُّف؛ فالأطلال التي لا يزال التاريخ يحتفظ لنا
بها، لم تكن سوى زخارفَ لبيوتٍ خصوصية ظلَّت على حالها تحت رماد بركان الفيسوف. ومن
ثَم تأتي وفرةُ المَشاهد الطبيعية الجامدة، واللوحات الفسيفسائية ذات المضامين
المتصلة بالطبيعة، والمشاهد المصغَّرة الإباحية. وثمَّة أيضًا صورُ النساء والأزواج
بخصلاتهم المجعَّدة على الجبين، ورموشهم السوداء الثقيلة والأقراط في الآذان. لقد
سارت روما بعيدًا بشخصنتها للملامح بشكلٍ يفوق ما قام به الإغريق. بيْدَ أنَّ ما
يبدو لنا كخواصٍّ لصيقةٍ بالفن الروماني هو ما كان يبدو للمعاصِرين له، بالتأكيد،
أكثر الخصائص غرابةً عنه. فبلين القديم مثلًا، لم يكن يمنح أيَّ اعتبار للَّوحات
الصغيرة المنجَزة على المرسام، والتي لم يصلنا منها شيء؛ بل إنه كان يعتبر أنَّ
الفنان في خدمة الآلهة والمدينة، ولذا فقَدْ أدان رسْمَهم للوحات الجدارية في
البيوت الخاصة، معتبرًا إياها ممارسةً مبتذَلة وغير مدنية.
في الجدارية النصف دائرية بمدينة الفنون بباريس، التي رسمها الفنان الفرنسي
دولاروش، يظهر المجد راكعًا أمام إكتينوس وفيدياس وأبيل، أيْ أمام المعماري
والتشكيلي والنحَّات. ويبدو الثلاثة محاطين بكائناتٍ نورانية من عصر النهضة، وهم في
قمة أمجادهم يتربعون على عرشٍ من المرمر. كانت تلك إحدى التآليف التصويرية الأكثر
شهرةً واعتبارًا في القرن الماضي. ولحُسن الحظِّ أن الناس كفُّوا عن مشاهدتها، وإلا
فإنها كانت ستجعل أجيالًا كاملة من تلامذة الفنون التشكيلية يعيشون في كنفِ كذبةٍ
كبرى.
الصدى المسيحي
لقد امتدت الوضعية التي لخَّصنا فحواها إلى السكولائية الوسيطية. فقَدْ أدمج
القديس طوماس الإكويني مفهومَ الجميل في ميتافيزيقا الوجود، التي لم تعترف بمفهوم
الفن (الذي تم اعتباره في المنظومة الأرسطية الصارمة خيالًا عقليًّا خالصًا). وقد
ظلَّ عالم الأشكال ملحقًا بنظامٍ هجين من القيم، قيم المعرفة وقيم الخلاص،
باعتبارهما النمطين اللَّذين حاولت السكولائية توحيدهما. وهو الأمر الذي نجم عنه
الرمي بالمصوِّر في غياهب الهوامش الاجتماعية. وكما أكَّد على ذلك أمبرتو إيكو: «في
الحقيقة، لم يعترف الفلاسفة السكولائيون أبدًا، عن وعي، بالفن وقيمته الجمالية.
والقديس طوماس الإكويني نفسه، حين يتحدث عن اﻟ
ars،
يقدِّم للقارئ قواعد عامة يلزم نهجها ويتحدث بإسهاب عن العمل الفني (أي عن الصنعة
الحرفية والمهنية) من غير أن يتطرق أبدًا مباشرة لمشكلةِ الخصوصية الفنية.»
٥
وما نجم عن ذلك، هو أن بنَّائي الكاتدرائيات كانوا يمارسون حرفةً معترفًا بها من
غير أيِّ امتيازٍ شخصي، مثلهم في ذلك مثل كلِّ العمَّال اليدويين. وقد كانت كلمة
houvrier، في اللغة الفرنسية القديمة غريبةً عن
وضعية الحرفيين «من قَبيل صانعي الصور والنجَّارين والعمَّال الآخرين.» وفي القرن
السادس عشر، عوَّضتها كلمة artisan. أمَّا لفظة
artiste، المشتقَّة من اللاتينية
ars، والتي تعني تقليديًّا «الأستاذ في الفنون»
الشريفة والمتعلِّم أو المعلم في حرفةٍ من الحِرَف، فقد امتدَّت لتشمل الكيميائيين
أو الخيميائيين. وفي فرنسا القرن السابع عشر، أي بعد ما يقرب من القرنَين على ولادة
الفن بفلورنسا بإيطاليا، ظلَّت لفظة «الحِرفي»
(artisan) متداوَلة رسميًّا بخصوص التشكيليين
والنحَّاتين. وقد نصَّ معجم الأكاديمية في طبعة ١٩٦٤م، على أنَّ الفنان
(artiste) «هو مَن يشتغل في فنٍّ معيَّن.
وتطلَق الكلمة بالأخصِّ على أولئك الذين يقومون بعمليات خيميائية.»
إنَّ الفن فيما قبل ولادة الفن، باعتباره وسيطًا لنظام العالم، وانعكاسًا خالصًا
في المرآة، هو الشبح المتلاشي لمَا هو في ذاته، الذي لا تهمُّه سوى الحقيقة والطابع
الكوني. فلا مجال إذن لمناقشة الأذواق والألوان، فإما أنها مظهرٌ من مظاهر النظام
الأصلي، وهي من ثَم متصلة في المسيحية باللاهوت، أو أنها فيما قبل التاريخ متصلةٌ
بالبعد الكوني للعالم؛ أو أنها، من ناحيةٍ أخرى، متصلة فقط بأهواء تخيُّلاتٍ فردية،
ومن ثمَّة لا تستحقُّ غير الاحتقار العابث أو المتفكِّه. وفي الحالَين معًا، سواءٌ
تعلَّق الأمر باكتشاف اكتمالٍ معيَّن أو باختلاقِ ترَّهةٍ باطلة، فإن المرور عبر
الجميل لا طابعَ جوهري له.
لم يكن الفن ضائعًا وإنما ظلَّ فقط غير مفكَّر فيه، وذلك منذ مهده التاريخي وحتى
عهدٍ قريب.