الفصل الثالث

جغرافيا الفن

حيثما يكتشف الإنسان المثقف أثرًا ما؛ يصاب الناس غيرُ المثقفين بالزُّكام.

أوسكار وايلد

ما دام الإنسان يحدق في السماء، فإنه يعمى عن رؤية الأرض والناس الآخرين. لقد ظهرت المشاهد الطبيعية والوجوه الإنسانية في الفن التشكيلي الغربي في الفترة نفسها تقريبًا؛ ذلك أن الإنسان لا يحبُّ ما يرى، وإنما يرى ما يحبُّ. فالطبيعة والفن، باعتبارهما قيمتَين، قد كانا في أصلِ بعضهما البعض. فهل سيخِّلد أحدهما الآخَر؟

المنظر الطبيعي الغائب

تفتقر الكثير من الثقافات لكلمة تعيِّن المنظر الطبيعي (فأجدادنا عبروا الكثير من البلدان لا الكثير من المناظر الطبيعية). وفي الكثير من الثقافات ليس ثمَّة من كلمةٍ تفيد «الفن». والغريب أنَّ الكلمة الأولى والثانية تفيان بالغرض نفسه، إذا نحن لم نخرج عن دائرتنا الحضارية الهيلينية والبيزنطية واللاتينية الوسيطية.

الفن والمنظر الطبيعي والفلَّاح مكوناتٌ يتم اكتشافها بفقدانها.

عرف الفن دائمًا التصوير التشريحي، لكنه لم يعرف تصوير الجسم العاري إلا منذ وقتٍ قصير. لقد وُجدت دائمًا الغابات والجبال حول المواقع والتجمعات السكنية، مثلها في ذلك مثل التماثيل والكتابات الحائطية وسط الجماعات المستقرة. لكن الطبيعة ليست في أصلِ تقديس الجمال الطبيعي، كما أنَّ حضور الصور المنحوتة لا يخلق حساسيةً جمالية. فمشهد شيءٍ ما ليس معطًى متزامِنًا مع وجود ذلك الشيء. والدليل على ذلك أن الغرب انتظر ألفَي سنة قبل أن يؤسِّس ويؤطِّر ويؤكِّد وجودَ هذه الهرطقة الأنانية المتمثِّلة في «المشهد الطبيعي» paysage. لقد كانت الصين الطاوية تمارسه منذ بداية حقبتنا على الرقوق والستائر، بطريقتها الجوية الكلية والحركية. لكنَّ أوروبا ظلَّت تجهل كلمة المشهد الطبيعي إلى حدود القرن ١٦، بالرغم من أنَّ جمال العالم لم يُنتظر ظهوره في الفن الغربي. ولم يظهر المشهد الطبيعي لدينا للمرة الأولى سوى سنة ١٥٤٩م بريشة الفنان ذي المنزع الإنساني روبرت إستيين. بعد ذلك بقرنَين، حُددت مادةُ «المنظر الطبيعي» في دائرة المعارف بكونها تقتصر فقط على «ذلك النوع من الفن التشكيلي الذي يمثِّل البوادي والأشياء التي تحتويها».
تفصح مغامرةُ الكلمات جيدًا عن الوقائع في تسلسلها. فالنَّسْخ سبق الأصل، والمرئي يوجد في أصل الواقعي. فقد انتبه الرسَّامون للمواقع؛ فخرجت المناظر الطبيعية لبوادينا من اللوحات التي تحمل الاسم نفسه. إن النظر إلى الطبيعة مسألة ثقافة، هذه الثقافة التي كانت بصرية قبل أن تكون أدبية. والاتجاه المسمَّى pittoresque (الروائعي) يجد أصله في كلمة pittore الإيطالية التي تعني الرسَّام. وسيعبِّر آخرون عمَّا تدين به غاباتنا للفنان روسداييل Ruysdaël، وبحارنا لكلود لوران C. Lorrain، واللوحات البحرية للفنان فرني Vernet، وأوديتنا لبوسان، وجبالنا لسالفاتور روزا S. Rosa. لقد علَّمنا مؤرخو الذهنيات أن الجبل والبحر مؤسسات ثقافية. أما الوسائطي فيعتبر أن «الطبيعة» و«الفن» مقولتان مجردتان لا توجدان، في الواقع، منفصلتَين الواحدة عن الأخرى. فالطبيعة لدينا وليدةُ فنٍّ معين. من ثَم ينبع هذا السؤال اليوم: حين تتغير هذه الطبيعة ما الذي يتبقَّى من الفن؟ وحين يختفي هذا الفن ما الذي يتبقى من الطبيعة؟
لكن لنبدأ من البداية. هناك حركةٌ واحدة هي التي قامت في عتبة عصر النهضة، «بتقنين الصورة» و«مَنْظَرَة» طبيعة البلد.١ لقد كانت نفس الحركة الرَّجعية ونفس الاكتشاف، لا لأمريكا وإنما لمَا هو مألوف (بالرغم من أن العالم الجديد، قد يكون ساعد على النظر أفضل، للعالم القديم)، وراء إضفاء الطابع الجمالي على الوسط الطبيعي، وذلك عبْرَ إبعاد كلِّ ما هو ذو طابع استعمالي. وجاء التأطير والتدرج اللَّوني dégradé والتوازي والجدولة؛ لتكون تمارينَ رؤيةٍ عملتْ على تحويل الحالة السديمية للعالَم إلى لوحة. فكما لو أن تغيير مكان «النقطة»، في تغيير النظرة، قد حرِّر من العجيب المنزلي. تمرُّ أمام العين فجأةً روضةٌ من الروائع والغرائب لم يتمَّ الانتباه إليها من قبل. هكذا تم تشريف ما هو حقيرٌ والحُكم عليه بأنه جديرٌ بأن يرسم، وبأنه روائعي. إنه مثلثٌ جديد للرؤية يتمُّ عزله هنا «بنافذةٍ» (داخل نافذة هي قبلًا اللوحة الألبيرتية)، وعزله هناك «بتاريخٍ للفن». وهو بدوره نافذةٌ أخرى مقتطَعة من التاريخ العام للإنسان.

في المجال اليهودي والمسيحي، ظلَّ إطلاق صفة الجمال، على شاطئ بحر أو جبل أو اعتبارهما شيئًا «ساميًا»، حُكمًا غيرَ لائق (لم يتم القبول به إلا في زمنٍ متأخر)؛ شبيه بتسمية قربان أو نذر في كنيسة «عملًا فنيًّا»، وهي موضوعاتٌ وظيفية واستعمالية في نظر المؤمن، أو شبيه باعتبار كنيسةٍ أو قلعةٍ جديرتَين بالاهتمام وتستدعيان تجشُّم صعوبة الوصول إليهما لزيارتهما.

عرف تحرُّر المنظر الطبيعي في الغرب ثلاثةَ قرون من السبق على «المأثرة التاريخية»، وهي بناءٌ ثقافي خاص بالقرن التاسع عشر. وإذا كانت مدينة البندقية هي التي عرفتْ ظهور اﻟ paesetto (وعاصفة جيورجيوني تبرِّر وحدها الابتكار اللفظي الإيطالي)، فإن إعلان الاستقلال الشكلي والموضوعاتي قد تمَّ في شمال أوروبا، وبالضبط في فلاندريا. فجواشيم باتنير J. Patinir (١٤٢٤–١٥٧٥م) المولود في مدينة أنفير الفرنسية والمعاصر لدورير Dürer (هذا الرحالة الكبير الذي ذهب به حماسه إلى رسم وِهاد من جبال الألب والمستنقعات والأنهار بالأكواريل والغواش) يعتبر رسميًّا مبتكر تخصُّص المنظر الطبيعي في التشكيل.

لا وجود للمنظر الطبيعي في الرسوم المنتمية للعصر الحجري، المليئة بصور الحيوانات، ولا في الزخارف المصرية التي تعجُّ بالزوارق وورق البردي. وهو يكاد لا يوجد في خزفيات الإغريق، اللهم إلا بعض التلميحات المجردة أو الإيحائية. فالأمكنة ملحَقة بالأساطير أو بضرورات الفعل الدرامي على خشبة المسرح. أمَّا القريحة الرومانية فكانت ذات «منزعٍ طبيعاني»، بطبيعتها الجامدة وبساتينها وأسماكها. لكن البوادي ذات الحضور التزييني المحض، في بيوتات مدينة بومباي، تظلُّ تمثيلات لموضوعات أساطيرية أو عُرفية مدمَجة بشكل مثالي في الأعمال المرجعية التي تحيل إليها. فأوفيديوس وفرجيليوس يسمحان بالعَرض، لكنَّ قولهما يحدِّد تُخوم ومضامين النظر؛ إذ المنظر الطبيعي الإغريقي الروماني يظلُّ، في أفضل حالاته، تعليقًا على النص.

لكنَّ ما هو أكثر إدهاشًا، هو غياب المنظر الطبيعي في الألفية الأُولى للمسيحية. إنها مفارقةٌ كبرى، خاصة وأنَّ عالم الإقطاع والنبالة (وهو الذي كان يمتلك آنذاك إدارةَ الأشكال) كان ريفيًّا إطلاقًا. وحياة نصراء الفنِّ كانت تمرُّ بين الصيد والحروب في الهواء الطلق على صهوة الجياد وسط الغابات والحقول. فلقد كان الاقتصاد الوسيطي يعتمد على الأرض، وعادات الأمراء وتقاليدهم كانت ريفية. كان من اللازم انتظار القرن اﻟ ١٥ لكي تظهر منمنمات الإخوة دوليمبورغ في كتاب «الساعات السعيدة لدوق برِّي»، أو «الساعات السعيدة للدوق روهان». فحتى ذلك الوقت كانت الرسوم التوضيحية للمخطوطات تشخِّص الوسط الطبيعي من منظور رمزي وباطني، وهو ليس في العمق سوى اتباعٍ للكتابات المقدَّسة.٢ لقد عملت الحقيقة المسيحية (التي تُسمع وتقرأ عبر الكتب المقدسة) على إخفاء واقع الوسط المحيط (الذي يُرى بالعين المجردة). فكل ثقافة، حين تختار حقيقتها، تختار واقعها، أيْ ما تعتبره قابلًا للرؤية وجديرًا بالتمثيل والتشخيص. وجِنان الفردوس تعتبر، من قبل إنسان القرن ١٣، أكثرَ واقعيةً من غابةِ بواسي في ضواحي باريس؛ لأنها الجِنان الوحيدة الحقيقية، وهي الأُولى التي يرغب في رؤيتها. إن الصورة التوراتية للفردوس اللاواقعي في نظره أفضلُ صلةً من الأخرى؛ لأنه بتوقه للوصول للحقيقة الإلهية سيخلِّص بدنه ونفسه. وهو ما قد تفتنه عنه الصورة المطابِقة لغابة بواسي التي يمرُّ بها عادة. فبدون غاية ميتافيزيقية، لا وجود لصورةٍ مادية. أمَّا البوادي السينية siennoises لِلورنزيتي Lorenzitti في الحُكم الصالح والحُكم الفاسد، في القصر العمومي بسيينا، وهي الأوصاف الأكثر إيغالًا في «الواقعية»؛ فتظلُّ مجرد إشاراتٍ فضائية، وأمثولات allégories ذات مغازٍ أخلاقية. فهي تُستخدم لامتداح سياسةٍ معينة لا لخدمة متعةٍ خالصة للنظر والعرض. كانت روافد المذابح والقرابين والجداريات والمنمنمات أو باقات الزهور والأنهار؛ تعتبر، حتى ذلك الوقت، رموزًا للتعيين وعناصر زينة للدلالة على فصولٍ من التاريخ المقدَّس. وهكذا كان أمر البستان؛ إذ كان يُعتبر رمزًا دالًّا على الجنة. أما الصحراء فكانت علامةً على الخروج من مصر. إنها ممارسات نذورية أقرب إلى الصلاة منها إلى الإدراك البصري.

تدنيس العالم

ولكي تُعتبر الطبيعة قيمةً مستقلة لا دعامة لنذرٍ أو عبادةٍ معينة، أي باعتبارها مشهدًا في ذاته مقتطعًا عنوةً وبتأطير واعٍ، ويحمل روعته الخاصة التي لا يستقيها من السجل الديني؛ كان من اللازم توفُّر تربية أخلاقية للعين، مصحوبة بمهارةٍ تقنية لليد. لقد كان من الضروري تحويل وِجهةِ البصر جهةَ الأرض، أي هروبًا من السماء، ومعه ترك كل أنواع المجازات.

وإذا كانت الطبيعة موجودةً في كلِّ مكان، فإن المنظر الطبيعي لا يمكنه أن يولد إلا في عين الحضري التي تراه من بعيد؛ لأنَّ الأمر لا يتطلب الاشتغال المباشر عليه يوميًّا. فالفلَّاح لا يهتمُّ بالمنظر الطبيعي لأنه حبيسُ الحاجة، ويعرق فيه من الكدِّ مقصوم الظَّهر، مثله مثل ذلك المُزارع الريفيِّ الذي تحدَّث عنه سيزان، والذي يروح لبيع غلَّة البطاطس على عربته «من دون أن يرى أبدًا كنيسةَ النصر المقدَّس». أمَّا الحضري، فبما أنه مطمئنٌّ على عيشه؛ فهو الوحيد القادر على التعاطي لملذَّات النزهة والتأمل. فكما أن المنظر الطبيعي ليس هو الطبيعة المغذية والموسخة للفلَّاح؛ كذلك ليس الفن هو مجموع الصور التي يكبر في حضنها مجتمع ما ويمنحها إيمانه (فالمزهريات الإغريقية لم تصبح تُحفًا فنية في أوروبا إلا في القرن ١٨، أما فيما قبل فلَمْ تكن جديرةً بالانتماء لمجموعات التُّحف في العالم المسيحي). إنَّ الفن، مثله مثل المنظر الطبيعي، موقف للوعي. إنه «حالة رُوحية» كما عبَّر أمييل Amiel عن ذلك. لنقُلْ إنه أسطورةٌ بما أنَّ كل اعتقاد مشترك يسمَّى كذلك.

من البديهي إذن أن الوضعية الوصفية أو الوثائقية عينٌ متحرِّرة من عبودية اليد. إنها، بشكلٍ أكثر عمقًا، تفترض مقدَّسًا ينير نفسه، وكونًا خفتْ عنه وطأة الليل، وتحرُّرًا من السديم الأصلي؛ أيْ شيئًا شبيهًا بتدوير الزوايا، ومناخًا من التواطؤ أو الحميمية بين الإنسان وبيئته. باختصار، يمكن القول بأنها تفترض تبرجزًا أوليًّا. فالفردانية والرأسمالية شرطان ملائمان كي يتجرأ الإنسان، باعتباره كائنًا دنيويًّا، على أن يفتح عينَيه على المياه والجبال والغابات. وذلك يستلزم بدايةً تطويعَ المسافات والقوى الطبيعية، وتقدُّمًا ملحوظًا في التجارة والمِلاحة والسدود والمطاحن الهوائية؛ كي تنشأ تلك القدرة على الدقَّة. إنها دقَّة تتطلَّبها الحاجة إلى قياس حمولةِ شحن أو زبونٍ معيَّن، أو فرز البضائع في لحظةِ بصر. يبدو الأمر كما لو أن حدًّا أدنى من رغد العيش كان ضروريًّا لبهجة الرؤية. وهي لذَّة منزلية بعيدة كلَّ البعد عن الغزل العذري والتراجيديا. إن استعادة اللانهائي إلى حظيرة الوطن وهذا الترويض للمتخيل، تشكِّل إنجازاتٍ جبارةً يمنحها توفُّر الفرديات الحرَّة وبداية الأمن الجماعي إمكانَ الوجود.

لقد ظهر المنظر الطبيعي لدى الفلامانيين (بلجيكيِّي اليوم) غير أنه ازدهر في هولندا. وبما أن تصاويره كانت أكثر وصفيةً منها حكائية، فقد كانت تخضع أقلَّ من منافِستها الإيطالية لهيمنة الثقافة الأساطيرية والأدبية والإكليركية.٣ ولأنَّ كالفين قد حرَّم التصاوير الدينية؛ فلمْ يتبقَّ للرسامين والتشكيليين غير العالَم الدنيوي. وما دامت الصورة الدينية غدت محرمةً؛ فلمْ يجدوا أمامهم غير الطبيعة الجامدة والحية. ففي أمستردام ونواحيها، أصبح التاجر المتحرِّر بالمال والمتسامح شيئًا ما يحسُّ بأهليته لاكتشاف بلده بآلات الرؤية الجديدة كتلك الغرفة المعْتِمة المخترعة في القرن السابق. كما أن الأسلوب الهولندي، المستقر والموسر، المتموقع بين التقشُّف والتفاخر، وبين الصفاء والطهرانية والتفخيم المتصنع، أصبح هو السائد في البيوت. فحرية الوعي والاهتمام بالظروف متلازمان. والمرء يحسُّ نفسه في حالةٍ جيدة في بلده وأقدامه على الأرض، حتى لا نسترسل في الكشف. ينتصب الفنان الهولندي فرمير دو دلفت أمام مدينة دلفت؛ كي يرسم «أجمل لوحةٍ في العالَم»، مستعينًا بآلته البصرية. إنها اقترابٌ فاتن من مفهوم الجمال، حيث تستبين الثورة التي عرفها العقل الغربي.

إنَّ رؤية الدنيا المحيطة بالإنسان، وملاءمة الخطوة والمعجزة والجنون مع ما هو قريب ودنيوي؛ ليس استجابةً لا شعورية، وإنما هو فتحٌ مبين. إنه فتحٌ وانتصار للمحسوس على المجرد أو بالأحرى للفرادة على العمومية؛ ذلك أنَّ المعروف قد غلَّف لمدة طويلة المرئي. كما أن النظر الجيِّد قد تمَّ انتزاعه من المقول، أي من تلك المعرفة المزيفة الكثيفة للذاكرة الجماعية، ومن طمي الخرافات والحكايات والأمثال، ومن ثَم من تلك الإشاعة العتيقة التي جعلت المرئي يتحدث لمدة آلاف السنين عن كل شيء إلا عن نفسه. لقد كان كريستوف كولومبوس مفرِطًا في القراءة بحيث عجز عن رؤية الجديد؛ فهو لم يعمل في بلاد الهنود إلا على جعل المرئي التافه على هامش المقروء الأساسي. فكما ماركو بولو، أبحَرَ هذا الشخص الوسيطي بعيدًا جهةَ الغرب باحثًا عن بلاد العجائب التي كانت موجودةً إلى حدود ذلك الوقت جهة الشرق، مدفوعًا باحترامه للكتابات المقدَّسة وخاصة ما تشبَّع به من سفر النبوءات. لذا، فهو لم يرَ على شواطئه ذات الرمل الناعم سوى كتابٍ مبهَم من العلامات السرية. يُحسب لعصر النهضة أنه جعل العالم غيرَ محدود، وذلك بفتح أبواب أوروبا وتوسيع آفاقها. لقد كان ذلك التقصير للنظر أروعَ من أمريكا التي صاغتْها الكلمات، وتمَّت معرفتها قبل تحقُّق رؤيتها، ذلك أنه يضع التخوم على أثوابنا؛ فأركاديا غدتْ في الطرف الآخَر من الحي، والجيورجيات أصبحنَ يعشنَ في باريس ونواحيها أو في توسكانيا. إنَّ منظرًا لجبال الألب بريشة الفنان دُورَر أغرب، ويمتلك خصوبة رحلةِ ماجلان نفسها. فلَقَد استطاعتْ تلك اللوحات أن تنتزع الجبال القريبة من السديم «الرهيب» الذي أغرقتْها فيه اللعنة الإلهية؛ كي تكشف في هذا المشهد «المروِّع» «عظمتَه وجلالَه». كما أنَّ هذه الطريقة البسيطة للنزعة الإنسانية، ليست أقلَّ عظمةً من أحلام إلْدورادو، بل إنها أقلُّ دموية.

ظلَّت الرؤية الوسيطية تابعةً للفكرة المطلقة. لذا، فقد كان التحرر منها تجديدًا مكلفًا ومجهدًا، وقد يعتبر مُشينًا. كان ذلك يعني إدارةَ الظَّهر للوحي والحقيقة. والمنظر الطبيعي مخلوقٌ خسر امتيازَه وانكفأ على ذاته بعد أن تحكَّم فيه نظرٌ غير رؤياوي، وظلَّ بسيطًا ومتواضعًا وخارجًا عن الإرث الأفلاطوني للفكرة والإرث المسيحي للنعمة والإرث الجمالي للصورة. إن هذا النوع الفني الخاص بأوروبا الشمالية، الفردانية والعامية — حتى لا ننسى ذلك — كان يُعتبر في نظر النُّخب التي تسيِّر أوروبا نوعًا عاميًّا غير شرعي وفي العمق تدنيسيًّا. ففي كلمة paysage (منظر طبيعي) هناك كملة paysan (فلاح) وهو كائن وضيع. وهناك بالأخصِّ كلمة païen (وثني) المشتقة من اللاتينية pays (الحقل)، وهو اعتبار أكثر خطورة (فقَدْ ظلَّ فوروتير Furetière يكتب الكلمة بالشكل التالي païsage حتى سنة ١٦٩٠م). وقد اعتبر الشعراء والمتخصِّصون في الدراسات الإيطالية أن مداعبةً كهذه لجسم العالَم، هي شتيمة موجَّهة للرسَّامين القدماء، الذين كانوا الوحيدين الذين تجرَّءوا على رسم الطبيعة الكثيفة والمحلية، مثل الفلامانيين، الذين لا يتعدى مدى رؤيتهم أرنبةَ أنوفهم. ومن الأكيد أن مايكل أنجلو كان سيسخر، من عليائه، من هذه السطحية الريفية الشمالية: «فهذا التشكيل ليس سوى خِرَق وأكواخٍ متداعية، وخضرة حقول، وظلال أشجار، وجسور وأنهار يسمونها منظرًا طبيعيًّا، تتخللها صورٌ إنسانية هنا وهناك. وكل ذلك، بالرغم من أنه قد يُستحسن من قِبَل البعض، فهو لا يخضع في صناعته لسببٍ معيَّن أو فنية أو توازٍ أو قياس أو تمييز أو اختيار أو بساطةٍ ما. وبكلمةٍ واحدة، فهو لا يمتلك جوهرًا أو عصبًا.» لقد كان المنظر الطبيعي تحويلًا، لكنْ نحو الأسفل، للنص نحو الأرض، وللروحاني إلى كياناتٍ صُلبة، وللنور الإلهي إلى نورٍ أرضي. وهذا الإنكار للسماء هو الذي لطَّخ سمعة مبتكريه الشماليين (وهو المصير نفسه الذي لاقاه تقليديًّا أتباع أوكاموس)، وذلك أمام العشَّاق المتيَّمين للأفكار والخرافات والأساطير. ففي عصر النهضة، وباستثناء ليوناردو دافينشي، لم يكن الأرسطي النفعي وورثة أفلاطون الذي يتحكمون في قلب أوروبا، أي وسطها، يريدون، أو هم بالأحرى لم يكونوا قادرين على النظر إلى حقل زيتون أو طريقٍ غير معبَّدة أو عربة خيول.

لقد غدا تأطير مشهد، يوجد في وسطَه رجلٌ مغمور، تفاهات بطولية إنْ شئنا القول. فالوجه والمنظر الطبيعي بدءًا، يتقدمان بإيقاعٍ واحد. وقد ظهر البورتريه (الصورة الشخصية) باعتباره نوعًا مستقلًّا متحررًا من سياقه المقدَّس (المانح الوسيطي على رافدة المذبح)، على الشاطئ الزمني نفسه للمنظر الطبيعي. ففان إيك، يقدِّم لنا منظرًا لمدينة لييج في عمق لوحته عن السيدة العذراء، وآل أرنولفيني في فضائهم المنزلي الحميم.

إنه تجديد فصيح؛ كلُّ مَن يرسم مناظر طبيعية يرسم نفسه أيضًا.٤ في عصر «الأصنام»، عصر التصاوير البدائية، كان المصوِّر لا يظهر أبدًا في تصاويره (بل كان ذلك معيارًا للرسم والتشكيل). فمن باولو أوتشيلو إلى رامبراندت، مرورًا بدُورَر وبوتتشيلي وروبنز، كان التحري عن الداخل يحقِّق تقدُّمًا بموازاةٍ مع تقصِّي الخارج. إنَّ تذويتَ النظر يؤدي ضرورةً إلى إضفاء الطابع الموضوعي على الطبيعة؛ إنهما وجها عملةٍ واحدة. وقد جاء البروز المتزامن للبانوراما والبورتريه الشخصي ليؤشِّر لقفزة إلى الأمام حقَّقها الفنان في التخفيف من الطابع السحري المتعالي للعالم. نعَمْ، لقد كان المنظر الطبيعي، فنيًّا، الفديةَ البصرية التي تمَّ تقديمها قصدَ نزع الطابع الرمزي عن الكون، وتقليص مدى المعنى، وإنزال الدوار من عليائه. لكنَّ ذلك جاء مرفوقًا بحدَّة أكثر صرامةً وبلا تنازلات؛ لأنها لا تملك مَهْربًا. فقَدْ أدى تبخُّر العوالم الخلفية الأساطيرية أو الدينية إلى توجيه الرؤية نحو الحياة الدنيا. هكذا تمَّ النظر، لأول مرةٍ وفجأةً، للأشجار والوجوه بما هي وكما هي، بالصدفة وبلا مسبقات، أي في روعتها العلمانية. كما أن هذه الاتفاقية الجديدة المبرَمة مع المرئي، قد كانت في أصلِ ظهورِ أول خرائطيةٍ يُعتدُّ بها في التاريخ.

ثمة في التاريخ لحظةٌ تحتفل فيها العين؛ إنها اللحظة التي يقوم فيها الإنسان بالتصوير، على غرار التصوير الإلهي، ويسعى إلى إعادة خلق الطبيعة على شاكلة الإنسان. آنذاك يتبلور ذلك المزيج من العقلانية والإرادية الذي خلَّد النظرة الغربية أكثر من أي نظرةٍ أخرى؛ ذلك أننا لا نحبُّ أن نرى وإنما نرى ما نحبُّ. وحين يقِلُّ عشق مجتمع ما للماورائيات، فإنه يرى الأشياء والناس أكثر. فبقدرِ ما يتمُّ الابتعاد عن القضايا الأولى؛ يتم الاقتراب أكثر من الآخرين.

تشكِّل النهضة وعصر الأنوار لحظتَي تقدُّم بروميثيوسيتَين للمسيحية في الاكتساح البصري لمَا لم يكن الإنسان يستطيع الوصول إليه من قبل. إنهما يشكِّلان إلحاقًا متتابعًا لفضاءات بكرٍ بالعين المجردة. ففي فرنسا، وما إن أخرج النحَّاتون في القرن ١٦، باعتبارهم أسيادَ المعدن والرصاص والنحاس، جبالَ الألب من ليلها؛ حتى غابت من جديد مع الاستبداد الملكي الذي رمى بها من جديد في سديمها الأصلي. وإذا كان ذلك غير مهم من الناحية الرمزية، فإنه من الناحية المادية غير قابلٍ للوصف. فالنظام البصري لِلويس الرابع، كان يكره الصحاري والخلوات العازلة. وبما أنه نظامٌ متمدن؛ فإنه لم يكن يقبل بغير الحدائق المنظَّمة والسهول غير المتوحِّشة. بيْدَ أنَّ الجبال البيضاء لن تلبث أن تعاود الظهور بثلوجها ووِهادها في عصر الأنوار، سواء في الكتب أو في اللوحات. وباعتبار أنَّ المقدَّس مرتبطٌ منطقيًّا بانغلاق الفضاء؛ فإن نزْعَ الطابع القدسي عن العالَم يمرُّ ضرورةً عبْرَ فكِّ انغلاق البصري. إنَّ هذا يعني أنسنة الفضاءات اللاإنسانية التي اعتُبِرت إلى ذلك الوقت لامرئية، وذلك بالعين وعبْرَها. لقد ابتكر عصر النهضة رؤيةَ التفاصيل والرؤية العامة، إضافةً إلى المنظور. أمَّا عصر الأنوار فقد ابتكر الرؤى الدائرية والبانورامية، إضافةً إلى البحر والجبل. هكذا انسحب المُخيف ليترك المكان لروعة المجلدات والعواصف والهضاب، أي لهذا اللامتناهي الذي جعل منه إيمانويل كانط هدفًا. كما أن الرومانسية قد فتحتْ للفضوليين مسارب الغابات، التي ظلَّت لحدِّ ذلك الوقت موحِشة. هكذا أصبحت أحواز فونتينبلو بفرنسا، في عصر عودة الملكية والإمبراطورية الثانية، أكبرَ ورشة للفن التشكيلي (والفوتوغرافي)، حيث سوف ينبثق الفنُّ الحديث.

ما بعد المنظر الطبيعي

ثمَّة مأزقٌ تعيشه الطبيعة ويعرفه تشخيصها وتمثيلها؛ فمستقبل الغابة غدا مقلِقًا، وكذلك أمرُ اللوحات. أعلينا أن نتساءل: هل سيتمكن المنظر الطبيعي من البقاء بعد انهيار الفن التشكيلي، أم: هل سيستطيع الفن التشكيلي البقاء بعد انمحاء وتحطيم المناظر الطبيعية؟ الإثنان معًا، طبعًا. لقد أصبح واقعًا أنَّ التوسُّع المدني، والخطوط ذات الضغط الكهربائي المرتفع، والطرق السيَّارة، والقطارات ذات السرعة الكبرى، التي كسرت الحواجز ومحت ثُنْياتنا وانطواءاتنا، والعزلة التي فرضَتْها المساكن الفردية، والإشهار والعقلنة الفلاحية، والسرعة، والسياحة؛ كل هذه الأشياء تطلَّبت فضاءً ريفيًّا جديدًا ونظرةً حضرية جديدة. لقد مثَّل ذلك تغييرًا في الديكور الجغرافي والذهني. فهل في اختفاء المنظر الطبيعي من التشكيل الطلائعي لبداية القرن (وبيكاسو تجاهَلَه مطلقًا ودائمًا) ما يعلن الانتقال من الطبيعة المحلية إلى البيئة التي تفيد منها مجتمعاتنا ذات الخدمات «النظيفة»؟ صحيحٌ أنَّ البطاقات البريدية تكلَّفت بذلك، وأصبح من الصعب، بعد عام ١٩٠٠م، منافسةُ الوثيقة الفوتوغرافية في هذا المضمار. ومع ذلك، فلدينا إحساسٌ بأنَّ «الكوارث» التشكيلية التي حدثتْ في بداية القرن؛ كانت تؤثر، عبْرَ سبْقٍ متتابِع وكلاسيكي للتشخيصي على الحدثي، إلى الخيبات البيئية لنهايته التشخيصية (فالتشكيليون، كما رأينا ذلك سابقًا، لهم السبق دائمًا على الكتَّاب وعلماء الاجتماع). في الماضي، تم رسم الجبال قبل أن يتم وصفها (وتم تسلُّقها في القرن اﻟ ١٨؛ لأنَّ روسو كان يصِفها). وعلى غرار أوغسطين بيرك، الذي تحدث عن «الانتقال المناظري»، هذه اللحظة الفاصلة بين «المجتمعات التي تمتلك أريافًا» و«المجتمعات التي تُمَنْظِر بلدها»، نرغب في اعتبار الإبداع الفني لحظةً فاصلة بين الامتلاء السحري والنمذجة الآلية.٥ يحتلُّ «الفن» في التاريخ العالمي حيزًا صغيرًا ومندحرًا؛ إنه مجرَّد فاصلٌ دقيق محلي وزائل بين مصر وأمريكا، أو إذا شئنا تصوير الأمر؛ فكما كانت باريس قبل الحرب، محبوسةً بين زمن بُناة القلاع وجبهة السِّين، كان العمل الفني تنهيدةً ووقفةً في مقطوعةٍ موسيقية طويلة. إنَّ هذا لا يعني أنَّ إرادة الفن والمنظر قد تراجعت؛ بالعكس، فهي أصبحتْ أقوى من أيِّ وقتٍ مضى، وفي مستوى كلِّ حنين. وهنا تكمن نقطةُ ضَعفها. ولكي يتمَّ تنشيط أطرافهما واستعادة مجدهما، يتطلب ذلك إرادةً شامخة، ذلك أنَّ الفن والمنظر الطبيعي قد هجرا اليومي العادي والحساسية البصرية. لقد أصبحا مسألةَ برمجة واحتفال وتوجيه وتفتيش وتقنين. وغدَوَا من اختصاص «رسَّامي المناظر الطبيعية» والمنشِّطين؛ بل من اختصاص مديرية تدبير التراب الوطني، ومديرية الحدائق الطبيعية، والمفوضية المكلَّفة بالفنون التشكيلية، وتلك المكلفة بالمحافظة على المواقع الأثرية، ووزارتَي البيئة والثقافة. كان المنظر الطبيعي والفن فيما مضى يُعاشان؛ أما الآن فقد أصبحا يُنشآن، كما لو كانا يخصَّان نفسَيهما بحياةٍ إضافية منظَّمة ومهمومة. إنها نهاية المتعة والعودة للحلول التقنية. فالمنظر الطبيعي لمَا بعد الحداثة، الذي أصبح مختصًّا بالمناطق الطبيعية المحروسة والفضاءات الخضراء، مُبعَدًا من مراكز حياتنا اليومية، والذي يخضع للتصوير والتنظير والتسييج، يشكِّل صدًى خادعًا ﻟ «الثقافة التراثية». وبما أن إنتاجات العصر البصري تُعتبر غير صالحة لتأثيث بيوتنا وحدائقنا؛ فإن الفن أيضًا تم تخصيصه للتُّحف، باعتباره موضوعَ اهتمامٍ بيئوي ومتطلَّبًا للسلطات تطلُّبًا أكثر فأكثر قلقًا. فكلُّ شيء يتمُّ بطريقة تُلزمنا بتجاوُز النقص في الطبيعي في بيئتنا بطبيعةٍ خارقة، وفي مرئيِّنا بفنٍّ خارق وبالفن التقاني techno-art.
النظرة الفنية جملةٌ اعتراضية مسرحية في ممارستنا للطبيعة. لا يتعلَّق الأمر بمدرسة باربيزون أو أفلام رونوار، وإنما بأبعد من ذلك، أي بالعمل اليدوي والحركات الأساسية للألم والعلاج. فهو يرتبط بالفلاحة وبنمطٍ مركب من الفضاء أنتجته في أوروبا، ذي طابع تجزيئي ممزق ومضبوط مساحيًّا.٦ فلا إمكان لوجود الفن في سيبيريا والصحاري؛ حيث تردع الرقابة الأحادية كل ممارسة متقطعة للتعبير التشخيصي التشكيلي. إنها مسألة مناخ وتحديد خرائطي؛ فالتلوينات تنبع من تعارُض الفصول والثقافات والمراعي. الفنان كائنٌ قروي، رِجلاه في الوحل ويداه في العجين. فحِرفُ التمثيل والتشخيص الموجودة كلُّها لصيقةٌ بالأرض وقبورها ونُصبها وأراضيها وبواديها. إن المدرسة الفرنسية أو الإيطالية أو الفلامانية … إلخ، تعني «البلد» الفرنسي والبلد الإيطالي والفلاماني … إلخ. والفن، شأنه كشأن الروحانيات، دائمًا محلي، فهو يعبِّر في الغالب وبالضرورة عن عبقريةِ مكانٍ يتبلور عبْرَ نورٍ معين، وعبْرَ الألوان والنبرات والقيم اللمسية. كما أن العمل التشكيلي نفسه، الذي يلزم أن نسميه بالأحرى رسمًا ريفيًّا pictural، جزءٌ من «الأشغال اليومية». وفي ذلك يقول فان جوخ: «إنَّ رمز القديس لوقا، قديس الفنانين التشكيليين، عبارة عن ثور. وعلى المرء أن يكون صبورًا كالثور إذا هو رغِب في حرث الحقل الفني.» لنتذكر أن دُورَر قد دشَّن رسمَ المنظر الطبيعي والتشكيل الزيتي معًا. ولا يخفى أن زيت الكتان الخالص زيتٌ نباتي ثقيل وحيٌّ. وهو حين يمزج بالراتنج، يغدو ذا طابعٍ دُهني شبيه بدهنية زيت الزيتون، وثقيلًا ثقلَ الفصول الفلاحية. بيْدَ أنَّ إنسان المدن الكبرى المستعجِل يكره صبرَ الفلَّاح على الحرث. فالسرعة تولِّد الكسل.

ليس لنا أن نفاجأ إذا ما غدا عالمُ الغد «عالمًا بدون فلاحين»، ومن ثَم «عالمًا بدون فن». فالبوادي والطلائع الفنية، ربما كانت أكثر ترابطًا ممَّا نظنه. أمَّا الآن فالمعلومات حاضرةٌ في كل مكان، والحوامل لم تعُد ماديةً، والسيارات أصبحت تنزلق، وكلُّ شيء أصبح يمرُّ في الشاشة الصغرى. إن فِلاحةً بدون أرض، ولغةً بلا كلمات، ونقدًا بدون أوراق نقدية، وخليجًا بلا غرين؛ كل هذا يجد في الصور التركيبية مكمِّله البصري. فالبصري الرقمي ذو طابعٍ عالمي بحيث يصعب عليه أن يكون ذا روح قروية؛ فهو عالميٌّ و«غير كوني». صحيحٌ أن الحنين البيئي يسكن أعيننا مثلما يسكن عقولنا، لكنَّ الجنس الوثائقي في السينما، بخاصيته الاستقصائية والمترددة، مشهورٌ بكونه لا يملك سوقًا؛ لذا فهو يُعوَّض ﺑ «الاستطلاع الواسع» السريع والمنكفئ على نفسه في التليفزيون.

إن غفلتنا البصرية الجديدة، تدين بالكثير للثورة في المواصلات السلكية واللاسلكية، والنقل. فمع انمحاء المسافات، اختفى الإحساس بالمدى الترابي ومعنى المعيش الواقعي والبرَّانية الخالصة. لقد غدا كلُّ شيء قابلًا للامتلاك بسرعةٍ وبلا جهد. الفنُّ التشكيلي بطيء، بينما المعلومات سريعة. والعصر البصري يقصر الأزمنة، على اللوحة، براتنج اصطناعي فنيلي وأكريليكي، وهي ليست سوى ماءٍ وألوان خاصة ومستعجلة. وهذا ما يريده عصر الشاشة، السائل والمرتحل، عصر الانتقال والمرور، المرتبِط بقيم التيارات والموجات الرساميل والأصوات والأخبار والصور؛ حيث تغدو سرعةُ اضطراريةِ الأشياء الصُّلبة والمتماسكة سائلةً والخصائص ملساء ومسطَّحة. إنَّ وسطنا التقني يجعل من نفسه عابرًا للحدود مثله مثل الصور الهرتزية. إنه ينتج فنًّا عابرًا للفنون. لقد نشأ «الفن» في أوروبا كحدٍّ أقصى من التنوع في حدٍّ فضائي دانٍ، فيما نشأ «البصري» في أمريكا كحدٍّ أدنى من التنوع في حدٍّ أقصى فضائي. لهذا، فأندي ويرول حيثما اتَّجه فهو في وطنه، مثله مثل ماريلين مونرو أو مجموعة حساء كامبيل. لكن، لم يكن هذا حال أوزيريس أو الإلهة أثينا أو بوذا أو فِشْنو. ربما كان هناك ترابط وثيق بين المحلية والخلود. أليست التعبيرات الفنية الأكثر خلودًا هي تلك الأكثر تجذرًا في تربة العصر الحجري الموجودة على ضفاف الأنهار والأودية والبحار؟ يظل أوزيريس لصيق بالنيل مثلما هي أثينا ببحر إيجة وفشنو بنهر الغانج. إنَّ الفن الديني ينتمي بالضرورة لمنطقةٍ معينة.

يمتلك «البصري» قدرةً على التوسع لا تضاهَى، لكنَّ انتشاره في الحواضر لا يترك أثرًا (فهو يمرُّ بكلِّ مكان، لكنه يمرُّ فقط). كما أن انتشار السينما عبر التليفزيون يقابل أمْركة الفضاء الأوروبي. وإذا كان الفيلم الروائي والفيلم القصير ذوَي طابع وطني و«طبيعي»، فإنَّ الكليب والمسلسلات الميلودرامية soap قد فَقَدا كلَّ خاصيةٍ جِهَوية.

لقد أقلعت الصورة الحاسوبية من المحسوس كما أقلع الحضري بأعضائه الاصطناعية من الأرض باتجاه السماء، وكما أُقلع القانون الثنائي العالمي من اللغات الطبيعية القديمة، التي كانت فيما مضى لهجات. ﻓ «الفن العالمي» يجعلنا نسبح في الهواء في كل الاتجاهات ونحن في حضرته؛ وبهذا تغدو نظرتنا نظرةً سائلة بدورها ومعلَّقة فوق الأرض. إنه يجري في المعارض وراء اللوحات «الحقيقية» كما يجري المُواطِن الغربي، صيفًا وراء الشواطئ غير الملوَّثة والغابات التي لا تُمطر فيها السماء الحامض؛ باحثًا عنها بين الأسواق الممتازة ومناطق الترفيه.

تنتصب الأصنام والأيقونة جهةَ الآلهة. أمَّا لوحاتنا فإنها ذات علاقةٍ بالقمح والزرع والاختمار وتتابُع الفصول والنماء. والحال أنَّ هذا الزمن الذي يسمَّى طبيعيًّا، زمن النضج الداخلي والتشكيلات الحرفية والحمل ذي التسعة أشهر، ليس طبيعيًّا بالصورة التي اعتقدناها. إنَّ كلَّ ذلك ليس قدَرًا. إنه فقط مرحلةٌ في مسير التكنولوجيات الإحيائية، وذلك هو حال زراعتنا وجغرافيتنا أيضًا.

كلُّ وسط إرسالي، وكلُّ زمنٍ ومكان يحظى بالمرئي الذي يلائمه، لا الذي يرغب فيه. إنَّ ما نسمِّيه «بصريًّا» هو مجموع الأشكال الجديدة التي تستلزمها الطرق السيَّارة والمَركبات الفضائية وشاشة التحكم. ولْنقاومِ الرغبة في الحُكم على الدائرة الوسائطية، والجماليات التي تتماشى معها، بمعايير الدائرة السابقة؛ فكل دائرة لها عينُها وبياضاتها وآفاقها، ومن ثَم غنائيتها الخاصة.
يحكم النقاد الذين على أندي ويرول أو بورن Buren كما يحكمون على تنطورى Tintoret أو ماتيس، تبعًا للقواعد الموروثة عن عصر الكتابة graphosphère؛ والهواة الذين ينتظرون من «البصري» المُتع والسكرات التي كان يوفرها لهم «الفن»، ربما يشبهون أجدادنا في القرن السابع عشر، الذين لم يطيقوا رؤية جمال جبال الألب؛ هذا «السديم الذي يشذُّ عن كل وصف» وجمال شواطئ بريطانيا. فأصحابنا المكتئبون هؤلاء، الذين لا يعيشون عصرهم، والمنفيون من جناتهم الخضراء، لا يعرفون الاحتفاء بجمال الهوائيات والإعلانات الضوئية، وأبراج الأسلاك الكهربائية، وشارات التنبيه على الطُّرق السيارة، واللوحات الإشهارية، والضواحي على امتداد النظر، وأضواء النيون والأسمنت المسلح الاستبدالي. فلا أحد يكون معاصرًا للعمران أو الزمن. ربما كنا نشاهد البصري اليوم بعيونِ فنِّ الأمس. وربما كان اغترابنا وفقداننا للانجذاب، وافتقادنا للطابع الفني هو قفا ولادةٍ لا تزال مكبوتةً بضبابٍ في الرؤية لا يُقهر، ولادة من طبيعة مغايرة (تكنولوجيا عالية) ومن فضاءٍ آخَر (فضاء وسائل الإرسال لا فضاء الأراضي، يحسب بالوحدات الزمنية لا بالمساحة)، بالجملة، ولادة عالَمٍ جديد. فنيويورك أو طوكيو، وهما مزدانتان بأنوارهما، تتطلبان نظرةً جديدة وإيقاعًا آخَر للرؤية غير الرُّبى التوسكانية في الأصيل. لكلِّ دائرةٍ بيئية أمجادها. ربما لأننا اعتدنا طويلًا على لوحاتِ رفائيل وأعمال مايكل أنجلو، لا نعرف بعدُ كيف نتأمل ونعجب، كما يلزم، بأعمالِ برويجل Bruegel ودُورَر؛ أعني الفنانين من أمثال فيم فندرس وجان لوك غودار، الذين يصوِّرون على تُخوم الصحراء، المتغيرات الشذرية والفضاءات الحضرية التفاعلية، أيْ آخر حالة تقنية وَصَلتْها الطبيعة شمالَ الكوكب الأرضي.
١  Alain Roger, Nus et paysages. Essais sur la fonction de l’art, Paris, Aubier, 1978.
٢  Anne Cauquelin, L’Invention du paysage, Paris, Plon, 1989.
٣  Svetlana Alpers, L’Art de dépeindre, la peinture hollandaise au 12e siècle, Gallimard, 1983.
٤  Pascal Bonafoux, Les Peintres et l’autoportrait, Genève, Skira, 1984.
٥  Augustin Berque, Médiance, de milieux en paysages, Montpellier, G.I.P., Reclus, 1990; Le Sauvage et l’artifice. Les japonais devant la nature, Paris, Gallimard, 1986.
٦  Michel Serres, Le Tiers-instruit, Paris, François Bourin, 1991.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤