الفصل الرابع

العصور الثلاثة للبصر

أنا لا أرغب في الضَّياع في التفاصيل؛ لذا سأتحدَّث عن ثلاثة أقسام، ولْنسمِّها ثلاثةَ عصور، تبدأ من نهضة الفنون إلى يومنا هذا، وكل واحد منها يتميز عن الآخر بميزةٍ بيِّنة.

فاساري

إنَّ القطائع الوسائطية الثلاث (الكتابة، والطباعة، والسمعي البصري) تُفرز في زمن الصور ثلاثَ قارات متمايزة: الصنم، والفن، والبصر. ولكلٍّ منها قوانينها. وكلُّ خلط بينها يؤدي إلى غموضٍ لا جدوى منه.

نقط الاستدلال الأُولى

لن نهتمَّ هنا إلا بالتسلسل الزمني لعمليات التحليل في حدِّها الأدنى والمختصرة إلى حدِّها الضروري.

إنها قنبلةٌ موضوعة عند قدَمِ المؤرخ، بما أن كلَّ تحقيب يجعل تلك القنبلةَ، بَعدِيًّا، في عنقِ عاشق الجمال. ما المنفعة من حرث البحر؟ هكذا يتساءل ذلك الذي احترف الغرق في بحر الجمال الذي لا ضفاف له، والذي لا تحتاج فيه متعته إلى بوصلة. بالرغم من ذلك، فإن تمفصُل التاريخ بوصفه مدةً زمنية إلى مراحلَ متواضَعٍ عليها (ما قبل التاريخ، القرون الوسطى، الأزمنة الحديثة) قديمة قِدَم التاريخ بوصفه علمًا. لماذا إذن سينفلت زمن الصور من هذه القاعدة؟ لكنَّ الاقتصار على تصريف زمن الفن إلى «ما قبل التاريخ» و«التاريخ الوسيط» و«الكلاسيكي» و«الحديث» و«المعاصر»، ناسخين التقسيم المدرسي، لا يبدو لنا ذا طابعٍ علمي صارم؛ فتاريخ العين لا ينسخ تاريخ المؤسسات والاقتصاد والتسلُّح، ولا «يتطابق» معها. فهي تملك الحقَّ في زمنيةٍ خاصة وأكثر جذريةً، حتى لو كان ذلك مقتصرًا فقط على الغرب وحده. ليس بإمكاننا الانفلات من الخطِّ الاستمراري الذي يَنْغمس فيه التاريخ الرسمي للفن، من دون أن نمنح لأنفُسِنا الإمكاناتِ اللازمةَ لذلك. وتلك الإمكانات ذات طبيعةٍ مفاهيمية، أي أُسسًا اصطلاحيَّة. لكل وظيفةٍ مختلفة تسميةٌ مختلفة. والصورة التي لا تحمل الممارسةَ نفسها لا يمكنها أن تحمل الاسمَ نفْسَه. وبما أننا لا نرتاح للتصاوير البدائية إلا إذا نزعنا نظاراتِ «الفن»، فإن علينا نسيان لغة الجماليات إذا أردنا اكتشاف أصالة «البصري».

كلُّ واحد حرٌّ في استعمال معجمه، فقط عليه أن يحدِّد كلماته. هذا ما سعى إليه كتابنا «درسٌ في الوسائطيات العامة»، وذلك بالتمييز المفصَّل للعصور الوسائطية الثلاث. فهل تستطيع التقطيعات التي نُدخِلها في ممارسات الإنسان، تبعًا لتطور تقنياته في الإرسال، أن توضِّح لنا مسير الصور؟ يبدو أن ذلك ممكن. لنميِّز في البدء ثلاثة مفاصل.

عصر الخِطاب logosphère، ونعني به عصر الأصنام بالمعنى العام للكلمة (كما تعبِّر عنها الكلمة الإغريقية eidôlon «صورة»). وهو يمتدُّ من اختراع الكتابة إلى اختراع المطبعة. ويطابق عصرُ الكتابة graphosphère عصرَ الفن، الذي يمتدُّ من المطبعة إلى التليفزيون بالألوان (التي تبدو لنا أكثرَ وجاهةً من الصورة الفوتوغرافية أو السينما، كما نرى ذلك). أمَّا عصر الشاشة vidéosphère فهو يقابل عصرَ البصري (تبعًا للمصطلح المقترَح من قِبَل سيرج داني). ونحن في صُلبه الآن.

كلُّ واحد من هذه العصور يرسم وسطًا حياتيًّا وفكريًّا له ترابطاته الداخلية الضيقة، ونظامًا بيئيًّا للرؤية، ومن ثَم أفقَ انتظارٍ معيَّن للنظر (إذ لا يُنتظر الشيء نفسه من تمثالٍ لزيوس، ومن صورة شخصية أو كليب)؛ ونحن نعرف أنَّ لا واحدَ من هذه العصور الوسائطية يطرُد الآخَر، وكيف أنها تتناضد وتتداخل الواحد في الآخر. إنها هيمناتٌ متتالية تتناوب على السطوة. وعِوض البحث عن القطائع؛ علينا البحث عن حدودٍ على الطريقة القديمة، كما كانت موجودةً قبل نشأة الدولة-الأمة. إنها مناطقُ ختمٍ وحواشٍ للتَّماسِّ ومسيراتٌ تسلسلية واسعة، كانت تضمُّ في الماضي قرونًا ولا تشمل اليوم سوى بعض العقود من الزمن. وكما أن المطبعة لم تمحُ من ثقافتنا الأمثالَ والأقوال المأثورة الوسيطية، أي العمليات الذاكرية الخاصة بالمجتمعات الشفوية، كذلك لا يمنعنا التليفزيون من ارتياد متحف اللوفر (بل العكس)، وقِطاع التحف القديمة المصرية ليس موصدًا أمام العين التي تشكِّلها الشاشة. لن نكرِّر ذلك، فليس ثمَّة من تقطيعٍ لم يوجد فيما مضى. فبدون ذلك لا يمكن لتلك العصور أن تتوالى وتترابط، وكل واحد مبذور في سابقه، وإن لم يكن ذلك في المكان نفسه وبالحدَّة نفسها.

كلُّ هذا لنقطع دابرَ اعتراضٍ شائع. فبالفعل، كلُّ واحدٍ يتفحص النظرة عبر الأشكال التشكيلية وحدها؛ سيلاحظ حتمًا أنَّ السلطة والمال يظلَّان قاتِلَي «الفنِّ» منذ العصور القديمة. أليس ثمَّة جديدٌ تحت الشمس؟ سيكون علينا البرهنة على أنَّ معمل الفنان الأمريكي أندري ويرول، كان يوجد في ورشةِ رامبراندت (هذا المسيِّر الماهر الخبير بأمور الدعاية والعلاقات العامة، والذي كان «يعشق التشكيل والحرية والمال»)، وورشة المعلم في معمل الحرفي، حيث سيأتي الإسكندر الأكبر ليَهبَ لأبيليس عشيقَته؛ وأنَّ تعقيدات المعاهدة التي تجمع سيكست الرابع مع رافائيل تضاهي معاهدةَ معامل رونو والفنان دوبوفي؛ وأنَّ رعاية الآداب والفنون التي تقوم بها الشركات ليست أقلَّ نفعًا وضرورة مقارنةً مع رعاية كايوس وكلينيوس، المدعِّمان للفنون في عهد القديس أوغسطين؛ وأن مؤسسات الإحسان الأمريكية مضاهيةٌ في الكرم لبطليموسات الإسكندرية؛ وأن سوق الفن قديمٌ قِدَم الفن (وهو في الحقيقة سابقٌ له). وبدون الهم الإشهاري للمحسنين وداعمي الفن في المدينة الإغريقية (حتى لا نتحدث عن لوران الرائع وفرانسوا الأول) كانت أثينا وديلف ستظلَّان أكماتٍ ذاتَ أحراشٍ مُوحِشة. إننا لن نفلت من حكمة هذه الأمم. وبما أن صانع الصور، في العالَم الكاثوليكي، ومنذ ألفٍ وخمسمائة سنة، يعتبر مانحَ العظَمةِ للعظماء؛ فإن الأمر يتعلَّق، فيما يخصُّنا، بمعرفةِ ما إذا كان نفسَ نمط الأشخاص الذين عمِلوا بالتتالي على صنْعِ مجْدِ المسيح ومدينته، والأمير والبورجوازي الكبير جمَّاعة التُّحف، ومؤسسة أوليفيتي، أو أوليفيتي شخصيًّا، لهم آثار الحضور والقوة نفسها.

•••

علينا الربط بين هذه اللحظات في ترافلينغ خلفيٍّ واحد، لأنها تؤسس نفسها في التقدُّم نفسه؛ هذا التقدُّم الذي يجمع بين السرعة التاريخية والتمدُّد الجغرافي.

إنَّ الصنم، باعتباره اختصارًا للمثال الزمني، هو صورةُ زمنٍ جامد وإغماءةٌ أبدية وسفرٌ عمودي في اللانهائي الجامد للإلهي. الفنُّ بطيء، غير أنه يُفصح عن صورٍ متحركة ويعرضها. أمَّا بَصريُّنا فهو في دوران قارٍّ، كما أنه عبارة عن إيقاعٍ خالص مسكون بالسرعة.

إنه توسيع لمجالات التحرك. فالصنم محليٌّ ومنتمٍ لمَوطنه انتماءً لا يتزعزع، ومنغرِسٌ في تربةٍ عرقية معينة، بينما الفن غربي. إنه ريفي، لكنه متحرِّك وله ملكةُ السَّفر (دُورَر في إيطاليا، ليوناردو في فرنسا … إلخ). أما البصري فهو عالمي (أي أنه رؤيةٌ عالمية)؛ لأنه منذورٌ منذ الصُّنع إلى الذيوع عالميًّا.

لكلِّ عصر لغته الأم. فالصنم تحدَّث الإغريقية، وتحدَّث الفن الإيطالية فيما تحدث البصري الأمريكية. في البدء كان اللاهوت ثم الجماليات، ثم الاقتصاد. وهذا مِرآةٌ لذاك.

•••

على عكس المرحلتَين اللتين تُؤطِّران الغرب، يبدو الفن للتوِّ مخصوصًا بالغرب. بيد أن هذا الأخير ليس كتلة متناغمة، والمجتمعات الغربية لم تدخل عصر الفن في الوقت نفسه. لقد دخلت إيطاليا في المقام الأول قبل هولندا، التي تبعتْها في القرن السابع عشر، وهذه الأخيرة قبل فرنسا التي لم تدخله كليةً إلا في القرن الثامن عشر، ومعها الترسانة الاجتماعية والتقنية القائلة «بالذوق». وستأتي ألمانيا لتمنح لهذا العصر بعد ذلك مباشرةً أمجادَه الفلسفية، بدءًا من هذا المفهوم المبتكَر المسمَّى جماليات (إستطيقا) (فقَدْ نشر بومغارتن إستطيقاه سنة ١٧٥٠م). أمَّا العالَم السلافي والإغريقي فقد ظلَّ طويلًا وربما حتى اليوم، منتميًا إلى عصر الأيقونات كما خلَّدته ونقَّحته الكنيسة واللاهوت الأرثودوكسيَّان. ففي فرنسا نفسها سنة ١٩٥٣م، حين أثار الرسمُ الذي قام به بيكاسو لستالين، غداةَ وفاة القيصر الأحمر، حفيظةَ الحركة الشيوعية؛ بدأ انبثاقٌ جديد، عن طريق موسكو، للمقدس البيزنطي ألف سنة فيما بعد، أي عودة فجائية للعصر الأول في نهاية العصر الثاني. إنه اختلالٌ زمني يُفسِّره إعادة تنشيط الأتوقراطية الشيوعية للمواقف الأرثدوكسية وما قبل الفنية وما قبل الإنسانوية.

نظرةٌ بانورامية (انظر ٤-١)

يُشير المسير الطويل للصورة إلى نزوعٍ نحو انخفاضِ المردودية الطاقية. وبتعبيرٍ يلائم الذهنية الجماعية، يَضمن المقطع «صنم» الانتقالَ من السحري إلى الديني. إنه مسارٌ طويل، لن يخلق فيه ظهور المسيحية أيَّ تغيير جذري، وهي مفارَقة سنعود لتحليلها لاحقًا. فالمعتقد الجديد قد تبنَّى خطاطات الرؤية التي سادت العالَم القديم ودخَلَ فيها (كما فعَلَ ذلك بخصوص بنيات سُلطته السياسية)، مع رفضها نظريًّا. هكذا ظلَّت الصورة في تركيبتها القديمة والمسيحية، بشروحها ورمزيتها، صورةً وثنية جديدة، بل صورة رومانية عتيقة.

لقد ضمن الفن الانتقال من اللاهوتي إلى التاريخي، أو إذا شئنا، من الإلهي إلى الإنساني باعتباره مركزًا مرجعيًّا. أما «البصري» فيضمن الانتقال من الشخص المحدَّد إلى المحيط الشامل، أو من الكائن إلى الوسط. ويمكننا القول، بتعابير ليفي ستراوس، بأنَّ البصري تشكيلٌ ذو «سُنن» يأخذ مادته الخام من فُتات الأساطير السالفة، أمَّا الفن فله تشكيلٌ «ذو أساطير» (عدد محدود من الحكايات الجماعية)، بينما الوثنية لها تشكيلٌ ذو «رسالة» (بالمعنى المادي للَّفظ). يتعلَّق الأمر إذن بثيوقراطيا (حُكم إلهي)، وأندروقراطيا (حُكم إنساني)، وتكنوقراطيا (حُكم تكنولوجي): كلُّ عصر عبارةٌ عن تنظيمٍ تراتُبي للمدينة ولمرتبةِ صانعِ الصور وحظوته؛ ذلك أنَّ التأثير النابع من فوق (الإيمان) ومن الداخل (العبقرية) أو من الخارج (الإشهار)، ليس هو نفسه. فالوثن ذو جلالٍ، والفن جادٌّ والبصري ساخِرٌ. وما يتوقعه الناس من التوسُّط (العصر الأول) والوهم (العصر الثاني) والتجريب (العصر الثالث)؛ ليس هو الأثر نفسه. إن الأمر يبدو كما لو كان ارتخاءً تدريجيًّا للمتفرِّج، وانفلاتًا تدريجيًّا لصانعي الصورة من الْتزامهم، بما أنهم مطالبون منذ البدء بالاحتفال والتمجيد والبناء، ثم الملاحظة والابتكار، وأخيرًا الفضح والمداورة. ولأنَّ الوثن مأساويٌّ؛ فإنه تأليهي. أما العمل الفني فهو مؤسِّس، بينما البحث مهمٌّ؛ لأنه إعلامي. يرمي الأول إلى التعبير عن الأبدية، فيما يرمي الثاني إلى ربح الخلود، أما الثالث فإلى التحوُّل إلى حَدَث. ومن ثَم تنبع الزمنيات الثلاثة لصناعة الصورة: التكرار (عبر الناموس أو الأنموذج الأصل)، والتقليد (عبر الأنموذج والتعليم)، والتجديد (عبر القطيعة أو الفضيحة). وهذا هو ما يلائم هنا موضوعَ العبادة، وهناك موضوع المتعة، وهنالك موضوع الدهشة أو الترفيه.

في العصر الأول، لم يكن الصنم مسألةً جمالية وإنما دينية؛ له رهاناتٌ ذاتُ طابعٍ سياسي مباشر. وفي العصر الثاني، حصَلَ الفن على استقلاله الذاتي بالنظر إلى الدِّين، مع بقائه تابعًا للسُّلطة السياسية. إنها مسألةُ «ذوق». وفي العصر الثالث، تقرِّر الدائرة الاقتصادية وحدها في قيمة الصورة وتوزيعها؛ إذ المسألة مسألةُ قدرةٍ شرائية. ولأنني هاوٍ للثقافة المسيحية، فبإمكاني اليوم، ومن دون أن أغادر أوروبا الصغيرة، التوصُّل إلى قارَّات الصورة الثلاث هذه، لكنْ عبْرَ تغييرِ زادِ سفري كلَّ مرة؛ من كتاب القداس، إلى الدليل الأزرق ودفتر الشيكات.

جدول ٤-١
التصوير له …

في عصر الخطاب

(بعد الكتابة)

نظام الصنم الحضور (المتعالي) الصورة رائية

في عصر الكتابة

(بعد الطباعة)

نظام الفن التمثيل (الوهمي) الصورة مرئية

في عصر الشاشة

(بعد السمعي البصري)

نظام البصري التخيل (الرقمي) الصورة مشاهدة

مبدأ فعاليته

(أو علاقته بالوجود)

حيُّ

الصورة كيان

ماديُّ

الصورة شيء

افتراضيُّ

الصورة إدراك

المرجع الحاسم

(مصدر السلطة)

الخارق

(الله)

الواقعي

(الطبيعة)

الإنجازي

(الآلة)

مصدر النور

روحاني

(من الداخل)

شمسي

(من الخارج)

كهربائي

(من الداخل)

الهدف والتوقُّع …

الحماية (والخلاص)

الصورة آسرة

المتعة (والحظوة)

الصورة فاتنة

الإخبار (واللعب)

الصورة لاقطة

السياق التاريخي

من السِّحر إلى الديني

(الزمن الدائري)

من الديني إلى التاريخي

(الزمن الخطي)

من التاريخي إلى التقني

(الزمن الدقيق)

الأخلاقيات

خارجية

(وجهة لاهوتية سياسية)

داخلية

(الإدارة المستقلة)

محيطة

(تدبير تقني اقتصادي)

نموذج ومعياره العمل

أحتفي (بقوةٍ معينة)

انطلاقًا من الكتابات المقدسة

(الناموس)

أبتكر (عملًا)

تبعًا للقديم

(النموذج)

أنتج (حدثًا)

انطلاقًا من نفسي

(النمط)

الأفق الزمني (والسند)

الأبدية (التكرار)

(صُلب الخشب أو الحجر)

الخلود (التراث)

مِطواع (القماش)

أخبار الساعة

(التجديد)

غير مادي (الشاشة)

نمط الإسناد التخصصي

جماعي = مجهولية

(من الساحر إلى الحرفي)

شخصي = توقيع

(من الفنان إلى العبقري)

فرجوي = تميز شعار بصري، علامة

(من المقاول إلى المقاولة)

الصانعون منظَّمون في … طبقة الإكليريكيين – تعاضدية مهنية أكاديمية – مدرسة شبكة – مهنة
موضوع التعبُّد

القديس

(أحميكم)

الجميل

(أنال إعجابكم)

الجديد

(أثير دهشتكم)

محْفل الحُكم

(١) خوري: الإمبراطور

(٢) إكليروسي: الأديرة والكنائس

(٣) بنالي: القصر

(١) ملكي: الأكاديمية (١٥٠٠–١٧٥٠م)

(٢) بورجوانية = الصالون + النقد + الرواق ١٩٦٨م

وسائل الاتصال/المتحف/السوق (الفنون التشكيلية) الإشهار

(السمعي البصري)

القارة المصدر والمدينة الممر

آسيا = بيزنطة

(فيما بين: ما قبل التاريخ، وعصر المسيحية)

أوروبا - فلورنسا

(بين عصر المسيحية والحداثة)

أمريكا - نيويورك

(بين العصر الحديث، وما بعد الحديث)

نمط التراكم عمومي: الخزينة خصوصي: المجموعة الشخصية خصوصي/عمومي: النسخ
الهالة جماهيرية (محركة) كآبة (محركة) لهوية (تنشيطية)
المنزع المرضي الرُّهاب الهوس الفُصام
منحى الرؤية العرافة تتنقل عبر الصورة الرؤية تتأمل أكثر من الصورة المشاهدة تضبط وتتحكم في الصورة فحسب
العلاقات المتبادَلة الصراع الشخصي المنافسة (الاقتصادية)

لكلِّ مرحلة نمطُ تنظيمها المهني؛ فقد كان لصانعي الصور الوسيطيين هيئاتهم الحِرَفية، وللفنانين أكاديميتهم، وللإشهاريين شبكتهم المتخصِّصة. لم يملك الحِرَفي مكانًا مستقلًّا للعمل (إلا في روما). فمكتب مصوِّر المنمنمات كان تابعًا للدِّير أو الجامعة، وكان المزخرِف يشتغل على جدارياته مباشرةً في الجامعة أو القصر. أمَّا الفنان فيشتغل في معمله الخاص. هذا، فيما يعمل رئيس المقاولة في مصنعه ويرتبط بزبائنه بالفاكس أو الحاسوب. وقد قال الفنان الأمريكي أندي ويرول: «إنَّ إتقان إدارة الصفقات هو أكثر الفنون جاذبيةً وفتنة.» كان المطلوب من الفاعل الأول أن يكون أمينًا، أي أن يكون ناسخًا؛ ومن الثاني أن يكون مُلهَمًا، أي أن ينتج عملًا خلاقًا؛ ومن الثالث أن يكون مبادِرًا، أي أن يكون عمله الإذاعة والنشر؛ إذ إنَّ هامش فاعليته أكبر. فنحن لا ننتظر منه بالضرورة موضوعًا زخمًا أو إنتاجاتٍ ثقيلةً. وإضافةً لذلك، فإنه يتمتع بالطابع اللامادي العام للحوامل. كان المصوِّر الوسيطي ينحت الحجر، أو الخشب؛ وكان الفنان يشتغل عادةً على القماش المثبت على إطارٍ خشبي؛ أمَّا البصري، فإنه يُصنع بدون لمسٍ، أي بواسطة الإلكترونات.

لكلِّ مهنةٍ مختلفةٍ رمزُها المختلِف. فقد كانت الهالة والشعاع رمزَ إنسان الصنم، الذي كان خاضعًا خُضوعًا مزدوجًا لوصاية اللاهوت والعناية الإلهية. وكانت المرآة والبركار رمزَين لمايسترو عصرِ النهضة، الذي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالسفريات والهندسة، أي بالغرفة المعتِمة والمنظور. وقد قال ليوناردو بهذا الصدد: «المِرآة معلِّمة الرسَّامين.» أما رمز «محترفي» البصري؛ فهو اللصاق والمِقص (أو القص واللَّصق المعلوماتيَّان)، وعليهم ليس فقط الاستشهاد واللصق والإرجاء وتغيير الاتجاه، والتقليب، شرط القيام بذلك بسرعة، كما يقوم بذلك كل الناس؛ ومن ثمَّة جَعْل الحجم والقيمة في متناول الجميع، وكلما أمكن ذلك. كما أن أندي ويرول قد قال: «لماذا يظنُّ الناس أنَّ الفنانين أشخاصٌ من نوع خاص؟ إنهم فقط يقومون بعملٍ مغاير.»

هكذا، فإن الصورة الاصطناعية قد مرَّت، في العقل الغربي، بثلاثة أنماطٍ مختلفة: الحضور («القديس الحاضر في تمثاله»)؛ التمثيل représentation؛ والتظاهر والتمويه Simulation (بالمعنى العِلمي للكلمة). لقد مارسَت الصورة المدرَكة وظيفةَ الوساطة بثلاثة جوامع متتابعة: الخارق أو ما فوق الطبيعي، الطبيعة، والافتراضي. كما أنها اقترحتْ ثلاث وضعياتٍ عاطفية: الصنم يتطلب الرهبة، فيما يتطلب الفن الحب، أما البصري فيستدعي المصلحة. المرحلة الأولى تابعةٌ للنمط الأصل، والثانية ينتظمها الأُنموذج prototype، أما الثالثة فتنظِّم قوالبها الجاهزة الخاصة بها. وهنا لا يتمُّ تصريف صفات ميتافيزيقية أو سيكولوجية بعينٍ أبدية، وإنما عوالم فكرية واجتماعية. فكلُّ عصر للصورة مقابل لهيكلةٍ كيفيةٍ للعالم المعيش. قلْ لي ما تراه أقول لك علَّةَ عيشك وطريقةَ تفكيرك.

الإشارة والأيقونة والرمز

من الناحية المفاهيمية، يتقاطع تتابُع «العصور» جزئيًّا مع التقسيم الذي أقامه المنطقي الأمريكي شارل ساندرس بورس بين الإشارة والأيقونة والرمز في علاقتها مع الموضوع. لنذكرْ باختصارٍ وتبسيط شديد هذه الطرقَ الثلاثة في التواصل مع الآخرين. الإشارة جزءٌ من الموضوع، أو هي مجاورةٌ له؛ إنها الجزء من الكلِّ أو هي تأخذ مأخذَ الكل. إنَّ رُفات قديسٍ ما، بهذا المعنى، إشارةٌ؛ فعظم القديس الموجود في لحْدِه هو هو القديس. كما أنَّ أمارة المشي على الرمل هي الخطوة، ودخان النار البعيدة إشارة إليها. أما الأيقونة فهي تشابه الموضوع من دون أن تكون منه. إنها ليست اعتباطيةً، وإنما محفزةٌ بتطابُقٍ في الحجم والشكل. فنحن نتعرَّف على القديس من خلال صورته الشخصية، لكنَّ هذه الصورة تنضاف إلى عالَم القداسة، وليست مُعطاةً معه. إنها عملٌ فني. بينما الرمز لا علاقةَ تناظريةَ بينه وبين الموضوع، وإنما هو اصطلاحي؛ وبما أنه اعتباطي بالعلاقة معه فإنه يُفكُّ بواسطة شفرةٍ أو سَننٍ. ذلك هو أمْر لفظ «أزرق» بالعلاقة مع اللون الأزرق. إن هذه التمايزات المعاصرة، الصالحة صلاحيةً كُبرى لتحليلنا؛ ليس بها من خللٍ سوى أنها تتداخل مع سجلٍ أقدمَ وأكثر مصداقيةً. فالأيقونة الأرثودوكسية مثلًا «إشاريةٌ» بالنظر إلى خصائصها الإعجازية (لقد كان المتسوِّلون في روسيا يضعون الأيقونات قلاداتٍ في أعناقهم، ويجعلون منها تمائم). كما أن أولوية التماثيل على التشكيل لدى القدماء يعبِّر عن قُربها من الإشارة، أي من مادية الأجسام. فالحجم والقالب والأبعاد الثلاثة كانت قولبةً وظلًّا خالصًا. وفي الطرف الآخر، يؤكِّد غياب التماثيل من النحت الحديث إرادةً في اتباع النظام الخالص الأكثرِ تجريديةً ورمزية.

الصورةُ الإشارةُ فاتنةٌ؛ فهي تكاد تدعو إلى المداعبة واللَّمس. وهي ذات قيمةٍ سحرية. أما الصورة الأيقونة فهي مدعاةٌ للمتعة، وهي ذاتُ قيمةٍ فنية. بينما الصورة الرمز تتطلَّب مسافةً معيَّنة، ولها قيمةٌ اجتماعية، باعتبارها علامةً على وضعيةٍ ما أو سمةَ انتماءٍ معيَّن. الأولى مذهلةٌ، والثانية تتأمل نفسها، والثالثة فقط محترمة؛ لأنها تُرى في ذاتها ومن أجل ذاتها.

ما وراء المرئي في نظام «الصنم»؛ هو معياره وعلَّة وجوده. والصورة، التي تمتح منه هالتها القدسية كلها، تغدو تمجيدًا لمَا يتجاوزها. وفي نظامِ «الفن» يكون ما وراء التمثيل هو العالم الطبيعي؛ فلكلِّ واحدٍ هالته، والمجد مشترك. أما في نظام «البصري» فالصورة تغدو مرجِعَ نفسها، والمجد كلُّه حِكرٌ عليها.

إنَّ طبقات الصورة الثلاثة هذه؛ لا تعيَّن طبائع موضوعات، وإنما أنماط امتلاك بالبصر. وإذا ما نحن رغبنا، ولو على سبيل اللعب، أن نجعل منها «لحظات» بالمعنى الهيجيلي؛ فعلينا ألَّا ننسى أننا معاصرون لتلك الطبقات الثلاث جميعها، وأننا نحملها في ذاكرتنا التكوينية. وإذا كانت الجسور لم تُقمع بعدُ بين الحيوان والإنسان، وبين «القُنزعة وريش القنزعة، وبين الظفر والسيف، وانحناءات الحمامة والحفلة الراقصة القروية» (كما يقول لوروا غوران)؛ فإنها ليست أقلَّ انقطاعًا اليوم بين صورة الأمس وصورة اليوم. تغيِّر حياتنا اليومية إيقاعَ درجات المرئي، ونحن نبدِّل نظرتنا كما نغيِّر سرعةَ سياراتنا. وما دام الصنم ينبع من الطبقات الأكثر إيغالًا في النفسية الإنسانية، فإنه ربما هو الذي سيُثيرنا بشكلٍ أخطر؛ لأن استثارته تلك أكثر لاوعيًا. وكما أنَّ الفن الحديث، يملكُ، مثله مثل الرُّوح الأفلاطونية، حياتَه السابقة في مصر وآشوريا؛ فإن عيننا أيضًا لها حياتها السابقة في المكبوت الكبير لسحر الصَّيد. ولأننا نملك مخَّ وجمجمةَ الإنسانِ الأول نفْسَها، فإن هذا الأخير يفهمنا أكثرَ مما نفهمه نحن. إنه يحسُّ ويتنفس فينا بالرغم من أنَّ ذكاءه يُفلت من إدراكنا. فصورة رئيس الجمهورية المؤطَّرة المعلَّقة في مكتب رئيس الشرطة؛ تلعب الدَّور نفسه الذي لعبتْه صورة إيزيس في القاعة المعمَّدة لمعبد إيدفو، وهو الدور الذي تجاوَزَ مجرَّد كونِه إشاريًّا أوتزيينيًّا. إنَّ إيزيس ماثلٌ هناك مثله مثل الرئيس، شخصيًّا، وهما ينظران ويراقبان ما يُفعل ويقال في حضرتهما. كما أنهما يمنعان مَن يقفون تحتهما أو جنبهما، سواءٌ كانوا رهبانًا أو موظفين، من فعلِ أو قولِ أيِّ شيء. هذه الصور تحدِّد ممالكَ معيَّنةً وتمارس على مَن يوجد بها عنفًا رمزيًّا، مبيحة لهم تحويل هذا «العنف الرمزي» وممارسته على مرْءُوسيهم. والانفلات من وصاية إيزيس أو الرئيس؛ يتطلَّب تحويل أو بتر تمثيلاتها المصوَّرة، أو الإجابة عن الامتلاك الرمزي بالعنف المادي، وهو ما قام به الأقباط المسيحيون حين حطَّموا، في وسط مصر، منحوتاتِ الآلهة الفرعونية؛ قصدَ تحويل معابدها إلى كنائس، وقد مطرقوا بالأساس عيونها وأيديها وأرجُلها باعتبارها أعضاءَ الحياة. وهو أيضًا ما يقوم به، بالطريقة الأكثر لباقة، تبعًا للطابع المتغير للصور الرسمية، موظَّفونا الرسميون، وذلك بتغيير الصورة المعلَّقة على الجدار عند حلول الانتخابات الرئاسية الجديدة.

لا تكتفي العصور الثلاثة بالتداخل، بل إنه من الثابت أن يحيا العصر الأخير شبحَ العصر الأول. إنه السحر الذي تمارسه العالية على السافلة؛ فالتواصل الذهني (بالجسد والحركات والإشارات) قد سبق، في العموم والخصوص، التواصلَ الرمزي (كما سبق اللامباشرُ المباشرَ، والأثر العاطفيُّ المفهومَ، والإشارةُ الرمزَ). ولا تفوُّقَ لأي كيفيةِ نظرٍ على كيفيةٍ أخرى لمجرد أنها لاحقةٌ عليها، بل لا تنفي إحداها الأخرى. فالصنم ليس الدرجةَ الصفر للصورة، وإنما اسمُ تفضيلها؛ ومن ثَم ينبع حنيننا. إن الطابع الرَّجعي للتقدم ليس أقلَّ بيانًا في حياة الأشكال منه في حياة المجتمعات. و«الاندحار الطويل للأميَّة» يثير العودة التعويضية للمسكوت عنه البدائي، كما رأينا ذلك أخيرًا في التشكيل مع اللَّصق والحكِّ والكشط، والآلية، والدريبنغ، والفن الجسدي (البودي آرت) والغرافيتي، والخربشات والقذف. يمرُّ بنا «الفن» الإغريقي الروماني من الإشارة إلى الأيقونة. ويمرِّرنا الفن الحديث من الأيقونة إلى الرمز. أما في عصر «البصري»، فإن حلقة الفن المعاصر تنقلب لتعود من الكلِّ الرمزي إلى البحث اليائس عن الإشارة؛ لذا تسود الموادُّ الموحلة، والزفت والرمل والطباشير والفحم. وذلك بعد كانداسكي، ودوبيفي ونسيجياته، وبعد كالدر، وسيغال ولوحاته عن الجسد العاري المنسوخ بدقَّة (الشبيه بالدُّمى الشمعية التي كانت تمثِّل القضاة والحكام الرومان وملوك عصر النهضة). ها قد تمَّت استعادةُ الجسد من جديد.
في عالَم يمارِس الفعلَ عن بُعد، ويبتكر النماذج المجردة، تضمن المتعة المادية بالإشارة إعادةَ التوازن شبه الطبي لأجسادنا ذاتِ الأعضاء الاصطناعية، وذلك بعودةٍ عالية للمحسوس الخالص والملموس شبه الشمسي. وغدا تداعي الصور «بلا نظام أو انتظام» علاجًا نفسيًّا اجتماعيًّا، ضروريًّا ضرورةَ الألعاب في مجتمع الجدِّية. إنه انقلابُ العقلانية الاقتصادية، وشاهدٌ على سيادة النفعي. فكما لاحَظَ ذلك جان بودريار ودانييل بونيو، «يبيِّض» الفن الحديث الرأسمال والحسابات. إنه مفتون لا بالمَلِك وإنما برجل الأعمال. لذا يُكَفِّر الكلُّ الوظيفي في مجتمعنا عن نفسه، غاليًا، بالتبذير الكمالي المجَّاني والاحتفالي لسوق فنٍّ لن يكون، من ثَم، «مجنونًا» إلا بشكلٍ أولي. فَسُوق الفن المعاصِر أو البيع بالمَزاد في متاجر سوثبايز Sothby’s، هما في الآنِ نفسه يومُ أحَدِ المصرفيِّ وشبقيةُ الذهني وجنونُ المتعقِّلين وهوى اللامبالين؛ لا تَكْمِلة للرُّوح، وإنما تكملةٌ للجسد.
لقد شهدنا مخاطر العودة المعاصرة للقِيَم العادية الفيزيقية للأوَّلي والأساسي (دهون ولِبْديات بويز Beuys مثلًا). والنزعة البدائية الجديدة، المحرومة من الحيويات الرمزية التي كانت تمنح الإشعاع للصور المقدَّسة، تبحث الآن عن تربيعِ الدائرة، أيْ عن التواصل في غيبة المجموعة البشرية. ليس ثمَّة من جسدٍ خام يتكلَّم لوحده؛ فمناجاة النفس الموجَّهة كغمزةٍ للإشارة الخالصة، مهما كانت مضحكةً أو نبيهة، تُشبه الصمت الجنائزي.

الكتابة في البدء

ظلَّت الصورة تُعتبر كتابةً حتى الظهور الحديث (منذ أربعة آلاف سنة) للطرائق الأولى للتسجيل الخطي للأصوات. لقد كان ذلك عبارةً عن رمزيةٍ كونية وفكرية في الآنِ نفسه، ذاتِ طابعٍ شعائري عالٍ ومرتبطةٍ تأكيدًا بملفوظاتٍ كلامية. تمتدُّ هذه المرحلة من الرسوم الدلالية الأُولى على أشلاء العِظام حتى الكتابة التصويرية والأسطورية (باعتبارها بناءاتٍ متعددةَ الأبعاد وإشعاعية). وقد ظلَّ ابتكار الخطِّ trait آنذاك تابعًا لإنتاج الخبر (باعتباره تذكيرًا نافعًا وتعدادًا حسابيًّا وإشارةً تقنية). لنتذكرْ مكتسبات علم الإحاثة؛ فإرسال المعنى وتناقُله، حين لا يكتفي بالإشارات والحركات، يملك الاختيار بين الصوتي والمكتوب (وهو ما يشير للزوج: وجه/يد). والإنسان ينطق بالأصوات ويخطُّ الخطوط، وهما عمليتان متكاملتان بالتأكيد. إنها تتجاوز كونها مجرَّد دلائلَ signaux كما لدى الحيوان، وإنما علامات. الكتابة الهجائية لم يخلقْها الدماغُ من عدم؛ إنها نابعة من تلك الخطية الملتسبة التي تفسِّر المعنى المزدوج لفعل graphein في الإغريقية (رسَم وكتب). بالمقابل، مع ظهور الكتابة التي حملتْ على عاتقها مجمل التواصل النفعي، خفَّ حملُ الصورة التي أصبحت، من ثَم، مهيَّأة للقيام بالوظائف التعبيرية والتمثيلية، ومنفتحة على المشابهة. لنلخِّص ولو بإجحاف: الصورة أمُّ العلامة، بيْدَ أنَّ وِلادةَ العلامة مكَّنَت الصورة من أن تعيش حياةَ الرُّشد بالكامل، منفصِلة عن الكلام ومتخفِّفة من أعبائها المتبذلة المتمثلة في التواصل.

وبما أن رسوم العصر الحجري القديم تعود إلى تركيبة دالةٍ مُسَّننة كليةً (ونحن نجهل مفاتيح فكِّها)؛ فإن هذا الانفكاك الوسائطي على عتبة عصر الخِطاب يعيِّن ولادة «فُنوننا التشكيلية». وإذا كانت الآثار الأولى للكتابة قد ظهرت في أواسط الألف الرابعة قبل الميلاد في بلاد الرافدين؛ فإن الحروف الهجائية الصائتة الأولى، أي الفينيقية تعود إلى حوالي ١٣٠٠ قبل الميلاد، والحروف الهجائية ذات الصوامت، أي الإغريقية، تعود للقرن السابع تقريبًا. وإذن، فإن بلاد الإغريق، بين القرن اﻟ ١٢ والقرن اﻟ ٨ قبل الميلاد، كانت تجهل الكتابة والتشخيصَ التشكيلي. وبخروجها من هذا النفق اكتشفَت الاثنين معًا. كل شيء يبدو إذن كما لو أنَّ تجريدية الرمز المكتوب قد حررَت الوظيفة التشكيلية للصورة، من حيث هي وظيفةٌ تنافسية ومكمِّلة للأداة اللغوية.

أما الدليل بالتضاد، فتقدمه لنا وضعية الصور في الحضارات الشفهية. فالصور كانت فيها تَشْغل وظيفة العلامات. فهذه الصور الدالة ليست تمثيليةً؛ وإنما تقوم بالتعيين والإشارة. وتشهد على ذلك الثقافة الماقبل كولمبية للمكسيك التي كانت تقريبًا محرومة الكتابة، والتي كانت تتواصل عبْرَ الصورة (بما أن الكتابة التصويرية كانت هي وسائط المحفوظات الشفهية). تشهد على ذلك أيضًا المنحوتات الزنجية والأقيانوسية الأكثر زخرفيةً. إنَّ الأعمال التشخيصية ﻟ «البدائيين» أبعدُ ما تكون عن محاكاة المظاهر؛ فهي أدواتٌ للمعنى. وهي لذلك أصْلح لفكِّ الرموز منها للتأمل. ففي عالم لا أرشيف له تُعدُّ كل الأدوات صالحة لأنْ تكون حواملَ للذاكرة، من مطرة الكرنيب إلى القبقاب الخشبي الذي ينتعله راعي الماعز. فالمَقصد الجمالي لا ينفصل هنا عن المقصد السحري والأيديولوجي. والأطفال يتعلمون صناعتها كما نتعلم نحن القراءة والكتابة. وبالضبط لدى الشعوب التي لا تملك كتابةً؛ يمكننا الحديث، بصرامة، عن لغةٍ تشكيلية. فالسَّنن يلتهم لديها الشكل، والعام يلتهم الخاص، حتى لو استطعنا دائمًا تحويلَ هذه الأدوات الاستعمالية العُرفية والمضبوطة بدقَّة، كي تخدم غاياتٍ جماليةً، وبالأخصِّ غاياتنا الجمالية نحن. فالمفارَقة تكمُن في أن رفض الطبيعية الوصفية — أيْ لعبة الخطوط والمساحات الخالصة — يجعل من هذه الصور أكثرَ قرابةً لنا. إن تجريديتها تبدو لنا قمَّة الأسلوب حين تكون تلك التجريدية نفيًا له، باعتبارها منتَجات مطابِقة لحاجات الإنسان وقابلة للتبادل وشعائرية، وتنبع من قاعدة الحياة الاجتماعية. والمنحوتات على الخشب التي تنتجها شعوب الفانغ والبانوبي عبارةٌ عن أشكال قصوى للنزعة الثقافية، وهي تنسجم مع منزعنا الثقافي الذي ينعكس فيها بمتعة. هكذا نرى مثقفيَّة الاستنفاد (أو نهاية الدورة)، أي مثقفيتنا، ترتد عبر مثقفية الضرورة، أي مثقفيتهم ساعيةٌ إلى النهْل منها.

وما دام الصنم صورة الأبدية؛ فهو محافظ.١ وسواءٌ خضع لأقانيمَ لاهوتيةٍ كالأيقونة البيزنطية، أو لشعائر اجتماعية كالمنحوتة الأفريقية، فإنه يَرهَب التجديد. فالإكراهات المتعلقة بالفاعلية تجعله كذلك. وإذا كان الفنان مبتكرًا ومجدِّدًا للتراث؛ فإن صانع الأصنام ليس «مبدِعًا». إنه منتِج بدون سوق يكون فيه الزبون هو السيد، وحيث يأخذ الضغط الاجتماعي المستبطَن شكلَ الرغبة اللاواعية. فهو ليس له ما يبحث عنه؛ إذ كلُّ شيء موجود سلفًا. إن التصوير يدور هنا في حلقةٍ مفرغة ونسقٍ مغلق على المستوى الشكلي كما على المستوى الأساطيري، ماتحًا من لائحة من الموضوعات المحدودة والمحدَّدة سلفًا. وما دام الأمر يتعلق بمصلحةٍ عمومية وجماعية موجَّهة إلى مجموعةٍ بشرية معيَّنة، مضمونة من قِبلها ومنظمةٍ بدقة؛ فإن التصوير يبدو لنا بمظهر «الفن الرسمي». وهو المظهر اللصيق بكلِّ فنٍّ ديني بالمعنى القوي للكلمة؛ هذا إذا كان مفهوم الرسمية، أو بالعكس الحرية الفنية، ذا معنًى في عالَم لا يميِّز بين نظام الكون ونظام الإنسان.

عصر الأصنام

إذا كان الغرب الأخلاقي يهوديًّا مسيحيًّا؛ فالغرب المتخيَّل هيليني مسيحي (إذ إنَّ اللاهوت الكاثوليكي للصورة يهمل كليةً العهدَ القديم من التوراة). فقَدْ خلَّصت المسيحية الصورةَ من الليل التوحيدي الكبير باللغة الإغريقية لا اللاتينية، وذلك قبل الانشقاق الأرثوذكسي بزمنٍ طويل. وفي تقارير المجامع الدينية كانت كلمة eikôn (أيقونة) تترجَم ﺑ imago (صورة). وeikôn مشتقَّة من eidôlon (المثال، التمثال) الذي له نفس جذر كلمة eidos (الفكرة، المثَل). إنَّ الأيقونة ليست صورةً مشابِهة، وإنما صورةٌ إلهية وتجلٍّ، وصورة شعائرية لا تكمن قيمتها في شكلها المرئي الخاص وإنما في الطابع التأليهي لرؤيتها، أي في أثرها.٢ لماذا نفضِّل اصطلاح الصنم على مصطلح الأيقونة؟ لأنه أقدم وذو مدًى أعمَّ؛ فهو كفيلٌ بأن يشمل الإلهي المسيحي من دون أن يُختزل فيه. فالصنم بالمعنى الإغريقي الضيق يعني، تاريخيًّا، «الغِمْد الأسطواني أو الرباعي الأبعاد» أو التمثال ما قبل الهيليني، السابق على التمثال المسمَّى التمثال المتاهي. لكننا نجمع في هذا المصطلح، بالمعنى العام، مجموعَ الصور الفعَّالة بصفةٍ مباشرة (على الأقل بخصوص المشاهِدين الغارقين في تقليدٍ إيماني معيَّن)، حين يتجاوز البصر المادية المرئية للموضوع.

إنَّ عصر الأصنام، الذي يوجِب على الغرب تحمُّل مسئوليته باعتباره عصرَه؛ يجهل، لذلك، القطيعةَ بين الوثنية والمسيحية. إنه الأساس الأصلي للصور، والقاعدة الغائرة للهرم الذي شكَّل «الفنُّ» قمَّته الظاهرة من وقتٍ قريب. فما يمثِّله علم الإحاثة لتاريخ المجتمعات، أو المحيط الهادي لجُزر توفالو، تمثِّله الألفيات الجامدة للتصوير بالنسبة للمطاف القصير المسمَّى «تاريخ الفن». وبإمكاننا مدُّ هذه الفرشة الأصلية للتمثيلات الأورينياسية حتى فَجْر الكواتروشنتو (القرن الرابع عشر)؛ إذا ما أخذنا هنا بالاعتبار القطيعةَ التي جاءت بها الكتابة. فهذه الأخيرة قد اختصرت (من٣٠ ألف سنة إلى ٣ آلاف سنة قبل الميلاد) المرحلةَ السحرية الدينية للصنم (المنحوت والمرسوم) في الثقافات ذات الطابع التاريخي التي احتفظنا لها بوثائقَ مكتوبةٍ، أعني الإمبراطورية المصرية الأُولى، والعائلات المَلكية الأولى لبلاد الرافدين.

لا يستعمل الوسائطي المعاييرَ نفسها التي يستعملها المؤرِّخ؛ فهو من الناحية الوجودية لا يرى أيَّ قطيعة أساسية بين الأقْصُر والبارثينون والكنائس الكبرى. والتماثيل الرومانية المزيَّنة بالذهب والأحجار الكريمة، كانت تلمع كالتماثيل المصنوعة من الذهب والعاج، التي عرفتْها بلاد الإغريق القديمة. وبإمكان عين متفرِّج عمره بضع آلافٍ من السنين أن تمشِّط، بشكلٍ عادي وبدون دهشةٍ مغالية، البرقشة نفسها التي تغلف ذاك الصلصال الرملي وذاك الرخام والمرمر بمعطفٍ دافئ من الحياة (لا علاقة له بالبياض البارد الذي لفَّعها به الحاضر). لقد كان لتلك الأصنام تجسُّد ولمعانُ الجسم؛ لأنها كانت كلُّها فاعلةً ومتكلمة. وكانت رؤيتها تستثير فقط المُخيْخ الأيسر من الجمجمة. فممارسات البصر لا تجِدُ مكانًا لها في الروزنامة الزمنية. إنها تتجاوز السنة الصفر للميلاد، مثلها مثل «العصر الوسيط» (وهو مصطلح أنكره مؤرخون محترمون كلوغوف Le Goff مثلًا، أو أرماندو سابوري بخصوص إيطاليا). ونحن نعلم أنه عدا السبق المهم الذي ناله المصحف codex على الرقِّ volumen؛ فإن الممارسات القرائية (السمعية، والأذكارية، والنصف عمومية) ومعها الثقافة النصِّية، لم تعرف هي أيضًا من تغييرٍ يُذكر بين العصر القديم الأخير وبداية عصر النهضة. هل يمكننا سحب هذا الأمر على الثقافة البصرية، ووضع الصورة الوثنية في نفس خطِّ الصورة المسيحية التي ادَّعت أنها غريمها بل نقيضها الصارم؟
يبدو جليًّا، في الوهلة الأولى، أن الأمر غير ممكن. فالتمثال الإغريقي الإشراكي والمتعدِّد الألوان متَّجه نحو المرئي وروعته. أما الأيقونة البيزنطية، الأقل روعةً والأكثر صرامةً؛ فهي تنظُر نحو الباطن. وبإمكاننا، بل علينا، المعارضة بين هذَين النمطَين من فعلِ اللامرئي في المرئي، وهما نمطان من الحضور المتعارض للألوهية في تشخيصها؛ فالإله الوثني في ماهيته مرئيٌّ وحاضر جوهريًّا في الصنم القديم، أما الرب المسيحي الذي هو جوهريًّا لامرئيٌّ؛ فهو ليس موجودًا لا فعلًا ولا حقيقةً في الأيقونة (كما هو جسم المسيح في القربان). وقد أسَّس رهبان الكنيسة على هذا التمييز بين الحضور المباشِر والتمثيل المتوسط، حروبَ إبادةٍ حقيقية ضد المشركين وعَبَدة الأصنام. بيْدَ أنَّ الاختلافات بين الأيقونة المباحة والصنم المحرَّم لا تتعلَّق بالصورة؛ وإنما بالتقديس الذي تشكِّل موضوعَه. فالناس البهيميون والبلهاء يعبدون قطعةَ خشب في ذاتها عوضَ ممارسةِ الصعود نحو النموذج الخارجي؛ هذا فيما لا يخلط المسيحي المثالي بين نمطَين من العبادات. إن هذه الاختلافات من الواقعية بحيث يصعب تقسيم عصر الأصنام إلى مراحل متمايزة — قديمة، وكلاسيكية، ومسيحية — لكنها ليست من القوة بحيث تكسر الوحدةَ العامة. بين أسطورة إيزيس، الذي «يتمتع باللذة اللامشهودة التي تنبعث من أُخيولة simulacre الإلهة؛ لأنه لا يرى التمثال، وإنما الإلهة نفسها» (أبوليوس، التحولات، الفصل ٢٤)، والقديسة تيريز دافيلا في حالةِ وجْدٍ أمام صورة المسيح المصلوب؛ ليس ثمَّة من قطيعةٍ عظمى في سيكولوجيا البصر، مهما قال عن ذلك علماء اللاهوت؛ ففي الحالَين معًا تنكشف الذات الإلهية شخصيًّا مباشرة من صورتها. من جهة أخرى، فإن العصر القديم المتأخِّر والمسيحية القديمة يشتركان في الاعتراف الرسمي بالصورة المُعجزة، أو التي لم تصنعْها يدٌ إنسانية. في العصر القديم كانت تلك الصورة تتنزَّل من السماء، وهي مع المسيحية تأتي من الأصول. والنقطة المشتركة هي البصمة الحية للإله الحي خارج كلِّ عمل فني. هكذا، فمن النسخة المأخوذة للوجه المقدَّس، كانت بصمةُ وجه المسيح قبل آلام المسيح قد تجسَّدتْ من قِبَل المانديلْيون تبعًا للحكاية الخرافية المعروفة (فقد أرسل الملك أبجار، ملك إيديس، رسَّامًا كي يصنع له صورةً للربِّ. فوجد هذا الأخير نفسه عاجزًا عن ذلك نظرًا للروعة العظيمة لوجهه. ثم وضَعَ الربُّ «بنفسه ثوبًا على وجهه الإلهي المشعِّ وطبَعَ عليه صورته»). على النحو نفسه، كان المشترك بين المرحلتَين استقلالية الصورة المقدَّسة عن النظر. فهي لم تكن دائمًا بحاجة لأنْ تُرى كي تكون فاعلة. وبالرغم من أن صورة المرأة ذات الرأس المحاط بالثعابين لا تجمِّد سوى مَن ينظر إليها؛ فإن مخلوقات ديدالوس والتماثيل العتيقة تعيش حياتها في غيبة الإنسان. إنَّ ممارسة الصورة، في نظام الصنم، ليست تأمُّلية. والإدراك ليس هنا معيارًا؛ ذلك أن قوة الصورة ليست في رؤيتها وإنما في حضورها. إن المُنَمْنمة الموجودة في مخطوطٍ مغلق، أو كتاب الصلوات غير المرئي في كنيسة، يسهران عن بُعد على المؤمنين المجتمِعين. والأرثوذكسي يبتهل لأيقونته بعيونٍ معلَّقة؛ لأنه يحمل أيقونة المسيح في قلبه. فلقد انتقل التعبُّد القديم بالرفات إلى التعبُّد المسيحي بالتمثال المُعجِز وبرُفات القديسين. كما أن دم الشهيد له فعلٌ تطهيري بمجرد الملامسة؛ إذ المجاورة وحدها لها قيمة الكفَّارة والقربان والحماية والمجازاة. والحُجرة الجنائزية تتحول إلى مصلًّى بمجرد حضور الرفات. من ثَم ينبع «التطبيب بالفضاء» (على حدِّ تعبير ديبرون)، الذي كان يمثِّله الحج، والدفن في المكان المقدَّس قرب الأجساد التي تعتبر الدلائل الإشارية التي تملك القدرة على تحرير المؤمنين من الشيطان. إنَّ راحة الموتى (الذين، كما يؤكِّد ذلك غريغوار دونازيانز، يحسُّون ويتألمون)، ومن ثَم فطمأنينة الأحياء رهينةٌ بمكان دفنهم. ولذا فإن الأتباع يضعون في اللحود «الماء المكرم، والصليب، والكتب المقدَّسة، والنذور، والرفات.»٣ وإذا لم نعتبر هذا سِحرًا، فما هو السحر إذن؟

باختصار، فإن المرحلتَين تتشابهان بكون الصورة المرئية تحيل مباشرة على اللامرئي، ولا قيمةَ لها إلا كمحطة. وكما أنَّ الروحاني يتغلَّب على الدَّهري في مدينة السَّيفَين؛ فإنَّ بدَنَ الصورة أقلُّ أهميةً من الكلمة التي تسكنها في مدينة الأصنام. وفي كتاب القداس، تكون الكتابة المقدَّسة هي ما يمنح المشروعية للمنَمْنمة، التي ليس لها من وجودٍ خاص بها. وعلينا ألَّا ننسى أن صنم اللاهوتي هو أيقونة الديانة الخصم (كما أن أيديولوجيا الصحفي هي فكرةُ عدوه). الصنم صورةُ إلهٍ غير موجود. لكن مَن يقرِّر في هذا اللاوجود؟ وسواءٌ كان الصنم حقيقيًّا أو مزيَّفًا فالمهم هو أن يكون داخل تشخيص الإلهي أو خلفه، أي خلف القوة والجبروت. ذلك هو معيار الجمع بينهما في عصرٍ واحد؛ فالصورة الفنية «ذاتُ أثرٍ» مجازي، والصنم ذو أثرٍ واقعي وبالطبيعة.

إنَّ حقبة الصنم، في مرحلتها المسيحية، تقودنا من رافانا Ravanne في بيزنطة إلى سيينَّا Sienne في إيطاليا؛ فهي منظمة حسب النموذج البيزنطي، عاكسة بذلك الهيمنةَ المسيحية الشرقية على نظيرتها الغربية. وقد أصبحت بيزنطة، باعتبارها الوريثة المباشرة للإمبراطورية الرومانية، ومجالَ تركيبٍ بين الممارسات الأيقونية الإمبراطورية والمسيحية؛ مركزًا بعد أزمة معاداة التصوير، ومحطةً بين الشرق الهيليني والغرب القوطي. وظلَّ شارلماني، وهو المؤمن المعتدل بالتصوير، تحت تأثير بيزنطة مدافِعًا «باعتدال» عن الصورة؛ بحيث طالَبَ بعدم كسْرِها أو الإيمان بها. هكذا ضمنتْ بيزنطة الاستمرار للمعتقدات «السحرية» للعالم الوثني في لاهوت الصورة المشتقِّ من عودة المسيح؛ وهو الشيء نفسه الذي قامت به بخصوص استمرار الاستعمالات السابقة للمسيحية للمدينة القديمة في استعمالات الديوان الأوتوني ottonien، وذلك عبر الأُنموذج الإمبراطوري. وقد استلهَمَ منهم البِندِكتيُّون المنَمْنمة، كما أنَّ المدن الإيطالية تلقَّت الريح القديمة عبر منفيِّيها السياسيين عقب استيلاء الصليبيين على القسطنطينية (١٢٠٤–١٢٠٦م). لقد حمل هؤلاء العبَّارون الأساسيون معهم أفلاطون للمفكِّرين الإنسانيين (كمارسيل فيتشين M. Ficin مترجمه الفلورسني). بهذا ربطتْ بيزنطة بين المسيحي في الألف الأُولى، والوثني في الألف السابقة على الميلاد. ولا تزال الأيقونات الروسية المنحدِرة من التقليد البيزنطي لحدِّ اليوم، وفي رأي النظر الشعبي الساذج، تملك الفضائل نفسها التي كان يتمتع بها التمثال الإغريقي الصغير المُعجِز.

عصر الفن

الفن بحقٍّ نتاجٌ للحرية الإنسانية، لكنْ ليس فقط بالمعنى الذي أراده له كانط، حين قال بأن عمَلَ النحل ليس عملًا فنيًّا وإنما أثرٌ للطبيعة (لأنَّ الشهد الشمعي ليس مبنيًّا تبعًا لهدفٍ معين).

إن الحرية التي يؤكدها الفن ليست حرية المَقْصد بالعلاقة مع الغريزة، وإنما حرية الخليقة بالعلاقة مع الخالق. فحرية الناس عمومًا، بما أنهم ليسوا بنحلٍ، ليس لها من تاريخٍ سوى حيواني. وحرية الفنانين بالخصوص تنتمي في كليَّتها إلى التاريخ؛ لأنها اكتسبت قبلًا المنزعَ الإنساني ضدًّا على اللاهوت. إنه تحرُّر؛ لهذا فالفن ليس خاصيةَ النوع (الإنساني أو غيره)، وإنما خاصية الحضارة.

يولد «الفني» حين يجد العمل الفني علَّة وجوده في ذاته، وحين لا تكون اللذة (الجمالية) رهينةً بالطلب (الديني). وبعبارةٍ عملية ومتبذلة: حين يأخذ صانعُ الصور المبادرةَ في صنعها بدل صاحب الطلب ومكانه.٤ ليست احترافية الفنان (الذي ينحدر من الحِرفي أو الصانع التقليدي، كما ينحدر الكاتب من العالم الكنسي) معيارًا في هذا المضمار. بل ليس توقيع العمل الفني نفسه معيارًا (فقد وُجدت تواقيع على سواكف الكنائس اليهودية الأُولى، وعلى جوانب الفسيفساء اليهودية في فلسطين في بداية التاريخ). إن المعيار هو الفردية المسئولة والفاعلة والناطقة، لا الختم أو البصمة والتوقيع. فالفنان هو الحرفي الذي يقول «أنا»، والذي يمنح للعموم وبشكلٍ شخصي، دورَه في المجتمع في كليَّته، لا قوانين الحرفة وتعلُّمها. وهو قد لا يفعل شيئًا بيدَيه، كما هو حال «فناني التواصل» اليوم، عليه فقط أن يقول ويكتب: «هكذا أرى العالم.»

يمكن التعرف على ولادة الفن بإنتاج فضاءٍ مادي ومثالي ومَدَني وحضاري في الآنِ معًا. إنه يولد في اجتماعِ مكانٍ وخطاب ما. وما يحدِّد الفن، باعتباره اصطلاحًا ينسحب على هذا الفن أو ذاك باعتباره جنسًا فنيًّا (كالمسرح والرواية والرقص والسينما … إلخ).

إنه مكانٌ ملائم يستقرُّ فيه لحسابه الخاص بمعزِلٍ عن المعبد أو القصر، وموقعٌ لحفظ الأعمال والعرض والزيارة، يكون في أصل «الأثر التراثي» عبْرَ خزن الآثار والمؤهلات، أي بوجود خزانات المنحوتات واللوحات والسينما وأفلام الفيديو. وبالتجاور معه، يوجد فضاءٌ خطابي متميز عن الأساطيرية واللاهوت، ويتبع آثاره وسائطيون متخصِّصون ونقَّاد ومعلِّقون يتوجَّهون إلى جمهورٍ عارف، تبعًا لمعايير داخلية (لجان تحكيم، مباريات، مهرجانات … إلخ).

إنَّ خلْقَ قيمة الاحترام، يتمُّ عبْرَ خلقِ مكانٍ خاص وكذا عبر التفسير. فالمأوى هنا قانون، والخزانة السينمائية هي التي خلقَت عاشقَ السينما.

في يومٍ ما، خرجَت المشاهد الحوارية التي كانت تنتمي للقدَّاس الديني من جوقةِ الكنيسة لتستقرَّ في باحتها بَعْد أن كانت الجوقة الجديدة تستند على الكنيسة، لكنَّها كانت في الآنِ نفسه في الساحة العامة؛ وهو ما شكَّل ولادةَ هذا الفن الذي كان يسمَّى الأحجية Mystère في القرن الثالث عشر. وفيما بعد، تركَت هذه التمثيلية المقدَّسة باحةَ الكنيسة وخشبتها المؤقتة لتستقرَّ في محلٍّ قارٍّ ومغطًّى، بُني خصوصًا لهذا الغرض، وهكذا وُلد المسرح في القرن السادس عشر. وفي أحد الأيام، ترك سينيماتوغراف الأخوَين لوميير الأكواخَ المتنقِّلة وقاعةَ المقهى الكبير، ثم اخترع ميلييس سنة ١٩٠٢م النيكيلوديون، وهو يشكِّل الصورة الأُولى لقاعات العرض، وذلك لعرض فيلم «رحلة إلى القمر»، وهو ما أشَّرَ لولادة السينما باعتبارها فنًّا. وفي أحد الأيام، انفلَتَ الرقص من بناية الأوبرا، وغدا مُخرج الباليه مصممًا للرقص (كوريغراف)؛ وأصبح يكتب عن معنى الحياة وعن فنِّه، وتحوَّل إلى موضوعٍ للتفاسير والأُطروحات الجامعية. وجعلتْ منه السلطات العمومية مديرًا لمؤسَّسة مستقلَّة (هي دار الثقافة أو ما شابهها). وهكذا عرفتْ نهاية هذا القرن ولادةَ فن أساسي. فالتحرر رهين بقدرة الفن على التفكير في ذاته، بلُغَته الخاصة وبأضواءٍ خاصة به.

•••

لقد بدأ إضفاء الطابع الجمالي على الصور في القرن اﻟ ١٥ وانتهى في القرن اﻟ ١٧، أي بين ظهور المجموعة الفنية الخاصة لدى المفكِّرين الإنسانيين وظهور المتحف العمومي باعتباره مكانًا جماعيًّا ودائمًا ومفتوحًا في وجه الجميع (سنة ١٧٥٣م افتُتح المتحف البريطاني، وفي ١٧٩٣م افُتفتح اللوفر بباريس، وفي ١٨٠٧م افتُتح متحف الأكاديمية بمدينة البندقية).٥

«المتحف» هو معبد ربَّات الفن، وقد رأينا أن الأساطير الإغريقية لم تعرف ربَّات فن خاصة «بالفنون التشكيلية». فقد كانت معارض الرسوم ومتاحف التماثيل في العصر الهيليني والروماني خصوصيةً (وقد كانت آنذاك في الغالب عبارةً عن غنائم الحروب التي تمَّ خزْنُها في بيوت السفراء أو الجنرالات المنتصِرين). وكان متحف الإسكندرية معروفًا أولًا بمكتبته الشهيرة. أما في العصور الكلاسيكية، فقد كانت الكنوز تُراكَم في الأضرحة الدينية كما كانت تراكم الأعطيات (أي «أعمالنا الفنية») في المعابد، ثم في الكنائس والكاتدرائيات. هكذا كان أمرُ الكنوز الوسيطية التي كانت تراكم في القصور؛ وذلك قصد الوفاء بالحاجات والواجبات الملَكية من حروبٍ وديونٍ وتجارةٍ (وهي بهذا المعنى أقرب من المخزونات الاحتياطية الموجودة في أقباء بنك فرنسا المركزي منها إلى ما نعنيه اليوم بالمجموعة الفنية أو التُّحف).

وسوف يتم إلحاق ولادة خِطاب التبرير مباشرةً بولادة مجموعات التُّحف الفنية للهواة (فاساري، ١٥٥٠م). وسوف يتسامى التاريخ والنقد في عصر الأنوار في الجماليات الفلسفية، المعاصرة للمتاحف الوطنية الكبرى الأولى.

ولم يسلَم «شواذُّ الفن» نفْسُهم من الالتزام بقواعد هذه المعادلة التي ظلَّت دائمةَ الصلاحية. فقد اكتسب «الفن الخام» Art brut في باريس موطنًا دائمًا له للعَرض، أي مأوى الفنِّ الخام، وأكاديمية مستقلَّة تسمَّى «لاكومبَّانيي» (الجمعية)، في الوقت نفسه الذي كان الفنان الفرنسي دوبيفي يصوغ مشروعيته النظرية في كتاباته الجميلة، وذلك في بدايات الستينيات. هكذا لم تعُد «اللاثقافة» رهينةَ «الثقافة الخانقة»، لكنَّها أصبحت بدورها ثقافةً كاملة تُدفع لها الإتاوات. فصيرورة الفنِّ تدفع ﺑ «اللافنانين» إلى العمل والنجاح.
لقد كان الانتقال من الصنم إلى العمل الفني موازيًا للانتقال من المخطوط إلى المطبعة، بين القرن اﻟ ١٥ واﻟ ١٦. كما أنَّ معاداة التصوير الكالفينية، قد تبلورتْ على هدى آثارِ غوتنبرغ مخترِع الطباعة، ومثَّلت صراع الصور الثاني في الغرب المسيحي. لقد كان الإصلاح الديني الذي تربى على الكتابة وحدها، أي على الكل الرمزي عبر انتشار الكتاب، يُدين الضلال السِّحري والإشاري للتصاوير المسيحية (التي وصلت في المرحلة الجرمانيَّة، مع التماثيل الخشبية الملوَّنة، درجةً من الإيهام مذهِلةً في أوائل القرن اﻟ ١٦) وظلَّ مارتان لوثر يردِّد: «علينا بعبادة الله لا بعبادة صورته.» مستعيدًا بذلك خيطَ ترتوليانوس الذي اتَّهم الوثنيين «باتخاذ الأحجار آلهةً». وكان إيراسموس قد أدان من قبلُ الوثنيةَ الإشراكية الثاوية خلف فن الكنائس؛ كما أن ألفونسو دوفالديس، كاتِب الملك شارل كِنت، الذي كان كاثوليكيًّا خالصًا، قد اعترف بأنَّ التعبد بصور القديسين والعذراء «يوجِّه وجهةً أخرى الحُبَّ، الذي يلزم أن نُكِنَّه فقط ليسوع المسيح وحده». وقد ساهَمَ الإصلاح المضادُّ في طفرةٍ جديدة للصورة وفي تعدُّدها والنفخ فيها (بما أن البروتستانتية قد قوَّت في النهاية ما كانت ترغب في إضعَافه)، لكنْ بالعودة إلى نظام أقلَّ خطرًا وإلى اشتغالٍ للمرئي يكون تمثيليًّا لا استهوائيًّا أو تطهيريًّا. فمن الأيقونة إلى اللوحة، غيَّرت الصورة علامتها، فغدتْ مظهرًا بعد أن كانت شبحًا، وموضوعًا بعد أن كانت ذاتًا. وبعد المجمع الديني بترينتي Trente أصبح التجهيز البصري للعالم الكاثوليكي يتمُّ بقدرٍ أكبر من الصور، لكنْ بشكلٍ أقلَّ قوةً من قبل، كما لو أن الإصلاح قد حصل — على الأقل — على الموافقة. إنَّ الصعود الأكيد والقوي للفنان باعتباره فردًا، الذي ميَّز بجلاءٍ الدخولَ في عصر الفن (ولْنلاحظ كيف أضفى شارل كِنت طابعَ النبالة على تيتيانوس بعد «الإلهي مايكل أنجلو»)، كان يُخفي انخفاضًا في القوة الأنطولوجية وهبوطًا في الحضور الواقعي لهذه الإبداعات. فالجمال سِحرٌ غير مكتمِل أو مرفوض. وما دام المتحف مزبلةَ المعتقدات الثقافية القابلة للانحطاط، فإنَّ الفن هو ما يتبقَّى للمؤمن حين تعجز صوره المقدَّسة عن ضمان خلاصه.
من الناحية السطحية، لم تعِش الصورة مرحلةَ ازدهار تضاهي مرحلةَ عصر النهضة؛ فهي موجودةٌ في كلِّ مكان، في الكنائس والقصور، وحتى في الشارع، بما أن أهل العصر قد رسموا أيضًا واجهاتِ بيوتهم «محوِّلين سُلطة الصور التشكيلية إلى المنازل» (كما قال شاستيل). وقد ذهَبَ الفنُّ في إيطاليا، التي كانت عاصمته في العالم آنذاك، إلى حدود التعامل مع فن العمارة باعتباره سندًا للصور (واليوم يتعامل المهندس المعماري مع التشكيلي بوصفه مزيِّنًا ومزخرِفًا، هذا إذا لم يضيِّق عليه الخِناق). أما الصورة في المرحلة الإنسية فقد تحرَّرت من طقس العبادة وأنتجتْ ثقافتها الخاصة. فقد انتقلت من القداسي إلى العلماني ومن الجماعي إلى الخصوصي. وبالرغم من أنها ظلَّت تراهن على الوحي الأصلي؛ فإن قيمتها لم تعُد مرتَّبة في سُلَّم القدرات الإلهية. ظهرَت الوثنية مع ظهور الكتابة وانمحتْ بظهور المطبعة، فقد محتْ هذه الأخيرة، كما سجَّل ذلك هنري جان مارتان، «شكلًا معينًا لِلُغة الصور.»٦ واختفى الكتيِّب المنسوخ بالمطبعة الخشبية حوالي ١٤٧٠م أمام الكتاب المطبعي الحديث (التيبوغرافي). وتحقق انطلاق المطبوع على حساب الكتاب المصوَّر والملوَّن والمزوَّق ذي الصور التمثيلية. هكذا اختفت الصورة الحكائية والحكاية بالصورة، أو هي تراجعتْ إلى المستوى الثاني، مثلُها في ذلك مثلُ الزجاجيات المصوَّرة والسجَّاد (لنتذكرْ «يوم قيامة في مدينة أنجي» Angers باعتباره شريطنا المصوَّر الأول) وكذا السَّاكف linteau والجدارية. لقد كان العصر الوسيط «حضارةً للصورة» أكثرَ من عصرنا البصري، فجاء العصر الكلاسيكي ليغلِّفه بصفحاتٍ داكنة. وقد ظلَّ كتاب النخب، حتى ظهور الطباعة الحجرية (الليثوغيرافيا) في القرن اﻟ ١٩، متقشِّفًا؛ أما الكتاب النبيل فإنه لا يقبل بصورة المؤلِّف (فالمفكِّر الفرنسي «بوالو» لم يزيِّن كتاب فنِّ الشِّعر بالصور). هكذا اتجهت الصورة اجتماعيًّا نحو السافلة. إنَّ الأمر يتعلق بقاعدةٍ تقول بأن الصنم إذا كان تعادليًّا أو جماعيًّا؛ فإن الصورة الفنية تظهر في المجتمعات ذات الفرز الاجتماعي المتقدِّم.
لقد منح غوتنبرغ الغرب هذه الثورة المتمثِّلة في الانتقال من الخشب المنقوش إلى الدمغة estampe؛ إنه الناشر الذي لم يكن بإمكان الفن من دونه اكتساح الغرب في نصف قرن. فلِكَي يعرِّف الفنانون بأنفُسِهم في الخارج، ولتشجيع مبيعاتهم من اللوحات، عمدوا منذ القرن الرابع عشر إلى طبْعِ لوحاتهم. ثم أسَّس مانطينيا Mantegna ودُورَر وروبنز ورشات مطابعَهم الخشبية. وباستثناء الصين، التي عرفت الطبع على الورق منذ اكتشاف الكتابة، عُرف الدمغ على الخشب منذ القِدم، بل بدأ الفنانون يوقِّعون لوحاتهم منه منذ ١٤١٠م. وقد ازدهرَت الطباعة بالحروف الخشبية xylographie في نهاية العصور الوسطى التي عُرفت بولعها بالصور الدينية، واستُخدمت في تسجيل قسَم الإخوة المساكين وتصوير الكتاب المقدَّس المخطوط، وتعليم الأذكار والصلوات. أما النِّقاشة أو الحفر gravure على الصفائح النحاسية، باستعمال الصحيفة الأسطوانية؛ فإنها تنتمي، مثلها في ذلك مثل المطبعة، إلى الفنون المعدنية والصياغة، التي مهرتْ فيها البلدان الجرمانية. كما كان أوائل الحرفيين المجهولين المتقِنين للإزميل من منطقة رينانيا بألمانيا. هكذا أسقط الحفر على النحاس الخشبَ المنقوش عن عرشه، وهو الذي كان وسيلةَ الدعاية والتحريض الأساسية في المرحلة السابقة.
وبما أنَّ الطباعة كانت محفزًا للكتاب المصوَّر، ومن خلاله للعلوم الوصفية (علوم الكون، والطب وعلم النبات)؛ فإنها قد صاغت الجهازَ الأول المتعدِّد العناصر المعدني (بعد النقود)، الذي ساهم في ازدهار العالم الجرماني. ولنا في دُورَر ولوك دُوليد مثالٌ على ذلك. فالطباعة الحفرية انحدرت من الشمال؛ لأن ازدهار الدمغة ينْسخ التقنيات المطبعية. وقد خصَّص دُورَر، وهو الولِع بكل العلوم، كتابًا ﻟ «حجم الحروف» وأعاد صياغة خط الحروف معلِّقًا على كل حرف من حروفه الهجائية. فالكتاب ينتقل ويُصدَّر ويشترى بطريقةٍ أسهل من اللوحة؛ إنه حاملٌ وممرِّر للتأثيرات، ومسرِّع للاقتباسات، ووسيطٌ للأساليب، ومحرِّض على السرقات الأدبية. هكذا تنقَّل الفيروس البصري بحيث لا يمكننا المعارضة بين ثقافة المطبوع وثقافة الصورة، فالواحد منهما تقوَّى بالآخَر في البداية. لقد مكَّنت الطباعة الحفرية الشمالَ، الهيَّاب من الصورة، من الدخول في علاقةٍ مع الجنوب، والجنوبَ العاشق للصورة من اتِّباع مدرسة الشمال. كان شمال أوروبا يفضِّل الكتب والجنوب يفضل اللوحات (خاصة بعد المجمع الديني لتْرينتي). الكتاب أوَّلية بروتستانتية والصورة أوَّلوية كاثوليكية. فلدى الأوائل نزوع تشاؤمي وطهراني نحو الحرف وحده، ولدى الآخرين نزوع تفاؤلي دنيوي واثِق من حركية الصور. إن النزاع قد ترك المسيحية موزَّعة بين ميلانكتون Melanchton ولويولا Loyola؛ كما كانت الكنيسة الوسيطية موزعة بين التقشف السسترسي cisterien والبذخ الكلوني clunysien، وبين الصورة التي تُنسِّي في الرب والصورة التي تذكِّر الأُميين به، وبين استدعاء الحواس ومنع المعنى. إنه تردُّد متشنِّج ودموي؛ فقد حرق سافونارول Savonarole «سذاجات» فلورنسا قبل أن يتعرض للحرق نفسه. فهل يلزم الذهاب حدَّ الإشراك والمخاطرة بالعناية الإلهية لإنقاذ المرئي، أم ترك المغناطيسية المشبوهة للصور لتطوير الآداب الجميلة وطهارة الروح المقدسة؟ كان الاختيار الأخير هو ما ذهب إليه المفكرون الإنسانيون وإيراسموس، الذي لا يُدين الصورة ولا يأخذها مَأخذَ الجِد أيضًا. لقد كان إنسانيُّو الشمال ينظرون للفن نظرةَ تعالٍ. وبما أن الصورة النقشية تابعة للكتاب؛ فهي لم تكن في نظرهم سوى تراضٍ مقبول لا أكثر. ومع ذلك، فهي قد وصلتْ بين مدينة أنفيرس وبال وفونطينبلو، وبين إيطاليا «بلاد الفنون»؛ ووسعت من خريطة الاختلاط، ودمجت الفن الغرائبي grotesque، والتفاصيل التزينية والتصميم الهندسي العمراني في عالم الأشكال الشريفة. لقد خلق المطبوع إمكانيةَ أول متحف متخيَّل أوروبي قبل الصورة الفوتوغرافية بكثير. وهو المتحف الذي سوف يغدو عالميًّا مع النسخ الفوتوغرافي، ليصبح من الآن مصغَّرًا عبر الثورة الرقمية. لقد عرفنا مع الصنم ما كانتْه «ماهية البصر» بدون ذات. وسنرى مع البصري ماهية الرؤية بدون نظر. أما عصر الفن فإنه يضع وراء البصر ذاتًا. ولهذه الثورة اسمٌ هو: المنظور الإقليدي.٧ وقد تم الأمر في توسكانيا، بين مدن فلورنسا وأسيز ومنطووة، في النصف الأول من القرن اﻟ ١٥. هذا المنعطف تجسَّد في أسماءٍ من قَبيل جيوتو، ومانطينيا، وبييرو وماساكشيو، وأوتشيلو، الذين جعلوا منه انحرافًا. ولحدود ذلك الوقت كان الصنم «يبثُّ» نحو المشاهِد، لأنه كان يملك المبادرة. وكان الإنسان يتمتع بفضل الصنم ببعض الشروط، لكنه لم يكن مصدرًا لها؛ فقد كان مرئيًّا لا رائيًا.

حين يرفع المواطن الإغريقي أو الروماني أو المؤمن البيزنطي أو الوسيطي؛ عينَيه نحو الصورة المقدَّسة أو الإلهية، لا يسَعه سوى أن يغضَّ البصر. «فما يقع عليه هو نظر الربِّ»؛ لذا فهو يرسم الصليب وينحني. لا أحدَ بإمكانه امتلاك صنَمٍ يرسل لمعانه على البشر. لا صاحب له ولا مالك. إنه في استقلالٍ تام؛ لأن العلامة الصادرة من فوق لا تملك توقيعًا إنسانيًّا. وبلورة الصنم يعني تلقِّيه أيضًا؛ لأن الربَّ هو الذي يرسله. بيْدَ أن ابتكار المنظور الهندسي سوف يكسِّر هذا الخشوع. إنه سيجعل من النظرة الغربية نظرةَ أنفةٍ واثقة من نفوذها ووضوحها. إنَّ الاكتشاف المجهد الذي قام به المهندسان المعماريان برانِلسكي وألبيرتي (اللذين سوف ينقلان هذه الطريقة للتشكيليين) يستحقُّ اسمه؛ لأنه سيمكنه من إشاعة النور، أي إغراق الغرائب والعمق المزدوِج للمرئي في شفافيةٍ إنسانيةٍ خالصة.

بالتأكيد، فإن الثقافات البصرية في العالم كانت لها طرائقها في نقل الفضاء إلى مساحةٍ مستوية. فقد كان المصريون يستعملون المنظور ذا الطبقات à registres، والهندوسيون المنظور الإشعاعي، والصينيون واليابانيون المنظور المباشر، والبيزنطيون أنفسهم، المنظور المقلوب. قيل عن الأيقونة التقليدية: إنها بلا عمق. فقد ورَّثتْ بيزنطة الغرب اللاتيني المحظورات الأفلوطينية، المميزة للفيزياء الروحانية للمفكرين الإغريق المتقدِّمين. وقد أقصى أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠م) العمقَ؛ لأنه مادةٌ مثله مثل الفضاء والظِّل. إن إرجاع كلِّ شيء للمستوى الأول باعتباره مستوًى وحيدًا؛ يعني تفضيل الرؤية المعقولة للفكرة والإلهي في الصورة.٨ وقد تمَّ الإبقاء على البُعد الثالث، لا بوصفه إيهامًا وإنما واقعًا. وهذا البُعد الثالث ليس من صميم المساحة الملوَّنة وإنما هو موجودٌ بين الأيقونة ورائيها. إنه المسافة التي تقطعها الأشعة الحاملة للطاقة الإلهية كي تصل إلى المؤمن؛ فالخطوط الواصلة تسير نحو المتفرِّج، بيْدَ أنَّ لا واحدة من هذه الشفرات والمنظورات تتجاوز حدود محيطها الثقافي الأوَّلي، فيما أنَّ المنظور الغربي قد ألحق به المنظورات الأخرى. فهو قد كان في أساس المنهج التخطيطي (الغرافي) الحديث للتمثيل الفضائي، وذلك ببنائه على نسقِ تشخيصٍ هندسي ذي معقوليةٍ كونية. فقد وحَّد الفضاء التوحيدي لعصر النهضة العالَمَ الواقعي. ولأنَّ المنظور يعتمد على مفهوم اللامنتهي، الذي يتحكم في مفهوم المستمر، فهو قد كسَّر فعلًا العوالم المغلقة والمنفصِلة، والكيفية والمجزأة التي كانت تنتظم التمثيلَ حتى ذلك الحين. وهو قد عوَّض الملاحظة المهووسة للتفاصيل بنظامٍ منسجِم وشامل؛ حيث يضبط الفضاء المعقول الثنايا والطيَّات المظلِمة للمحسوس. لقد كان من مآثر الزواج بين العين والمنطق الرياضي أنه فتَحَ أمام النظر الطبيعةَ المادية، وليس فقط الأساطيرية والسيكولوجية. إن المنظور الاصطناعي قد كشف لنا الأرض بتحريرنا من الآلهة، فهو مكَّننا من الخروج من الخالد، وهو ما يقابل «الخروج من مصر» بالنسبة للشعب اليهودي. لقد كان الانقلاب الميتافيزيقي لقطبَي الكون في البدء فعلًا بصريًّا. وثورة البصر، كما هو الحال دائمًا، تسبق الثورات العلمية والسياسية في الغرب. كما أن صياغة التشكيليِّين لقوانين المنظور قد سبقتْ، بأكثر من قرن، تبنِّيها من قِبَل الرياضيين، والتوضيح النهائي للهندسة الوصفية. إنَّ الظهور المتواقِت للمنظور والفن لم يتوافق بالصدفة مع الولادة المحتشِمة لمجموعةٍ من المفكرين الإنسانيين العلمانيين على هامش الوصايات الكنسية. فهذه الغَلْمنة كان لها مقابِلان كانت لهما فوائدُ جمَّة على «تاريخ الفن»: تكوين حقل جمالي مستقلٍّ عن الاللاهوت، من خلال تاريخٍ دنيوي لفنانين وأساليب معيَّنة (غيبرتي، ألبرتي … إلخ)؛ وتكوُّن مجموعةٍ من التحف الفنية القديمة ذات الطابع الدنيوي (ميداليات، مخطوطات، نقود، وتماثيل) خارج مواطن العبادات. فالفن والنزعة الإنسانية متعاصران؛ لأنهما في الأمرَين معًا متعاضدان.

لن نعود للنقاش الذي يرمي إلى معرفةِ ما إذا كانت الفجوة الرئيسية التي جاء بها المنظور، تمثِّل منتهًى لمقاربةٍ بطيئة للواقع الموضوعي، الذي توصَّل أخيرًا إلى واقعه الموضوعي، وانتهى إلى الإمساك المباشر والأمني بفضاءٍ مطلق، أم أنه «شكلٌ رمزي» من بين قدْرٍ كبير من الأشكال الممكنة، أي منهج وسَنَن ذاتي لا مشروعيةَ عِلمية لهما، ووَجاهتهما ثقافية، إذ يعودان إلى حالةٍ حضارية معينة. بيْدَ أن كل شيء يجعل بانوفسكي ومدرسته على حقٍّ، إذ يتعلَّق الأمرُ بأسلبةٍ لا بمحاكاة. ففي مسرح العالم (والسينوغرافيا تلعب دورها في الابتكارات)، يسرق الإنسان من الإله المكانةَ الأُولى. ولأنه غدا متوازيًا في نقطةِ اللقاء بين الخطوط المنظورية على الفضاء المستوي للَّوحة؛ فإنه أصبح الآن الممثِّل الرئيسي والمُخرج الوحيد لمكعَّبه المشهدي الصغير. إن نقطة اللقاء الوحيدة للخطوط المنظورية في عمق الحائط أو اللوحة؛ يوجد في محورِ زاويةِ النظر القارَّة والوحيدة، المنعزلة والوحيدة العين، أي هذا المُشاهد المتمركز حول ذاته والذي يستعرض الفضاءَ نفسه أمامه كما لو كان فضاءً جديدًا. ومع أنَّ القليل من اللوحات هي التي احترمَت الأنموذج النظري حرفيًّا، فإن تصغير الأحجام انطلاقًا من نقطةٍ مركزية لم يكن من غير نتائج. إن البناء المنظوريَّ يُضفي على الباني طابعًا بطوليًّا، أي ذلك الذي يملك صفاء الذهن ومعرفة قوانين الفضاء، والذي ينظِّم اشتغالها بنشاط. لقد كان لتذويتِ النظرة هذا، بدون منازعٍ، ثمَنُه: أي اختزال الواقع في المُدرَك. إنها بدايةُ نهايةِ النظرة التشويهية، أو دخول التعالي الصوفي (للمحرك الإلهي على الشيء الظاهر) في أزمةٍ سبَبُها البصريات. وقد حوَّلت هندسة المساحة الممتدَّة، عبر تربيع خشبة المسرح، العالَمَ الخارجي إلى تركيبةٍ من الأحجام والمساحات، متخفِّفًا إلى حدٍّ كبير من كثافته السحرية. لم يعُد جوهر المرئي هو اللامرئي؛ وإنما نسقًا من الخطوط والنقط، كما لو أنَّ التحليل التجريبي للأبعاد الثلاثة يتمُّ ضدَّ الروحانية، وكما لو أنَّ ما كان يُربَح من فضاءٍ للَّعب يُخسر من جهةٍ أخرى في قيمة الوحي. تلك هي نهاية التجليَّات وبداية الرسوم الإيهامية.

لم يعُد المتفرِّج المركزيُّ مملوكًا ممكَّنًا، وإنما المالك الفعلي للعمل الفني وسيِّد الأرقام والآلات. إنه الجَمَّاعة الخصوصيُّ لعجائب الطبيعة؛ فاللوحة مُؤَنْسِنة لكنَّها مخصِّصةٌ أيضًا. وستصبح سيادة الفردانية المبدِعة مغلقة وأكثر نخبويةً من الناحية الاجتماعية. فالعمل الفني يصدر عن رُوح الفنان الذي يوجِّهه لعارفٍ معيَّن. أما الصنم، فبما أنه صادرٌ من عوالم أخرى، فقد كان موجَّهًا للخلق بأَسْره. في بداية العصر الأول، لم يكن ثمَّةَ غير فنَّانٍ واحد هو الخالق المصوِّر. وفي نهاية العصر الثاني، لن يكون ثمَّة سوى خالقٍ واحد هو الفنَّان.

وبطريقةٍ بسيطة نقول: لقد انتقلنا من عصرٍ لآخَر حين أظهرَت الخصائصُ الشكلية للصورة — المرتبطة بإرساليتها الإخبارية والتحويلية، أمام النظرة الجديدة — قيمةَ المُنْجِز مستقلةً عن القيمة الواجب إنجازها؛ وحين لم يعُد يرغب طالبُ جداريةٍ أو لوحة في لوحةٍ للصَّلب أو لميلاد المسيح، وإنما في لوحةٍ من قبيل لوحات بلِّيني Bellini أو رفائيل؛ ذلك أنَّ الفنان يُولَد في الوقت نفسه الذي يُولَد فيه المؤلف، وهي الولادة المتأخِّرة التي تزامنتْ في تأخُّرها ذاك مع ظهور الصفحة الأُولى الحاملة لاسم المؤلف في المطبعة. وفي انتظار وجود مفهومِ الملكية؛ فإن مفهوم الشخصية الفكرية والفنية، ينبع من الممارسات الجديدة لامتلاك «المنتَجات الذهنية». وقد قالت إيزابيل ديستي I. d’Este سنة ١٥٠١م عن ليوناردو دافنتشي: «إذا هو قَبِل إنجازَ لوحةٍ لشقَّتِنا؛ فإننا سنترك له الحرية في اختيار الموضوع والوقت.» ولم تُحدَّد وضعية الدلَّال، باعتباره ضابطًا وزاريًّا، إلا سنة ١٥٥٦م بمرسومٍ من هنري الثاني. وقد انتقلنا من التصاوير إلى الفن، حين كفَّ التشكيلي عن إنجاز المطالب أو البرامج كالحِرَفي، وحين لم تعُد قيمة عمله مرتبطةً بالموادِّ التي يستعملها (هذا المقدار أو ذاك من الأوقيَّات الأجنبية، أو من الذهب) أو بعدد الشخصيات المصوَّرة، أيْ بكلِّ شيءٍ كان يُطلب من الفنان في عَقد الطلبية الوسيطي. وكذا حين يضع الفنان في السوق فجأةً عملًا أنجزه بحريَّة، وحين لا يحدِّد ثمَنَه بعقدٍ سابق وإنما بصُدَفِ العَرض والطلب، كما تمَّ ذلك أولًا في هولندا مع رامبراندت وزملائه. ومع انتشار البورتريه كفَّ العمل الفني الرفيع عن أن يكون غير متلائم مع وجه الإنسان العادي؛ إنه لم يعُد محصورًا في ملامح الأمير أو الراهب على رافدة المذبح.

تنقسم الحِقَب إلى مراحل، والمراحل إلى عصور. وإذا كان هذا التقسيم ينطبق في الجيولوجيا على الحقبة التكوينية الرابعة للأرض، وفي مجال التاريخ القديم على العصر الحجري الأخير؛ فإننا لن نعتبره نافلًا بصدد الخمسمائة سنة الأخيرة؛ حيث لا مجال للمراهَنة على أن بييرو ديلَّا فرانسيسكا وبابْلو بيكاسو لا يخضعان للحُكم بنفس الكلمات.

إن نظرةً أرْهف ﻟ «حقبةِ الفن»؛ ستميِّز بدون شكٍّ مرحلةً إكليروسية وديْرية تمتدُّ على وجه التقريب من ١٤٥٠م إلى ١٥٥٠م، لم يعُد التشكيلي فيها صانعًا، لكنه ظلَّ يعتبر «خادمًا»؛ ومرحلةَ رعايةٍ أميرية للفنون من ١٥٥٠م إلى ١٦٥٠م تميزتْ بسيادة فنان البلاط؛ ومرحلةً ملكية وأكاديمية تمتدُّ من ١٦٥٠م إلى ١٧٥٠م بفنانيها الرسميين المعيَّنين (ففي ١٦٤٨م تمَّ تأسيس الأكاديمية الملكية للرسم والنحت)؛ ومرحلةً بورجوازية وتجارية بدءًا من ١٧٥٠م، بفنانيها الحائزين على الجوائز، في وقتٍ عرَفَ فيه التشكيلُ قفزةً جديدة. ففي هذا التاريخ تبلورتْ، إلى جانب الأكاديمية المتراجعة، تلك المجموعة المعقَّدة من الفاعلين التي ستستمر حتى القرن اﻟ ١٩، أعني: التاجر والرِّواق والناقد والمعرض. ففي سنة ١٧٤٨م، تمَّ تعيين لجنةٍ مهمَّتها غربلة الأعمال المعروضة في الصالون (الذي تمَّ تدشينه سنة ١٦٦٧م من قِبَل كولبير ولوبران). وقد تطلَّب الصالون الناقد الفني الذي يتماشى مع ظهور المجلة الدورية، التي تماشتْ بدورها مع ظهور الكتالوج (فقد ظهر أول كتالوج في هولندا سنة ١٦١٦م)، والكتالوج مع التاجر، والتاجر أو الرواق مع زبائن ذوي أذواقٍ متنوعة. إن هذا التمايز، أو خوصصة الذوق، قد ساير انفجار تراتُبية الأنواع التي أقرَّتها الأكاديمية الملكية في العصر الكلاسيكي؛ أي الرسوم التاريخية في القمة، ثم البورتريه ثم المنظر الطبيعي، ثم صور الحيوانات، وأخيرًا في المرتبة الأخيرة الطبيعة الجامدة. إنه ثمَنُ الممارسة المهنية الحرَّة بعد أن تراجع الاحتكار الأكاديمي للفن.٩

هكذا عمل «فنَّانُنا» بالتتابع لحساب المجموعات الدينية والبلاطات الأميرية والملك وبلاطه وأكاديميته، والهواة والنقاد والصالونات، وأخيرًا، في عصر المقاولات، أي عصرنا، لحساب المقاولات والشركات ووسائل الإعلام والمتاحف. إنَّ هذا التقاطب ليس فقط سوسيولوجيًّا وخارجيًّا؛ فالمختصُّ في العمليات الجمالية لعصرٍ ما يضبط طبيعة الأعمال الفنية المنتَجة ولو بخلْقِ تراتبيةٍ معينة، كما في الماضي، في القيمة المتعلقة بالأنواع. إن مَن يرغب في رضى الآخَر مطالَبٌ أولًا بالإجابة عن حاجياته. ولا يخفى أن أسقُفًا أو سيدًا نبيلًا أو ملكًا أو شخصًا مرهفَ الذوق أو صاحب مصانع كبرى؛ ليست لهم المطالب نفسها. لقد عرف التشكيل المقدَّس الانحطاط مع ظهور القوة الدهرية للكنيسة؛ وانحطَّ التشكيل العظيم للتاريخ والتشكيل الأسطوري مع ظهور الملكية المطلقة، واندحر البورتريه والمَشاهد النوعية مع ظهور وتقوِّي البورجوازية التِّجارية. «اللماذا» يجيب على «اللماذا؟»، وإذا ما أبَحْنا لأنفسنا تفكيرًا نسقيًّا؛ فسنقول: إنَّ إدارة شئون الفن تعود في كلِّ عصر، للمجموعة الوساطية المركزية. ونحن نعني بذلك الفئة الاجتماعية التي تمنح لِلَحظةٍ معينة من تاريخ الغرب رُوحها وأسلوبها، لأنها تسهر على إدارة مقدَّسِ تلك اللحظة. لقد سهرت الكنيسة على إدارة شئون الربِّ والخلاص، وقامت البلاطَات الأميرية بإدارته شئونَ القوة والمجد، والبورجوازيات سيَّرت شئونَ الأمَّة والتقدم، والشركات المتعدِّدة الجنسية الربحَ والنَّماء. إنَّ حامِلَ قيم التوحيد، أي المقدس الاجتماعي، هو أيضًا الذي يبْزِلُ أفضلَ الفائض الاقتصادي. والجامع الرئيسي لفائض القيمة هو الذي يجمع الصورَ الأكثر تثمينًا. وما دام هو الذي يطلبها ويشتريها ويُشهرها، فإنه أيضًا وبديهيًّا حَكمُ الأناقات ومؤشِّر القيم؛ «إنَّ مَن يستأجر الجوقة الموسيقية هو الذي يختار الموسيقى.»

١  L’idôlatrie, Rencontres de l’Ecole du Louvre, Paris, la Documentation française, 1990.
٢  Egon Sendler, L’Icône, image de l’invisible, Paris, Desclée de brouwer, 1981.
٣  Yvette Duval, Auprès des saints, Corps et âmes (l’inhumation ad sanctos dans la chrétieneté d’Orient et d’Occident du IIIème au VIIème siècle), Paris Etudes augustiniennes. 1988.
هذه الممارسات الجنائزية، لم تكُن تهتمُّ بوصايا القديس أوغسيطن؛ ففي كتابه: De cura pro mortuis geranda، يلاحظ هذا الأخير أنَّ البعث، بما أنه لا يرتبط بالدوام المادي للأجساد؛ فإن «المؤمنين لا يفقدون شيئًا إذا هم حُرموا من الكفن، كما أن الكفار لا يربحون شيئًا إذا هم كفِّنوا».
٤  Francis Haskel, Mecènes et peintres. L’art et la société au temps du baroque italien, Paris, Gallimard, 1991 (traduction française).
٥  Krysztof Pomian, Collectionneurs, amateurs et curieux, Paris-Venise, XVIème-XIIIème siècle, Paris, Gallimard, 1987.
٦  Henri-Jean Martin, Histoire et pouvoirs de l’écrit, Paris, Perrin, 1988, p. 218.
٧  Erwin Panofsky, La perspective comme forme symbolique, Minuit, Paris, 1975.
٨  إن بصريات هذه المرحلة، كانت تعتبر أن الرؤية تتمُّ لا على شبكية العين، وإنما على الموضوع المشاهَد، في نقطةِ تماسٍّ من شعاع النور المنطلق من العين والنور الخارجي؛ لذا فإن المنظور الحقيقي في اعتقادها هو نقيض المنظور لدينا: فكلما كان الشيء بعيدًا؛ كان كبيرًا. انظر: André Grabar, “Plotin et les origines de l’esthétique médiévale”, Cahiers d’archéologie I, 1945.
٩  اقرأ ﻟ: Jeanne Laurent, Arts et pouvoirs en France (de 1693 à 1981), Université de Saint-Etienne, 1982.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤