الفصل الخامس
الديانة اليائسة
إننا لم نتحدث أبدًا بهذه الوفرة عن الحضارة والثقافة إلا منذ أن بدأت الحياة
تغادرنا.
أنطونان أرطو
حين تفرُغ الكنائس من الزوَّار تمتلئ المتاحف. والكثيرون يرون في التقديس العالمي
للفن الرابط الوحدوي الأسمى لإنسانية مشتتة. لكن، إذا كانت المعرفة عالميةً؛ فإن
عالَم المعنى يظلُّ دائمًا محليًّا. إنَّ الحديث عن روحانيةٍ عالمية تناقضٌ في
التعبير. لذا، إذا كان صحيحًا أن المال قد خلَّص الفن من موته المُعلن في الغرب،
فليس من الأكيد أنَّ الفنَّ سوف ينقذ العالم.
هل هو موتُ الفنِّ مرةً أخرى؟
الفنُّ المحتضر، هكذا كان بلينيوس ينعت الفنَّ التشكيلي في القرن الأول. لقد
انصاع في نظره لجاذبيةِ الذهب؛ فكتَبَ: «لقد تسبَّبتْ رعونة النفوس في فقدان
الفنون. وبما أنه من المستحيل رسْمُ تشخيص للأرواح والنفوس؛ فإنهم يتناسون رسمَ
تشخيصٍ portrait للأجسام.» الفن هو المولود الميت
لحضارتنا. وإن ذلك لعَنْ حقٍّ، بما أنَّ الفنَّ الغربي قد نشأ وهو يتَّخذ من نفسه
موضوعًا وغاية، ومن أثر ذلك يموت. إنها دورةٌ ملكية؛ «فالفنُّ قد مات، وليحيا
الفنَّ الجديد.» إنه لَقدَرٌ وشعار.
نحن متأكدون إذن من أننا لن نُخطئ تمامًا بإعلاننا، مثلًا، عن موت الفن التشكيلي؛
فهذا شيء قد تمَّ دائمًا، خاصة عندما يكون ذلك الفنُّ في أوجِه. «إنه لمن المدهِش
أن تتقهقر الفنون منذ رفائيل، بل منذ الممثِّلين الأوائل لمذهب التصنُّع. فسواءٌ في
إيطاليا أو خارجها، لم يعُد ثمَّة من فنان.» هذا ما كتبه بللوري
Bellori سنة ١٦٧٢م في كتابه: حياة هنيبال كاراش.
١ كما أن هيجل قد استنتج أنَّ «الأيام الجميلة قد مرَّت.» وذلك في زمنِ
جريكو وإنغر وغانسبور وفريدريك وغويا. وكتَبَ بودلير عن ماني: «الفنان هو الذي
قتَلَ الفنَّ»، «لقد مات الفنُّ»؛ هذا أيضًا ما استنتجه من جانبه، دولاروش المشهور
بعد أنْ سمِعَ أراغو يعرض اكتشاف نيبشي
Niepce
وداغير
Daguerre. وفي سنة ١٩٣١م، أعلن إيلي فور
العظيم — وهو يندِّد ﺑ «البحث عن الأسلوب من أجل الأسلوب»، باعتباره خطأً فادحًا،
في كتابه «احتضار التشكيل» — عن «نهوض الفنون التشكيلية عبر السينما باعتبارها
العضوَ البديل الذي يتطلبه اختفاؤها.» أما روجيه كايوا، ففي جوابه عن كتاب أندريه
مالرو «الرأس السَّبَجي» بكتاب بعنوان «بيكاسو القاتل»، اعتبر أن الجِوالة السلبية
لبيكاسو هي المؤشِّر الواضح على «اختفاء الفن المستقل».
٢ ولو استرسلنا فإننا لن ننتهي أبدًا من لائحة الإبلاغ عن
القتَلة.
وكما أن ثمة هجمات على الفن متتابعة؛ تتوالى «ميْتات الفن» من قرنٍ لآخَر، غير
أنها لا تتشابه. وأظنُّ أن الميتة الأخيرة زمنًا؛ هي الأكثر جديةً في هذه «المشاهد
الأصلية». ومؤرخ الفن يعرف جيدًا أنَّ الفنَّ المضادَّ الذي أفرزه هذا القرن، لم
يكن ميلانخولْيا شبيهةً بتحولات الفنِّ الأخرى، وإنما قرارٌ منهجيٌّ موهوبٌ وله
برهانيته. فقد عمل الدادائيون، وهم الذين جعلوا من انتحار الفنِّ اختصاصَهم الفني،
على التصويب إلى قلبِ الفنِّ بشكلٍ واعٍ، وذلك بهجومهم على شرطه الأوَّلي، أي
العملية المادية والشيء نفسه، سواءٌ عبر الموضوع اللامحدَّد، الرِّيدي ميْد (العمل
الجاهز)، أو برفع الصدفة إلى مستوى المبدأ الفني، أي الهابنينغ. هكذا ولأول مرة
ينفي الفِنيق نفسَه ويرمي بموته في المشهد، وبحيلةٍ فنية مُتقنة يجعل من هذا التخلي
عن الفن عملًا فنيًّا نشيطًا، قريبًا من الشيء، لكنه شيء للعَرْض.
ففي تاريخ الأشكال، من النادر أن تكون المَشاهد التي تسمَّى نهائيةً؛ ذاتَ طابعٍ
نهائي. لذا فإن استقبال حفَّار القبر الألف؛ يكون فاترًا وساخرًا، خاصةً إذا كان
فيلسوفًا. ومع هذا، فعلى الوسائطيات تسجيل ذلك؛ فحتى لو كانت أجملُ اللوحات أمامنا
فإنها سوف تأخذ مكانها في مجالٍ آخَر غير مجالِ الفن؛ ذلك أننا قد غيَّرنا العناصر
الجوهرية، سواءٌ في مجال البصريات أو في أيِّ مجال آخَر.
وتكون السخرية أكثرَ مرَحًا حين يكون من النادر أن نعثر على ميتٍ من هذا الضَّرْب
يتمتع بصحةٍ جيدة. فالأعمال الفنية لم تعرف هذه النسبة من الغلاء أبدًا، ولم يعرف
الفنانون في السابق اندماجًا اجتماعيًّا أعمقَ من هذا الذي يعيشونه، كما أننا لم
نشهَدْ أبدًا قدرًا من جمَّاعي الأعمال الفنية كاليوم. بل إننا لم نرَ أبدًا هذا
العدد من المستهلكين يرتاد المتاحف؛ فقد بلغ عددُ مَن زاروا المتاحف الوطنية
الفرنسية الأربعة والثلاثين سنة ١٩٩٠م خمسة عشر مليونًا. كما أنَّ الدول مثلها مثلُ
الخواصِّ، تصرف أكثرَ فأكثر؛ لحيازة الأعمال الفنية والمحافظة عليها وتداوُلها.
والمأثرة التي تحظى بأكبر عددٍ من الزيارات في العالم، ليست هي «تاج محل» ولا بُرج
إيفل، وإنما هي مركز جورج بومبيدو بباريس. وتعرف أوروبا فتحَ متحف كلَّ يوم، بحيث
تبدو كأنها تتدثَّر بعباءةٍ زاهية من المتاحف شبيهةٍ «بغطاء الكنائس البيضاء» الذي
عرفتْه في القرون الوسطى. وقد شيَّدت ألمانيا، في مدَّة عشر سنوات ٣٠٠ متحف،
واليابان٢٠٠، كما أن فرنسا تتوفر منها على أكثر من ألفٍ تحت المراقبة ومعترَف بها،
يرتادها أكثرُ من ٧٠ مليونَ زائرٍ سنويًّا. وفي الولايات المتحدة، ارتفعتْ أعداد
زيارة المتاحف في ربع قرنٍ من ٢٠٠ إلى ٥٠٠ مليون شخص سنويًّا.
٣ إنها حقًّا إحصائياتٌ مخيفة. فالتوالد السرطاني للخلايا والاختناق بسبب
الازدحام شيئان معروفان.
كلُّ الناس يكتبون كتبًا، تلك هي
نهاية الثقافة الكتابية. كلُّ الناس يملكون سيارة، ذلك هو إعلان
نهاية عصر السيارة. فهل علينا القول تبعًا لذلك: كلُّ الناس يرون الصُّور، فلا أحد
سيشاهدها غدًا إذن؟
من أين جاءت مفارقة الموت/التمجيد، التي لها معنى المعجزة أكثر مما لها معنى
الكارثة؟
من المال في المقام الأول. فهو الذي «أنقذ» الفنَّ. إنه مصدرُ كل الخير. ما الذي
يجعل لوحةَ الفنان الأمريكي أندي ويرول الموسومة ﺑ One dollar
Bill تحتلُّ مكانةً طَوْطَمية في فَجْر هذا القرن؟ من حُسن
الحظِّ أنَّ الفنَّ سوق. ونحن نؤلِّه الأول؛ لأننا قد ألَّهنا — أولًا وقبل كلِّ
شيء — الثاني. أو بالأحرى لنقُلْ إنَّ معجزة بقاء الفن تأتي من اللقاء بين العمل
الفني باعتباره شيئًا صُلبًا نادرًا، وأثاثًا قابلًا للنَّقْل وغير قابل للنسخ (أو
محدود النسخ) وقابلًا للتحويل ومتعرِّضًا للامتلاك الخاص أو الخزْن، من جهة،
والخصائص العجيبة للمال من جهةٍ ثانية. بصيغةٍ أخرى، إنه اتحاد بين تقديسَين وصهْرٌ
لهما في تقديسٍ واحد. وقد قال هيجل: ««المال» هو حياةُ ما مات، وهو يتحرك في
ذاته.»
يتعلَّق الأمر إذن بدوران في صالحهما معًا؛ فالمال يمكِّن من تداوُل الفن، الذي
يساهم بدوره في تداول المال (أما الجداريات، مِثلها مِثلُ الفسيفساء الفنية، فهي
أصبحت نادرةً في السوق؛ لأنها لا تشارك في لعبة الحركية). يحقِّق المال قِيمَ
الفنِّ الذي يحوِّل المال إلى شيء لاواقعي، ويجعل منه علامةً خالصة ويبيِّضه (كما
تبيِّض المافيا أرباحَ المخدرات في سُوق الفن). ليست الورقة المالية صورةً؛ إنها
رمز. لكنْ، حين تصبح الصورة ورقةً مالية، تغدو هذه الأخيرة بدورها شِبهَ صورة، أيْ
عملًا فنيًّا مفترَضًا. أيُّ شركة كُبرى ليس لها جائزة كبرى للفنِّ التشكيلي،
ومؤسساتها ومموِّلوها ودعمها للتظاهرات الفخمة؟ الفن مربِح، وهو مربحٌ ليس فقط
للمستثمرين (فمبيعات المنتوجات المشتقَّة من معرض تولوز-لوتريك، مثلًا، المكوَّنة
من ربطاتِ العنق والسراويل والمَحافِظ؛ قد تجاوزت رقمَ مصاريف المعرض)، لكنَّه
أيضًا قد يُعفي من الربح؛ فرهاناته التجارية من الكِبَر بحيث إنه أصبح سلاحًا
دبلوماسيًّا في العلاقات الدولية؛ ذلك أن الدول تتصارع فيما بينها بضربات «المعارض
الكبرى» (تركيا واليونان تتنازعان على متحف الميتروبوليتان بنيويورك لربح مزيد من
الاعتبار و«تجميل الصورة»). إنها لَتعدديةٌ في الوظائف خصبة؛ فالوظائف التي تشغِّل
آلةَ «الفن» إلى أقصاها، هي وظائفُ إعلاميةٌ واقتصادية وضريبية ودبلوماسية وسياسية
وتراثية وسياحية، أيْ كل الوظائف إلا الوظيفة «الدينية»، التي لا تحضر في أحسن
الأحوال إلا بشكلٍ عرَضي. إنَّ مقولة: «الاقتصاد والثقافة تجمعهما المعركة نفسها»؛
تعني فعلًا أنَّ الثقافة تناضل لا مع الاقتصاد، وإنما من أجله ومكانَه وخلْفَه. لم
يعُد محرك الفنِّ كما في الماضي موجودًا في الفن، وإنما فيما يحرِّكه من خَلْف؛ أيْ
في الحدث الإعلامي (اضربْ ضربةً قوية واجعل الآخرين يتحدثون عنك)، وفي المكائد
المالية (أنقذْ أموالك بأشياءَ ممتعةٍ للنظر). والمحتضِنون للفنون من رجال الصناعة
والتجارة يكْفُون بلدَ ما بعد الحداثة، أمريكا، كي تحافظ على مركزها. فما الذي
سيتبقَّى من معتقداتنا الجمالية إذا ما أُخضِعَت الأعمال الفنية لمراقبةٍ دولية
للأسعار؟
الرأسمال المرِح
نشأ الفنُّ في القرن الخامس عشر مع الرأسمالية الأُولى، التي تنامت في المراكز
الحضرية للاقتصاد العالمي آنذاك كالبندقية وفلورنسا وبروج وأمستردام. ويُوافق عصر
البصري مرحلةَ تفوُّق الرأسمال المالي (النقد مقابل النقد) على الرأسمال الصناعي
(المال مقابل البضاعة). أمَّا طلائع هذا النهوض الفني فتعود إلى أوائل هذا القرن،
هذا إذا كانت أولُ لوحة تجريدية هي «أكواريلا» لكاندانسكي، التي يعود تاريخ رسْمِها
إلى ١٩١٠م. وقد أوضَحَ جان جوزيف غو
Goux التجاور
بين هذا النهوض الفني والتطورَين الآخَرَين، أي الانتقال من المال الذهب إلى المال
المكتوب الذي لا يحوَّل، والانتقال من اللغة-المدونة (حيث تقابل كلُّ كلمة شيئًا)
إلى اللغة النَّسق (حيث تأخذ كلُّ كلمة قيمتها من الاختلاف عن كلماتٍ أخرى).
٤
لقد كان الصنم، بقدرته على العرض يجعل المرء أمام، بل في تماسٍّ مع، الوجود في
حقيقته الإلهية، أي الوجود المطابِق لذاته والمنغلق على ذاته؛ ومن ثَم جاء ثبات
أساليب العصر الأول للفن. فلمدة ثلاثة آلاف سنة، ظلَّ التصوير المصري، من
الإمبراطورية إلى البطليموسيات، مشابهًا لذاته. فالفن، بقدرته على التمثيل يحيلنا
على مظهر من الدرجة الثانية، لكنَّ الدرجة الثانية تلك كانت رهينةَ واقع أول (أي
الواقع بامتياز، واقع الألوهية والطبيعة والإنسان)، كما كانت الأوراق المالية
رهينةً بسبائك الذهب. لكنَّ ذهبَ الواقع لم يكن معطًى هكذا أيْ محاكيًا للمظاهر،
وهو ما يفسر الحرص الذي يتميز به تعلُّم الحرفة ومهاراتها. إنَّ الورقة المالية
للبصري تستطيع بقدرتها أن ترتهن بنفسها. فلا وجود لرصيد معدني، ومن ثَم سرعتها
التداولية وهَوَسها بالاعتراف عبر التبادل؛ إن شِبْه الموضوع المعاصر، باعتباره
علامةً نقدية ذات قيمةٍ تافهة، يسير وفقًا للرونق والعراء، وهو دائمًا على حافة
كارثةٍ نقدية شبيهة بأزمة ١٩٢٩م (بالرغم من أنها غير محتمَلة بالنظر إلى المصالح
التي تتصل بها، كالمتاحف والمجموعات الفنية الخاصة والخزانات الاحتياطية والأروقة
والعائلات والمافيات … إلخ). هذا السِّباق السريع يشكِّل، كما هو حال الرأسمال،
سلسلةً من السقطات يتم تفاديها في نهاية المطاف.
إن التنقيص من الصور، لتغدو مجرد علاماتٍ، قد يتخلله الانتقال من التخفيض (أي ذلك
الذي يمتدح خصائصَ شيءٍ ما) إلى الإشهار (أي امتداح رغبات الشخص). وهو تنقيصٌ
صَاحَبَ نقْلَ الأولويات المتصلة بالنظام الإعلامي من الإعلام إلى التواصل (أو من
الخبر إلى الإرسالية)؛ وتلك المتعلِّقة بالنظام السياسي، من الدولة إلى المجتمع
المدني؛ وتلك المتعلقة بالنظام الاقتصادي، من مجتمع الإنتاج إلى مجتمع الخدمات؛
والأولويات الخاصة بنظام الترفيه، من ثقافة التنبيه، (من مدرسة وكتاب وجريدة) إلى
ثقافة الترفيه. أمَّا الأولويات الخاصة بالنظام النفسي، فقد انتقلتْ من سيادةِ مبدأ
الواقع إلى هيمنةِ مبدأ اللَّذة. وقد انتهى كل هذا إلى نظامٍ جديد مكتمِل
ومنسجِم.
فما إن تأخذ الرغبة مكانَ الحاجة، وتصل البضاعة إلى «مقامها الجمالي»؛ حتى ينصهر
المبدِعون والمبتدعون ويتَّحدوا. فمعركة الفنِّ والإشهار واحدة. هنا يصبح الرقيُّ
بالعمل الفني وإشهاره هو العمل الفني نفسه، والفن هو عملية إشهاره. وهناك تغدو
البضاعة مِرآةَ الأحلام الصالحة لالْتفاف الشَّرِهين بصريًّا. فالإشهار، بتحويله
المنتَجات الاستهلاكية إلى تُحفٍ فنية؛ يغدو هو الفن الرسمي لمرحلةِ ما بعد الفن.
والأمر لا يتعلَّق بقرارٍ من الدولة، وإنما بضرورةٍ اجتماعية. وهو يغدو رسميًّا
لأنه وظيفي (والوظيفي دائمًا جميل). وباعتباره طقسًا من طقوس البضاعة، فهو بالتأكيد
فنُّنا المقدس، وفن مقدسِ عصرنا. وإذن، فهو هذا الفن الأكثر حيوية، أي ذلك الذي
يجعل الفنون الأخرى تدور في فلكه، والمساند الممول
Zeit-geist. كان الصنم يستجيب لنداء الناس وهم
يناضلون من أجل البقاء، أما الفن فهو يستجيب لإرادة امتلاك العالَم؛ بينما نشأ
البصري حين عوَّض التنافس على المظهر العلَّتَين السابقتَين، أي حين لم يعُد ثمَّة
لا خوف ولا جوع. من الناحية الاقتصادية تظل السينما رهينةً بالتليفزيون، الذي يرتهن
بدوره بالإشهار. فمن المنطقي أن تفرض الصورة الإشهارية قانونها على أسلافها الذين
تتكفَّل برعايتهم. في سنة ١٩٢٠م، انتبهت الطليعة للريكلام (إشهار البضاعة)؛ وفي
١٩٨٠م، أصبحت الطليعة هي التي يمسك الإشهار بها.
٥ كان الرسَّام الفرنسي دولوني
Delaunay
يلعب بالإشهار، لكنَّ ويرول، الذي كان بنفسه إشهاريًّا في البداية، يخضع لمشهدية
الإشهار ولعبته، الذي أصبح منذ ذلك الحين الواسطة الأساس، ومن ثَم تنبع سُلطته
الجاذبة ووضعيته الاعتبارية كقانون. ولأنه غدا عنصرًا مشتركًا؛ فقد تكلَّف ليس فقط
بالأعمال الفنية بعد أن تكلَّف بالخيرات وسوق الفن، وإنما أيضًا بالمتخيَّل
السياسي، وصولًا إلى تنظيم الممارسات المقدَّسة الجماعية (الذكرى المائتَين للثورة
الفرنسية، و«قضايا حقوق الإنسان» في أرجاءٍ كثيرة من العالم).
وإذا كان كلُّ شيء قد غدا الآن فنًّا (التعليب والعرض، والتنشيط والاستعراض
الكرنفالي، والغرافية والديزاين والاستنساخ الآلي، والحلاقة والعطور، والمطبخ …
إلخ)، وغدا «كلُّ شخصٍ فنَّانًا» (كما قال بويز
Beuys)؛ أفلَمْ نصل إلى استنفاد ما في جرابنا؟
الفنُّ لم يعُد يعيِّن سوى حكمٍ كيفي من ضمن الأحكام الأخرى. فنحن نقول عفويًّا
«هذا فنٌّ» ونحن نعني: «إنها أشياءُ جيدة، وهي تعجبني.» لكنَّ اللاشيء ليس أي شيء.
فهو ذو ألوانِ حلمٍ واحتفال. وبالرغم من أنه تحديدٌ ضعيف إلا أنه توسُّع لا سابقَ
له، وهذا يبيح ذاك ويبرره. هل تعرفون أحدًا ليس فنانًا ولو بشكلٍ جزئي؟ أليست
المتاحف الآن مختصة في كل الأشياء تقريبًا (حتى القهوة وفتَّاحة القنينات
والنظارات)؟ إنَّ معبد الصورة هو المدينة بكاملها. والإله العتيق للجمال الذي كان
فيما مضى متعاليًا ونادرًا؛ أصبح يسكن كلَّ زوايا الزُّقاق. وذلك البُدُّ المرِح
الذي تغلِّف طقوسه وسماته العالَمَ بأكمله لم يعُد يعرف الغيرة. ففي معرض «فنٌّ
وإشهار» الذي نُظِّم بمركز جورج بومبيدو عام ١٩٩١م، تُواجِه الزائر هذه اللافتة:
«اصنعْ بمالك عملًا فنيًّا … في الحال.» وهذه العملية تعني وضْعَ شيك أو ورقةٍ
مالية في الآلة الناسخة لفنان مشهور، ثم يستعيد صاحبها ما وضعه مع رقمٍ يضمن بأنَّ
القطعة فريدة. إنه المسلسل الآلي للفرادة. فهذه العملية البسيطة، كانت ستروق للفنان
الفرنسي مارسيل دوشان. ويقول لنا هذا الإله الدولار اللَّعوب: «هل ترغبون في اللعب
معي؟» فالخليُّ من الهموم يكون هناك حيث الجوُّ رائق. ولمَ لا؟ يلزم فقط الاتفاق
على الأشياء بوضوح.
في مجتمع الوفرة تتَّسم الخيرات أقلَّ فأقلَّ بصلاحيتها
واستجابتها. والصور المعروضة في السوق لا تشذُّ عن القاعدة. إنها
تتخلَّى عن قيمة استعمالها الفردي — باعتبارها متعةً وتأملًا واغترابًا … إلخ — وعن
أمارات الغنى. ففي العمل الفني للعصر البصري، وهو كما نعلم احتفالٌ ماجن يكون فيه
المرء عصيَّ الرؤية، يكون الشيء هو الأقل أهميةً. فهو يحلِّق في غير ثقل، ويميِّز
من غير أن يميِّز نفْسَه، ويمتلك قيمةً نابعة من ثمَنه. إنَّ صيرورة العمل الفني
علامةً نقدية؛ يجعل منه فتيشًا مرغوبًا فيه، لكنه قابِلٌ للتبادل في سلسلةٍ
لانهائية من العمليات التجارية ودورات البورصة والترتيب العالمي للمبيعات.
٦ إنه قابل للتحويل والصرف كما يصرف شيك بنكي مقابلَ آخَر. وقد كان
مارسيل دوشان يطلق للتداول شيكاتٍ مزيَّفةً، وبطاقات دين كازينو موقَّعة من قِبَله
معتبرًا إيَّاها أعمالًا فنية. يكون الأمر، كما لو أنَّ الإشهاري المعروف قد أحسَّ
بأن الصرف الذهبي العادي سيُعَوَّض بالصرف الفني العالمي، باعتبار أن الفن قد عوَّض
الذهب في النظام النقدي الدولي.
٧ فهو الذي يضمن، بشكلٍ ما، نتائج التجارة.
المقدَّس في أقصى حالاته
لا جديد في الأمر، فالفن موجَّه إلى المال (مثله مثل فنَّاني أَمْس في نيويورك،
وبعد ذلك في طوكيو)، والمال موجَّه إلى المقدَّس. ليس ثمَّة من تناقُض بين الارتفاع
المهول للأسعار في سلسلة متاجر سوثبايز وتعدُّد المجامع الدينية وسيَر الأولياء حول
المعنى النهائي للمربع الأبيض على خلفيةٍ بيضاء، وبين كبار القساوسة ودلَّالي الفن.
إنها صفقاتُ الشعائر وشعائر الصفقات؛ فالكلمات التجارية المستعملة في اللغة
الفرنسية للتعبير عن المضاربة والقيم، لها معنًى رُوحي ودهري.
في سنة ١٩٩١م، انعقد في مدينة البندقية (بتنظيمٍ محكم) «مؤتمر القمَّة العالمي
للفن»، في إطار المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يوجد مقرُّه بسويسرا (المعروف أكثر
بمجموعة دافوس). لقد قرَّرت نخبة رجال الأعمال الدولية تحمُّل مسئوليتها الجمالية،
وذلك باستهدافها «خَلْق رُوحِ وَحدةٍ شاملة عبر الاختلاف الثقافي الموجود». ونحن
نقرأ في بيانٍ من أجل مجتمعٍ شامل المكتوبَ بالأمريكية (ففي عصر البصري، على
إيطاليا التحدُّث بالأمريكية): «الفنُّ لغةُ الثقافة، وهو الشكل الوحيد للتعبير
الإبداعي الذي يمكِّننا من التواصل وبناء الجسور الحقيقية والفعلية بين أطراف
العالم.» ولأنَّ هُواة الفنِّ وجمَّاعيه والفنانين التشكيليين هم ورثة القِيَم
الأكثر سموًّا؛ فهم مشهورون بترميم الجسور المنهارة بين الأفراد والثقافات، هذا ما
يذكِّرنا به رجالُ أعمالٍ لا يبتاعون الكلمات. إنَّ بناء الجسور تعني حرفيًّا في
اللغة الفرنسية Pontifier (التحبير البابوي)، وهي
وظيفةُ كلِّ زمن مقدَّس. فالحبر الأعظم، بابا هذا العالَم ورسوله الأكبر المعمِّد،
أليس هو الفنَّان لا البابا؟ لقد أصبح من المتَّفق عليه الآن أنَّ الحكومة الروحية
لأوروبا الكبرى الموحَّدة ستعود للفاتيكان. لقد كان نظرُ أُناسِ مدينةِ البندقية
أبعدَ من نظرِ رجال روما القديمة؛ فهم يقترحون على العالَم بأَسره لغةً موحَّدة، هي
الجمال؛ لأنه العروةُ الوثقَى السُّمْيا بين الحضارات المتفرِّقة.
أكيد أن مؤرخًا للثقافة كان سيتفكَّه بسخريةِ القدَر الجميلة هذه، الموجَّهة من
القرن العشرين إلى القرن التاسع عشر. لقد تمَّ فيه إعلانُ ديانة الفن من قِبَل
فنانين سَئِموا من «الواقعية البورجوازية». وها تلكم الديانة تعود إلينا عبر
مؤسَّسة البنكيين. «لنحبَّ أنفُسَنا في الفنِّ كما يحبُّ المتصوفون أنفسهم في الله،
وليصبح كلُّ شيء باهتًا أمام هذا الحُب الكبير.» هذا ما كَتَبه فلوبير بُعَيْد أنْ
أعلن إنغريس Ingress، «هذا الراهب العاشق
للجميل/الذي احتفظ من الشكل الخالص بالقالب»، أنَّ «أذواقه السامية تنتمي إلى
ديانةٍ معينة.» لقد كان هذا التقديس للفن احتجاجًا أطلقه المتوحدون الكِبار ضدَّ
العامة الوسخة، واتهامًا صارخًا للمتاجرين ذوي العوينات ولهوسهم المصلحي. «سينقذ
الجمال العالَمَ.» هذه الجملة ألفنا قراءتها بقلمِ دوستوفيسكي أكثر من ورودها في
أفواه المضارِبين، لكنْ لا أحد سوف يستاء من هذه الفورة ذات الفأل الطيب.
بالعكس، لنرَ فيها التحقُّقَ الألف من قانونٍ عام يؤكِّد أنَّ الحاجة إلى الديانة
مشروعة. المقدس هو كلُّ مبدأ لوحدةِ مجموعةٍ ما، والوظيفة المقدَّسة تكون موحِّدة.
وما يأخذ طابع التصوف ليس سوى منطقٍ مقدس، وهو يبدو للمجموعة مقدَّسًا؛ لأنه لا
يمكن إلا أن ينفلت منها (لأنَّ هذا المبدأ ينتمي بالضرورة إلى مستوًى من الواقع
أعلى من عناصر المجموع التي يجمع بينها). لقد قرَّر الكثير من علماء الاجتماع، ومن
ضمنهم دوركهايم، الطابعَ الاجتماعي للمقدس والطابع المقدس للاجتماعي. وما تبقَّى هو
تعليل هذه الدوامة. وقد قدمتُ في كتابي «نقد العقل السياسي أو اللاوعي الديني»
تفسيرًا لهذا اللغز في شكلِ مسلَّمةٍ إجرائية هي اللااكتمال.
٨ فلا وجودَ لحضورٍ مشترك في السافلة غير غياب في العالية. وكما جاء في
التوراة: «حين تغيب الرُّؤى ينمحي الشعب.»
٩
إنَّ ضرورة الشعائر النبوية سواءٌ كانت دينيةً أو لا، ينبع من ثابتٍ تنظيمي.
أمَّا أمكنة وموضوعات العبادة؛ فإنها تتغيَّر تبعًا لتغيُّر الزمن والمجتمعات. وحتى
لا نخرج عن مجال الصورة المنجَزة، لنختصرْ باختزالٍ كامل ولنقلْ بأنَّ مَن كان في
العصور القديمة هو الإله في معبده، وفي العصر الكلاسيكي هو الملك في قصره، وفي
العصر الحديث كان هو ممثِّل الشعب في برلمانه؛ أما في العصر ما بعد الحديث، الذي
يمكننا نَعْته بالحداثي الأخير، فالمقدَّس هو العمل الفني في المتحف. إنه تطوُّرٌ
قصير للدورات الثقافية وتمدُّد للمجموعات الموجودة. فالعصور تتقلَّص والساحات
تتَّسع. لقد كانت «الديانات»، الواحدة بعد الأخرى، عشائريةً ثم قبَلية ثم مدَنية ثم
وطنية ثم قارِّية. وديانة الفن تقدِّم نفسها على أنها أولُ ديانةٍ عالمية. إن دورها
يكمن في إعادةِ تشكيل ما يتفتت ويتفكك، وهي تتضمَّن الآلهة والأساليب والحضارات
كلَّها. ومدينتا شارتر وإلفانتا تمزجان زخارفهما الحلزونية بأقنعةِ «بنين»
الأفريقية في المتحف الدولي.
المنزع السامي والفشل
كان أندريه مالرو قد تغنَّى بهذا الأمل في وقته، لكنْ بطريقةٍ أخرى غير طريقَةِ
نادٍ لرجال المال يجرُون وراء رُوح عالَم بدون رُوح، وبأيديهم دفاتر شيكاتهم. كانت
نخبويته تسجِّل في لائحة الروحانية العلمانية مجموعَ التراث التشخيصي، كي يتمَّ
تمجيد «الفعل الذي بواسطته ينتزع الإنسان شيئًا من وجوده من الموت» أفضلَ تمجيد.
لقد كان الفنُّ في نظره «تراثَ نُبل العالم» ووسيلةَ خلاصٍ جماعي؛ لأن الإنسان يملك
بواسطته قدرَه. فالفنُّ يتغلب على موت الحضارات، كما على وحدة الأفراد وإبادة
الإرادات، على يدِ مصانع الأحلام الحديثة وما شابهها من آلاتِ الهروب.
هي ذي إذن اللحظة التي تنقلب منها لاقُدسية العالم إلى قداسة الفن، حيث إنَّ
الفن، بعد أن تحرَّر من الدِّين، يغدو بنفسه ديانةً ومبدأ خلاصٍ دنيوي عالمي. أليس
لقاء صورٍ خالدة بشكلٍ ما اقترابًا من الخلود؟ يعتبر أندري مالرو، صاحب كتاب
«المتحف الخيالي»، أنَّ نسخ الأعمال الفنية يمكِّن من التَّجَوْهُر عن بُعد لقربانٍ
ما؛ فالعمل الفني المصوَّر يفتح الإنسان العادي باتجاهِ ما هو أعمق في الإنسان، أيْ
«جانبه الإلهي». «إنَّ الفنَّ يساعد على الوعي بعظمةِ ما يجهله الإنسان في
ذاته.»
لقد تمَّ الهزء بهذا التوكيد من لدُن وزير العبادات والشعائر ونبرته الصليبية.
لنبدأ نحن بتحيةِ ما هو رائعٌ فيه. إنَّ مالرو لم يختزل الفنَّ أبدًا في «الفنون
الجميلة» (ولا هو ردَّ الثقافة إلى وسائل الترفيه). لقد كان حتى سنة ١٩٥٩م تحت إمرة
مديريةٍ ملحقة لوزارة التربية الوطنية. إنَّ الفنَّ ينتمي إلى الجوهر، أيْ إلى هذا
الجانب الإنساني الذي يجب على الجمهورية إيصاله إلى كلِّ مواطنٍ كي يتحمَّل هو
مسئوليةَ إغنائه. لذا كان للثقافة الحقُّ في وزير دولةٍ كان له الحظُّ في تحويل
أملٍ حميمي خاص به إلى سياسةٍ مسئولة. قد تكون جماليةُ الكاتب قد تسرَّعت بعضَ
الشيء في التضحية بالإحساس بالسعادة لصالح السَّامي، ومادية الأشياء الفنية لصالح
ميتافيزيقا المعنى؛ فذلك راجعٌ في نظره إلى أن أسباب التغلب على الموت مرتبطةٌ
أوثقَ ارتباطٍ بتلك الصور والأحجام.
لقد كان للوزير سياسةٌ في الفن متطابِقةٌ مع فكرته عن الإنسان، ولا علاقة لها
بأيِّ لذَّةٍ زخرفية أو توتُّرٍ تأملي.
هكذا ذكَّرنا مالرو — بحقٍّ، وبفرنسيةٍ رائعة — بأنَّ روابطَ الوحدة في مجموعةٍ
بشرية ما، تنطلق من الأعلى نحو الأسفل. فلا يمكننا التوحيد بين الأفراد إلا بتنظيمٍ
عمودي. ونحن نعلم عِلمَ الحقِّ عبْرَ منطقِ اللااكتمال، بأنَّ أقصرَ طريقٍ للإنسان
نحو إنسانٍ آخَر يمرُّ بإله (أو بطلٍ أو نصفِ إله). ومن النافل البحث عن مفتاحِ
جنةِ مجموعةٍ ما في غير عليائها. لنذهبْ بعيدًا ونعترفْ مع مالرو بأنَّ ما هو شاملٌ
ليس من طبيعةٍ ذكائية، وإنما عاطفية وحلمية. فالمثال العلمي أو العلم، باعتباره
أخلاقًا، لا يكفي لوحده للربط بين الناس. والجزء هو أكثر من تجميعٍ للمعارف
والمبادلات؛ لأنَّ «المآثر الرئيسية» التي تكوِّن تراثَ أمةٍ يلزم انتزاعها من
ممتلكاته الصورية، لا من ممتلكاته المفاهيمية. فوحده المتخيَّل له قوة الاستثارة
والاستدعاء.
من أين أتى إذن فشلُ مشروع التعمير الجمالي لصحراء القيم في المهد؟ مِنْ كون هذا
المنظر الجميل للروح كان خطأ مثقفيًّا، اعتبر ببساطة النتيجةَ هي السبب.
ولنعبِّر عن ذلك بجملةٍ أو أكثر: ليس الفنُّ هو الذي يحقِّق الروابط؛ وإنما
الروابط هي التي تمكِّن الفن من الوجود.
وكما تكسَّر زورقُ الحُب على صخرةِ الحياة اليومية، كذلك كان مصيرُ زورق السَّامي
sublime. وبيوت الثقافة، وهي كنائس العبادات
الجديدة، أصبحتْ مهجورةً اليوم، مِثلُها مِثلُ الكنائس الصغيرة الأساسية المتمثِّلة
في التجهيز الاجتماعي والثقافي للأحياء. هكذا عادت العلاقة بالأعمال الفنية إلى
مجراها القديم المدني والاجتماعي المصغَّر. وكلما طفحت؛ ارتفعتْ مياهه وكَبرَ مجراه
بفعلِ مياه الأمطار. ثمَّة عددٌ أكبر من المتاحف مقارنةً مع الأمس، والكثير الأكثر
من المعارض والمجلات المتخصِّصة والاحتفاءات والكتالوجات والمؤتمرات والمحاضرات،
وهي دائمًا أشدُّ فخامةً وذكاء ودقَّة وراحة وثراء. بيْدَ أنَّ الناس لم يعودوا
متآخين وهم يخرجون من هرم متحف اللوفر كما كانوا متآخين حين دخوله. أمَّا «الأوساط
الفقيرة» فإنها تفضل موسيقى التاغ tag والراب
rap على حصَّتها الإلهية هذه. فالعلاقة
الاجتماعية لم تتطوَّر، والفنُّ المخثَّر لم يجمع بين الناس، واللاتكافؤ الثقافي
ظلَّ على حاله؛ لماذا؟
ما دام العمل الفني ضامنَ تحويلٍ مباشر؛ فقد كان مفترضًا فيه إرسال قوَّته
القدسيَّة (مانا) عن بُعد، كما كان رُفات الصوفي والولي يفعل ذلك فيما قبل؛ ومن ثَم
يأتي معجم مالرو المشبَّع بالسِّحر (الكشف، القشعريرة، الاتحاد، الإشعاع … إلخ).
وبما أنَّ خيرات الخلاص تعمل وحدها، لم يكن المُشكِل يكمن إلا في الأدنى. يكفي هنا
تدبير ارتياد المتاحف والحصول على الألبومات الموسيقية، باعتبار هذَين العنصرَين
معابدَ للجماهير؛ كي يتزايد الجمهور والممارسون لعبادة الفن، ولكي «يتمَّ تحويل
الامتياز الخاصِّ إلى ملكٍ للجميع». فالديمقراطية عبر الثقافة تعني رفْعَ الحواجز
«بين المبدعين والمؤوِّلين والأعمال الفنية وباقي الناس» (كما عبَّر عن ذلك بيير
موانو P. Moinot). لمَ يتمُّ التفكير في المكتبات،
ونحن نفهم لماذا يكون التَّماس المادي مع الأعمال، في دُور الثقافة، كافيًا؟! لكنَّ
المؤسف أنَّ الفن لا يُنهِض غير همَّة اليقظين، وأن أغلب الناس لا يملكون المفاتيح
لكي يفكُّوا أسرار أعمال غويا أو كلوي Clouet.
الرؤية جزاء، لا فضل ونعمة؛ وارتياد الأعمال الفنية عملٌ لا احتفال. وعبقرية
الوسطاء ليست هي عبقرية ساحرنا الوطني (مالرو). وبالرغم من أنه كان موهوبًا في مجال
الإشهار، إلا أنه لم يكن بارعًا في رسم الحدود الوسطى؛ لهذا فقَدْ أهمل الضرورات
السوسيوثقافية للإرسال وكل الوسائل العملية المكتسَبة للتواصل والتقارب. إنَّ تأهيل
المُواطن، أيَّ مواطن، لتلقِّي الجروح المخلِّصة، ليس مسألةً فطرية، والنزوة الفنية
لا تختار أقصرَ الطرق للوصول إلى الناس. وليس بالإمكان تفادي التربية الوطنية
والعمل الغامض للوساطات العتيقة و«الوثنية»؛ أعني الكتاب والصحيفة. فلا عينَ
بإمكانها أن تغدو متنبِّئة إنْ هي لم تمرَّ بالعمل.
للمهابهارتا وظيفةٌ رمزية في الهند، لا في باريس. وراسين لا وظيفةَ له في بوينوس
إيريس. والتشكيلي الفرنسي بوسان كذلك، بالرغم من أنه لا يحتاج إلى مترجِم. فالصورة
تسافر أفضلَ وأكثر من النَّص؛ لأنها ربما أخفُّ منه. إنها تقفز على الحدود، وتصِلُ
حيث نرغب لها أن تصِلَ، لكنْ في أيِّ حالة هي تصل؟ معقَّمة طبعًا، مجمَّدة، مستجملة
وصالحة للواجهة أو الشاشة. وسواءٌ كانت وحيدةً أو لطيفةً؛ فالأمر سيَّان. الصور لا تستمدُّ سلطتها من ذاتها، وإنما من المجموعة البشرية التي
كانت، أو هي لا تزال، رمزًا لها، والتي عبْرَها تتحدَّث أو تُنصت لصدى ماضيها.
إنه لضَرْب من الفتيشية أن يتمَّ منحُ الطوطم فضائلَ القبيلة، حين نعرف
أنها هي مصدره الوحيد. ذلك هو الخطأ الطقوسي لعاشقِ الفن، باعتباره السليلَ المعاصر
لعابد الأصنام، أيْ «ردَّ آثارِ علاقةٍ ما بين طرفَين إلى أحَدِ الطرفين» (أنطوان
هنيون)؛ فالمسيحية الوسيطية لم تعرف الوحدة نظرًا لوجود اللغة التشكيلية نفسها من
إيرلندا إلى صقلية. لقد كان الأمر يتجاوز هذه اللغة؛ لأن تلك الوحدة كانت موجودةً
داخلها هي. لم تنقذ ابتسامةُ ملك ريمس الفرنسية
Reims آثمي عام ١٢٨٠م. فملك ريمس يبتسم لهم؛
لأن رغبتهم في الخلاص وإيمانهم بالملائكة كانا كبيرَين. ورغم ذلك، فإن هذا ليس
سببًا في إنكار المقدَّس أو اعتباره وهْمًا، وإنما سببٌ في موقعته حيث هو؛ أي في
الوظيفة لا في الشيء. المقدَّس لا ينتمي إلى الصور التي توصف بالمقدَّسة، والتي
ليست مُعدية؛ إنه يوجد في علاقة الإنسان بأعماله، وبعلاقة تلك الأعمال والمآثر مع
الأشياء الأخرى. صحيحٌ أن المجتمعات تمرُّ، بسُنن قراءتها، فيما تبقى الأعمال
الفنية بخطوطها وألوانها. لكن ليس هذا هو تأثيرها القوي؛ فالأعمال الفنية تتجاوز في
دوامها المعتقدات التي ولدتْها، وهو ما يؤدي بالفن إلى أن يكون مُساهمًا في جعلنا
ننتصر على الزمن. بيْدَ أن البعث الجمالي للأعمال الفنية الماضية، أو توفيرها
بصريًّا عبر وسائل الاستنساخ لا يجعلنا نعيش بشكلٍ مباشر التعاليَ الذي كان يحملها
وينقل معها حضارتها المرجعية. المقدَّس ليس وراثيًّا، وهو لا يقبل النقل مع
الأشخاص. كما أننا لا نستطيع ترحيله مع أثاثنا؛ إنه مرتبطٌ أوثقَ ارتباط بثقافةٍ
حيَّة، وبوصفه كذلك فهو لا يقبل التَّنقيل.
المعرفة والمعنى
كانت الديانات الكبرى تمنح للموت معنًى. أمَّا العلوم الحالية فهي تمتنع عن ذلك.
فكيف نملأ هذه الثغرة؟ أجاب مالرو: بالثقافة. لكنَّ العِلم إزاء الأديان القائمة
يظلُّ خارج المنافسة؛ وتظل الثقافة بدون حولٍ أو قوة. وهذا يعني أنَّ السؤال لم
يُطرح بصيغةٍ جيدة. فالمعنى المعيش لا يجري على الطريق نفسه التي تجري عليها الصيغ
الرياضية، كما لا يمكنه أن يكون في مقامٍ ما. يصوغ العلمُ الحقائق، ولأنه موضوعي،
فإنَّ نتائجَه تتجاوز شروطَ ولادتها. والعلم مشهورٌ بكونه عالميًّا، أما الثقافة
فهي تصوغ قِيمًا؛ إنها ذاتيةٌ جماعية. وهي لذلك تجربةٌ خصوصية، كما أنها بطبعها
تاريخٌ وجغرافيا. لذا لا يمكننا أن نطلب من الحقائق أن تقوم بوظيفةِ القِيَم؛ لأنها
ليست صالحةً لذلك. فأخلاق المعرفة لم تصلح أبدًا لتكوِّن ديانة.
من اللازم الاختيارُ مباشرةً بين خرافات الجدَّة ذات الطابع المحلي، والملفوظ
القابل للتزييف ذي الطابع الشامل. ففي الهوة القائمة بين العقل والذاكرة، وبين نظام
المعارف ونظام الإرادات، تكمن استحالة «القرية الشاملة» ومآسينا الراهنة. بإمكاننا
طبعًا المصالحةُ بين الاثنَين في الكلمات وتعميد الثقافة، مع إدغار موران، «كنسقٍ
يؤسِّس التواصلَ بين تجربةٍ وجودية ومعرفةٍ قائمة، ويضفي عليها طابعًا جدليًّا.»
لكنْ في الواقع، ما ينقص هو — بالضبط — تلك الجدلية؛ إذ لا يتمُّ بناء الجسور
بالتمني الفكري، بين معرفةٍ شكلية كالرياضيات، التي لا لغةَ لها، والحكمة الممارسة
لمجموعةٍ حيَّة تمتلك لغةً معينة. فمن النظري (بفرضياته، ونماذجه، وقواعده) إلى
الدلالي (بأساطيره، وشعائره، وممارساته)؛ لا تكون النتيجةُ جيدة. وكما قال وزير
الثقافة السابق، حين قبِلَ ألَّا يكون أولَ وزيرِ ثقافة يجهل ما هي الثقافة:
«الثقافة هي كلُّ ما يجيب الإنسان حين يتساءل عمَّا يفعله فوق سطح الأرض.» ثمَّة
أرضٌ واحدة، لكنْ ثمَّة الكثير من الإجابات، وهو ما يعادل عدد اللغات الموجودة، أي
حوالي ٣٠٠٠ لغةٍ منطوقة. وإذا كان نوع الإنسان واحدًا، مثله في ذلك مثل ملكة
التفكير، فإن الإنسانيات متعدِّدة، مثلها مثل دواعي الحياة، في كلِّ طبقة من طبقات
سفينة نوح. والجواب عن: «ما سبب وجودي فوق سطح الأرض؟» باعتباره سؤالَ معنًى،
يوحِّد هؤلاء الناس بمعارضتهم بأولئك، أي بجيرانهم؛ أمَّا الجواب عن «مجموع زوايا
المثلث»، وهي مسألة معرفة، فإنه لا يعارض بين هذا وذاك ولا يجمع بينهما. ما لا
يفرِّق بين الناس لا يستهويهم كثيرًا، وما يستهويهم يفرِّق بينهم بعماء.
فالإنسانوية الكونية وتطلعاتنا الصادقة إلى وحدة الشعوب مدفونةٌ هنا، في عدم
اختزالية القيم إلى حقائق. إن وحدة النوع الإنساني فرضيةٌ عقلية وضرورةٌ نهائية
رهينة بالخصائص الخَلْقية والهندسية. وإضافةُ علم الإحياء إلى التقدُّم العلمي؛ ليس
كافيًا لإزاحة ثقل التاريخ. إنها أكذوبة مرَّة؛ فالإنسية
humanitude فينا عبارةٌ عن إحساسٍ طبيعي،
وبيولوجي وإيكولوجي. إنه معطًى ثقافي؛ ذلك أنْ لا وجود لمجموعةٍ بشرية ما تتَّخذ
مقامها في الإنسانية (باعتبار أن الإسبرانتو ليس لغةَ ثقافة، وإنما ابتداعًا لا
عمقَ زمني له). من الأكيد أن أقمار البثِّ والانتشار الهرتزي في كلِّ مكان،
والحواسيب الشخصية والبرامج المعلوماتية الموحَّدة، والتنقل الدولي للأشخاص،
والنقود والأخبار والصور وتدويل السيولات النقدية، دون أن ننسى مؤسَّسة اليونيسكو
الموقَّرة، كل هذه العناصر لديها الأسباب الكافية لتجميل الأكذوبة لنا. لكنْ، علينا
مع ذلك ألَّا نخلط بين عولمة الثقافة الأمريكة ودعم الثقافة العالمية ونشْرِها.
وعلينا أيضًا ألَّا ننسى أنَّ تراث الإنسانية المسمَّى «ثقافيًّا» (أي التراث غير
العِلمي)؛ يتمثَّل في مخزونٍ من الآثار. فالإنسان لا يعيش كي يحافظ على معابد
أنغكور Angkor أو كنائس ديبروفنك
Dubrovnik، حتى لو توفي فيها بمحض رغبته؛ فهو
يعيش من أجل القيم التي خرجتْ منها هذه المعابد والكنائس، وهو أمرٌ آخَر. والإنسان
لا يعيش فيها من أجل أحجارها. لكلِّ المجتمعات ديانتها (سواءٌ كانت سماويةً أم لا)؛
لكنْ، ليس هناك من ديانةٍ كونية. والمشكلة أننا لم نرَ أبدًا شخصًا يموت من أجل
برنامجٍ معلوماتي، كما يموت مسيحيٌّ أو مسلم أو شيوعي أو وطني من أجل معتقدهم. ويا
له من برنامجٍ واسع! ذلك الذي يتغنى به الشاعر البطولي الرائع: «تحقيق حلم فرنسا
بإعادة الحياة لعبقريتها الماضية، ومنح الحياة لعبقريتها الراهنة، وفتْحِ الأيدي
باتجاه عبقرية العالم.» وللأسف ليس للعالَم من عبقرية؛ لأنه أكبر من ذلك بكثير.
فليس ثمَّة غير «عبقرياتِ المكان»، والعالَم ليس مكانًا؛ بل هو ليس حتى وسطًا. إنه
في أفضل أحواله أفق. فالعبقرية، كالكائن الحي، ذات طابعٍ محلي. فمقابل الماكرو
اقتصاد، في عموميته، ثمَّة الثقافة المصغَّرة. الموت وحده كبيرٌ وشاسع، ومعه الجامد
والمجرَّة بسكونها اللانهائي. وحدها التقوية تبعث على الدفء، وتملأ بالدفء
والاختلاف، سواء كانت تلك التقوية ثنيةً أو منعرجًا أو فاصلًا، أو واديًا أو مصبَّ
نهر أو ملتقى طُرق. إنها مصدر الطاقة والحياة. فنخبوية المجموعات المتحفية، حيث
ينظر الصنم الفتيشي المجلوب من جزيرة نطونغا إلى آخِر أعمال بورين
Buren، لا تبعث إلا على اللامبالاة والبرود
الممهور باللُّطف. وحين يتجاوز انفتاح البركار درجةً معينة، فإن معارضنا
الاسترجاعية الكبرى تفقد معناها.
ثمَّة الآن معلومات وعلوم عالمية. لكنْ، بالمقابل لا وجودَ لروحانياتٍ شاملة؛
إنها لا توجد، مقدارَ ما لا توجد جمالياتٌ عالمية، ما عدا في دوائر المعارف،
وبالضبط حين يتمُّ الانتهاء من العمل فيها وتوضع في الواجهات، وتعرض وينزع
فتيلها.
لا حاجة للعمل الفني برسالةٍ ما، لكنَه يبدو منهكًا من دون أسطورةٍ يتلفع بها.
ومن ثَم تنبع الحاجة إلى أسطرته، وذلك بوضعه خارجَ كلِّ ظرفية، وفوق كلِّ شيء، بل
فوق نفسه كعملٍ فني، وهو ما يعني بالضبط ضربًا من التطيُّر. والحال أنَّ الجمال لا
يمكنه أن يكون أسطورةً لنفسه، بما أن الإنسانية، باعتبارها «الوجودَ الأكبر»، لا
يمكنها أن تكون آلهةً لنفسها. هذا السبب هو ضرورةٌ منطقية؛ لأن اللااكتمال هو الذي
يهدم دائمًا أحلامَ أصلنا وتأسيسنا الجماعي الخاص (أو في المجال السياسي، يهدم
أحلام الشفافية العامة). وفي العمق، فإنَّ أندري مالرو أو أوغست كونت — الأول
بالفنِّ، والثاني بالمعرفة — قد تابعا الوهمَ نفسه، أي التحرُّر الخالي من
الاستلاب، الأول بإيمانه بالقدر المضاد والثاني بإيمانه بالإنسانية. لقد حظيتْ
كاتدرائيات الثقافة في القرن اﻟ ٢٠ بمعوناتٍ مالية وجاذبيةٍ معينة، لكنها عرفَت
المصير النهائي نفسه للكنائس الدهرية للقرن ١٩. بالإمكان فتْحُ متحف، لكنْ ليس
بالإمكان توظيفُ المؤمنين بمرسومٍ وزاري. وبالإمكان «عشق» التصوير، غير أنَّ الفن
بذاته لا يخلق رابطَ الانتماء. مَن لا يعشق غيرَ نفسه؛ لا يستوجب العشق. فليس من
الممكن أن ننتظر من الفنِّ أن يكون في الآنِ نفسه في خدمة ذاته، وأن يمنح للناس
معنًى لحياتهم. وحين حدَثَ أنْ قام بذلك، كان في كلِّ مرة في خدمةٍ أساطيرية وسُلطة
خارجين عنه. لنضِف بأن الإبداع المعاصِر أصبح متحركًا جدًّا
وبالِغَ السرعة والتشتُّت، بحيث لم يعُد قادرًا على أن يكون عنصرَ ربطٍ في
مجتمعٍ ما. فتداول الصور في السوق مضرٌّ بضرورات الاحتفال الجماعي الذي يتطلب
بُطئًا وتأملًا أكبر.
إنَّ تقديس الصورة لنفسها يقود في النهاية إلى تحطيم الابتعاد كعنصرٍ جوهري فيها،
وبالتالي التغريب الحميم، أي ذلك الإحساس بمسافةٍ عصيَّة بين العمل الفني القريب
وبيننا نحن، وهو الإحساس الذي نسميه، بغير دقة في التسمية، إحساسًا بالمقدَّس. كما
لو أنَّ تعدُّدَ المعابد وأنصاف آلهة الفن، مصحوبًا بانتشارِ إداريي الفن ووسطاء
الإرسال الثقافي؛ لا يترجم انتعاشًا، وإنما انهيارٌ لإيماننا بتعالي الأشكال. وكما
لو أنَّ الفضيلة التوحُّدية للنظرة الجمالية تتناقض مع تضخُّم رموزها. إن تبجيل
الفن، باعتباره خروجًا دينيًّا من الديانة، والاعتقاد الأخير للكافرين يُشبه
الإيمان الشكي؛ وتشبه متاحفنا، من ثمة، معابد مخصصة للاأدريين. إنه لترابطٌ غريب،
بيْدَ أنه يلائم هذه الديانة اليائسة. إن تبجيل الفن لا يعمل إلا على الإيهام
بالإشباع الروحاني. إنه التعالي الأخير الذي يبيحه اندحار المتعاليات (كالعبادة،
والعِرْق والموطن، والأمَّة والفن نفسه). لنتذكرْ أن هذه العبادة الاستبدالية قد
ظهرَت لدينا في عصر النهضة، خلال أول تشكيكٍ جذري في التقليد المسيحي. وقد عادت
للظهور في القرن اﻟ ١٨ عصر اللاإيمان، وهو القرن الذي لم يعتبر صدفةً عصرَ «الذوق»؛
ذلك أن هذا التطيُّر قد أخَذَ شكله العقائدي الراسخ، بما أن تحرُّر المجتمع
المثقَّف من ربقة المسيحية بدأ حوالي ١٧٣٠م (وقد قام تولستوي، في سياق الديانة
الأرثوذكسية، بملاحظةٍ مشابهة عن النزعة الجمالية التعويضية لدى الطبقات الحاكمة
الروسية في القرن اﻟ ١٩). وتبعًا للقاعدة العامة، حين تفرغ الكنائسُ تمتلئ المتاحف.
ففي فرنسا، ومنذ قرنٍ من الزمن، ثمَّة بالتأكيد ترابُط بين انخفاض نسبة الحضور
للصلاة الدومنيكية ونسبة ارتفاع ارتياد المعارض الفنية الكبرى. فارتفاع عدد
المؤمنين وتطور الوفاء للدِّين في قلب الممارسة الشعائرية نفسها، لا يدلُّ — مع ذلك
— على تقوية المعتقد. ونحن على علمٍ بمفارقات اللااعتقاد الديني، الذي أثاره فيما
مضى على أحسن وجه جان كلير بقوله: «يبدو أن التزايد الدالَّ لأعداد المتاحف علامةُ
انحطاطٍ رُوحي أكثر منه علامة على الاكتمال، بمقدار ما كان تعدُّد المعابد
الرومانية غيرَ مؤشِّر على أوج حضارةٍ عظيمة، وإنما على نهايتها.»
١٠
الداء الإسكندراني
إنَّ المواكب الفخمة المصاحِبة للندرة والقلة؛ تأخذ العَرَض مأخذَ الدواء. وفي
هذه الحدَّة ثمَّة نبرةٌ كوميدية غير إرادية. إننا نطلب من ثقافةٍ غدت انطوائيةً
وخالية من الحياة أنْ تشفي الروابط الاجتماعية من فقدانها للحيوية. كما لو أن هذه
الديانة الجمالية الفاقدة للطاقة الجماعية؛ بإمكانها أن تستجيب لمطالبِ مجموعةٍ
وطنية ليس لها من مدَنية، ومشتَّتة إلى مجموعاتٍ عِرقية مصغَّرة. إنَّ مصارعة الموت
تتم هنا بالطرق الجنائزية والتكفين وسِيَر الأموات والكتالوجات، واستحضار الموتى
بشتى الطُّرق السحرية. «الثقافة بوصفها جوابًا على الأزمة»
علامةٌ على أزمةٍ لا جوابَ لها. هكذا، حين يتم التخلي عن القيم
وتكفُّ الأشياء عن الإنشاد؛ يتم اعتبار الجمال قيمةً عُظمى، ويتم إقامة أوبرات
هائلة. إن هذه العلاجات الجماعية الوهمية؛ تنتمي لمَا يمكننا تسميته بالداء
الإسكندراني. ففي الإسكندرية، كان «تلامذة ربَّات الفن» يحظون بالتشريف أكثر من
أثينا أو روما أو برغامو. فهنالك كان الهوس الاحتفالي سائدًا، ومعه هوس جرْدِ
الموروثات والمآثر العظمى والأشغال الكبرى والطابع الجمالي للوجود اليومي (الذي
يتزايد مع تخدير الحواس). لقد تبلورتْ شعائرُ «جمْعِ التحف» الفنية بين المنارة
والمتحف والمكتبة العظمى، وتأسَّس دكان التحف القديمة في قلب العصر القديم.
إن نهاية الوثنية القديمة ليست غير ذاتِ قرابةٍ فيزيونومية، وإنْ على مستوًى
آخَر، مع نهاية الألفية المسيحية. فعظمةُ المدن والغلوِّ في حياة الترفيه والولع
بالألعاب والفرجات، وتعظيم البهلوانات والمصارعين، وانصهار العوالم الذكورية
والأنثوية، وشيوع معاشرة الغلمان، وتطور المعرفة التجميعية، ونماء النص الجامع،
وشخصنة الحيوان الأليف، والحُب الحيواني للطفولة، وجنون الجديد والحركة والتغير،
والحضور الكاسح للشبقية، والاندفاقات الكونية؛ كل هذه الأشياء تحدُث حين تكفُّ
«قوةُ إنسانية الإنسان وشرفه» (مالرو) عن أن تكون بديهية. كما أن نضوب التبريرات
الرسمية أو الوراثية للوجود، وفتْحَ مجامع الآلهة القديمة على مصراعَيها للروحانية
النخبوية، والسذاجة العقيمة للحياة العمومية، والتطوير الأقصى للتفاصيل أو فقدان
السذاجة التقليدية، والهوة المتعمِّقة بين العفوية الشعبية والمعارف الباطنية، كل
هذا يسرِّع من البحث عن العنصر اللاحم التعويضي؛ كي يتم تفادي التشتُّت العام. لقد
ظنَّت الحضارة الإسكندرانية، وهي الأكثر بريقًا والأقل صلابةً في العالم القديم،
أنها عثرتْ على لحمتها ومفتاح مشاكلها، وذلك في توفيقيتها الثقافية التي لا ضِفاف
لها. وبما أن الارتباط العميق بالمدنية قد تلاشى؛ فقد غدا الناس ينصِّبون من
أنفُسِهم مواطني العالَم وبدون وسائط. إنها قداسةٌ هشَّة وكسولة، سوف تجعل منها
الإمبراطورية البيزنطية، المؤمنة بالأرثوذكسية والمحدودية، لقمةً سائغة.
«إن المدينة — حسب فرنان وفيدال ناكي — تجعل من نفسها مسرحًا» في التراجيديا
الإغريقية. وفي المحاكاة الساخرة الهيلينية في الماضي، أو المحاكاة الساخرة الحديثة
اليوم، يحلم المسرح بأنْ يغدو مدينة. أما المسرح الحيُّ للمدينة الغربية اليوم فهو
متحفها.
لم يحدث أبدًا أنْ قام حشدٌ كبير من المتاحفيِّين كهذا؛ بتجميل الصورة الداخلية
للمتاحف ومناحيها، ولا أن احتقَرَ المعنى المباشر للصور بهذه القوة. وكما أن
الاهتمام بالتربية في المدرسة يعفي من هموم التعليم، والنص يتوارى خلفَ الإخراج —
كذلك تُخفي علبة المجوهرات في أضرحتنا الحليةَ المفردة — ويسرق المحافظ النجمية من
التحفة المحافَظ عليها. كيف نميز إذن بين الذوق المفرط للمعابد الجديدة والذوق
الأكثر سريَّة للمقابر؟ وبين تحويل الجمال إلى فرجة وغريزة الموت العتيقة؟ إنَّ ثمة
ما يشبه البهجةَ الكئيبة في الاحتفاء الجامح بالمعلِّمين الكبار والصغار. ففي هذا
اللولب اللانهائي، ها هو يعود إذن، وإنْ على مستوًى لا يزال مجهولًا، ذلك التراكمُ
اللامتحدِّد للرُّفات، وديانة الشكل المطلق، حيث يعجز النهَمُ الجمالي المعلَن
بجلاء عن تغليف ذلك الافتتان التلذُّذي بالعدم.