العصور الثلاثة للبصر
أنا لا أرغب في الضَّياع في التفاصيل؛ لذا سأتحدَّث عن ثلاثة أقسام، ولْنسمِّها ثلاثةَ عصور، تبدأ من نهضة الفنون إلى يومنا هذا، وكل واحد منها يتميز عن الآخر بميزةٍ بيِّنة.
إنَّ القطائع الوسائطية الثلاث (الكتابة، والطباعة، والسمعي البصري) تُفرز في زمن الصور ثلاثَ قارات متمايزة: الصنم، والفن، والبصر. ولكلٍّ منها قوانينها. وكلُّ خلط بينها يؤدي إلى غموضٍ لا جدوى منه.
نقط الاستدلال الأُولى
لن نهتمَّ هنا إلا بالتسلسل الزمني لعمليات التحليل في حدِّها الأدنى والمختصرة إلى حدِّها الضروري.
كلُّ واحد حرٌّ في استعمال معجمه، فقط عليه أن يحدِّد كلماته. هذا ما سعى إليه كتابنا «درسٌ في الوسائطيات العامة»، وذلك بالتمييز المفصَّل للعصور الوسائطية الثلاث. فهل تستطيع التقطيعات التي نُدخِلها في ممارسات الإنسان، تبعًا لتطور تقنياته في الإرسال، أن توضِّح لنا مسير الصور؟ يبدو أن ذلك ممكن. لنميِّز في البدء ثلاثة مفاصل.
كلُّ واحد من هذه العصور يرسم وسطًا حياتيًّا وفكريًّا له ترابطاته الداخلية الضيقة، ونظامًا بيئيًّا للرؤية، ومن ثَم أفقَ انتظارٍ معيَّن للنظر (إذ لا يُنتظر الشيء نفسه من تمثالٍ لزيوس، ومن صورة شخصية أو كليب)؛ ونحن نعرف أنَّ لا واحدَ من هذه العصور الوسائطية يطرُد الآخَر، وكيف أنها تتناضد وتتداخل الواحد في الآخر. إنها هيمناتٌ متتالية تتناوب على السطوة. وعِوض البحث عن القطائع؛ علينا البحث عن حدودٍ على الطريقة القديمة، كما كانت موجودةً قبل نشأة الدولة-الأمة. إنها مناطقُ ختمٍ وحواشٍ للتَّماسِّ ومسيراتٌ تسلسلية واسعة، كانت تضمُّ في الماضي قرونًا ولا تشمل اليوم سوى بعض العقود من الزمن. وكما أن المطبعة لم تمحُ من ثقافتنا الأمثالَ والأقوال المأثورة الوسيطية، أي العمليات الذاكرية الخاصة بالمجتمعات الشفوية، كذلك لا يمنعنا التليفزيون من ارتياد متحف اللوفر (بل العكس)، وقِطاع التحف القديمة المصرية ليس موصدًا أمام العين التي تشكِّلها الشاشة. لن نكرِّر ذلك، فليس ثمَّة من تقطيعٍ لم يوجد فيما مضى. فبدون ذلك لا يمكن لتلك العصور أن تتوالى وتترابط، وكل واحد مبذور في سابقه، وإن لم يكن ذلك في المكان نفسه وبالحدَّة نفسها.
كلُّ هذا لنقطع دابرَ اعتراضٍ شائع. فبالفعل، كلُّ واحدٍ يتفحص النظرة عبر الأشكال التشكيلية وحدها؛ سيلاحظ حتمًا أنَّ السلطة والمال يظلَّان قاتِلَي «الفنِّ» منذ العصور القديمة. أليس ثمَّة جديدٌ تحت الشمس؟ سيكون علينا البرهنة على أنَّ معمل الفنان الأمريكي أندري ويرول، كان يوجد في ورشةِ رامبراندت (هذا المسيِّر الماهر الخبير بأمور الدعاية والعلاقات العامة، والذي كان «يعشق التشكيل والحرية والمال»)، وورشة المعلم في معمل الحرفي، حيث سيأتي الإسكندر الأكبر ليَهبَ لأبيليس عشيقَته؛ وأنَّ تعقيدات المعاهدة التي تجمع سيكست الرابع مع رافائيل تضاهي معاهدةَ معامل رونو والفنان دوبوفي؛ وأنَّ رعاية الآداب والفنون التي تقوم بها الشركات ليست أقلَّ نفعًا وضرورة مقارنةً مع رعاية كايوس وكلينيوس، المدعِّمان للفنون في عهد القديس أوغسطين؛ وأن مؤسسات الإحسان الأمريكية مضاهيةٌ في الكرم لبطليموسات الإسكندرية؛ وأن سوق الفن قديمٌ قِدَم الفن (وهو في الحقيقة سابقٌ له). وبدون الهم الإشهاري للمحسنين وداعمي الفن في المدينة الإغريقية (حتى لا نتحدث عن لوران الرائع وفرانسوا الأول) كانت أثينا وديلف ستظلَّان أكماتٍ ذاتَ أحراشٍ مُوحِشة. إننا لن نفلت من حكمة هذه الأمم. وبما أن صانع الصور، في العالَم الكاثوليكي، ومنذ ألفٍ وخمسمائة سنة، يعتبر مانحَ العظَمةِ للعظماء؛ فإن الأمر يتعلَّق، فيما يخصُّنا، بمعرفةِ ما إذا كان نفسَ نمط الأشخاص الذين عمِلوا بالتتالي على صنْعِ مجْدِ المسيح ومدينته، والأمير والبورجوازي الكبير جمَّاعة التُّحف، ومؤسسة أوليفيتي، أو أوليفيتي شخصيًّا، لهم آثار الحضور والقوة نفسها.
•••
علينا الربط بين هذه اللحظات في ترافلينغ خلفيٍّ واحد، لأنها تؤسس نفسها في التقدُّم نفسه؛ هذا التقدُّم الذي يجمع بين السرعة التاريخية والتمدُّد الجغرافي.
إنَّ الصنم، باعتباره اختصارًا للمثال الزمني، هو صورةُ زمنٍ جامد وإغماءةٌ أبدية وسفرٌ عمودي في اللانهائي الجامد للإلهي. الفنُّ بطيء، غير أنه يُفصح عن صورٍ متحركة ويعرضها. أمَّا بَصريُّنا فهو في دوران قارٍّ، كما أنه عبارة عن إيقاعٍ خالص مسكون بالسرعة.
إنه توسيع لمجالات التحرك. فالصنم محليٌّ ومنتمٍ لمَوطنه انتماءً لا يتزعزع، ومنغرِسٌ في تربةٍ عرقية معينة، بينما الفن غربي. إنه ريفي، لكنه متحرِّك وله ملكةُ السَّفر (دُورَر في إيطاليا، ليوناردو في فرنسا … إلخ). أما البصري فهو عالمي (أي أنه رؤيةٌ عالمية)؛ لأنه منذورٌ منذ الصُّنع إلى الذيوع عالميًّا.
•••
على عكس المرحلتَين اللتين تُؤطِّران الغرب، يبدو الفن للتوِّ مخصوصًا بالغرب. بيد أن هذا الأخير ليس كتلة متناغمة، والمجتمعات الغربية لم تدخل عصر الفن في الوقت نفسه. لقد دخلت إيطاليا في المقام الأول قبل هولندا، التي تبعتْها في القرن السابع عشر، وهذه الأخيرة قبل فرنسا التي لم تدخله كليةً إلا في القرن الثامن عشر، ومعها الترسانة الاجتماعية والتقنية القائلة «بالذوق». وستأتي ألمانيا لتمنح لهذا العصر بعد ذلك مباشرةً أمجادَه الفلسفية، بدءًا من هذا المفهوم المبتكَر المسمَّى جماليات (إستطيقا) (فقَدْ نشر بومغارتن إستطيقاه سنة ١٧٥٠م). أمَّا العالَم السلافي والإغريقي فقد ظلَّ طويلًا وربما حتى اليوم، منتميًا إلى عصر الأيقونات كما خلَّدته ونقَّحته الكنيسة واللاهوت الأرثودوكسيَّان. ففي فرنسا نفسها سنة ١٩٥٣م، حين أثار الرسمُ الذي قام به بيكاسو لستالين، غداةَ وفاة القيصر الأحمر، حفيظةَ الحركة الشيوعية؛ بدأ انبثاقٌ جديد، عن طريق موسكو، للمقدس البيزنطي ألف سنة فيما بعد، أي عودة فجائية للعصر الأول في نهاية العصر الثاني. إنه اختلالٌ زمني يُفسِّره إعادة تنشيط الأتوقراطية الشيوعية للمواقف الأرثدوكسية وما قبل الفنية وما قبل الإنسانوية.
نظرةٌ بانورامية (انظر ٤-١)
يُشير المسير الطويل للصورة إلى نزوعٍ نحو انخفاضِ المردودية الطاقية. وبتعبيرٍ يلائم الذهنية الجماعية، يَضمن المقطع «صنم» الانتقالَ من السحري إلى الديني. إنه مسارٌ طويل، لن يخلق فيه ظهور المسيحية أيَّ تغيير جذري، وهي مفارَقة سنعود لتحليلها لاحقًا. فالمعتقد الجديد قد تبنَّى خطاطات الرؤية التي سادت العالَم القديم ودخَلَ فيها (كما فعَلَ ذلك بخصوص بنيات سُلطته السياسية)، مع رفضها نظريًّا. هكذا ظلَّت الصورة في تركيبتها القديمة والمسيحية، بشروحها ورمزيتها، صورةً وثنية جديدة، بل صورة رومانية عتيقة.
في العصر الأول، لم يكن الصنم مسألةً جمالية وإنما دينية؛ له رهاناتٌ ذاتُ طابعٍ سياسي مباشر. وفي العصر الثاني، حصَلَ الفن على استقلاله الذاتي بالنظر إلى الدِّين، مع بقائه تابعًا للسُّلطة السياسية. إنها مسألةُ «ذوق». وفي العصر الثالث، تقرِّر الدائرة الاقتصادية وحدها في قيمة الصورة وتوزيعها؛ إذ المسألة مسألةُ قدرةٍ شرائية. ولأنني هاوٍ للثقافة المسيحية، فبإمكاني اليوم، ومن دون أن أغادر أوروبا الصغيرة، التوصُّل إلى قارَّات الصورة الثلاث هذه، لكنْ عبْرَ تغييرِ زادِ سفري كلَّ مرة؛ من كتاب القداس، إلى الدليل الأزرق ودفتر الشيكات.
التصوير له … |
في عصر الخطاب (بعد الكتابة) نظام الصنم الحضور (المتعالي) الصورة رائية |
في عصر الكتابة (بعد الطباعة) نظام الفن التمثيل (الوهمي) الصورة مرئية |
في عصر الشاشة (بعد السمعي البصري) نظام البصري التخيل (الرقمي) الصورة مشاهدة |
مبدأ فعاليته (أو علاقته بالوجود) |
حيُّ الصورة كيان |
ماديُّ الصورة شيء |
افتراضيُّ الصورة إدراك |
المرجع الحاسم (مصدر السلطة) |
الخارق (الله) |
الواقعي (الطبيعة) |
الإنجازي (الآلة) |
مصدر النور |
روحاني (من الداخل) |
شمسي (من الخارج) |
كهربائي (من الداخل) |
الهدف والتوقُّع … |
الحماية (والخلاص) الصورة آسرة |
المتعة (والحظوة) الصورة فاتنة |
الإخبار (واللعب) الصورة لاقطة |
السياق التاريخي |
من السِّحر إلى الديني (الزمن الدائري) |
من الديني إلى التاريخي (الزمن الخطي) |
من التاريخي إلى التقني (الزمن الدقيق) |
الأخلاقيات |
خارجية (وجهة لاهوتية سياسية) |
داخلية (الإدارة المستقلة) |
محيطة (تدبير تقني اقتصادي) |
نموذج ومعياره العمل |
أحتفي (بقوةٍ معينة) انطلاقًا من الكتابات المقدسة (الناموس) |
أبتكر (عملًا) تبعًا للقديم (النموذج) |
أنتج (حدثًا) انطلاقًا من نفسي (النمط) |
الأفق الزمني (والسند) |
الأبدية (التكرار) (صُلب الخشب أو الحجر) |
الخلود (التراث) مِطواع (القماش) |
أخبار الساعة (التجديد) غير مادي (الشاشة) |
نمط الإسناد التخصصي |
جماعي = مجهولية (من الساحر إلى الحرفي) |
شخصي = توقيع (من الفنان إلى العبقري) |
فرجوي = تميز شعار بصري، علامة (من المقاول إلى المقاولة) |
الصانعون منظَّمون في … | طبقة الإكليريكيين – تعاضدية مهنية | أكاديمية – مدرسة | شبكة – مهنة |
موضوع التعبُّد |
القديس (أحميكم) |
الجميل (أنال إعجابكم) |
الجديد (أثير دهشتكم) |
محْفل الحُكم |
(١) خوري: الإمبراطور (٢) إكليروسي: الأديرة والكنائس (٣) بنالي: القصر |
(١) ملكي: الأكاديمية (١٥٠٠–١٧٥٠م) (٢) بورجوانية = الصالون + النقد + الرواق ١٩٦٨م |
وسائل الاتصال/المتحف/السوق (الفنون التشكيلية) الإشهار (السمعي البصري) |
القارة المصدر والمدينة الممر |
آسيا = بيزنطة (فيما بين: ما قبل التاريخ، وعصر المسيحية) |
أوروبا - فلورنسا (بين عصر المسيحية والحداثة) |
أمريكا - نيويورك (بين العصر الحديث، وما بعد الحديث) |
نمط التراكم | عمومي: الخزينة | خصوصي: المجموعة الشخصية | خصوصي/عمومي: النسخ |
الهالة | جماهيرية (محركة) | كآبة (محركة) | لهوية (تنشيطية) |
المنزع المرضي | الرُّهاب | الهوس | الفُصام |
منحى الرؤية | العرافة تتنقل عبر الصورة | الرؤية تتأمل أكثر من الصورة | المشاهدة تضبط وتتحكم في الصورة فحسب |
العلاقات المتبادَلة | الصراع الشخصي | المنافسة (الاقتصادية) |
لكلِّ مرحلة نمطُ تنظيمها المهني؛ فقد كان لصانعي الصور الوسيطيين هيئاتهم الحِرَفية، وللفنانين أكاديميتهم، وللإشهاريين شبكتهم المتخصِّصة. لم يملك الحِرَفي مكانًا مستقلًّا للعمل (إلا في روما). فمكتب مصوِّر المنمنمات كان تابعًا للدِّير أو الجامعة، وكان المزخرِف يشتغل على جدارياته مباشرةً في الجامعة أو القصر. أمَّا الفنان فيشتغل في معمله الخاص. هذا، فيما يعمل رئيس المقاولة في مصنعه ويرتبط بزبائنه بالفاكس أو الحاسوب. وقد قال الفنان الأمريكي أندي ويرول: «إنَّ إتقان إدارة الصفقات هو أكثر الفنون جاذبيةً وفتنة.» كان المطلوب من الفاعل الأول أن يكون أمينًا، أي أن يكون ناسخًا؛ ومن الثاني أن يكون مُلهَمًا، أي أن ينتج عملًا خلاقًا؛ ومن الثالث أن يكون مبادِرًا، أي أن يكون عمله الإذاعة والنشر؛ إذ إنَّ هامش فاعليته أكبر. فنحن لا ننتظر منه بالضرورة موضوعًا زخمًا أو إنتاجاتٍ ثقيلةً. وإضافةً لذلك، فإنه يتمتع بالطابع اللامادي العام للحوامل. كان المصوِّر الوسيطي ينحت الحجر، أو الخشب؛ وكان الفنان يشتغل عادةً على القماش المثبت على إطارٍ خشبي؛ أمَّا البصري، فإنه يُصنع بدون لمسٍ، أي بواسطة الإلكترونات.
لكلِّ مهنةٍ مختلفةٍ رمزُها المختلِف. فقد كانت الهالة والشعاع رمزَ إنسان الصنم، الذي كان خاضعًا خُضوعًا مزدوجًا لوصاية اللاهوت والعناية الإلهية. وكانت المرآة والبركار رمزَين لمايسترو عصرِ النهضة، الذي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالسفريات والهندسة، أي بالغرفة المعتِمة والمنظور. وقد قال ليوناردو بهذا الصدد: «المِرآة معلِّمة الرسَّامين.» أما رمز «محترفي» البصري؛ فهو اللصاق والمِقص (أو القص واللَّصق المعلوماتيَّان)، وعليهم ليس فقط الاستشهاد واللصق والإرجاء وتغيير الاتجاه، والتقليب، شرط القيام بذلك بسرعة، كما يقوم بذلك كل الناس؛ ومن ثمَّة جَعْل الحجم والقيمة في متناول الجميع، وكلما أمكن ذلك. كما أن أندي ويرول قد قال: «لماذا يظنُّ الناس أنَّ الفنانين أشخاصٌ من نوع خاص؟ إنهم فقط يقومون بعملٍ مغاير.»
الإشارة والأيقونة والرمز
من الناحية المفاهيمية، يتقاطع تتابُع «العصور» جزئيًّا مع التقسيم الذي أقامه المنطقي الأمريكي شارل ساندرس بورس بين الإشارة والأيقونة والرمز في علاقتها مع الموضوع. لنذكرْ باختصارٍ وتبسيط شديد هذه الطرقَ الثلاثة في التواصل مع الآخرين. الإشارة جزءٌ من الموضوع، أو هي مجاورةٌ له؛ إنها الجزء من الكلِّ أو هي تأخذ مأخذَ الكل. إنَّ رُفات قديسٍ ما، بهذا المعنى، إشارةٌ؛ فعظم القديس الموجود في لحْدِه هو هو القديس. كما أنَّ أمارة المشي على الرمل هي الخطوة، ودخان النار البعيدة إشارة إليها. أما الأيقونة فهي تشابه الموضوع من دون أن تكون منه. إنها ليست اعتباطيةً، وإنما محفزةٌ بتطابُقٍ في الحجم والشكل. فنحن نتعرَّف على القديس من خلال صورته الشخصية، لكنَّ هذه الصورة تنضاف إلى عالَم القداسة، وليست مُعطاةً معه. إنها عملٌ فني. بينما الرمز لا علاقةَ تناظريةَ بينه وبين الموضوع، وإنما هو اصطلاحي؛ وبما أنه اعتباطي بالعلاقة معه فإنه يُفكُّ بواسطة شفرةٍ أو سَننٍ. ذلك هو أمْر لفظ «أزرق» بالعلاقة مع اللون الأزرق. إن هذه التمايزات المعاصرة، الصالحة صلاحيةً كُبرى لتحليلنا؛ ليس بها من خللٍ سوى أنها تتداخل مع سجلٍ أقدمَ وأكثر مصداقيةً. فالأيقونة الأرثودوكسية مثلًا «إشاريةٌ» بالنظر إلى خصائصها الإعجازية (لقد كان المتسوِّلون في روسيا يضعون الأيقونات قلاداتٍ في أعناقهم، ويجعلون منها تمائم). كما أن أولوية التماثيل على التشكيل لدى القدماء يعبِّر عن قُربها من الإشارة، أي من مادية الأجسام. فالحجم والقالب والأبعاد الثلاثة كانت قولبةً وظلًّا خالصًا. وفي الطرف الآخر، يؤكِّد غياب التماثيل من النحت الحديث إرادةً في اتباع النظام الخالص الأكثرِ تجريديةً ورمزية.
الصورةُ الإشارةُ فاتنةٌ؛ فهي تكاد تدعو إلى المداعبة واللَّمس. وهي ذات قيمةٍ سحرية. أما الصورة الأيقونة فهي مدعاةٌ للمتعة، وهي ذاتُ قيمةٍ فنية. بينما الصورة الرمز تتطلَّب مسافةً معيَّنة، ولها قيمةٌ اجتماعية، باعتبارها علامةً على وضعيةٍ ما أو سمةَ انتماءٍ معيَّن. الأولى مذهلةٌ، والثانية تتأمل نفسها، والثالثة فقط محترمة؛ لأنها تُرى في ذاتها ومن أجل ذاتها.
ما وراء المرئي في نظام «الصنم»؛ هو معياره وعلَّة وجوده. والصورة، التي تمتح منه هالتها القدسية كلها، تغدو تمجيدًا لمَا يتجاوزها. وفي نظامِ «الفن» يكون ما وراء التمثيل هو العالم الطبيعي؛ فلكلِّ واحدٍ هالته، والمجد مشترك. أما في نظام «البصري» فالصورة تغدو مرجِعَ نفسها، والمجد كلُّه حِكرٌ عليها.
إنَّ طبقات الصورة الثلاثة هذه؛ لا تعيَّن طبائع موضوعات، وإنما أنماط امتلاك بالبصر. وإذا ما نحن رغبنا، ولو على سبيل اللعب، أن نجعل منها «لحظات» بالمعنى الهيجيلي؛ فعلينا ألَّا ننسى أننا معاصرون لتلك الطبقات الثلاث جميعها، وأننا نحملها في ذاكرتنا التكوينية. وإذا كانت الجسور لم تُقمع بعدُ بين الحيوان والإنسان، وبين «القُنزعة وريش القنزعة، وبين الظفر والسيف، وانحناءات الحمامة والحفلة الراقصة القروية» (كما يقول لوروا غوران)؛ فإنها ليست أقلَّ انقطاعًا اليوم بين صورة الأمس وصورة اليوم. تغيِّر حياتنا اليومية إيقاعَ درجات المرئي، ونحن نبدِّل نظرتنا كما نغيِّر سرعةَ سياراتنا. وما دام الصنم ينبع من الطبقات الأكثر إيغالًا في النفسية الإنسانية، فإنه ربما هو الذي سيُثيرنا بشكلٍ أخطر؛ لأن استثارته تلك أكثر لاوعيًا. وكما أنَّ الفن الحديث، يملكُ، مثله مثل الرُّوح الأفلاطونية، حياتَه السابقة في مصر وآشوريا؛ فإن عيننا أيضًا لها حياتها السابقة في المكبوت الكبير لسحر الصَّيد. ولأننا نملك مخَّ وجمجمةَ الإنسانِ الأول نفْسَها، فإن هذا الأخير يفهمنا أكثرَ مما نفهمه نحن. إنه يحسُّ ويتنفس فينا بالرغم من أنَّ ذكاءه يُفلت من إدراكنا. فصورة رئيس الجمهورية المؤطَّرة المعلَّقة في مكتب رئيس الشرطة؛ تلعب الدَّور نفسه الذي لعبتْه صورة إيزيس في القاعة المعمَّدة لمعبد إيدفو، وهو الدور الذي تجاوَزَ مجرَّد كونِه إشاريًّا أوتزيينيًّا. إنَّ إيزيس ماثلٌ هناك مثله مثل الرئيس، شخصيًّا، وهما ينظران ويراقبان ما يُفعل ويقال في حضرتهما. كما أنهما يمنعان مَن يقفون تحتهما أو جنبهما، سواءٌ كانوا رهبانًا أو موظفين، من فعلِ أو قولِ أيِّ شيء. هذه الصور تحدِّد ممالكَ معيَّنةً وتمارس على مَن يوجد بها عنفًا رمزيًّا، مبيحة لهم تحويل هذا «العنف الرمزي» وممارسته على مرْءُوسيهم. والانفلات من وصاية إيزيس أو الرئيس؛ يتطلَّب تحويل أو بتر تمثيلاتها المصوَّرة، أو الإجابة عن الامتلاك الرمزي بالعنف المادي، وهو ما قام به الأقباط المسيحيون حين حطَّموا، في وسط مصر، منحوتاتِ الآلهة الفرعونية؛ قصدَ تحويل معابدها إلى كنائس، وقد مطرقوا بالأساس عيونها وأيديها وأرجُلها باعتبارها أعضاءَ الحياة. وهو أيضًا ما يقوم به، بالطريقة الأكثر لباقة، تبعًا للطابع المتغير للصور الرسمية، موظَّفونا الرسميون، وذلك بتغيير الصورة المعلَّقة على الجدار عند حلول الانتخابات الرئاسية الجديدة.
الكتابة في البدء
وبما أن رسوم العصر الحجري القديم تعود إلى تركيبة دالةٍ مُسَّننة كليةً (ونحن نجهل مفاتيح فكِّها)؛ فإن هذا الانفكاك الوسائطي على عتبة عصر الخِطاب يعيِّن ولادة «فُنوننا التشكيلية». وإذا كانت الآثار الأولى للكتابة قد ظهرت في أواسط الألف الرابعة قبل الميلاد في بلاد الرافدين؛ فإن الحروف الهجائية الصائتة الأولى، أي الفينيقية تعود إلى حوالي ١٣٠٠ قبل الميلاد، والحروف الهجائية ذات الصوامت، أي الإغريقية، تعود للقرن السابع تقريبًا. وإذن، فإن بلاد الإغريق، بين القرن اﻟ ١٢ والقرن اﻟ ٨ قبل الميلاد، كانت تجهل الكتابة والتشخيصَ التشكيلي. وبخروجها من هذا النفق اكتشفَت الاثنين معًا. كل شيء يبدو إذن كما لو أنَّ تجريدية الرمز المكتوب قد حررَت الوظيفة التشكيلية للصورة، من حيث هي وظيفةٌ تنافسية ومكمِّلة للأداة اللغوية.
أما الدليل بالتضاد، فتقدمه لنا وضعية الصور في الحضارات الشفهية. فالصور كانت فيها تَشْغل وظيفة العلامات. فهذه الصور الدالة ليست تمثيليةً؛ وإنما تقوم بالتعيين والإشارة. وتشهد على ذلك الثقافة الماقبل كولمبية للمكسيك التي كانت تقريبًا محرومة الكتابة، والتي كانت تتواصل عبْرَ الصورة (بما أن الكتابة التصويرية كانت هي وسائط المحفوظات الشفهية). تشهد على ذلك أيضًا المنحوتات الزنجية والأقيانوسية الأكثر زخرفيةً. إنَّ الأعمال التشخيصية ﻟ «البدائيين» أبعدُ ما تكون عن محاكاة المظاهر؛ فهي أدواتٌ للمعنى. وهي لذلك أصْلح لفكِّ الرموز منها للتأمل. ففي عالم لا أرشيف له تُعدُّ كل الأدوات صالحة لأنْ تكون حواملَ للذاكرة، من مطرة الكرنيب إلى القبقاب الخشبي الذي ينتعله راعي الماعز. فالمَقصد الجمالي لا ينفصل هنا عن المقصد السحري والأيديولوجي. والأطفال يتعلمون صناعتها كما نتعلم نحن القراءة والكتابة. وبالضبط لدى الشعوب التي لا تملك كتابةً؛ يمكننا الحديث، بصرامة، عن لغةٍ تشكيلية. فالسَّنن يلتهم لديها الشكل، والعام يلتهم الخاص، حتى لو استطعنا دائمًا تحويلَ هذه الأدوات الاستعمالية العُرفية والمضبوطة بدقَّة، كي تخدم غاياتٍ جماليةً، وبالأخصِّ غاياتنا الجمالية نحن. فالمفارَقة تكمُن في أن رفض الطبيعية الوصفية — أيْ لعبة الخطوط والمساحات الخالصة — يجعل من هذه الصور أكثرَ قرابةً لنا. إن تجريديتها تبدو لنا قمَّة الأسلوب حين تكون تلك التجريدية نفيًا له، باعتبارها منتَجات مطابِقة لحاجات الإنسان وقابلة للتبادل وشعائرية، وتنبع من قاعدة الحياة الاجتماعية. والمنحوتات على الخشب التي تنتجها شعوب الفانغ والبانوبي عبارةٌ عن أشكال قصوى للنزعة الثقافية، وهي تنسجم مع منزعنا الثقافي الذي ينعكس فيها بمتعة. هكذا نرى مثقفيَّة الاستنفاد (أو نهاية الدورة)، أي مثقفيتنا، ترتد عبر مثقفية الضرورة، أي مثقفيتهم ساعيةٌ إلى النهْل منها.
عصر الأصنام
إنَّ عصر الأصنام، الذي يوجِب على الغرب تحمُّل مسئوليته باعتباره عصرَه؛ يجهل، لذلك، القطيعةَ بين الوثنية والمسيحية. إنه الأساس الأصلي للصور، والقاعدة الغائرة للهرم الذي شكَّل «الفنُّ» قمَّته الظاهرة من وقتٍ قريب. فما يمثِّله علم الإحاثة لتاريخ المجتمعات، أو المحيط الهادي لجُزر توفالو، تمثِّله الألفيات الجامدة للتصوير بالنسبة للمطاف القصير المسمَّى «تاريخ الفن». وبإمكاننا مدُّ هذه الفرشة الأصلية للتمثيلات الأورينياسية حتى فَجْر الكواتروشنتو (القرن الرابع عشر)؛ إذا ما أخذنا هنا بالاعتبار القطيعةَ التي جاءت بها الكتابة. فهذه الأخيرة قد اختصرت (من٣٠ ألف سنة إلى ٣ آلاف سنة قبل الميلاد) المرحلةَ السحرية الدينية للصنم (المنحوت والمرسوم) في الثقافات ذات الطابع التاريخي التي احتفظنا لها بوثائقَ مكتوبةٍ، أعني الإمبراطورية المصرية الأُولى، والعائلات المَلكية الأولى لبلاد الرافدين.
باختصار، فإن المرحلتَين تتشابهان بكون الصورة المرئية تحيل مباشرة على اللامرئي، ولا قيمةَ لها إلا كمحطة. وكما أنَّ الروحاني يتغلَّب على الدَّهري في مدينة السَّيفَين؛ فإنَّ بدَنَ الصورة أقلُّ أهميةً من الكلمة التي تسكنها في مدينة الأصنام. وفي كتاب القداس، تكون الكتابة المقدَّسة هي ما يمنح المشروعية للمنَمْنمة، التي ليس لها من وجودٍ خاص بها. وعلينا ألَّا ننسى أن صنم اللاهوتي هو أيقونة الديانة الخصم (كما أن أيديولوجيا الصحفي هي فكرةُ عدوه). الصنم صورةُ إلهٍ غير موجود. لكن مَن يقرِّر في هذا اللاوجود؟ وسواءٌ كان الصنم حقيقيًّا أو مزيَّفًا فالمهم هو أن يكون داخل تشخيص الإلهي أو خلفه، أي خلف القوة والجبروت. ذلك هو معيار الجمع بينهما في عصرٍ واحد؛ فالصورة الفنية «ذاتُ أثرٍ» مجازي، والصنم ذو أثرٍ واقعي وبالطبيعة.
عصر الفن
الفن بحقٍّ نتاجٌ للحرية الإنسانية، لكنْ ليس فقط بالمعنى الذي أراده له كانط، حين قال بأن عمَلَ النحل ليس عملًا فنيًّا وإنما أثرٌ للطبيعة (لأنَّ الشهد الشمعي ليس مبنيًّا تبعًا لهدفٍ معين).
إن الحرية التي يؤكدها الفن ليست حرية المَقْصد بالعلاقة مع الغريزة، وإنما حرية الخليقة بالعلاقة مع الخالق. فحرية الناس عمومًا، بما أنهم ليسوا بنحلٍ، ليس لها من تاريخٍ سوى حيواني. وحرية الفنانين بالخصوص تنتمي في كليَّتها إلى التاريخ؛ لأنها اكتسبت قبلًا المنزعَ الإنساني ضدًّا على اللاهوت. إنه تحرُّر؛ لهذا فالفن ليس خاصيةَ النوع (الإنساني أو غيره)، وإنما خاصية الحضارة.
يمكن التعرف على ولادة الفن بإنتاج فضاءٍ مادي ومثالي ومَدَني وحضاري في الآنِ معًا. إنه يولد في اجتماعِ مكانٍ وخطاب ما. وما يحدِّد الفن، باعتباره اصطلاحًا ينسحب على هذا الفن أو ذاك باعتباره جنسًا فنيًّا (كالمسرح والرواية والرقص والسينما … إلخ).
إنه مكانٌ ملائم يستقرُّ فيه لحسابه الخاص بمعزِلٍ عن المعبد أو القصر، وموقعٌ لحفظ الأعمال والعرض والزيارة، يكون في أصل «الأثر التراثي» عبْرَ خزن الآثار والمؤهلات، أي بوجود خزانات المنحوتات واللوحات والسينما وأفلام الفيديو. وبالتجاور معه، يوجد فضاءٌ خطابي متميز عن الأساطيرية واللاهوت، ويتبع آثاره وسائطيون متخصِّصون ونقَّاد ومعلِّقون يتوجَّهون إلى جمهورٍ عارف، تبعًا لمعايير داخلية (لجان تحكيم، مباريات، مهرجانات … إلخ).
إنَّ خلْقَ قيمة الاحترام، يتمُّ عبْرَ خلقِ مكانٍ خاص وكذا عبر التفسير. فالمأوى هنا قانون، والخزانة السينمائية هي التي خلقَت عاشقَ السينما.
•••
«المتحف» هو معبد ربَّات الفن، وقد رأينا أن الأساطير الإغريقية لم تعرف ربَّات فن خاصة «بالفنون التشكيلية». فقد كانت معارض الرسوم ومتاحف التماثيل في العصر الهيليني والروماني خصوصيةً (وقد كانت آنذاك في الغالب عبارةً عن غنائم الحروب التي تمَّ خزْنُها في بيوت السفراء أو الجنرالات المنتصِرين). وكان متحف الإسكندرية معروفًا أولًا بمكتبته الشهيرة. أما في العصور الكلاسيكية، فقد كانت الكنوز تُراكَم في الأضرحة الدينية كما كانت تراكم الأعطيات (أي «أعمالنا الفنية») في المعابد، ثم في الكنائس والكاتدرائيات. هكذا كان أمرُ الكنوز الوسيطية التي كانت تراكم في القصور؛ وذلك قصد الوفاء بالحاجات والواجبات الملَكية من حروبٍ وديونٍ وتجارةٍ (وهي بهذا المعنى أقرب من المخزونات الاحتياطية الموجودة في أقباء بنك فرنسا المركزي منها إلى ما نعنيه اليوم بالمجموعة الفنية أو التُّحف).
وسوف يتم إلحاق ولادة خِطاب التبرير مباشرةً بولادة مجموعات التُّحف الفنية للهواة (فاساري، ١٥٥٠م). وسوف يتسامى التاريخ والنقد في عصر الأنوار في الجماليات الفلسفية، المعاصرة للمتاحف الوطنية الكبرى الأولى.
حين يرفع المواطن الإغريقي أو الروماني أو المؤمن البيزنطي أو الوسيطي؛ عينَيه نحو الصورة المقدَّسة أو الإلهية، لا يسَعه سوى أن يغضَّ البصر. «فما يقع عليه هو نظر الربِّ»؛ لذا فهو يرسم الصليب وينحني. لا أحدَ بإمكانه امتلاك صنَمٍ يرسل لمعانه على البشر. لا صاحب له ولا مالك. إنه في استقلالٍ تام؛ لأن العلامة الصادرة من فوق لا تملك توقيعًا إنسانيًّا. وبلورة الصنم يعني تلقِّيه أيضًا؛ لأن الربَّ هو الذي يرسله. بيْدَ أن ابتكار المنظور الهندسي سوف يكسِّر هذا الخشوع. إنه سيجعل من النظرة الغربية نظرةَ أنفةٍ واثقة من نفوذها ووضوحها. إنَّ الاكتشاف المجهد الذي قام به المهندسان المعماريان برانِلسكي وألبيرتي (اللذين سوف ينقلان هذه الطريقة للتشكيليين) يستحقُّ اسمه؛ لأنه سيمكنه من إشاعة النور، أي إغراق الغرائب والعمق المزدوِج للمرئي في شفافيةٍ إنسانيةٍ خالصة.
لن نعود للنقاش الذي يرمي إلى معرفةِ ما إذا كانت الفجوة الرئيسية التي جاء بها المنظور، تمثِّل منتهًى لمقاربةٍ بطيئة للواقع الموضوعي، الذي توصَّل أخيرًا إلى واقعه الموضوعي، وانتهى إلى الإمساك المباشر والأمني بفضاءٍ مطلق، أم أنه «شكلٌ رمزي» من بين قدْرٍ كبير من الأشكال الممكنة، أي منهج وسَنَن ذاتي لا مشروعيةَ عِلمية لهما، ووَجاهتهما ثقافية، إذ يعودان إلى حالةٍ حضارية معينة. بيْدَ أن كل شيء يجعل بانوفسكي ومدرسته على حقٍّ، إذ يتعلَّق الأمرُ بأسلبةٍ لا بمحاكاة. ففي مسرح العالم (والسينوغرافيا تلعب دورها في الابتكارات)، يسرق الإنسان من الإله المكانةَ الأُولى. ولأنه غدا متوازيًا في نقطةِ اللقاء بين الخطوط المنظورية على الفضاء المستوي للَّوحة؛ فإنه أصبح الآن الممثِّل الرئيسي والمُخرج الوحيد لمكعَّبه المشهدي الصغير. إن نقطة اللقاء الوحيدة للخطوط المنظورية في عمق الحائط أو اللوحة؛ يوجد في محورِ زاويةِ النظر القارَّة والوحيدة، المنعزلة والوحيدة العين، أي هذا المُشاهد المتمركز حول ذاته والذي يستعرض الفضاءَ نفسه أمامه كما لو كان فضاءً جديدًا. ومع أنَّ القليل من اللوحات هي التي احترمَت الأنموذج النظري حرفيًّا، فإن تصغير الأحجام انطلاقًا من نقطةٍ مركزية لم يكن من غير نتائج. إن البناء المنظوريَّ يُضفي على الباني طابعًا بطوليًّا، أي ذلك الذي يملك صفاء الذهن ومعرفة قوانين الفضاء، والذي ينظِّم اشتغالها بنشاط. لقد كان لتذويتِ النظرة هذا، بدون منازعٍ، ثمَنُه: أي اختزال الواقع في المُدرَك. إنها بدايةُ نهايةِ النظرة التشويهية، أو دخول التعالي الصوفي (للمحرك الإلهي على الشيء الظاهر) في أزمةٍ سبَبُها البصريات. وقد حوَّلت هندسة المساحة الممتدَّة، عبر تربيع خشبة المسرح، العالَمَ الخارجي إلى تركيبةٍ من الأحجام والمساحات، متخفِّفًا إلى حدٍّ كبير من كثافته السحرية. لم يعُد جوهر المرئي هو اللامرئي؛ وإنما نسقًا من الخطوط والنقط، كما لو أنَّ التحليل التجريبي للأبعاد الثلاثة يتمُّ ضدَّ الروحانية، وكما لو أنَّ ما كان يُربَح من فضاءٍ للَّعب يُخسر من جهةٍ أخرى في قيمة الوحي. تلك هي نهاية التجليَّات وبداية الرسوم الإيهامية.
لم يعُد المتفرِّج المركزيُّ مملوكًا ممكَّنًا، وإنما المالك الفعلي للعمل الفني وسيِّد الأرقام والآلات. إنه الجَمَّاعة الخصوصيُّ لعجائب الطبيعة؛ فاللوحة مُؤَنْسِنة لكنَّها مخصِّصةٌ أيضًا. وستصبح سيادة الفردانية المبدِعة مغلقة وأكثر نخبويةً من الناحية الاجتماعية. فالعمل الفني يصدر عن رُوح الفنان الذي يوجِّهه لعارفٍ معيَّن. أما الصنم، فبما أنه صادرٌ من عوالم أخرى، فقد كان موجَّهًا للخلق بأَسْره. في بداية العصر الأول، لم يكن ثمَّةَ غير فنَّانٍ واحد هو الخالق المصوِّر. وفي نهاية العصر الثاني، لن يكون ثمَّة سوى خالقٍ واحد هو الفنَّان.
تنقسم الحِقَب إلى مراحل، والمراحل إلى عصور. وإذا كان هذا التقسيم ينطبق في الجيولوجيا على الحقبة التكوينية الرابعة للأرض، وفي مجال التاريخ القديم على العصر الحجري الأخير؛ فإننا لن نعتبره نافلًا بصدد الخمسمائة سنة الأخيرة؛ حيث لا مجال للمراهَنة على أن بييرو ديلَّا فرانسيسكا وبابْلو بيكاسو لا يخضعان للحُكم بنفس الكلمات.
هكذا عمل «فنَّانُنا» بالتتابع لحساب المجموعات الدينية والبلاطات الأميرية والملك وبلاطه وأكاديميته، والهواة والنقاد والصالونات، وأخيرًا، في عصر المقاولات، أي عصرنا، لحساب المقاولات والشركات ووسائل الإعلام والمتاحف. إنَّ هذا التقاطب ليس فقط سوسيولوجيًّا وخارجيًّا؛ فالمختصُّ في العمليات الجمالية لعصرٍ ما يضبط طبيعة الأعمال الفنية المنتَجة ولو بخلْقِ تراتبيةٍ معينة، كما في الماضي، في القيمة المتعلقة بالأنواع. إن مَن يرغب في رضى الآخَر مطالَبٌ أولًا بالإجابة عن حاجياته. ولا يخفى أن أسقُفًا أو سيدًا نبيلًا أو ملكًا أو شخصًا مرهفَ الذوق أو صاحب مصانع كبرى؛ ليست لهم المطالب نفسها. لقد عرف التشكيل المقدَّس الانحطاط مع ظهور القوة الدهرية للكنيسة؛ وانحطَّ التشكيل العظيم للتاريخ والتشكيل الأسطوري مع ظهور الملكية المطلقة، واندحر البورتريه والمَشاهد النوعية مع ظهور وتقوِّي البورجوازية التِّجارية. «اللماذا» يجيب على «اللماذا؟»، وإذا ما أبَحْنا لأنفسنا تفكيرًا نسقيًّا؛ فسنقول: إنَّ إدارة شئون الفن تعود في كلِّ عصر، للمجموعة الوساطية المركزية. ونحن نعني بذلك الفئة الاجتماعية التي تمنح لِلَحظةٍ معينة من تاريخ الغرب رُوحها وأسلوبها، لأنها تسهر على إدارة مقدَّسِ تلك اللحظة. لقد سهرت الكنيسة على إدارة شئون الربِّ والخلاص، وقامت البلاطَات الأميرية بإدارته شئونَ القوة والمجد، والبورجوازيات سيَّرت شئونَ الأمَّة والتقدم، والشركات المتعدِّدة الجنسية الربحَ والنَّماء. إنَّ حامِلَ قيم التوحيد، أي المقدس الاجتماعي، هو أيضًا الذي يبْزِلُ أفضلَ الفائض الاقتصادي. والجامع الرئيسي لفائض القيمة هو الذي يجمع الصورَ الأكثر تثمينًا. وما دام هو الذي يطلبها ويشتريها ويُشهرها، فإنه أيضًا وبديهيًّا حَكمُ الأناقات ومؤشِّر القيم؛ «إنَّ مَن يستأجر الجوقة الموسيقية هو الذي يختار الموسيقى.»
هذه الممارسات الجنائزية، لم تكُن تهتمُّ بوصايا القديس أوغسيطن؛ ففي كتابه: De cura pro mortuis geranda، يلاحظ هذا الأخير أنَّ البعث، بما أنه لا يرتبط بالدوام المادي للأجساد؛ فإن «المؤمنين لا يفقدون شيئًا إذا هم حُرموا من الكفن، كما أن الكفار لا يربحون شيئًا إذا هم كفِّنوا».